شرح زاد المستقنع باب حد الزنا [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط].

بين المصنف رحمه الله حكم الشريعة في حد الزنا، والحدود التي فصلها دليل الكتاب والسنة بالتفريق بين البكر والثيب، ثم ذكر رحمه الله صفة الجلد وصفة الرجم اللذين ثبت بهما الدليل في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا شرع في بيان الشروط التي ينبغي توافرها حتى يحكم بوجوب الحد.

قوله: (ولا يجب) أي: ولا يثبت، والواجب في لغة العرب يطلق بمعنى: اللازم، ويطلق بمعنى: الثابت، وهنا يصح أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يلزم الحد إلا بثلاثة شروط، فحينئذٍ يكون الواجب بمعنى اللازم المحتم؛ لأنه لا يجوز تأخير الحدود، وإذا ثبتت الحدود على الصفة الشرعية؛ فيجب أن تنفذ ولا تعطل، وإما أن تقول: (ولا يجب) يعني: لا يثبت، وكلاهما صحيح، يقال: وجب، إذا ثبت، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، وكذلك أيضاً يقال: وجب، بمعنى لزم، كما تقول: هذا واجبٌ عليك، ومنه الواجبات الشرعية.

وقوله: (إلا بثلاثة شروط) أي: لا بد من تحقق هذه الثلاثة الشروط حتى نحكم بوجوب الجلد مع التغريب أو الجلد مع الرجم على التفصيل الذي بيناه.

الشرط الأول: تغييب الحشفة

قال المصنف رحمه الله: [ أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها ].

لا يحكم بثبوت الزنا إلا إذا غيّب رأس الذكر، وعبّر عنه المصنف رحمه الله بالحشفة، وهي: رأس الذكر، وقد فصل العلماء رحمهم الله وبينوا هذه الأمور؛ لأنه ينبغي للقاضي وللعالم وللمفتي ألا يحكم بالزنا، ولا يصف الشخص بأنه قد زنى فعلاً إلا بعد أن تتوافر هذه الشروط، ويكون هذا الأمر على وضوح لا لبس فيه، فلا بد أولاً من وجود فعل الجريمة، وتنتفي الشبهة، ثم بعد ذلك يثبت على المجرم فعله، فإذا حصل فعل الجريمة، وانتفت الشبهة، وقام الدليل على وقوعها؛ فحينئذٍ يجب تنفيذ حكم الله عز وجل، هذا من حيث الأصل.

يبقى سؤال: متى يحكم على نفسه بأنه قد زنى فعلاً؟ ومتى يحكم القاضي بأنه زان؟

كل ذلك يحتاج إلى وجود الفعل، فبيّن رحمه الله أن تغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- يثبت به الزنا، ويترتب ما يقرب من ثمانين حكم شرعي على تغييب هذا القدر.

قال رحمه الله: (تغييب حشفته الأصلية)، فإذا كان رأس الذكر مقطوعاً، فالعلماء رحمهم الله ذكروا أن العبرة بقدرها، فإذا غيّب قدرها فقد ثبت الزنا، وأما لو لم يحصل التغييب للحشفة بأن استمتع بالمرأة دون تغييب حشفته في فرجها، ولم يحصل الإيلاج؛ فإنه لا يحكم بزناه، فلا بد من وجود هذا الشرط حتى يحكم بفعل الجريمة على الوجه المعتبر.

وقوله: (تغييب حشفته) أي: في الفرج المعتبر شرعاً.

قال المصنف رحمه الله: [ في قبل أو دبر أصليين].

قوله: (في قُبل) إذا كان زنا، وقوله: (أو دبر) إذا كان لواطاً -والعياذ بالله-.

وقوله: (أصليين) أخرج مثلاً الدمى واللعب الموجودة الآن في زماننا، فإنه لو حصل تغييب لفرجه فيها -والعياذ بالله-؛ فإن هذا ليس بفرج أصلي، ولا يحكم بكونه زانياً، وهكذا لو وضعها في قماش أو قطن أو وسادة أو غير ذلك وغيّب هذا القدر؛ فلا يحكم بكونه زانياً، بل لا بد أن يغيب رأس الذكر، وأن يكون ذلك في فرج أصلي، فخرج غير الأصلي.

قال المصنف رحمه الله: [ حراماً محضاً].

قوله: (حراماً) أي: هذا الفرج حراماً، فخرج الفرج المباح، فلو أنه غيب حشفته في قبل امرأته؛ فإنها ليست بحرام، وقوله: (محضاً): أي: لا شبهة فيه، وفي بعض النسخ: محصناً، وهذا تصحيف، والصواب: محضاً، أي: أن هذا الفعل وقع في موضع حرمته لا شبهة فيها، فخرج الموضع الذي فيه شبهة، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، وسيأتي تفصيل هذا في الشرط الثاني.

والمباح هو في زوجته وفي أمته، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المعارج:29-30]، فجعل الاعتداء وحصول الجريمة فيما خرج عن الحلال، وذلك في قوله: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7]، إذاً لا بد لثبوت الزنا أن يغيب حشفته في فرج غير معتبر شرعاً، وهو الحرام المحض الخالص الذي لا شبهة فيه، والسبب في هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي.

