شرح عمدة الفقه - كتاب المناسك [11]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا في الدرس السابق أن الحاج لا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وذكرنا دليل ذلك، وذكرنا حكم ما إذا دفع قبل غروب الشمس، وذكرنا أيضاً ما الذي يستحب أثناء الدفع، وهو أن يدفع وعليه السكينة والوقار، وألا يصلي حتى يرد مزدلفة، وذكرنا أيضاً ما يتعلق بالجمع والقصر في عرفات وفي مزدلفة، وما هي العلة في ذلك.

وذكرنا أيضاً البيتوتة بمزدلفة، وأن أهل العلم رحمهم الله اختلفوا فيها، وأن الصواب من أقوال أهل العلم أنه واجب من واجبات الحج، وتكلمنا أيضاً فيما سبق عن قدر البيتوتة، وعن وقت الدفع من مزدلفة إلى منى بالنسبة للضعفة وبالنسبة للأقوياء، وأن المستحب للأقوياء أن يناموا كما نام النبي صلى الله عليه وسلم، وألا يدفعوا حتى يسفر جداً.

وذكرنا ما المراد بالمشعر الحرام، وأن المشعر الحرام يراد به أمران سبق أن بيناهما، فهناك مشعر عام وهو مزدلفة، وهناك مشعر خاص وهو جبل قزح، وأيضاً لا يشرع إحياء تلك الليلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحي تلك الليلة، لكن المسلم يؤدي الوتر في تلك الليلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوتر سفراً وحضراً.

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإذا بلغ محسراً).

يعني: وادي محسر، ووادي محسر هذا وادٍ بين مزدلفة ومنى، وسمي بذلك لأنه يحسر سالكه.

يقول المؤلف رحمه الله: (أسرع قدر رمية بحجر).

وقد حده العلماء رحمهم الله بقدر خمسمائة وخمسة وأربعين ذراعاً، ويدل لذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى وادي محسر حرك قليلاً )، كما رواه جابر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم .

وذكرنا ما هي الحكمة من الإسراع، وأن أهل العلم رحمهم اختلفوا في ذلك على أقوال:

القول الأول: أن الحكمة من ذلك أن أصحاب الفيل أهلكوا في ذلك الوادي، لكن ذكرنا أن هذا غير صواب، وأن أصحاب الفيل لم يبلغوا الحرم.

والرأي الثاني: أنه موقف كانت تقفه النصارى، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم لأجل مخالفتهم.

والقول الثالث: أنه موقف تقفه العرب، فتذكر فيه أمجادها وأحسابها، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول هو أقرب الأقوال، ويدل له قول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة:200].

الابتداء برمي جمرة العقبة

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (حتى يأتي منى فيبتدئ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف).

إذا أسفر جداً فإنه يدفع قبل طلوع الشمس، فإذا أتى منى فإن السنة أن يبدأ برمي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة هو تحية منى، ويدل لهذا عدة أمور:

الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على جمرة العقبة.

الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرج على شيءٍ من رحله حتى رمى هذه الجمرة.

الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها راكباً، وأما في غير يوم النحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم رماها راجلاً، فهذه ثلاثة أمور تدل على أن السنة للإنسان إذا دفع من مزدلفة إلى منى أن يبدأ برمي جمرة العقبة، وعلى هذا فالضعفة إذا تعجلوا من مزدلفة إلى منى في آخر الليل، فنقول: السنة لهم أن يبدءوا برمي جمرة العقبة؛ لأن من حكمة تعجيل الضعفة آخر ليلة النحر هي أن يرموا قبل أن تدركهم حطمة الناس.

شروط الرمي

وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (فيبتدئ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف).

هذا الرمي واجب من واجبات الحج.. رمي الجمار في يوم النحر وفي أيام التشريق -كما سيأتينا إن شاء الله- هو أحد واجبات الحج، وهذا الواجب له شروط، أي: الرمي له شروط:

الشرط الأول: قال المؤلف رحمه الله: (فيرميها) فيشترط أن يرميها رمياً، وعلى هذا لو أنه وضع الحصى وضعاً ولم يرمه رمياً فإن هذا لا يجزئ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها رمياً، كما في حديث ابن عمر وحديث جابر رضي الله تعالى عنهما، قال جابر : ( فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ).

