شرح الأربعين النووية [4]


الحلقة مفرغة

سبق بعض الكلام على حديث جبريل المشهور في قصة مجيئه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وسؤاله عن أسئلة أجاب عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي آخر الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

وقد كنا بدأنا بالكلام على الإيمان بالله، وعرفنا أن الإيمان بالله يشمل الإيمان بربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وعرفنا توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وانتهى الكلام إلى الحديث عن توحيد الأسماء والصفات، وقلنا: إنه الإيمان بكل ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات المضافة إلى الله تعالى، على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تشبيه أو تمثيل أو تكييف، ودون تعطيل أو تأويل أو تحريف، بل على حد قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وذكرنا أن أهل السنة وسط بين المعطلة والمشبهة، فالمشبهة أثبتوا وشبهوا، والمعطلة نفوا وعطلوا، وقصدوا بذلك التنزيه، ولكنهم فروا من تشبيه سيئ تصوروه في أذهانهم -وهو التشبيه بالمخلوقات- وصاروا إلى تشبيه أسوأ منه، وهو تشبيهه بالمعدومات، وأهل السنة أثبتوا ونزهوا، فهم مثبتة وليسوا بمعطلة، ومع إثباتهم فهم منزهة وليسوا مشبهة، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء، يقول أبو سليمان الخطابي :

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

فالحق وسط بين الطرفين المتناقضين: الطرف الذي أثبت وشبه، والطرف الذي نفى وعطل حتى صار المعبود بهذا النفي لا وجود له، وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (التمهيد) أن الذين ينفون الصفات يصفون المثبتة بأنهم مشبهة، ثم قال ابن عبد البر : وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. أي أنَّ المعطلة يصفون المثبتة بأنهم مشبهة بينما، والذين يثبتون الصفات يصفون الذين ينفون الصفات بأنهم نافون للمعبود، أي أنه لا وجود للمعبود ما دام أنه قد نفيت عنه جميع الصفات.

هكذا قال ابن عبد البر في كتابه (التمهيد)، حيث ذكر عن المعطلة أنهم يصفون المثبتة بأنهم مشبهة؛ لأنهم لا يتصورون إثباتاً إلا مع تشبيه، ففروا من الإثبات خوفاً من التشبيه، ولكن النتيجة أنهم فروا من تشبيه سيئ فوقعوا في تشبيه أسوأ، وهو التشبيه بالمعدومات.

ولهذا تجد الذهبي رحمه الله في كتابه (العلو للعلي الغفار) لما نقل كلام ابن عبد البر علق عليه بقوله: قلت: صدق والله؛ فإن الجهمية مثلهم كما قال حماد بن زيد : إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة. فقيل لهم: ألها سعف؟! قالوا: لا. فقيل: ألها كرب؟! قالوا: لا. قيل: ألها رطب وقنو؟! قالوا: لا. قيل: ألها ساق؟! قالوا: لا. فسألوهم عن كل صفة من صفات النخل وهم يقولون: إنها لا توجد في هذه النخلة. فقيل لهم: فما في داركم نخلة! فكذلك من ينفي عن الله صفاته!

ومن الأمثلة التي توضح وتبين هذا التصور الذي تصوروه وبنوا عليه نفي الصفات عن الله أنهم قالوا: إننا لو أثبتنا أن الله يتكلم بصوت وحرف لزم أن يكون مشابهاً للإنسان الذي يتكلم بحرف وصوت، ويلزم أن يكون له لهاة وشفتان وحنجرة ومخارج حروف؛ لأننا لا نتصور كلاماً إلا بهذه الآلات الموجودة في المخلوق. فهم لم يتصوروا إثباتاً إلا مع تشبيه، فما وفقوا إلى تصور إثبات مع تنزيه، ففروا من ذلك إلى التشبيه بالمعدومات، وهذا الكلام الذي قالوه من أنه لا يتصور كلام إلا وفقاً لما هو موجود في المخلوقين باطل وغير صحيح.

ومما يدل على بطلانه.