الشرط الثاني: انتفاء الشبهة

قال المصنف رحمه الله: [ الثاني: انتفاء الشبهة ].

أي: أن يكون وطؤه لهذا الفرج لا شبهة له فيه، ولا تأويل له فيه، فإن كانت عنده شبهة؛ فإن هذا يدرأ عنه الحد، وهذا من لطف الله سبحانه وتعالى بعباده، ومن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإن الإنسان الذي التبست عليه الأمور، واختلطت عليه، أو ظن الحرام حلالاً، ووقع فيه وهو يظن أنه مباحٌ له شرعاً؛ ليس كالذي يفعل ذلك عن قصد وطلب ومحبة وعلم بحرمته.

وقوله: (انتفاء الشبهة) أي: ألا توجد الشبهة بالنسبة للفاعل أو المفعول أو هما، فإذا وجدت الشبهة في أحدهما انتفى الحد عنه، وأما الآخر فإنه يبقى عليه الحد على الأصل الشرعي، وأصل المشتبه: يقال: شابه كذا، إذا كان قريباً منه في الصفات بحيث إذا نظرت إليه ظننته الآخر، ولذلك سميت الأشياء الملتبسة والمختلطة بالشبهات؛ لأن الإنسان الذي عنده شبهة يظنها حلالاً؛ لأن فيها شبه من الحلال، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته، وتبين أنها غير زوجته؛ فإنه لا يثبت عليه الزنا، مثلاً: وجدها نائمة على فراش زوجته، فهذا يشبه الزوجة، ويجعله ظاناً حل المكان، وهذا ما يسمى بشبهة المحل، فالشاهد من هذا أن الشبهة تكون في الشيء المختلط والملتبس الذي تتقارب صفاته ونعوته بحيث يصعب على الإنسان أن يميزه عن غيره أو عن ضده.

إذاً: قوله رحمه الله: (انتفاء الشبهة) يعني: ألا يكون عند الفاعل أو المفعول شبهة في فعله.

قال المصنف رحمه الله: [فلا يحد بوطء أمةٍ له فيها شرك].

لو أن رجلين اشتركا في شراء جارية، فدفع كل واحد منهما نصف القيمة، فلما ملكا الجارية ظنّ أحدهما أن ملكه للنصف يحل له وطأها؛ فوطأها على أنها مملوكة ليمينه، ولم يكن يعلم أن الجارية إذا كانت في شرك بين اثنين فأكثر؛ فلا يحل لأحد هؤلاء المشتركين وطؤها، فوطئها وهو يظن -بناءً على ملك اليمين- أنها تحل له، فلا يحد لوجود الشبهة، وهذا ما يسمى بشبهة الملك؛ لأن عنده شبهة في ملكية الجارية، وظن -بناءً على وجود هذه الشبهة- أن الله أحل له وطأها، والله عز وجل لم يحل له وطأها.

قال المصنف رحمه الله: [ أو لولده ].

لو وطئ الجارية التي فيها شركٌ لولده أو ملك لولده، وظن ذلك حلالاً له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عند ابن ماجة وغيره: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل كسب الولد ككسب أبيه، وجعله تابعاً لأبيه، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إنما فاطمة بضعة مني)، فجعل الولد بضعة وقطعة من والده كالشيء الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)؛ فإذا اشتبه عليه الأمر بهذا فلا يحد، قالوا: إذا ملك الولد جارية؛ فللوالد شبهة في وطئها؛ لأن ملك الولد يشبه ملكه هو، فلو ظن أن ملك ولده للجارية يحل له وطأها، أو كان لولده شرك فيها، وليست ملكاً محضاً لولده وإنما فيها شرك، يشترك ولده مع شخص آخر فيها؛ فوطئها؛ فحينئذٍ يندرئ عنه الحد، ولو وطئ جارية يملكها ولده فلا إشكال؛ لأن الشبهة فيها قوية، وحينما يكون هو أو ولده مشاركاً للغير؛ فإن الشبهة أيضاً مؤثرة، فمن باب أولى إذا كان هو الذي يملك أو كان الشرك له هو.

قال المصنف رحمه الله: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته].

هذا يسمى بشبهة المحل، مثلاً: رأى امرأة على صفات امرأته، وظنها زوجته؛ فوطئها، أو نامت امرأة أجنبية مكان امرأته ولم يتيسر إعلامه، نحو ما يحصل للرفقة أثناء سفرهم وارتحالهم إذا نزلوا في الأماكن؛ فربما نزل بعضهم في مكان بعض، ولربما نامت المرأة في مكان أختها، فجاء إلى فراشه ووطئ امرأةً يظنها زوجةً له، أو كانت المرأة تشبه زوجته، فظنها زوجة له فوطئها، ثم تبين أنها ليست بزوجة له، فهذا كله شبهة، والشبهة يدرأ بها الحد، ويقولون: إن الجريمة يكون فيها قصد الإجرام بالظاهر والباطن، فالشخص الذي يزني عالماً بحرمته عليه ويفعل ما حرم الله؛ فقد اجتمع فيه الأمران: الظاهر، وهو: فعل الزنا، والباطن، وهو: قصده وإرادته وطلبه ومحبته والتشوق له، وقصد فعل المعصية موجود فيه، والقصد الباطن هو النية، فعنده النية لفعل الحرام، والظاهر هو فعل الزنا.