الشرط الثاني: قال رحمه الله تعالى: (بسبع حصيات) فلا بد أن يكون الرمي بسبع حصيات؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله تعالى عنه: ( فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة )، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

والرأي الثاني: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه إن نقص حصاةً أو حصاتين فإن هذا لا بأس به، واستدلوا على ذلك بما رواه سعد قال: ( رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضنا يقول: رميت بستٍ، وبعضنا يقول: رميت بسبعٍ، فلم يعب ذلك بعضنا على بعض )، وهذا الأثر أخرجه النسائي والبيهقي وصححه جمع من أهل العلم، فهذا دليل على أنه يغتفر إذا أنقص الإنسان حصاةً أو حصاتين، كما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والأقرب في ذلك أن يقال: إن الإنسان ما دام في وقت الرمي فإنه يحتاط، ويرمي كما رمى النبي صلى الله عليه وسلم سبع حصيات؛ لأن جمهور أهل العلم يقولون: إن نقص فإن ذلك لا يجزئه، وأما إن فات وقت الرمي وقد نقص حصاةً أو حصاتين فإن ذلك يغتفر له.

الشرط الثالث: قال المؤلف رحمه الله: (حصيات) أن يكون بحصى، وعلى هذا فلو أنه رمى بغير الحصى فإن ذلك لا يجزئ؛ لأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقدم أن أوردنا حديث جابر قال: ( فرماها بسبع حصياتٍ يكبر مع كل حصاة )، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصى، وعلى هذا: لو رمى بالخشب أو رمى بالحديد أو رمى بالنعال أو غير ذلك، فإن هذا لا يجزئه.

الشرط الرابع: قال المؤلف رحمه الله: (كحصى الخذف) يعني: لا بد أن يرمي هذه الحصيات بحصىً كحصى الخذف، فلا تجزئ الحصاة الكبيرة جداً، ولا تجزئ الحصاة الصغيرة جداً، وقد قال العلماء: بأن حصى الخذف تكون بين الحمص والبندق، والشافعية رحمهم الله حددوا حجم هذه الحصى، وقالوا: بأنها كالأنملة من الإصبع إلا أنها أقل من الأنملة من الإصبع طولاً وعرضاً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يكبر مع كل حصاة ويرفع يده اليمنى) وعلى هذا كما تقدم أنه لو وضعها وضعاً فإن هذا لا يجزئ.

الشرط الخامس: أن يرميها واحدةً بعد الأخرى؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلو رماها دفعةً واحدة فإن هذا لا يجزئ، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله، وقال الحسن البصري : يجزئ مع الجهل، والصحيح في ذلك أنه لا يجزئ.

الشرط السادس: أن تقع في المرمى؛ لأن هذا المكان هو الذي رمى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن تقع في المرمى.

والرأي الثاني: رأي الحنفية قالوا: تجزئ إذا وقعت في المرمى أو وقعت قريباً من المرمى، أما إن وقعت بعيداً من المرمى فإنها غير مجزئة.

ولا يشترط أن يراها الإنسان إذا قعت في المرمى، فنقول: إذا حصل العلم أو غلبة الظن فإن ذلك مجزئ، فإذا حصل العلم، يعني: رماها فوقعت في المرمى ورآها وقعت، هنا حصل العلم بذلك، كذلك أيضاً لو غلب على ظنه أنها وقعت في المرمى، يعني: كان هناك زحام ورمى هذه الحصاة، وهو يظن أنها وقعت في المرمى فإن ذلك مجزئ، ولا يشترط أن يراها بعينه.

الشرط السابع: ألا تكون هذه الحصاة قد رمي بها، فإن كان قد رمي بها فإنه لا يجزئ الرمي بها، وهذا هو المشهور عند الحنابلة رحمهم الله، قالوا: بأن هذه حصاة استعملت في عبادة، فلا تستعمل فيها مرةً أخرى.