أولاً: أنه لا تلازم بين الإثبات والتشبيه، فهناك إثبات مع تشبيه، وإثبات مع تنزيه، والإثبات مع التشبيه هو المحرم والباطل، والإثبات مع التنزيه هو الحق الذي لا ريب فيه، فالله يتكلم ولا نعلم كيفية تكلمه، ولا يشبه الخلق، ولا الخلق يشبهونه، فجميع صفات الباري تليق بكماله وجلاله، وجميع صفات المخلوقين تليق بضعفهم وافتقارهم، ولا تشابه بين الخالق والمخلوق، كما قال الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )، فأثبت السمع والبصر، ونفى المشابهة، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، ويتكلم لا كتكلمنا، بل كلامه سبحانه وتعالى يليق به، فلا تلازم بين الإثبات والتشبيه.

الأمر الثاني: أنَّ قولهم: إننا لا نتصور كلاماً إلا أن يكون بهذه الطريقة المعروفة في المخلوقين من أنه يكون بحنجرة ولهاة ومخارج حروف وشفتين ولسان غير سديد؛ إذ ليس بلازم أن يكون الكلام بهذه الطريقة التي نعرفها ونعقلها، فقد وجد الكلام في الدنيا -وسيوجد في الآخرة- بدون هذه الطريقة التي نعقلها، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال: ( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة... )، فكان إذا مر به قال: السلام عليك يا محمد. فقد تكلم الحجر وليس له لسان ولا شفتان ولا حنجرة ولا مخارج حروف.

ومثله الذراع الذي وضعت فيه اليهودية السم، ولما نهس منه الرسول صلى الله عليه وسلم نهسة تكلم وقال: إنه مسموم. فقد تكلم وليس له لهاة ولا حنجرة ولا لسان ولا شفتان ولا مخارج حروف؟! لقد أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء.

وبهذا نعرف أنه وجد الكلام في الدنيا على وجه غير الذي نعقله ونعرفه، وإذا حصل هذا من مخلوق ولم نعرف كيف تكلم فالله عز وجل يتكلم ولا نعرف كيف يتكلم.

فنثبت الكلام ولا نسأل عن الكيف، كما قال مالك رحمه الله تعالى عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. فالمعنى معلوم لنا؛ لأننا خوطبنا بلسان عربي مبين، ونحن نعقل معاني ما خوطبنا به، ولكن الكيفية لا نعلمها، بل نجهلها.

وهذا يقال في جميع الصفات، فكل صفة يقال فيها: إن الكيف مجهول. فكيفية التكلم مجهولة بالنسبة لنا، وإذا كنا لم نعقل كيفية تكلم المخلوق فمن باب أولى أن لا نعقل كيفية تكلم الخالق، ولا نفكر في ذلك.

وأما في الآخرة فقد أخبر الله عز وجل أنه يختم على الأفواه، وتنطق الأيدي والأرجل والجلود بما عمل به الإنسان، وهذا شيء على غير الكيفية التي نعقلها، وهي أن الكلام لا يكون إلا بحنجرة ولهاة ومخارج حروف.

وعلى هذا فالذين ينفون الصفات عن الله عز وجل بحجة أنهم لو أثبتوا لكانوا مشبهين قد وقعوا في تشبيه أسوأ، وهو التشبيه بالمعدومات، فلازم قولهم أنه لا وجود للخالق سبحانه؛ لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات، كما عرفنا ذلك بالمثال الذي ذكره الذهبي عن حماد بن زيد .

وعلى هذا فيتضح لنا أن الحق وسط بين الطرفين المتناقضين: الطرف الذي أثبت وشبه، والطرف الذي نفى وعطل، والحق مع الذي أثبت ونزه، وهو الذي دل عليه القرآن في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فإن قوله: ( وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) إثبات، وقوله: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) تنزيه، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وكذلك يقال في جميع الصفات.

وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات أنكره بعض المفتونين في هذا الزمن، وقال: إن هذا تقسيم محدث ليس عليه دليل. ومن المعلوم أن هذا التقسيم دل عليه الاستقراء من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد دل الاستقراء والتتبع على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، وليس ذلك بغريب ولا بعجيب، بل الأمر في ذلك واضح، فنصوص الكتاب والسنة دلت على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وهو مثل تقسيم النحويين الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وليس هناك دليل يدل عليه من الكتاب والسنة، وإنما هو بالاستقراء، فقد استقرءوا كلام العرب وعرفوا أنّه كله لا يخرج عن الثلاثة الأقسام.