ولكن المشتبه وإن وقع في الزنا ظاهراً، فإنه في الباطن يظنه حلالاً له، فلم يجتمع فيه الأمران، وليس فيه معنى انتهاك الحرمة الذي يستحق به العقوبة، وهذا كما أشار إليه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام في مسألة اجتماع الظاهر والباطن في فعل المحرمات.

قال المصنف رحمه الله: [ أو سريته ].

ظنها سرية من سراريه فوطئها، فإذا وطئ من يظنها زوجة له أو أمة له، فالحكم واحد، المهم أن يكون هناك اشتباه في المحل، فصورة المسألة: أن يكون المحل في الأصل حلالاً له، زوجته أو سريته، ثم يحصل اشتباه في هذا المحل فيظن أن ذلك المحل حلالاً، فيطأ امرأة يظنها زوجته أو يطأ امرأة يظنها سريته أو أمته.

قال المصنف رحمه الله: [ أو في نكاح باطل اعتقد صحته ].

هذا يسمى بشبهة العقد، وتقدم معنا شبهة المحل، وشبهة الملك، وهي أقسام الشبهات، فهنا لو وطئ في عقد يظن صحته، كشخص لبس عليه في نكاح المتعة، وقيل له: إن نكاح المتعة جائز، والصواب أنه محرم، وفي أول الإسلام أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم عندما اشتكوا إليه الضرر، وهم مسافرون في الغزو، فقد كانوا يحتاجون إلى من يغسل لهم، ومن يقوم على شئونهم، فأذن لهم بالمتعة، والعرب كان من عادتهم الخوف من صحبة النساء في الغزو؛ لأنهم إذا غُلبوا أُخذت النساء سبايا، فيخافون على أعراضهم، ولذلك كانوا يحرصون -في الغالب- على عدم مرافقة النساء في مثل هذه الأسفار، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة رفقة أزواجهم لهم، وحاجتهم للنساء، فأذن لهم بالمتعة، ثم نسخ هذا الإذن، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم نكاح المتعة -كما في الحديث الصحيح- في خيبر، وحرمها في أوطاس، وحرمها عليه الصلاة والسلام في الفتح، وفي خطبة حجة الوداع، فهي حرامٌ إلى يوم القيامة، فلو أن شخصاً لبس عليه أحد من أهل البدع وخدعه حتى ظن أن هذا حلال، وعقد عقد متعة وهو يظن أنه عقد شرعي مباح له، ثم وطئ المرأة في هذا العقد المحرم، فقيل له: أصلحك الله! هذا عقدٌ باطل، والوطء فيه وطء زنا -والعقود الباطلة من اعتقد بطلانها ووطئ بها فكأنه زنى- فقال: ما علمت هذا! وكنت أظن أن هذا حلال، فهذا شبهة في العقد.

كذلك إذا كان يقول بجواز عقد النكاح بدون شهود أو بدون ولي؛ فهذا ما يقام عليه الحد ولا يحكم عليه بالزنا؛ لأنه لا إنكار في المختلف فيه.

فلو أن شخصاً عقد على امرأة بدون ولي، سافر إلى بلاد لا يشترط فيها الولي على مذهب الحنفية رحمهم الله وهو قول عن الإمام مالك -كما تقدم معنا في النكاح- فجاء وتزوج المرأة وتولت هي العقد، فهذا العقد لا يصح عند الشافعية والحنابلة، وإذا كان العقد غير صحيح فقد وطئ في عقدٍ غير صحيح، وهذه المرأة لا تحل له على القول الراجح؛ لأنه لا بد من وجود الولي لظاهر الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة : (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، فلما عقد بهذا العقد الباطل رفع إلى قاض يرى بطلان هذا العقد، وأن هذا الوطء غير شرعي، لكن لا يجوز للقاضي أن يقول: هما زانيان؛ لأن هذا عنده تأويل، وعنده شبهة، ولذلك يقول العلماء: لا إنكار في المختلف فيه، أي: أن المسائل الخلافية بين أئمة السلف التي تقرر فيها الخلاف وانتقل إلى الخلف، أو وقع الخلاف فيها بين الخلف ولم تكن موجودة في عصر السلف، وعمل إنسان بأحد القولين معتبراً لفتوى من يجيز أو من يحرم؛ فلا إنكار عليه؛ لأنه كما يحتمل أنه مخطئ في قوله، كذلك أنت يحتمل أن قولك خطأ، وهذا في المسائل المحتملة، والأدلة المحتملة قد أذن الله بالخلاف فيها، كما قال سفيان رحمه الله: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32]؛ لأن دلالتها ليست على وجه واحد، بمعنى أنها ليست نصوصاً قطعية لا تحتمل، بل جاءت محتملة توسعةً من الله على عباده.

على كل حال، إذا رأى أحد العلماء أو الأئمة أو القضاة بطلان هذا النكاح المختلف فيه ورأى غيره صحته، ثم عمل أحد الناس بالقول الذي يقول بالصحة ورفع إلى القاضي الذي يرى البطلان؛ لم يحكم بأنهما زانيان، ولا يجري عليهما أحكام الزنا، ولكن له أن يبين لهما أن هذا القول مرجوح، ويبين لهما أن الصحيح خلافه، فإذا اقتنع بقوله فذاك، وإذا بقي على القول الذي بخلافه؛ فلهما العمل بذلك القول، ما دام أن له دليله من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي استقر عليه العمل عند العلماء والأئمة رحمة الله عليهم أجمعين، هذا بالنسبة للعقود المختلف فيها.