والرأي الثاني: رأي الشافعية: أن هذا جائز ولا بأس به، يعني: لا بأس أن ترمي بحصاةٍ قد رمي بها، وهذا القول هو الصواب؛ لأن الحديث ليس فيه تخصيص، وهو حديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة )، وهذا يشمل الحصى التي رمي بها، والحصى التي لم يرم بها.

الشرط الثامن: أن يكون الرمي في وقته المعتبر شرعاً، ووقت رمي جمرة العقبة يبدأ من حين دخول وقت الدفع من مزدلفة، فإذا دخل وقت الدفع من مزدلفة دخل وقت رمي جمرة العقبة، وقد سبق أن بينا متى يدفع من مزدلفة إلى منى؟ وذكرنا ما هو وقت الدفع بالنسبة للأقوياء، وما هو وقت الدفع بالنسبة للضعفة.

وذكرنا أن الأحوط بالنسبة للأقوياء ألا يدفعوا إلا بعد الإسفار، وحينئذٍ نقول: بأن وقت الرمي لهم يكون بعد طلوع الشمس؛ لأنه إذا دفع بعد الإسفار لن يصل إلا بعد طلوع الشمس، وأما بالنسبة للضعفة فإنهم يدفعون آخر الليل بعد غروب القمر، وحينئذٍ يكون وقت الرمي لهم دخل بعد غروب القمر، ويستمر الرمي في يوم النحر إلى غروب الشمس هذا كله وقت للرمي.

لكن هل يجزئ الرمي ليلاً، أو لا يجزئ؟

هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، فالمشهور من مذهب الحنابلة: أن الرمي يستمر إلى غروب الشمس من يوم النحر، ولا يجزئ الرمي بعد غروب الشمس.. هذا المشهور من المذهب، والرأي الثاني وهو مذهب الشافعية والحنفية: أن الرمي يصح ليلاً، وعلى هذا إذا غربت الشمس من يوم النحر فلا بأس أن ترمي بعد غروب الشمس، ويستمر وقت الرمي إلى طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر.

وقد دل لهذا أدلة، من هذه الأدلة حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج ) وهذا رواه البخاري ، وقوله: (بعدما أمسيت)، المساء يطلق على ما بعد غروب الشمس وعلى ما قبل غروب الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حرج.

وأيضاً يدل لذلك أن زوجة ابن عمر صفية احتبست على ابنة أخٍ لها نفست في المزدلفة فاحتبست، فجاءت بعد غروب الشمس فرمت، فأقرها ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، بل ابن عمر رضي الله تعالى عنه أمرها أن ترمي بعد غروب الشمس هي وابنة أخيها، وهذا رواه الإمام مالك رحمه الله بإسنادٍ صحيح.

وكذلك أيضاً في مصنف ابن أبي شيبة : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون حجاجاً فيدعون ظهورهم فيجيئون فيرمون بالليل.

فهذه الأدلة تدل على أن الرمي ليلاً جائز ولا بأس به.

الشرط التاسع من شروط صحة الرمي: أن يقصد الرمي، وعلى هذا فلو رمى حصاةً وهو لم يقصد الرمي، وإنما رماها هكذا فوقعت في الحوض، فإنها لا تجزئ.

والشرط العاشر: أن يكون وقوعها في المرمى بفعله، وعلى هذا لو رمى حصاةً فوقعت في ثوب إنسان، فقذفها هذا الإنسان حتى وقعت في المرمى، فإنها لا تجزئ، وأيضاً لا يشترط أن تستقر في المرمى، فلو أنه رمى الحصاة ووقعت في المرمى، ثم بعد ذلك تدحرجت من المرمى، فنقول بأنها مجزئة.

التكبير ورفع اليدين عند الرمي

قال المؤلف رحمه الله: [يكبر مع كل حصاة].

هذا هو السنة، وسبق أن أوردنا حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويرفع يديه في الرمي].

قال بعض العلماء: يرفع يده حتى يرى بياض إبطه، قالوا: لأن هذا أعون في الرمي، ويدل لذلك حديث جابر قال: ( فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة )، قوله: (فرماها)، هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده، لو أنه قال: وضعها، لقلنا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يده، وإنما قال: رماها، ولا يكون رمياً إلا مع رفع اليد.