إذاً: فكما حصل هذا بالاستقراء فقد حصل هذا بالاستقراء أيضاً، ولا إشكال في ذلك، فالاعتراض على مثل هذا يحصل من الذين لم يوفقوا لاتباع الكتاب والسنة، ولم يوفقوا للسير على ما كان عليه سلف هذه الأمة، وإنما ابتلوا بكونهم من أهل الأهواء والبدع والانحراف، فصاروا ينكرون ما يذكره أهل السنة وما يثبته أهل السنة استنباطاً من الكتاب والسنة واستقراء منهما، والإنسان إذا تتبع نصوص الكتاب والسنة يجد أن هذه الأقسام موجودة، ويكفي مثالاً على ذلك أول سورة في المصحف وآخر سورة في المصحف، وهما الفاتحة والناس، فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] يشمل أنواع التوحيد الثلاثة؛ لأن نسبة الحمد إلى الله هي فعل العبد، فكون العبد يحمد الله عز وجل ويضيف الحمد إليه ويقول: (الحمد لله) عبادة، وهذا هو توحيد الإلهية، وقوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فيه توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فالربوبية في قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فمعنى: (رب العالمين) خالقهم ومربيهم بالنعم، وموجدهم من العدم، ومن أسماء الله الرب، وهو وإن كان هنا مضافاً إلا أنه قد جاء مفرداً في القرآن، كما في قول الله عز وجل: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فهو من الأسماء والصفات، وكذلك لفظ الجلالة، وهو (الله) في قوله: (الحمد لله) فهو علم الأعلام، وأوضح الأسماء، وهو الذي تضاف إليه الأسماء، وتأتي الأسماء أوصافاً له، حيث يأتي في القرآن كثيراً ثم تأتي بعده الأسماء، كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22]، وقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر:23]، وقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، فتأتي الأسماء أوصافاً له، فهو أوضح الأسماء وأبينها، وقد اشتملت عليه هذه الآية الكريمة.

وكل اسم من الأسماء يدل على صفة من الصفات، وكل اسم يشتق منه صفة، وليست كل صفة يشتق منها اسم، فالرحمن والرحيم يؤخذ منهما الرحمة، ومن العزيز العزة، ومن اللطيف اللطف، ومن القوي القوة، ومن الحكيم الحكمة، ومن الخبير الخبرة، ومن العليم العلم، وهكذا كل اسم يشتق منه صفة.

إذاً: فهذه الآية الكريمة اشتملت على توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات.

وقوله: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] اسمان من أسماء الله، يدلان على صفة الرحمة، وهذا من توحيد الأسماء والصفات.

وقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وفي قراءة ملك يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فيه توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فيوم الدين هو يوم القيامة، وهو يوم الجزاء والحساب، والله تعالى مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شيء، وإنما قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي يخضع فيه الجميع لرب العالمين، بخلاف الدنيا، فإنه يوجد فيها من يتجبر ويتكبر، بل وجد من قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وأما الآخرة فما فيها إلا الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى.

قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فيه توحيد الإلهية.

وقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فيه توحيد الإلهية؛ لأن ( اهْدِنَا ) دعاء، والدعاء من العبادة، كما قال ذلك رسول عليه الصلاة والسلام.

وقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] هم أهل التوحيد، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] وهم الذين فارقوا التوحيد.

فسورة الفاتحة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة، ومثلها سورة الناس، فقوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] مثل قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] مشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، فقوله: أَعُوذُ فيه توحيد الإلهية؛ لأن الاستعاذة من أفعال العباد، وهي لله عز وجل وحده، وقوله: رب الناس مثل (رب العالمين) فيه ذكر الربوبية، وفيه اسم وصفة، وقوله: مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2] فيه ربوبية، وفيه اسم وصفة، وقوله: إِلَهِ النَّاسِ [الناس:3] فيه ذكر الإلهية، وفيه اسم وصفة.

إذاً: فهذا التقسيم موجود في الكتاب والسنة، وقد عرف بالاستقراء والتتبع لنصوص الكتاب والسنة، وهذا هو الإيمان بالله عز وجل: أن يؤمن المرء بربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته.