أمثلة أخرى للعقود المختلف فيها: هل ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين؟ -إذا قلنا: إن الشهادة شرط لصحة عقد النكاح- فهل يشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً؟

قال طائفة من العلماء: يصح، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون الشهود عدولاً. وهل ينعقد النكاح بولاية الولي الفاسق إذا كان الأب فاسقاً وتولى نكاح ابنته؟ وهل تشترط العدالة في الولي؟

وإذا قلنا: الولاية شرط، ثم عقد لها فاسق فهل يصح عقدها أو لا؟

كل هذه المسائل لها وجهٌ من الصحة، فيبقى العقد على ظاهره، ولكن إذا كان القول بالجواز قولاً شاذاً لا يعتد به، وتبعه أحد من باب الشذوذ دون تأويل، فهذا حكمه حكم الزاني بلا إشكال، مثلاً: شخص يفعل المتعة ويقول: والله! المتعة جائزة، وقد استبانت له النصوص والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا متلاعب ومتهتك يريد انتهاك حرمات الله؛ فلا ينفعه هذا التأويل، لكن من يلبس عليه أو يخدع أو يغتر بمن يقول ذلك من أهل البدع، وظن أن عنده علماً فأفتاه بذلك فعمل به؛ فحينئذ تأويله سائغ، قال بعض مشايخنا رحمه الله: مسائل الشبهات لا يفتي ولا يقضي فيها إلا خواص المفتين والقضاة؛ لأنها تحتاج إلى نظر في الشخص ومعرفة هل هو فعلاً متلاعب أو هو متأول.

قال المصنف رحمه الله: [ أو نكاح أو ملك مختلف فيه ونحوه ].

وهكذا ملك مختلف فيه، مثلاً: اشترى جارية ببيع مختلف في صحته، وظن أن هذا البيع صحيح، واشتراه على هذا الوجه، وتبين أن البيع فاسد، وقد استمرت الجارية في ملكيته شهراً أو شهرين أو ثلاثة أشهر وهو يظن أنها في ملكه ويطؤها، فنقول: إن هذا شبهة ملك، ولا يوجب ثبوت الحد عليه.

قوله: (ونحوه) أي: ونحو ذلك مما يشبهه.

قال المصنف رحمه الله: [ أو أكرهت المرأة على الزنا ].

الإكراه تقدم معنا بيانه، وبيان الشروط التي ينبغي توافرها للحكم بكون الإنسان مكرهاً، فلو أن امرأةً هددت وقيل لها: إذا لم تزني نقتلك، وغلب على ظنها أن من هددها سيقتلها، ولا يمكن أن تدفع ذلك الضرر، ولا يمكن أن تستغيث، ووقعت في الإكراه على الصفة المعتبرة شرعاً؛ فإنها في هذه الحالة: لو زنى بها يسقط عنها الحد؛ لأن المكره أسقط الله عنه الكفر الذي هو أعظم الجرائم والذنوب، قال الإمام ابن العربي في تفسير قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]: إن هذه الآية أسقط العلماء بها الردة، وهي أصلٌ في إسقاط مسائل الإكراه كلها، وكما نبه على ذلك أيضاً الإمام القرطبي، وهما من أئمة التفسير رحمة الله عليهما، فإذا كان الكفر -الذي هو أعظم الذنوب- سقط بالإكراه فمن باب أولى الزنا.

قال: (امرأة) فلو أكره الرجل؛ فهل يقع عليه الإكراه؟

جمهور العلماء على أن الإكراه يقع على الرجال كما يقع على النساء، وقيل: يختص بالنساء؛ لأن الرجل لا ينتشر ذكره إلا وهو يريد الزنا، ويرغب فيه ويحبه، فلا يتحقق فيه الإكراه، ولكن هذا القول ضعيف، والصحيح قول الجمهور الذين يقولون: إن الإكراه يقع على الرجل ولو حصل منه ذلك؛ لأنه لو هدد بالقتل؛ فإنه يريد أن يدفع عن نفسه القتل، وكذا لو هدد بالضرر في نفسه أو ولده أو زوجته أو في أحد من الناس، وقيل له: إذا لم تفعل هذا، فإننا نقتل فلاناً أو نؤذي فلاناً، وتحقق عليه الإكراه، وهدد على الصفة المعتبرة شرعاً؛ فإنه في هذه الحالة -ولو انتشر ذكره- يعتبر مكرهاً، وإن كان لا يريد الشهوة كشهوة القاصد لها، وإنما وقع منه ذلك تحت الضغط، وهو في الأصل لا يريده، ولكنه يريد أن يدفع الضرر الأكبر، ومن هنا قال جمهور العلماء: إن الإكراه يقع على الرجال كما يقع على النساء، فلو أكره الرجل فحكمه كحكم إكراه المرأة، بشرط وجود الشروط المعتبرة في الحكم بالإكراه.

الشرط الثالث: ثبوت الزنا

قال المصنف رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا].