قطع التلبية

قال المؤلف رحمه الله: [ويقطع التلبية بابتداء الرمي].

التلبية تستمر من حين الإحرام من اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، فاليوم الثامن يلبي واليوم التاسع يلبي واليوم العاشر وهو يوم النحر فإذا شرع في رمي جمرة العقبة، فإنه يقطع التلبية، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى في قوله: (ويقطع التلبية بابتداء الرمي) أنه يقطع التلبية بأول حصاة يكبر ويقطع التلبية، ويدل لهذا حديث الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمة العقبة ) وهذا الحديث في الصحيحين، وفي لفظ من حديث الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة ) فقوله: (حتى بلغ الجمرة)، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى الجمرة قطع التلبية.

والرأي الثاني: هو رأي ابن حزم رحمه الله، يقول: بأنه يلبي ويستمر بالتلبية حتى ينتهي من الرمي، ويأخذ بحديث الفضل بن العباس السابق، فإن فيه: ( لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة )، يعني: انتهى من رمي جمرة العقبة، لكن الصواب في هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لما ذكرنا من الرواية الأخرى، قال: ( حتى بلغ الجمرة )، وهذا صريح في أن التلبية تنتهي ببلوغ جمرة العقبة.

وأيضاً كما تقدم لنا في حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل حصاة )، فكونه يكبر مع كل حصاة فهذا يدل على أن ذكر التلبية قد انتهى؛ لأن جابر ما ذكر أنه يكبر ويلبي، وإنما ذكر أنه يكبر فقط.

الرأي الثالث: رأي المالكية: قالوا بأنه يلبي إلى زوال الشمس من يوم عرفة، إلا إن زالت قبل وصوله إلى المصلى فيلبي إلى أن يصل المصلى، قالوا: لوروده عن علي رضي الله تعالى عنه.

إذاً: المالكية يقولون: يلبي إلى اليوم التاسع إلى زوال الشمس من يوم عرفة، إلا إن زالت الشمس قبل أن يصل إلى المصلى فإنه يلبي إلى أن يصل إلى المصلى، والراجح في هذا: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.

وضع الرامي أثناء الرمي

قال المؤلف رحمه الله: [ويستبطن الوادي، ويستقبل القبلة ولا يقف عندها].

قوله: (يستبطن الوادي) يعني: يرمي من بطن الوادي؛ لأن جمرة العقبة كانت في الزمن السابق في ظهر جبل، وكان تحتها وادي، فيقول المؤلف رحمه الله: يرمي من بطن الوادي.

وقوله: (ويستقبل القبلة)، وعلى هذا إذا كان سيستقبل القبلة تكون جمرة العقبة على جانبه الأيمن ويرميها، هذا هو المذهب، يعني: أنك لا تجعل الجمرة بين يديك، وإنما تجعل الجمرة على يمينك.. وترميها وأنت مستقبل القبلة، وهذه الصفة فيها نظر، فالصحيح أن الصفة الصحيحة هي ما رواها ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه واستقبل الجمرة -جعل الجمرة بين يديه- وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، ورماها بسبع حصيات ).

والحنابلة رحمهم الله أخذوا هذه الصفة، فقالوا: لا يجعل القبلة عن يساره، وإنما يستقبل القبلة، وقالوا: لأن هذا وارد في سنن الترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، والترمذي صحح هذا الحديث، لكن مع أن الترمذي صحح هذا الحديث، فإنا نقول: الصواب في ذلك ما ثبت في الصحيحين ولا يعارض ما جاء في سنن الترمذي ، فالصواب في ذلك أنه يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، وهو الذي رواه البخاري .

وأما حديث الترمذي وإن كان الترمذي صححه فإن العلماء حكموا عليه بالشذوذ، وأيضاً قالوا: في إسناده المسعودي والمسعودي هذا قد اختلط.

الحكمة من عدم وقوف النبي صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يقف عندها].