والإيمان بالله عز وجل هو أس الأسس، وكل ما بعده تابع له، كما أن الشهادتين في أركان الإسلام هما أس هذه الأركان، وكل ما بعدهما تابع لهما، فكذلك الإيمان بالله كل ما وراءه تابع له، وكل ما يجب الإيمان به فهو تابع له، ومن لم يؤمن بالله فإنه لا يؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

إذاً: الإيمان بهذه الأمور تابع للإيمان به سبحانه، فهو الأساس، ولهذا أضيف كثير من هذه الأمور الباقية بالضمير العائد إليه، حيث قيل: وملائكته وكتبه ورسله.

الملائكة خلق من خلق الله، ولا يعلم عددهم إلا الله، وقد جاء في السنة بيان أنهم خلقوا من نور، كما جاء فيها بيان أن الجان خلق من مارج من نار، وأن الإنسان خلق مما وصف لنا في القرآن، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من طين وتراب وصلصال كالفخار، كما جاء ذلك في القرآن.

فإذاً: أصل الملائكة من نور، وأصل البشر من تراب، وأصل الجن من مارج من نار، كما جاء ذلك في القرآن وكما جاء مبيناً في السنة في هذا الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والله تعالى خلق الملائكة ذوي أجنحة، كما قال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، وقد ثبت في السنة أن جبريل له ستمائة جناح، وقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام مرتين على هيئته التي خلقه الله عليها: مرة عند سدرة المنتهى لما عُرج به إلى السماء، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق لضخامة حجمه، وهذا المخلوق الذي هو بهذه العظمة يتحول بقدرة الله عز وجل فيصير على صورة إنسان، كما مر بنا في أول الحديث، حيث جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم على صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد، فالملائكة يتشكلون من خلقهم إلى خلق آخر كخلق الإنسان، كما حصل لجبريل حيث كان يأتي بصورة رجل مجهول، وجاءه في صورة دحية بن خليفة الكلبي أيضاً، وجاء جبريل إلى مريم في صورة بشر، وكما جاء ضيوف إبراهيم إلى إبراهيم في صورة بشر، وكذلك ذهبوا إلى لوط وهم على صورة البشر، فالله عز وجل يجعلهم يتحولون من خلقهم الذي هم عليه إلى خلق آخر، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وهذا الذي يحصل منهم لا يقال: إنه دليل على جواز التمثيل. وهذا الحديث لا يدل على جواز التمثيل؛ فإن التمثيل محرم، وهو من الكذب الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له ثم ويل له)، فلا يدل الحديث على جواز التمثيل؛ لأن هذا المخلوق هو نفسه الذي سد الأفق، فجاء على هذه الصورة والله تعالى هو الذي جعله عليها.

فلا يقال: إنه يجوز للإنسان أنه يمثل شخص غيره، وأن يتكلم على أساس أنه فلان من الناس، أو يقال: هذا يمثل كذا، وهذا يمثل كذا. حتى وصل الأمر إلى أنهم يمثلون الشيطان، والعياذ بالله.

فالخلاصة أن هذا الحديث لا يدل على التمثيل؛ لأن هذا شيء حصل بقدرة الله عز وجل، وهو الذي قلبه من حال إلى حال، وأما هذا الذي يحصل من هؤلاء الممثلين فهو تكلف وكذب وإتيان بشيء ليس له أساس في الدين.

والإيمان بالملائكة يكون بالإيمان بمن سمي منهم باسمه كجبريل وميكائل وإسرافيل، وكخازن الجنة، وخازن النار، وهو مالك، كما جاء في القرآن، واشتهر أن خازن الجنة اسمه رضوان، وأن ملك الموت اسمه عزرائيل، ولا نعرف شيئاً ثابتاً في ذلك، والذي ثبت في الكتاب والسنة هو اسم جبريل وميكائل وإسرافيل ومالك خازن النار.