هذا الشرط يرجع إلى القضاء من حيث الأصل؛ لأن الحدود تستقر وتثبت عند القاضي، وقد بينا أن إقامة الحدود للسلطان، ومن يقيم مقامه من القضاة والمعنيين بتنفيذ أحكامهم، فلا بد من ثبوت الزنا وثبوت جريمته، وذلك يفتقر إلى أحد دليلين يثبت بهما الزنا ثم يحكم بوجوب تنفيذ حده.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يثبت إلا بأحد أمرين ].

ولا يثبت حد الزنا إلا بأحد أمرين، وهذا إجمال قبل البيان والتفصيل.

قال المصنف رحمه الله: [ أحدهما: أن يقر به أربع مرات ].

أحد الأمرين اللذين يثبت بهما حد الزنا: أن يقر بالزنا أربع مرات، والإقرار هو أقوى الحجج القضائية، وأقوى الأدلة الشرعية في وسائل الإثبات في القضاء، والإقرار هو: الاعتراف، وليس هناك أصدق من شهادة الإنسان على نفسه بالضرر؛ فليس أحدٌ عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً وزوراً، ولذلك سيخبر عن نفسه بالحقيقة، ولهذا قالوا: إنه سيد الأدلة، وأعلى الحجج وأقواها، وبدأ به المصنف رحمه الله مراعاة لهذا الأصل، ولكن هذا الإقرار له ضوابط شرعية، وسيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء الكلام على وسائل الإثبات، ومنها حجة الإقرار، وقد اعتبرت الشريعة هذا الدليل في جريمة الزنا، واعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم به، ونفذ به الجلد والرجم صلوات الله وسلامه عليه.

بدأ المصنف رحمه الله بالإقرار مراعاةً للترتيب في قوة الحجج، وقوله: (أن يقر)، أي: يقر الزاني، لكن ما هي شروط من يقر؟

أولاً: أن يكون بالغاً، فلو أن صبياً أقر بالزنا لم يعتد بإقراره؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم ولا يؤاخذ، وإقراره ساقط؛ لأنه دون التكليف.

ثانياً: أن يكون عاقلاً، فلو أن مجنوناً أقر، لم يعتبر إقراره، ولذلك حينما اعترف ماعز بن مالك بالزنا وقال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال عليه الصلاة والسلام: أبك جنون؟)، وفي لفظ مسلم : (أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون)، فقوله: (أبك جنون)، (أبه جنون)، بحث عن هذا الشرط، وهو: شرط العقل؛ لأن الإقرار إذا كان من المجنون لا يقبل، والمجنون لا يوثق بقوله، وإنما الإقرار بمن يوثق بقوله، ومن لا يوثق بقوله من الصبيان والمجانين لا يعتد به.

إذاً: يشترط أن يكون المقر بالغاً عاقلاً.

وأيضاً أن يكون مختاراً، فلا يكون مكرهاً على الإقرار، فلو أن شخصاً هدده وقال له: إذا لم تقر أقتلك، أو أقتل أحد أولادك، فهدده على وجهٍ فيه ضرر على الصفة المعتبرة في الإكراه، وحمله على أن يقر، وأقر؛ فهذا إقرار ساقط، وكل إقرار بإكراه ساقط؛ لأن الإكراه -كما ذكرنا- يسقط الأحكام.

واشتراط العقل يخرج أيضاً السكران، فلو أن سكران أقر بالزنا أثناء سكره وقال: إنه زنى، فلما أفاق، قيل له: إن هناك شهوداً شهدوا عليك أنك أقررت بالزنا، وارتفع الأمر إلى القاضي، فسأل الشهود فقالوا: أقر أثناء سكره، نقول: إن السكر يسقط الإكراه، ويعتبر شبهة تسقط الإقرار، والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقر ماعز عنده أربع مرات، قال عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، ثم قال: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، يعني: شم رائحة فمه، فأخبر أنه صاح)، فهذا يدل على أن إقرار السكران بالزنا لا يعتد به، سواءً كان سكره بمباح أو بمحرم، بمحرم كشخص شرب الخمر أو تعاطى المخدرات ثم أقر بحضور الشهود، أو بحلال مثلما يقع في العمليات الجراحية، يخدر المريض، وأثناء تخديره أو عند إفاقته يتكلم، فإذا أقر حينذاك بالزنا، أو سأله شخص عن جريمته فأقر بالزنا، فهذا كله لا يعتد الإقرار به، فيشترط في المقر أن يكون على الصفة المعتبرة شرعاً لصحة إقراره، والسكران لا يعتبر إقراره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الإكراه حال السكر.