نقول: بأنه يرمي جمرة العقبة بسبع حصياتٍ متعاقبات ولا يقف عندها، واختلف العلماء رحمهم الله في العلة في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند جمرة العقبة، فقال بعض العلماء: لأن المكان ضيق فلا يقف، وقال بعض العلماء: لا يقف عندها لأن العبادة قد انتهت، وهذا رأي ابن القيم رحمه الله. فالعبادة قد انتهت والذكر يكون في جوف العبادة، وهذا القول هو الصواب.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (حتى يأتي منى فيبتدئ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف).

إذا أسفر جداً فإنه يدفع قبل طلوع الشمس، فإذا أتى منى فإن السنة أن يبدأ برمي جمرة العقبة، فرمي جمرة العقبة هو تحية منى، ويدل لهذا عدة أمور:

الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على جمرة العقبة.

الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرج على شيءٍ من رحله حتى رمى هذه الجمرة.

الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها راكباً، وأما في غير يوم النحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم رماها راجلاً، فهذه ثلاثة أمور تدل على أن السنة للإنسان إذا دفع من مزدلفة إلى منى أن يبدأ برمي جمرة العقبة، وعلى هذا فالضعفة إذا تعجلوا من مزدلفة إلى منى في آخر الليل، فنقول: السنة لهم أن يبدءوا برمي جمرة العقبة؛ لأن من حكمة تعجيل الضعفة آخر ليلة النحر هي أن يرموا قبل أن تدركهم حطمة الناس.

وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (فيبتدئ بجمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف).

هذا الرمي واجب من واجبات الحج.. رمي الجمار في يوم النحر وفي أيام التشريق -كما سيأتينا إن شاء الله- هو أحد واجبات الحج، وهذا الواجب له شروط، أي: الرمي له شروط:

الشرط الأول: قال المؤلف رحمه الله: (فيرميها) فيشترط أن يرميها رمياً، وعلى هذا لو أنه وضع الحصى وضعاً ولم يرمه رمياً فإن هذا لا يجزئ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها رمياً، كما في حديث ابن عمر وحديث جابر رضي الله تعالى عنهما، قال جابر : ( فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ).

الشرط الثاني: قال رحمه الله تعالى: (بسبع حصيات) فلا بد أن يكون الرمي بسبع حصيات؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله تعالى عنه: ( فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة )، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

والرأي الثاني: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه إن نقص حصاةً أو حصاتين فإن هذا لا بأس به، واستدلوا على ذلك بما رواه سعد قال: ( رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضنا يقول: رميت بستٍ، وبعضنا يقول: رميت بسبعٍ، فلم يعب ذلك بعضنا على بعض )، وهذا الأثر أخرجه النسائي والبيهقي وصححه جمع من أهل العلم، فهذا دليل على أنه يغتفر إذا أنقص الإنسان حصاةً أو حصاتين، كما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

والأقرب في ذلك أن يقال: إن الإنسان ما دام في وقت الرمي فإنه يحتاط، ويرمي كما رمى النبي صلى الله عليه وسلم سبع حصيات؛ لأن جمهور أهل العلم يقولون: إن نقص فإن ذلك لا يجزئه، وأما إن فات وقت الرمي وقد نقص حصاةً أو حصاتين فإن ذلك يغتفر له.

الشرط الثالث: قال المؤلف رحمه الله: (حصيات) أن يكون بحصى، وعلى هذا فلو أنه رمى بغير الحصى فإن ذلك لا يجزئ؛ لأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقدم أن أوردنا حديث جابر قال: ( فرماها بسبع حصياتٍ يكبر مع كل حصاة )، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصى، وعلى هذا: لو رمى بالخشب أو رمى بالحديد أو رمى بالنعال أو غير ذلك، فإن هذا لا يجزئه.

الشرط الرابع: قال المؤلف رحمه الله: (كحصى الخذف) يعني: لا بد أن يرمي هذه الحصيات بحصىً كحصى الخذف، فلا تجزئ الحصاة الكبيرة جداً، ولا تجزئ الحصاة الصغيرة جداً، وقد قال العلماء: بأن حصى الخذف تكون بين الحمص والبندق، والشافعية رحمهم الله حددوا حجم هذه الحصى، وقالوا: بأنها كالأنملة من الإصبع إلا أنها أقل من الأنملة من الإصبع طولاً وعرضاً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يكبر مع كل حصاة ويرفع يده اليمنى) وعلى هذا كما تقدم أنه لو وضعها وضعاً فإن هذا لا يجزئ.

