شرح زاد المستقنع باب حد المسكر [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه من سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباح شربه للذة ولا لتداوٍ ولا عطش ولا غيره إلا لدفع لقمة غص بها].

تقدم معنا تحريم شرب الخمر، وأن هناك بعض المسائل استثنيت من هذا التحريم، وذكرنا مسألة التداوي، وبيّنا خلاف العلماء رحمهم الله فيها، وبعد هذا ذكر المصنف رحمه الله ما يستثنى من تحريم شرب الخمر، وهي حالة الضرورة، عندما يخشى الإنسان أن يموت ويهلك، وقد ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين مثالاً على ذلك بالغصة.

والغصة صورتها: أن يأكل طعاماً فيغص، فإذا لم يشرب ما يفك غصته فإنه ستتلف نفسه وتهلك روحه، وحينئذٍ تكون حالته حالة اضطرار يخشى فيها عليه الموت، وهذه المسألة تعرف بإساغة الغصة بالخمرة، وهي مسألة قديمة، وعامة أهل العلم على الترخيص، وأن المسلم يباح له في هذه الحالة أن يشرب الخمر بقدر ما يسيغ هذه الغصة، ويذهب الخطر والضرر.

إذاً: يشترط أول شيء أن يكون هناك خوف على النفس، بمعنى: أن يغلب على ظنه أنه سيموت.

ثانياً: ألا يجد شيئاً غير الخمر مما هو دون الخمر أو من المباحات يمكن إساغة الغصة به، فإن وجد ما دون الخمر فإنه يقدمه، فلو وجد ماءً فبالإجماع يحرم عليه أن يشرب الخمر؛ لأن الأصل أن الخمر محرمة، لكن لو أنه وجد نجاسة -أكرمكم الله- كالبول، فهل يقدم الخمر أو البول؟

كلاهما نجس،

قال بعض العلماء: يقدم البول على الخمر؛ والسبب في ذلك: أن البول لا حد ولا عقوبة في شربه، ولكن الخمر فيه عقوبة، والوعيد فيه أعظم، فيقدم شربه للبول على شربه للخمر.

ولو وجد ماءً متنجساً وبولاً وخمراً، فأيهما يقدم؟

قالوا: يقدم الماء المتنجس؛ لأن الأصل أنه مطعوم، لأن الله وصف الماء بكونه طعاماً فقال: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249]؛ ولأن الماء الأصل حِلّه، والنجاسة عارضة عليه، بخلاف البول الذي يحكم بنجاسته بقوة أقوى من الماء المتنجس.

وعلى هذا: يشترط ألا يوجد بديل، وهذه قاعدة تضعها معك أنه لا يفتى بالرخص مع وجود البديل المباح، وبجميع مسائل الرخص لا يمكن لعالم أو فقيه أن يفتي فيها بالرخصة مع وجود البديل.

وإذا خاف الموت ولم يجد بديلاً عن الخمر، فيُشترط الشرط الثالث: أن يكون شربه للخمر بقدر الحاجة والضرورة، فلا يزيد عن قدر حاجته، وإنما يقتصر على قدر إساغة اللقمة أو ما غص به؛ لأن القاعدة تقول: (ما جاز للضرورة يقدر بقدرها)، فلا يجوز له أن يزيد عن القدر الذي تندفع به الغصة.

وهذه المسألة يعتبرها العلماء من المسائل المستثناة في النجاسات، ونظمها بعض العلماء في عشر مسائل، فقال:

وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدّها يفي

في جلد ميتة إذا ما دبغ ولحمها للاضطرار سوغ

وشحمها تدهن منه البكرة عظامها بها تصفّى الفضة

وجاز أن تشلى عليها الغلف بوفقهم والحمل فيه الخلف

ولبن الأُتُنِ للسعال والجلد للرئمان فيه جالي

وغصة تزال بالرياح وبول الآدمي للجراح

حكم جلد الميتة إذا دبغ

هذه عشر مسائل: المسألة الأولى في قوله رحمه الله:

وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدّها يفي

في جلد ميتة إذا ما دبغ، هذا فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).