فنحن نؤمن بمن سمي باسمه، ومن لم يسمَّ نؤمن به وإن لم نعرف اسمه، ونصدق بكل ما أخبر الله تعالى به -وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم- من بيان أعمالهم، والأمور التي كلفوا بها، وما يتعلق بعباداتهم، وما إلى ذلك من أحوالهم، فكل ما ثبت به الكتاب والسنة يجب التصديق به، وهذا من الإيمان بالغيب؛ لأننا لم نعرف ذلك إلا عن طريق الكتاب والسنة، فلم نشاهدهم ولم نعاينهم حتى نعرفهم، وإنما عرفناهم عن طريق الوحي، بل إنّ الإيمان بالله عز وجل هو من الإيمان بالغيب؛ لأننا لا نعرف عن الله عز وجل إلا ما بينه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالإيمان بالله من الإيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب، والإيمان بالكتب من الإيمان بالغيب، والإيمان بالرسل من الإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالغيب، والإيمان بالقدركذلك، فكل أركان الإيمان الستة الإيمان بها من الإيمان بالغيب، أي أننا ما عرفنا ذلك إلا عن طريق الوحي من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء في الكتاب والسنة بيان كثير من أعمالهم، فمنهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر، ومنهم الموكل بالموت، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأرحام، ومنهم الموكل بالجنة، ومنهم الموكل بالنار، ومنهم الموكل بالحفظ، ومنهم الموكل بالكتابة، فهذه أعمال كثيرة ذكرها الله سبحانه وتعالى وبينها في كتابه، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وكل ما جاء في الكتاب والسنة من أخبارهم يجب التصديق به.

وهم كثرة لا يعلمهم إلى الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على كثرتهم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا وله قرين من الجن وقرين من الملائكة)، فهذا يدل على كثرتهم؛ لأن كل إنسان له قرين من الملائكة، ومما يدل على كثرتهم -أيضاً- أن البيت المعمور -وهو في السماء السابعة، وهو فوق الكعبة، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ومن دخله لا يعود إليه مرة أخرى، فالدخول مرة واحدة لكل ملك، فهذا يدل على كثرتهم.

ومما يدل على كثرتهم -أيضاً- ما جاء في الحديث من أن النار لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فهؤلاء الذين يجرون النار فقط، فالملائكة جند لا يعلمهم إلّا الله سبحانه وتعالى، والواجب الإيمان بكل ما جاء من الأخبار عنهم في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقدموا في الذكر على ما بعدهم من الكتب والرسل لأن الملك هو الذي يسمع ويأخذ عن الله، فينزل الرسول الملكي -وهو جبريل- على الرسول البشري، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله، وقد وصف الله تعالى جبريل بأنه رسول كريم في سورة التكوير، ووصف نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه رسول كريم في سورة الحاقة، فكل منهما رسول كريم، فهذا رسول ملكي، وهذا رسول بشري، والرسول الملكي هو الذي يأخذ كلام الله عز وجل وينزل به على الرسول البشري.

فقدٍّم ذكر الملائكة لأن جبريل يأخذ عن الله عز وجل، فينزل به على الرسل صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم.

الكتب هي التي تلقاها جبريل عن الله تعالى ونزل بها على رسل الله، ويراد بها كل كتاب أنزله الله على رسول من رسله، وهذه الكتب منها ما سمي لنا ومنها ما لم يسمَّ، والذي سمي لنا القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، على خلاف في صحف موسى هل هي التوراة أو غير التوراة، فهذا كل ما سمي لنا في القرآن، وأما غير ذلك فلم يسَّم لنا، ونحن نؤمن بالمسمى وغير المسمى.

وقد أخبر الله عز وجل أنه أنزل الكتاب على رسله، فقال كما في سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25]، ومعلوم أن الله لم ينزل كتاباً واحداًَ فقط على رسله، بل أنزل كتباً، فـ(أل) هنا للجنس وليست للإفراد، أي أن المقصود الكتب، وليس المقصود بذلك كتاباً واحداً مفرداً، وإنما يراد بذلك عموم الكتب وجنسها.

وقد جاء في القرآن في مواضع عديدة ذكر الكتاب يراد بها المفرد، وجاء يراد به الجنس، ومن الآيات ما جمعت بين هذا وهذا، ومما جمع بين الاثنين قول الله عز وجل في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، فذكر الكتابين: الكتاب الذي أنزل على رسوله وهو القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل، أي: الكتب التي أنزلت من قبل، وفي سورة المائدة: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [المائدة:48] وهو القرآن، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:48] أي: الكتب السابقة. فقد جمع الله عز وجل في هاتين الآيتين بين لفظ الكتاب مراداً به الكتاب المفرد -وهو القرآن- ومراداً به الكتب السابقة. ومثل ذلك قوله تعالى في البقرة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ [البقرة:177]، فقوله: وَالْكِتَابِ أي: الكتب. والألف واللام فيه لاستغراق الجنس.

