عبر بين موازين الله وموازين البشر [2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أيها الإخوة: لازال حديثنا متصلاً عن (عبر في موازين الله وموازين البشر) وقد سبق الكلام عن أمور ينظر لها الناس بمنظار، وهي عند الله شيء آخر، وكانت العبرة المستخلصة، أنه ينبغي علينا أن ننظر بمنظار الشارع ، أن ننظر إلى الأمور كما هي عند الله تعالى، وأن نقيس الأمور بمقياس الشرع، ونزنها بميزانه لا بميزان الدنيا وميزان الناس، ولنضرب أمثلة أخرى، نستعيد فيها هذا التصور، ونربي أنفسنا بها على التطلع إلى الأمور وتحليلها وتقويمها بحسب ما هي عند الله لا بحسب ما هي عند الناس.

الهزيمة في أحد وحادثة الإفك

لقد كانت وقعة أحد هزيمة عظيمة، وألماً وجرحاً دامياً، ومرارة تجرع غصتها المسلمون في سبعين قتيلاً من خيارهم، علماء وقادة وشجعان فقدهم المسلمون، وحصل من وراء ذلك أرامل وأيتام صاروا عبئاً إضافياً على المسلمين؛ لفقد الكاسب والمعيل، هذه مات زوجها، وهذه مات أبوها، وهذه مات أخوها، وهذه مات أبوها وزوجها وأخوها.

ولكن كان ذلك عند الله سبحانه وتعالى بميزان آخر، قال الله عز وجل: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].. مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] .. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] .. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:166-167].

إذاً: الله سبحانه وتعالى أراد من وراء هذه الهزيمة أموراً، أراد كشف المؤمنين وتبيان حالهم، وإظهار أمرهم في الواقع ليطابق الواقع علم الله الأزلي بشأنهم، وأراد الله كشف أستار المنافقين وتعرية موقفهم، وإظهارهم للمؤمنين ليحذروهم، وأراد الله أن يميز الخبيث من الطيب، فالله سبحانه وتعالى لا يرضى بأن يكون الأمر مختلطاً، وتتلبس الأمور، يريد اللهُ أن يهلك من هلك عن بينه، وأن يحيا من حيَّ عن بينه.

يريد الله تمييز الصفوف، يريد الله كشف الحقائق وإظهار البواطن، فأظهر المؤمنين الصادقين الثابتين المطيعين، وأظهر المنافقين المنسحبين، وكذلك أراد الله بهذه المعركة أن يتخذ شهداء لم يكونوا ليصلوا إلى مرتبة الشهادة بغير هزيمة أحد ، هذا العدد الكم الكبير سبعون قتيلاً من المسلمين، شهداء عند الله، أراد الله حكماً، أراد الله أموراً مع أن الهزيمة بالنسبة للمسلمين في الظاهر شر كبير.

حادثة الإفك اعتبرها الناس شراً؛ لأن فيها إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وبلبلة عظيمة حصلت في المجتمع المسلم، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] فيها تمحيص وثبات المؤمنين، وكف ألسنتهم، وفيها انزلاق ألسنة المنافقين ومن ضعفت نفسه، وتعليمه درساً عظيماً لئلا يتابعهم فيما يُستقبل، ورفع منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عائشة وتبرئتها في القرآن، وأمور أخرى عظيمة كانت في تلك الواقعة.

فضل الشهداء ومنزلة الفقراء

الشهداء بالنسبة إلينا ما هم؟ إنهم أموات، ماتوا وذهبوا، وفارقت أرواحهم أجسادهم، لكن يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] الشهداء عند الله أحياء، وعندنا أموات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].

انظروا إذاً -أيها الإخوة- للاختلاف بين ميزان الله وميزان البشر، الشهداء أحياء عند الله، وعندنا أموات، نحزن لفراقهم، وهم عند الله تعالى أحياء فرحون جداً بما وجدوا من كرم الله تعالى، وهم يفضلون ما عند الله على ما عندنا بالتأكيد، لكننا نحن نحزن لأجلهم، ولفراقهم.

من الموازين التي يظهر فيها الاختلاف أيضاً، ميزان العطية والمنحة، والحرمان والقلة، قال الله تعالى: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16] قدر عليه رزقه: أي: ضيق.