الشرط الخامس: أن يرميها واحدةً بعد الأخرى؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلو رماها دفعةً واحدة فإن هذا لا يجزئ، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله، وقال الحسن البصري : يجزئ مع الجهل، والصحيح في ذلك أنه لا يجزئ.

الشرط السادس: أن تقع في المرمى؛ لأن هذا المكان هو الذي رمى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن تقع في المرمى.

والرأي الثاني: رأي الحنفية قالوا: تجزئ إذا وقعت في المرمى أو وقعت قريباً من المرمى، أما إن وقعت بعيداً من المرمى فإنها غير مجزئة.

ولا يشترط أن يراها الإنسان إذا قعت في المرمى، فنقول: إذا حصل العلم أو غلبة الظن فإن ذلك مجزئ، فإذا حصل العلم، يعني: رماها فوقعت في المرمى ورآها وقعت، هنا حصل العلم بذلك، كذلك أيضاً لو غلب على ظنه أنها وقعت في المرمى، يعني: كان هناك زحام ورمى هذه الحصاة، وهو يظن أنها وقعت في المرمى فإن ذلك مجزئ، ولا يشترط أن يراها بعينه.

الشرط السابع: ألا تكون هذه الحصاة قد رمي بها، فإن كان قد رمي بها فإنه لا يجزئ الرمي بها، وهذا هو المشهور عند الحنابلة رحمهم الله، قالوا: بأن هذه حصاة استعملت في عبادة، فلا تستعمل فيها مرةً أخرى.

والرأي الثاني: رأي الشافعية: أن هذا جائز ولا بأس به، يعني: لا بأس أن ترمي بحصاةٍ قد رمي بها، وهذا القول هو الصواب؛ لأن الحديث ليس فيه تخصيص، وهو حديث جابر رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة )، وهذا يشمل الحصى التي رمي بها، والحصى التي لم يرم بها.

الشرط الثامن: أن يكون الرمي في وقته المعتبر شرعاً، ووقت رمي جمرة العقبة يبدأ من حين دخول وقت الدفع من مزدلفة، فإذا دخل وقت الدفع من مزدلفة دخل وقت رمي جمرة العقبة، وقد سبق أن بينا متى يدفع من مزدلفة إلى منى؟ وذكرنا ما هو وقت الدفع بالنسبة للأقوياء، وما هو وقت الدفع بالنسبة للضعفة.

وذكرنا أن الأحوط بالنسبة للأقوياء ألا يدفعوا إلا بعد الإسفار، وحينئذٍ نقول: بأن وقت الرمي لهم يكون بعد طلوع الشمس؛ لأنه إذا دفع بعد الإسفار لن يصل إلا بعد طلوع الشمس، وأما بالنسبة للضعفة فإنهم يدفعون آخر الليل بعد غروب القمر، وحينئذٍ يكون وقت الرمي لهم دخل بعد غروب القمر، ويستمر الرمي في يوم النحر إلى غروب الشمس هذا كله وقت للرمي.

لكن هل يجزئ الرمي ليلاً، أو لا يجزئ؟

هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، فالمشهور من مذهب الحنابلة: أن الرمي يستمر إلى غروب الشمس من يوم النحر، ولا يجزئ الرمي بعد غروب الشمس.. هذا المشهور من المذهب، والرأي الثاني وهو مذهب الشافعية والحنفية: أن الرمي يصح ليلاً، وعلى هذا إذا غربت الشمس من يوم النحر فلا بأس أن ترمي بعد غروب الشمس، ويستمر وقت الرمي إلى طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر.

وقد دل لهذا أدلة، من هذه الأدلة حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج ) وهذا رواه البخاري ، وقوله: (بعدما أمسيت)، المساء يطلق على ما بعد غروب الشمس وعلى ما قبل غروب الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حرج.