أكل لحم الميتة حال الاضطرار

(ولحمها للاضطرار سوغ)؛ لأن الله يقول: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119] فاستثنى المضطر في أكل الميتة.

استعمال شحم الميتة

(وشحمها تدهن منه البكرة)، وهي بكرة البئر، فإنهم لا يستطيعون أبداً أن ينزعوا من البئر إلا بوجود الشحم، والماء يكون غالباً في مقام الحاجيات، فإذا لم يتوصل إلى الماء إلا بالنزع، والنزع لا يمكن الوصول إليه إلا بشحم الميتة؛ جاز له في هذه الحالة أن ينتفع به.

استعمال عظم الميتة في تصفية المعادن والفضة

(عظامها بها تصفّى الفضة)، في بعض الأحوال تستخدم العظام في المعادن ويحتاج الصاغة إلى تصفية الفضة بعظام الميتة، ولكن الآن يستغنى عنه بوجود المواد البديلة.

تحريش الكلب على الصيد

(وجاز أن تشلى عليها الغلف)، الغلف هي: الكلاب -أكرمكم الله- في لغة العرب، (تشلى عليها) يعني: إذا أراد أن يعلم الصيد فإنه يحرشه ويشترط -كما سيأتينا إن شاء الله في إثبات صفة التعليم للكلب وللطائر الجارح حتى يجوز أكل ميتته وصيده- أنه إذا أشلاه ينشلي، وإشلاء الصيد للعلماء فيه قولان:

قيل: الإشلاء أن يدعوه فيستجيب، فإذا ناداه يأتي، وهذا كقول الشاعر:

أشليت عنزي ومسحت قعبي ثم انثنيت وشربت قأبي

فمعناه: أنه نادى عنزه لأجل أن يحلبها.

ويطلق الإشلاء في لغة العرب على المعنى الثاني -وهو المقصود هنا- وهو: تحريش الكلب وتحريش الصقر والباز والباشق والنسور عند تعليمها للصيد، يحرشها بالفريسة فتذهب إلى الفريسة، وهذا هو المراد هنا، قال الشاعر:

أتينا أبا عمرو فأشلى علينا كلابه فكدنا بين بيتيه نؤكل

هذا رجل بخيل جاءوا يزورونه فأشلى عليهم الكلاب أكرمكم الله!

فالإشلاء هنا بمعنى: التحريش، قالوا: لا يكون الكلب معلماً إلا إذا حرشته ثلاث مرات فيتحرش، وقد يستجيب مباشرة، وقيل: بمرتين، وسيأتي إن شاء الله الخلاف بين العلماء في ذلك.

فهنا قوله: (وجاز أن تشلى عليها الغلف) يعني: تحرش الكلاب عليها، (بوفقهم) يعني: باتفاق العلماء.

حكم حمل الميتة إلى الكلب

(والحمل فيه الخلف) يعني: حمل الميتة إلى الكلب من أجل أن يأكلها مختلف فيه؛ لأنه فرق بين أن يذهب بنفسه ويأخذ الميتة وبين أن تحمل له، ولذلك حرم بعض العلماء حملها وقالوا: لا رخصة.

استخدام لبن الأتان لعلاج السعال الديكي

(ولبن الأتن للسعال) لبن الأتان للسعال الديكي عند تعذر العلاج والدواء عند من يقول بالتداوي بالنجس، فيرخص لهذا المريض أن يستعمل لبن الأتان إذا خشي الهلاك، قالوا: إنه مجرد دواء للسعال الديكي إذا أعيت فيه العلة، وهذا يقولونه من باب الضرورة، وقد قدمنا مسألة التداوي بالنجس.