ماذا قال الله عن هذا الميزان البشري الدنيوي؟ قال: كَلَّا [الفجر:17] أي: ليس الأمر كذلك، لأنه إذا أعطى عبداً وأكرمه ونعمه فإن ذلك لا يقتضي أنه راض عن هذا العبد، بل إنه يعطي الكفار والفساق والفجرة والعصاة أعطيات عظيمة، لماذا؟ هم عند الناس: رب أكرمن، يقولون: الله أكرمهم، ولكن عند الله استدراج: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].

لا حظ الفرق يا أخي! لاحظ الفرق لتعتبر، فالمسألة تحتاج إلى نظر وفقه، عند الناس يقولون: هذا أكرمه الله عز وجل ونعمه بهذه الملايين، وهذه النعم، لكن يقول الله تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178] هل هذه كرامة ونعمة؟ لا. بل هذه نقمة وشر، واستدراج، إذا رأيت العبد مقيماً على معصية الله والله يعطيه، فاعلم أنما هو استدراج، وفي المقابل إذا حُرم شخص من نعمة مال ومن دنيا، فإن هذا ليس دليلاً على أن الله يريد أن يهينه، كما يظنه بعض الناس بميزانهم الدنيوي البشري، كما قال تعالى عنهم: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:16-17] لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، والقلة له خير من الكثرة، والكثرة يشتغل بها عن الطاعة وعن دينه فيهلك.

الأنساب وأشرفها في الإسلام

مسألة الأنساب ودرجات القبائل، ماذا تعني عند الناس؟ وماذا تعني عند الله؟

روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟) -كانت قضية القبلية والنعرات والتفاخر بالأنساب مسألة لها ثِقَلٌ كبير ووزن عظيم عند العرب، (قالوا: أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم) فأجابهم بميزان الشرع، (قالوا: ليس عن هذا نسألك) يريدون شيئاً معيناً، الأنساب والقبائل، أي: أيُّ القبائل أعظم والأنساب أعظم وأعلى؟ قال: (فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله) يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.

(قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) إذاً الذي هو شريف في الجاهلية، إذا أسلم وتفقه -شرطان- إذا أسلم وتفقه فهم خياركم في الإسلام.

وروى أحمد رحمه الله حديثاً حول هذا المعنى، عن عمر بن عبسة السلمي ، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض يوماً خيلاً، وعنده عيينة بن حصن بن بدر الفزاري ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أفرس بالخيل منك، فقال عيينة وكان من أهل نجد : وأنا أفرس بالرجال منك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وكيف ذاك؟ -هذا رجل من الأعراب جاء حديث عهد بإسلام- قال هذا الأعرابي: خير الرجال رجال يحملون سيوفهم على عواتقهم، جاعلين رماحهم على مناسد خيولهم -لاحظ الوصف- لابسوا البرود -البرد الكساء المخطط- من أهل نجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت) لأن قبائل الحجاز مع النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا قبل غيرهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه إلى هذا المعنى فقال: (كذبت، بل خير الرجال رجال أهل اليمن ، والإيمان يمان إلى لخم وجذامة وعاملة، ومأكولُ حمير خير من آكلها، وحضرموت خير من بني الحارث، وقبيلة خير من قبيلة، وقبيلة شر من قبيلة، والله ما أبالي أن يهلك الحارثان كلاهما، لعن الله الملوك الأربعة جمداء ومخوساء ومشرخاء وأبضعة وأختهم العمردة -وكانوا كفرة- ثم قال: أمرني ربي عز وجل أن ألعن قريشاً مرتين فلعنتهم -مثلما دعا عليهم بالقحط والسنين، والدعاء عليهم من اللعنة- وأمرني أن أصلي عليهم فصليت عليهم مرتين، ثم قال: عصية عصت الله ورسوله، غير قيس وجعدة، ثم قال: لأسلم وغفار ومزينة وأخلاطهم من جهينة خير من بني أسد وتميم وغطفان وهوازن عند الله عز وجل يوم القيامة ...) إلى آخر الحديث. قال الهيثمي رحمه الله: رواه أحمد متصلاً ومرسلاً، ورواه الطبراني ورجال الجميع ثقات.

أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهذا الرجل الأعرابي، أن خير القبائل الذين سبقوا إلى الإسلام، هؤلاء خير القبائل في ذلك الوقت -وقت النبوة- من الذي سبق إلى الإسلام؟ مزينة وبعض جهينة، مزينة:قبائل أسلم وأهل اليمن الذين جاءوا مسرعين يريدون العلم، الذي رفضه غيرهم من كبار القبائل؛ هؤلاء أفضل، لماذا؟ في التصنيف القبلي عند بعض أهل الجزيرة هم أدنى، لكن عند الله وعند النبي صلى الله عليه وسلم بين له أنهم خير من كثير من القبائل، لأنهم أسلموا قبل غيرهم.

وكذلك من بني تميم من هو أشد هذه الأمة على الدجال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (سيكونون في آخر الزمان خير الناس؛ لأنهم أشد الناس على الدجال) ولما تابعوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وغيرهم من أهل نجد كانوا خيراً من غيرهم من المشركين، وغيرهم من الذين رفضوا الدعوة في وقتهم، إذاً -أيها الإخوة- معيار القبائل والأنساب الذين سبقوا إلى الدين وآمنوا به، هذا هو المعيار.

الأعمال بالخواتيم

العمل في الظاهر قد يكون بالنسبة إلينا عظيماً، لكن عند الله شيئاً آخر باعتبار النهاية، باعتبار الشيء الخفي الذي يكون في قلب صاحبه ونحن لا ندركه في الظاهر، والله يعلمه، روى البخاري رحمه الله تعالى (عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا أتبعها يضربها بسيفه فقال الناس: ما أجزى منا اليوم أحد كما أجزى فلان -ما أحد عمل مثل هذا الرجل منا معشر المسلمين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار).

شيء عجيب! شخص يقاتل مع المسلمين ويبلي بلاء حسناً، وهو شجاع للغاية، ولا يدع للكفار شيئاً إلا ضربه، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم: أنا صاحبه) أي: واحد من المسلمين تبرع أن يلازم هذا الرجل؛ ليعرف الحقيقة ويأتيهم بخبره- فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: (فجرح الرجل جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه -أي: رأس السيف وطرفه الحاد- بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه).

ما هي النهاية؟ انتحار! فخرج الرجل هذا الملاصق المراقب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟) قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة).

وذلك لأن الأعمال بالخواتيم، فنحن قد نحكم على شخص بأنه من أهل الجنة ونظن ذلك، وعن آخر أنه من أهل النار، وننسى قضية الخاتمة، فلننتظر إذاً.

ولذلك من القواعد عند أهل السنة والجماعة : ألا نحكم لمعين بجنة ولا بنار إلا من حكم عليه أو حكم له الشارع، وهذا الرجل الذي وردت قصته في هذا الحديث، الذي قتل نفسه وانتحر مثال على قضية الاعتبار بالخواتيم.

مسألة الدنيا عندنا -أيها الإخوة- الدنيا عندنا هي الأموال والعمارات، والقصور والبساتين، والزروع والثمار، والذهب والفضة، والمراكب، وهي تعني عندنا أشياء عظيمة ولهذا تثقل في نفوسنا، وهذا معروف ومشاهد في الواقع، ولا يحتاج إلى شرح: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14].

لكن الميزان عند الله في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) لو كانت تساوي عند الله شيئاً، ما أعطى الكافر منها شيئاً، قال أبو عيسى : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.

حديث صحيح رواه الترمذي رحمه الله تعالى وغيره، يبين لنا الميزان الحقيقي عند الله تعالى لهذه الدنيا، كل هذه الدنيا بما فيها من ألوان النعيم؛ من ناطحات سحابها إلى ما تحت التراب من المعادن والثمار لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وعندنا كم تساوي؟! انظروا إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري.

الغنى ما الغنى؟

الغنى: كثرة المال والمراكب والبيوت، هذا هو الغنى، الغنى: المادة، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) رواه البخاري ومسلم ، ليس الغنى الزيادة في المادة، ولكن الغنى غنى النفس، لو جئت بأغنى أهل الأرض لو كان له واديان من ذهب فإنه يريد الثالث، ما شبع ولن يشبع أبداً.

فهو ليس مطمئن النفس، والغني حقيقة هو المستغني عن الناس والذي لا يتطلع إلى شيء، والذي نفسه راضية مطمئنة: ( ولكن الغنى غنى النفس ) الذي لا يأسف على الدنيا إذا فاتت، ولا يفرح إذا جاءت، هذا هو الغني حقيقة، المتنعم بحياته، وصاحب راحة البال والمطمئن: (ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس).