والمراد بالكتب الكتب المنزلة على الرسل التي منها ما سمي ومنها ما لم يسمَّ، والمراد بالإيمان بها أن نؤمن بأنها حق، وأنها كلام الله، وأنها منزلة غير مخلوقة، وأنها مشتملة على كل ما فيه سعادة من أُنزلت عليهم، وأن من أخذ بها سعد وظفر، ومن أعرض عنها خاب وخسر، وكذلك نؤمن بالكتب السابقة على سبيل الإجمال، أي: من ناحية المحتويات، فنحن لا نعرف عنها شيئاً إلا ما جاء في كتاب ربنا أو سنة نبينا من أخبار عنها، فإننا نؤمن بما جاء مضافاً إلى تلك الكتب المنزلة، وبما أخبرنا عنه القرآن والسنة فيها، سواء أكان ذلك موجوداً في الكتب التي في أيدي اليهود والنصارى الآن، أم ليس بموجود، وقد جاء في القرآن بيان بعض الأحكام الموجودة في التوراة، مثل قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] أي: في التوراة، أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45]، فهذا موجود في الكتب السابقة وبنص إخبار القرآن الكريم بذلك، وكذلك الرجم في الزنا، فإنه موجود في الكتب السابقة، كما جاء في ذلك الحديث بأنه موجود في التوراة التي كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حصل التحريف والتبديل قبل زمنه صلى الله عليه وسلم، إلّا أن هذا الحكم بقي موجوداً فيها في ذلك الوقت، كما جاءت بذلك السنة.

إذاً: فما كان فيها مما جاء في القرآن مضافاً إليها فنحن نؤمن بأنه فيها، ونصدق به، وأما ما هو موجود في كتبهم ولم يضف إليها في القرآن والسنة فإن كان لا يليق بالله عز وجل ولا يليق بالملائكة فهو كذب، وهو مما بّدل وحّرف، وإن كان كلاماً جميلاً حسناً وعبراً وعظات فنحن لا نصدق به ولا نكذب به؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى هذه الطريقة وإلى هذا المنهج بقوله -كما ثبت في صحيح البخاري - : (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، فهذا القسم لا نصدق به ولا نكذّب به؛ لأننا لو صدقنا به فقد يكون بعضه محرفاً فنصدق بالمحرف، ولو كذبنا به فقد يكون حقاً أو بعضه فنكذب بالحق، ولكن إذا قلنا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ولا نصدق ولا نكذب به فإننا نكون قد أخذنا بطريق السلامة وطريق النجاة.

ومما هو موجود في القرآن ولكنه لا يوجد في الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى الآن ما ذكره الله في سورة الفتح من أوصاف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن هذا لا يوجد في الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى، ومع ذلك فكل ما جاء في القرآن يجب الإيمان بأنه موجود فيها، وما لم يكن في القرآن ولا في السنة فإن الأمر فيه يكون بالمنهج الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وذلك بأن لا يكذبوا ولا يصدقوا، وإنما يقال: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ .

وأما بالنسبة للقرآن فيجب الإيمان به جملة وتفصيلاً؛ لأنه موجود بين أيدينا من أوله إلى آخره، ومن فاتحته إلى خاتمته، وقد حفظه الله عز وجل من التحريف والتبديل، والقرآن الذي بأيدينا جمعه ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ولهذا فإن من مناقبه رضي الله عنه أن الله وفقه لجمع القرآن، فحفظ الله به على هذه الأمة كتابها، حيث جمعه وصار بأيدي الناس يتناقلونه ويتوارثونه، وهو باق ومحفوظ بحفظ الله عز وجل، فنحن نؤمن بكل ما جاء فيه، فنصدق أخباره، ونمتثل أوامره، وننتهي عن نواهيه، ونعتقد بأنه معجز، وأنه تحدى أهل الفصاحة والبلاغة بأن يأتوا بمثله، ثم نزل في التحدي إلى عشر سور من مثله، ثم إلى سورة، وأقصر سور القرآن سورة العصر، وسورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وسورة الكوثر، ولا أحد يستطيع أن يأتي بمثل هذا المقدار كلاماً يماثله، بل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما استطاعوا، كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل، مع أن الذي أتى به رجل أمي لم يكن يقرأ ولا يكتب، فهذا دليل على أنه من عند الله.