وأيضاً يدل لذلك أن زوجة ابن عمر صفية احتبست على ابنة أخٍ لها نفست في المزدلفة فاحتبست، فجاءت بعد غروب الشمس فرمت، فأقرها ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، بل ابن عمر رضي الله تعالى عنه أمرها أن ترمي بعد غروب الشمس هي وابنة أخيها، وهذا رواه الإمام مالك رحمه الله بإسنادٍ صحيح.

وكذلك أيضاً في مصنف ابن أبي شيبة : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون حجاجاً فيدعون ظهورهم فيجيئون فيرمون بالليل.

فهذه الأدلة تدل على أن الرمي ليلاً جائز ولا بأس به.

الشرط التاسع من شروط صحة الرمي: أن يقصد الرمي، وعلى هذا فلو رمى حصاةً وهو لم يقصد الرمي، وإنما رماها هكذا فوقعت في الحوض، فإنها لا تجزئ.

والشرط العاشر: أن يكون وقوعها في المرمى بفعله، وعلى هذا لو رمى حصاةً فوقعت في ثوب إنسان، فقذفها هذا الإنسان حتى وقعت في المرمى، فإنها لا تجزئ، وأيضاً لا يشترط أن تستقر في المرمى، فلو أنه رمى الحصاة ووقعت في المرمى، ثم بعد ذلك تدحرجت من المرمى، فنقول بأنها مجزئة.

قال المؤلف رحمه الله: [يكبر مع كل حصاة].

هذا هو السنة، وسبق أن أوردنا حديث جابر رضي الله تعالى عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويرفع يديه في الرمي].

قال بعض العلماء: يرفع يده حتى يرى بياض إبطه، قالوا: لأن هذا أعون في الرمي، ويدل لذلك حديث جابر قال: ( فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة )، قوله: (فرماها)، هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده، لو أنه قال: وضعها، لقلنا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يده، وإنما قال: رماها، ولا يكون رمياً إلا مع رفع اليد.

قال المؤلف رحمه الله: [ويقطع التلبية بابتداء الرمي].

التلبية تستمر من حين الإحرام من اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، فاليوم الثامن يلبي واليوم التاسع يلبي واليوم العاشر وهو يوم النحر فإذا شرع في رمي جمرة العقبة، فإنه يقطع التلبية، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى في قوله: (ويقطع التلبية بابتداء الرمي) أنه يقطع التلبية بأول حصاة يكبر ويقطع التلبية، ويدل لهذا حديث الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمة العقبة ) وهذا الحديث في الصحيحين، وفي لفظ من حديث الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة ) فقوله: (حتى بلغ الجمرة)، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى الجمرة قطع التلبية.

والرأي الثاني: هو رأي ابن حزم رحمه الله، يقول: بأنه يلبي ويستمر بالتلبية حتى ينتهي من الرمي، ويأخذ بحديث الفضل بن العباس السابق، فإن فيه: ( لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة )، يعني: انتهى من رمي جمرة العقبة، لكن الصواب في هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لما ذكرنا من الرواية الأخرى، قال: ( حتى بلغ الجمرة )، وهذا صريح في أن التلبية تنتهي ببلوغ جمرة العقبة.

وأيضاً كما تقدم لنا في حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل حصاة )، فكونه يكبر مع كل حصاة فهذا يدل على أن ذكر التلبية قد انتهى؛ لأن جابر ما ذكر أنه يكبر ويلبي، وإنما ذكر أنه يكبر فقط.

الرأي الثالث: رأي المالكية: قالوا بأنه يلبي إلى زوال الشمس من يوم عرفة، إلا إن زالت قبل وصوله إلى المصلى فيلبي إلى أن يصل المصلى، قالوا: لوروده عن علي رضي الله تعالى عنه.

إذاً: المالكية يقولون: يلبي إلى اليوم التاسع إلى زوال الشمس من يوم عرفة، إلا إن زالت الشمس قبل أن يصل إلى المصلى فإنه يلبي إلى أن يصل إلى المصلى، والراجح في هذا: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2514 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2463 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2442 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2422 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2395 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2350 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2350 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2311 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2306 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2300 استماع