يشترط أيضاً أن يكرر الإقرار أربع مرات بأنه زنى، والأصل أنه إذا جاء إلى القاضي ليعترف بالزنا، فالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده، ويذكره بأن الستر أولى له، وأن الشريعة ندبت أن يستر نفسه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب ماعزاً أن يستر نفسه، ففي الصحيح أن ماعزاً قال: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم ناداه وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، فرجع غير بعيد، ثم قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فرده وقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ثلاث مرات وهو يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه، ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولذلك نص العلماء والأئمة على أن القاضي لا يقبل الإقرار من أول مرة، بل يذكر المقر بستر الله عز وجل عليه، ويحثه على ألا يقر، أما إذا أقر على الصفة المعتبرة -على مذهب من لا يرى تكرار الإقرار- فيؤاخذ به، لكن إذا نادى القاضي على وجه لم يبين فيه الجريمة، أو قال مثلاً: إني زنيت، ولم يستفصل منه القاضي؛ لأن قوله: زنيت، فيه نوع من الإجمال، (العين تزني، والرجل تزني)، ولربما ظن أن ما ليس بزنا زنا، ففي هذه الحالة قبل أن يطبق عليه شروط الإقرار يرده القاضي. انظروا إلى سماحة الشريعة! هنا حقوق الإنسان، وهنا الرحمة الحقيقية، وهنا المرونة الشرعية، وهذه المرونة جاءت في محلها، ولمن يستحقها، فإذا جاء من يريد أن يقر فمعنى ذلك أن عنده من الإيمان والخوف من الله عز وجل والصدق في التوبة ما ليس عند غيره، ولذلك لا يظن أحد أن هذا يشجع الناس على الجرائم، فالشريعة لا تترك الأمور هملاً، ولذلك يقول العلماء: إذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنة الله على الشافع والمشفع، وهذا يدل على أن الشريعة تحزم، ولكن هذه الجرائم تنهزم فيها النفوس، ويحصل فيها الضرر على الزاني وعلى قرابته وأهله وولده، وأسرته وجماعته، وهذا كله راعته الشريعة؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، ومن هنا فتح الله عز وجل أبواب التوبة، وضيق في مسائل الإقرار.

اختار المصنف أنه يكرر الإقرار أربع مرات، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله، وهو الصحيح، وعند الشافعي وغيره لا يشترط تكرار الإقرار، ولو أقر مرة واحدة أخذ بإقراره.

استدل العلماء الذين يقولون: إنه يشترط في الإقرار بالزنا أن يكرره أربع مرات بأن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ ماعزاً أربع مرات، وكل مرة يقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه)، ولم يعتبر منه المرة الأولى مع أنه قال: (إني أصبت حداً فطهرني)، واستدلوا بالقياس، فقالوا: إن جريمة الزنا تثبت بأربعة شهود، وكل إقرار قائم مقام الشاهد، وحينئذٍ لا بد من تكرار هذا الإقرار أربع مرات، وقالوا أيضاً: الأصل في هذه الجريمة إثباتاً ونفياً التكرار، ولذلك في شهادات اللعان يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: أن زوجته زنت -والعياذ بالله- وأن الولد ليس بولده، فنزل الله عز وجل كل شهادة يمين في اللعان منزلة الشاهد، وجعلت هذه الوسيلة من وسائل الإثبات مبنية على البينة الأصلية في جريمة الزنا؛ لأن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأربعة، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، وهذا يدل على أنه لا بد من وجود أربعة شهداء، وهذا إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا كانت البينة في جريمة الزنا لا بد فيها في الأصل من أربعة شهود؛ فالإقرار على الزنا كذلك، فنزلوا الإقرار منزلة الشهادة، وقاسوه على الشهادة وقالوا: يشترط التكرار أربع مرات بالإقرار كما يشترط في الشهود أن يكونوا أربعة، بجامع كون كل منهما بينة تثبت الحد.

أما الذين قالوا: لا يشترط التكرار، فقد استدلوا بحديث الصحيحين في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها، فقال له: (إن اعترفت فارجمها)، وما قال له: إن اعترفت أربع مرات، وناقشوا ما استدل به الأولون وقالوا: إن الأصل في الإقرار ليس قول ماعز : إني أصبت حداً فطهرني، إنما جاء الإقرار بعد ذلك حينما صرح بالزنا، وصرح بأنه جامع المرأة، وعند ذلك لم يكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قالوا: لا يشترط التكرار.

وعند النظر في أصل باب الإقرار، فالأصل أنه لا يشترط التكرار؛ ولذلك لو أن شخصاً ادعى على شخص مائة ريال، وقال له القاضي: هل له عليك مائة ريال؟ قال: نعم، فيكفي بالإجماع إقراره مرة واحدة، مع أن الشهادة في الأموال لا تكفي إلا بشاهدين أو شاهد مع اليمين، أو شاهد وامرأتين، أو أربع نسوة على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله.

إذا ثبت هذا، فالإقرار في الأصل لا يكرر، ولكن من باب مراعاة مقصود الشرع قلنا: إن القول بالتكرار هنا أقوى وأولى بالصواب، ولكن من حيث النظر في الأدلة، كصنعة أصولية فالقول بعدم التكرار له قوة؛ لأن الإقرار من ماعز وقع في الجملة اللاحقة لا في الجملة السابقة، وهذا يقوي أن التكرار ليس بشرط، وأن الإقرار يكفي مرة واحدة.

قال المصنف رحمه الله: [في مجلس أو مجالس].