وضع العلف في جلد البقرة التي ماتت لمصلحة ولدها ليأكل

(والجلد للرئمات فيه جالي)، الرئمات: هن صغار البقر، إذا ماتت أمه امتنع من الأكل والشرب، فيتأثر ولا يأكل شيئاً من شدة حزنه على أمه، ووجده عليها، حتى البهائم فيها رحمة، بخلاف -نسأل الله العافية- قساة القلوب حينما يقال له: أمك مريضة يقول: اذهبوا بها إلى المستشفى! وهذا الحيوان يمتنع من الأكل؛ لأنه اعتاد أمه، ولا يمكن أن يشرب الماء ولا أن يأكل الطعام حتى يشم أمه، فماذا يفعلون؟

ماتت أمه، ويغلب على الظن أنه سيموت بعدها؛ لأنه يمتنع من الأكل والشرب، فحينئذٍ هذا تلف مال، ولذلك رخص العلماء أن يأتوا له بالطعام محفوفاً بجلد أمه بعد موتها، فلما يشم رائحة أمه يقبل على الطعام ويأكل: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، حتى البهيمة هداها!

إنزال الغصة بالخمر

(وغصة تزال بالرياح) الرياح: اسم من أسماء الخمر، فقوله: (غصة تزال بالرياح) يعني: إذا اضطر إلى إزالة الغصة بالخمرة فهو معذور، ولا حرج عليه ولا إثم.

استخدام البول لتجفيف الجروح النازفة

(وبول الآدمي للجراح)، أي: الجرح -أجاركم الله- إذا كان ينزف، كانوا في القديم في الحروب يتعرضون له للإصابات، فينزف الجرح فلا يرقأ، فيصب عليه البول فيتماسك، وهذا مجرب ومشهود إذا صب البول -أكرمكم الله- على الجرح يتماسك ويلتئم؛ لأنه حارق فيحرقه، وهو من طبيعة البدن، ولذلك تقول العامة: (الجرح النحس ما له إلا البول النجس)، فهم يقولون هذا بطبيعتهم، فإذا أعياهم أن يجدوا له دواء إلا هذا فلا بأس، فهذه عشر مسائل ومنها مسألة الباب: (وغصة تزال بالرياح)، وهذه يقول عنها: الإمام ابن قدامة وغيره: عامة العلماء أنه إذا حصل اضطرار إلى الخمر بأن تساغ بها الغصة فلا بأس ولا حرج، وهذا لا يدخل في التداوي بما حرم الله؛ لأنه ليس علاجاً لداء، وإنما هو مقام اضطرار، ألجئ إلى هذا الخمر، فرخص له ذلك جماهير السلف والخلف، وهو قول العامة.

ويحكى عن الإمام مالك وبعض السلف أنهم شددوا في هذه المسألة، ولكن المذهب عند المالكية أنها تزال الغصة بالخمر، وأنه لا حرج ولا بأس حينئذٍ.

قال المصنف رحمه الله: [ولم يحضره غيره]

فهذا شرط، لم يحضره غير الخمر، فإذا وجد غير الخمر يمكن إساغة الغصة به، فإنه لا رخصة له في الخمر، بشرط ألا يكون غير الخمر متضمناً للضرر، مثل أن يجد سائلاً ساماً غير الخمر إذا شربه سيموت، فليس هناك علاج للموت بالموت، وحينئذٍ قوله: (لم يحضره غيره) يعني: مما هو أخف من الخمر، ويمكن إساغة الغصة به، وهذا مراده رحمه الله.

هذه عشر مسائل: المسألة الأولى في قوله رحمه الله:

وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدّها يفي

في جلد ميتة إذا ما دبغ، هذا فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).

(ولحمها للاضطرار سوغ)؛ لأن الله يقول: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119] فاستثنى المضطر في أكل الميتة.

(وشحمها تدهن منه البكرة)، وهي بكرة البئر، فإنهم لا يستطيعون أبداً أن ينزعوا من البئر إلا بوجود الشحم، والماء يكون غالباً في مقام الحاجيات، فإذا لم يتوصل إلى الماء إلا بالنزع، والنزع لا يمكن الوصول إليه إلا بشحم الميتة؛ جاز له في هذه الحالة أن ينتفع به.