فنؤمن بالقرآن إجمالاً وتفصيلاً، وأما تفاصيل الكتب السابقة فما جاء ذكره في القرآن مضافاً إليها يؤمن به ويصدق بأنه موجود فيها، وما لم يكن كذلك فإنه يسلك معه الطريقة التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرسل هم الذين اختارهم الله للرسالة من البشر، وفضلهم على غيرهم، وأنزل عليهم الوحي بواسطة جبريل، فيجب الإيمان بهم، والتصديق بما جاء من أخبارهم، ومن سمي منهم نؤمن به باسمه، ومن لم يسمَّ نؤمن به وإن لم نعرف اسمه، والله عز وجل بين لنا أن منهم من قص علينا ومنهم من لم يقصص علينا، فنحن نؤمن بمن قص باسمه، ومن لم يقص فنؤمن به وإن لم نعرف اسمه.

وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه بعث في كل أمة رسولاً فقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فكل رسول أرسله الله عز وجل للدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والتحذير من عبادة غيره سبحانه وتعالى، سواء عُبد غيره استقلالاًً، أو عُبد الله وعُبد غيره معه، فإنّ العبادة لا تنفع إلا إذا كانت خالصة لله سبحانه وتعالى لا شريك له فيها.

فإذاً: نحن نؤمن بمن سمي وبمن لم يسمَّ، وبمن قص علينا ومن لم يقص، وقد سمى القرآن خمسة وعشرين منهم، فنحن نؤمن بهم وبأسمائهم، وغيرهم نؤمن به وإن لم نعرف اسمه.

ونعتقد -أيضاً- أنهم بلغوا البلاغ المبين، وأن كل واحد منهم أدى ما عليه على التمام والكمال، كما قال الله عز وجل: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]؛ لأن هذه مهمتهم، وقد أدوها على التمام والكمال، كما جاء عن الزهري -رحمة الله عليه- أنه قال: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. فالذي من الله هو الإرسال، وقد حصل، والذي على الرسل هو البلاغ، وقد حصل، والذي على أتباعهم هو الاستسلام والانقياد لما جاءوا به، وهنا ينقسم الناس إلى موفق ومخذول، وإلى شقي وسعيد، فالموفق والسعيد هو الذي يستسلم وينقاد لما جاءوا به، والمخذول الشقي الطريد هو الذي يعرض عما جاءوا به ولا يقبله ولا يعمل به.

وقد جاء وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، وخاطبه الله تعالى بهذين الوصفين فقال: (يا أيها الرسول)وقال: (يا أيها النبي) وذلك في آيات كثيرة.

الفرق بين النبي والرسول

وقد جاء في القرآن ذكر الرسل والأنبياء، فمن العلماء من قال: إنه لا فرق بين النبي والرسول. ولكن الأدلة دلت على الفرق بين النبي والرسول، وأن الرسل هم الذين أنزل عليهم الكتب، وأرسلوا برسالة مستقلة ابتداء، كما حصل لموسى الذي أنزلت عليه التوراة، وإبراهيم الذي أنزلت عليه الصحف، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن، ومنهم من أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، ولم ينزل عليه كتاب، كأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى الذين كانوا يحكمون بالتوراة، كما قال الله عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، فالأنبياء من بعد موسى كانوا يحكمون بالتوراة، ولم ينزل عليهم كتاب، وإنما أمروا بأن يبلغوا هذا الكتاب، وأن يحكموا به، وأن يدعوا إليه، وعلى هذا فالرسول هو الذي أوحي إليه بشرع ابتداء، وأنزل عليه الكتاب، كموسى الذي أنزلت عليه التوراة، والنبي هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة ولم ينزل عليه كتاب، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يحكمون بالتوراة من بعد موسى، كما جاء ذلك في سورة المائدة، لكن قد جاء وصف نبينا بأنه نبي وأنه رسول، وجاء وصف إسماعيل بأنه نبي ورسول، وجاء وصف موسى بأنه نبي ورسول.

أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد خوطب بـ (يا أيها الرسول) و(يا أيها النبي)، فهو -صلى الله عليه وسلم- نبي ورسول، وموسى قال الله عز وجل عنه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، وقال الله تعالى عن إسماعيل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، فوصفهم جميعاً بالنبوة والرسالة.

فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أولاً ولم يؤمر بالتبليغ، وذلك عندما أنزل عليه (اقرأ) قبل أن تنزل عليه سورة المدثر، فهو نبي وليس رسولاً في ذلك الوقت، وبعدما أنزلت عليه سورة المدثر صار نبياً رسولاً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب (الأصول الثلاثة): نبئ بـ(اقرأ) وأرسل بالمدثر يعني: صار نبياً بنزول (اقرأ) عليه، وصار رسولاً بنزول سورة المدثر عليه.

وعليه فيمكن أن يقال: إنّ النبي هو الذي أوحي إليه بشرع في وقت ما ولم يؤمر بتبليغه، وهذا مثل الحالة التي كانت قبل نزول المدثر في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، كما حصل في حق أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى، فإنهم كانوا يحكمون بالتوراة، وأما التفريق المشهور الذي يقول: إنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فإنه لا يستقيم فيما يتعلق بالنبي؛ لأنه جاء في القرآن أن النبي مرسل، كما قال الله عز وجل: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ [الزخرف:6]، فوصف النبي بأنه مرسل، وقال:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52] فعطف الرسول على النبي معناه أنهما شيئان وليسا شيئاً واحداً.

والله تعالى أعلم.

وقد جاء في القرآن ذكر الرسل والأنبياء، فمن العلماء من قال: إنه لا فرق بين النبي والرسول. ولكن الأدلة دلت على الفرق بين النبي والرسول، وأن الرسل هم الذين أنزل عليهم الكتب، وأرسلوا برسالة مستقلة ابتداء، كما حصل لموسى الذي أنزلت عليه التوراة، وإبراهيم الذي أنزلت عليه الصحف، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن، ومنهم من أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، ولم ينزل عليه كتاب، كأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى الذين كانوا يحكمون بالتوراة، كما قال الله عز وجل: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [المائدة:44]، فالأنبياء من بعد موسى كانوا يحكمون بالتوراة، ولم ينزل عليهم كتاب، وإنما أمروا بأن يبلغوا هذا الكتاب، وأن يحكموا به، وأن يدعوا إليه، وعلى هذا فالرسول هو الذي أوحي إليه بشرع ابتداء، وأنزل عليه الكتاب، كموسى الذي أنزلت عليه التوراة، والنبي هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة ولم ينزل عليه كتاب، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يحكمون بالتوراة من بعد موسى، كما جاء ذلك في سورة المائدة، لكن قد جاء وصف نبينا بأنه نبي وأنه رسول، وجاء وصف إسماعيل بأنه نبي ورسول، وجاء وصف موسى بأنه نبي ورسول.

أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد خوطب بـ (يا أيها الرسول) و(يا أيها النبي)، فهو -صلى الله عليه وسلم- نبي ورسول، وموسى قال الله عز وجل عنه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، وقال الله تعالى عن إسماعيل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، فوصفهم جميعاً بالنبوة والرسالة.

فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أولاً ولم يؤمر بالتبليغ، وذلك عندما أنزل عليه (اقرأ) قبل أن تنزل عليه سورة المدثر، فهو نبي وليس رسولاً في ذلك الوقت، وبعدما أنزلت عليه سورة المدثر صار نبياً رسولاً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب (الأصول الثلاثة): نبئ بـ(اقرأ) وأرسل بالمدثر يعني: صار نبياً بنزول (اقرأ) عليه، وصار رسولاً بنزول سورة المدثر عليه.

وعليه فيمكن أن يقال: إنّ النبي هو الذي أوحي إليه بشرع في وقت ما ولم يؤمر بتبليغه، وهذا مثل الحالة التي كانت قبل نزول المدثر في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، كما حصل في حق أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى، فإنهم كانوا يحكمون بالتوراة، وأما التفريق المشهور الذي يقول: إنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فإنه لا يستقيم فيما يتعلق بالنبي؛ لأنه جاء في القرآن أن النبي مرسل، كما قال الله عز وجل: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ [الزخرف:6]، فوصف النبي بأنه مرسل، وقال:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52] فعطف الرسول على النبي معناه أنهما شيئان وليسا شيئاً واحداً.

والله تعالى أعلم.