بعض العلماء يشترط أن يكون الإقرار في مجلس واحد، واعلم أن الإقرار لا يكون حجة إلا إذا كان في مجلس القضاء، وإذا شهد الشهود أن فلاناً جلس في مجلس واعترف على نفسه بالزنا، وشهدوا عليه بذلك؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن نحن نتكلم عن الإقرار في مجلس القضاء، هل يشترط أن يكون في مجالس أو مجلس؟ في مجلس واحد يعتبر إقراره، ولكن لو فرق الإقرار في مجالس، فما الحكم؟

بعض العلماء يقول: إن ماعزاً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فاستغفر الله، فذهب ثم عاد، وأقر مرة ثانية، ثم ذهب ثم عاد، ثم ذهب ثم عاد، فيعتبرونها مجالس منفصلة؛ لأنه لما ولى ظهره للنبي صلى الله عليه وسلم ذهب ورجع غير بعيد، وكان في المسجد، ولا يكون الإقرار حجة إلا عند القاضي أو الإمام المعني بإقامة الحدود، هذا من حيث الأصل؛ لأن الإقرار يكون في مجلس القضاء والحكم، ومجلس القضاء تترتب عليه أحكام شرعية، وسيأتينا -إن شاء الله في باب آداب القاضي- الإشارة إلى هذا، ونذكر ما يختص به من الأحكام، فبعض الأشياء لو وقعت في غير مجلس القضاء لا تؤثر، ولكنها في مجلس القضاء مؤثرة، ولو حصلت من الشخص قبل مجلس القضاء والحكم؛ فليس كما لو حصلت منه في مجلس القضاء والحكم. إذاً: لا بد وأن يكون الإقرار في مجلس القضاء والحكم حتى يعتبره الإمام أو من يقيمه مقامه.

قال المصنف رحمه الله: [ ويصرح بذكر حقيقة الوطء ].

الشريعة راعت دفع اللبس، فإن بعض الناس قد يظن ما ليس بزنا زنا، ويظن أن الشهوة القاصرة تأخذ حكم الشهوة المتعدية، فلابد أن يصرح أنه زنى بالمرأة، وعادة الشريعة أنها تراعي الأدب والأكمل والأفضل، وعلم الله عباده في كتابه كيف يتأدبون إذا تكلموا وخاطبوا، وكيف يتجنبون الألفاظ المستبشعة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مس الختان الختان)، وقبله يقول الله عز وجل: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، يقول ابن عباس : إن الله يكني، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، وهذا من الأدب الرفيع الذي أدب الله به عباده ليتأدبوا به، وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها)، حتى أنه لما جاءته المرأة وسألته عن غسل الحائض، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يفصل بعض التفصيل وكلم المرأة ولكنها لم تفهم، ثم أشاح بوجهه، فجذبتها عائشة رضي الله عنها، وتولت أمرها، وكل هذا من كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، لكن إذا كانت مسائل شرعية يتوقف بيانها على التفصيل أو كانت هناك عقوبة شرعية؛ فيأتي الشرع بما يناسب الحال، وبما يوافق المقال، مثلاً إذا جاء من يفتخر بالجاهلية أو ينادي بنداء الجاهلية، بقبيلته أو بجماعته أو بعصبة أو بطائفة أو بجماعة ويتعصب؛ قال عليه الصلاة والسلام: (من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، يقال له -أكرمكم الله- عض ذكر أبيك البعيد، وهذا من شدة الشريعة مع أنها تراعي الآداب، لكن يختلف الأمر في مقام الزجر والقرع، فالعالم وطالب العلم يكون على أكمل ما يكون من الأدب، ولكن إذا انتهكت حرمات الله يرد ولا يستطيع أن يصبر، فيبين الحق كما (كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله)، فعند الزجر والتوبيخ تأتي الأمور بوضوح، وكذلك في حق الله عز وجل في القضاء، مثلاً: لو جاء شخص وادعى أنه زنى، لا يقبل منه إقراره ما لم يفصل في الذي فعله، حينئذٍ ويسأل عن الجريمة على وجه يتأكد منه القاضي أنه لم يلتبس عليه الأمر وأنه قد فعل الفعلة المحرمة، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـماعز : (لعلك قبلت؟ لعلك غمزت؟)، ثم قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح البخاري- : (أنكتها؟) يقول الراوي: لا يكني، ما جاء بلفظ الكناية، إنما صرح عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال: (أدخل ذلك منك في ذلك منها كالمرود في المكحلة؟)، فبين عليه الصلاة والسلام الإقرار على وجه ليس فيه لبس، فيجب على القاضي أن يراعي هذا، وأن يسأل الزاني على وجه يعلم منه أن الجريمة قد وقعت منه على الصفة المعتبرة شرعاً.

وقول المصنف: (ويصرح) التصريح ضد الكناية، والشيء الصريح هو: الذي لا احتمال فيه، والكناية مأخوذة من كنّ الشيء إذا استتر، ومنه حديث الاستسقاء (فلما رأى سرعتهم إلى الكنّ؛ ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواذجه)، والكَنّ هو: الستر، فالمعنى إذا كان مستتراً؛ يقال عنه: كناية، وإذا كان اللفظ دالاً على المعنى دون احتمال؛ فهذا من باب التصريح، فهنا لابد أن يصرح بأنه قد جامع المرأة على وجهٍ ليس فيه احتمال، وهذا إثبات لحق الله عز وجل؛ لأن بعض الناس قد يلتبس عليه أمر الزنا، فمثلاً: لو أنه استمتع بامرأة فقبلها أو باشرها دون أن يولج فيها ذكره، فوضع ذكره على فرجها دون إيلاج وظن أن هذا زنـا كامل يقام به الحد؛ فلا بد أن يسأله على وجهٍ يتبين منه أنه قد فعل ما يوجب الحد.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد ].

من شروط الإقرار في الزنا ألا ينزع ولا يرجع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، فمن أقر بالزنا له الحق أن يرجع، سواءً رجع قبل التنفيذ أو أثناء التنفيذ، فإذا رجع قبل التنفيذ يمنع التنفيذ ويوقف، ولو رجع أثناء التنفيذ يوقف أيضاً، مثلاً: أقر بكر بالزنا، وقبل أن يجلد قال: إنه لم يزن، ورجع عن إقراره، فإذا رجع عن إقراره فالصحيح من أقوال العلماء أنه يسقط الإقرار، ويسقط الحد، فيشترط ألا يرجع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن ماعزاً فر، حتى جاء في بعض الروايات أنه قال: إن قومي خدعوني، قالوا لي: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيستغفر لك أو نحو ذلك، وهذا يدل على تأول منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه فيتوب، فيتوب الله عليه)، فعتب عليهم عليه الصلاة والسلام أنهم قتلوه، وهذا يدل على أنه إذا رجع عن إقراره؛ فرجوعه معتبر، ولذا يشترط العلماء عند تنفيذ الحدود أن يكون هناك الإمام أو نائبه لأجل إذا رجع المقر عن إقراره؛ يعتبر ذلك ويوقف تنفيذ الحد عليه، ولا يجوز أن يقام الحد عليه بعد رجوعه على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.

قال المصنف رحمه الله: [ أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها ].

لا يحكم بثبوت الزنا إلا إذا غيّب رأس الذكر، وعبّر عنه المصنف رحمه الله بالحشفة، وهي: رأس الذكر، وقد فصل العلماء رحمهم الله وبينوا هذه الأمور؛ لأنه ينبغي للقاضي وللعالم وللمفتي ألا يحكم بالزنا، ولا يصف الشخص بأنه قد زنى فعلاً إلا بعد أن تتوافر هذه الشروط، ويكون هذا الأمر على وضوح لا لبس فيه، فلا بد أولاً من وجود فعل الجريمة، وتنتفي الشبهة، ثم بعد ذلك يثبت على المجرم فعله، فإذا حصل فعل الجريمة، وانتفت الشبهة، وقام الدليل على وقوعها؛ فحينئذٍ يجب تنفيذ حكم الله عز وجل، هذا من حيث الأصل.

يبقى سؤال: متى يحكم على نفسه بأنه قد زنى فعلاً؟ ومتى يحكم القاضي بأنه زان؟

كل ذلك يحتاج إلى وجود الفعل، فبيّن رحمه الله أن تغييب الحشفة -وهي رأس الذكر- يثبت به الزنا، ويترتب ما يقرب من ثمانين حكم شرعي على تغييب هذا القدر.

قال رحمه الله: (تغييب حشفته الأصلية)، فإذا كان رأس الذكر مقطوعاً، فالعلماء رحمهم الله ذكروا أن العبرة بقدرها، فإذا غيّب قدرها فقد ثبت الزنا، وأما لو لم يحصل التغييب للحشفة بأن استمتع بالمرأة دون تغييب حشفته في فرجها، ولم يحصل الإيلاج؛ فإنه لا يحكم بزناه، فلا بد من وجود هذا الشرط حتى يحكم بفعل الجريمة على الوجه المعتبر.

وقوله: (تغييب حشفته) أي: في الفرج المعتبر شرعاً.

قال المصنف رحمه الله: [ في قبل أو دبر أصليين].

قوله: (في قُبل) إذا كان زنا، وقوله: (أو دبر) إذا كان لواطاً -والعياذ بالله-.

وقوله: (أصليين) أخرج مثلاً الدمى واللعب الموجودة الآن في زماننا، فإنه لو حصل تغييب لفرجه فيها -والعياذ بالله-؛ فإن هذا ليس بفرج أصلي، ولا يحكم بكونه زانياً، وهكذا لو وضعها في قماش أو قطن أو وسادة أو غير ذلك وغيّب هذا القدر؛ فلا يحكم بكونه زانياً، بل لا بد أن يغيب رأس الذكر، وأن يكون ذلك في فرج أصلي، فخرج غير الأصلي.

قال المصنف رحمه الله: [ حراماً محضاً].

قوله: (حراماً) أي: هذا الفرج حراماً، فخرج الفرج المباح، فلو أنه غيب حشفته في قبل امرأته؛ فإنها ليست بحرام، وقوله: (محضاً): أي: لا شبهة فيه، وفي بعض النسخ: محصناً، وهذا تصحيف، والصواب: محضاً، أي: أن هذا الفعل وقع في موضع حرمته لا شبهة فيها، فخرج الموضع الذي فيه شبهة، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، وسيأتي تفصيل هذا في الشرط الثاني.

والمباح هو في زوجته وفي أمته، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المعارج:29-30]، فجعل الاعتداء وحصول الجريمة فيما خرج عن الحلال، وذلك في قوله: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7]، إذاً لا بد لثبوت الزنا أن يغيب حشفته في فرج غير معتبر شرعاً، وهو الحرام المحض الخالص الذي لا شبهة فيه، والسبب في هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات كما سيأتي.