الناس إذا رأوا ما عند الأغنياء تطلعوا ومدوا أعينهم: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم والذين يُعملون الميزان الإلهي، ولا ينخدعون بالمنظُور البشري؟ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ [القصص:80-81].

كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أن يبين للناس أن قضية الكثرة ليست اعتباراً شرعياً، فكان يقول لهم: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا) أي: الغني الذي ينفق ماله من اليمين والشمال في جميع الاتجاهات وجميع سبل الخير، وكلما عرضت فرصة أنفق، لا يبالي بما ينفق، وينفق بلا حساب، ولا تعلم يمينه ما تنفق شماله: (الأكثرون -أي:في الدنيا- هم الأقلون يوم القيامة).

بين حقيقة الربح وصورته

الربح في المنظور الدنيوي يعني أن تحصل الزيادة على رأس المال، وكلما كانت الزيادة أكثر كنت في المنظور البشري رابحاً أكثر، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ [البقرة:207] ولهذا سبب نزول، قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: [نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وذلك أنه لما أسلم بـمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، وذهب إلى المدينة ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف المدينة في الحرة، فقالوا: ربح البيع، فقال: وأنتم، فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية] .

وروى ابن مردويه كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى عن أبي عثمان النهدي (عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت لي قريش: يا صهيب ! قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك؟!!) -مستحيل لا يمكن، جئتنا فقيراً صعلوكاً، فاشتغلت عندنا بـمكة وحصلت أموالك، ثم تريد أن تخرج الآن إلى المدينة أنت ومالك، (والله لا يكون ذلك أبداً، فقال لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي، تخلون عني، قالوا: نعم) -إنهم أناس دنيويون يأخذون المال ويتركون الشخص- (فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ربح صهيب .. ربح صهيب !) وفي رواية: (ربح البيع .. ربح البيع).

ترك كل الممتلكات والأموال وما بقي له شيء، خرج بثيابه فهذا يعتبر عندنا خسراناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ربح البيع ، ربح صهيب) والله ينزل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].إذاً عند الشارع كونه يهاجر ويترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وينصر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب ليقيم في المدينة، ويتعلم العلم ويجاهد مع الصحابة، ولو خسر كل ماله، فإن ذلك هو الربح الحقيقي، فانظروا -رحمكم الله- إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري، ونحن يجب علينا أن نتحرر من هذه الموازين الأرضية، وأن نسلك سبيل الموازين الشرعية.

لما استقرت هذه الحقيقة في نفوس الصحابة تصدقوا بأموالهم، فهل عرفتهم أحداً يذهب اليوم إلى رصيد ماله في البنك، وينظر ماذا في الرصيد، مائة ألف مثلاً يأخذ خمسين ألفاً ويتصدق بها (نصف المال)؟ لا نقول: مستحيل، لكن ليس أمراً معروفاً على الإطلاق.

الصحابة لما استقرت في نفوسهم قضية الموازين الإلهية، والنظرة الشرعية إلى الأمور؛ أبو بكر تصدق بماله كله، وعمر تصدق بنصف ماله، وأبو طلحة كان أكثر الأنصار بـالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد (موقع استراتيجي) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها، وبها ثمار يانعة وماء طيب وموقع مهم، قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، -أنفس مال عندي- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله).

ذهب إلى العالم ليتصرف له بالمال، لأن العالم يعرف أكثر من الغني أي المجالات أكثر أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح!) رجل ذهب أنفس ما عنده من المال أين الربح؟! وهذه القصة في البخاري .

وروى أحمد وهو حديث صحيح أن أبا الدحداح باع حائطه كله بنخلة، لأنه سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: (أعطها إياه بنخلة في الجنة) أي: ليتيم كان ينازعه فيها.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة: (أعطه النخلة ولك نخلة في الجنة فرفض، فسمع أبو الدحداح فقال: أعطيك بستاني كله بهذه النخلة، فوافق -صفقة ممتازة ورابحة- فأعطاه وبادله، وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: اجعلها له).

إذاً: لا الثمن ولا السلعة، ما بقي عنده شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: (كم من عذق رداح لـأبي الدحداح في الجنة قالها مراراً) قال: فأتى امرأته فقال: (يا أم الدحداح ! اخرجي من الحائط -من البستان- فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها).

إذاً الرجل والمرأة .. البيت المسلم تأسس على هذا الأساس، على أساس الأخذ بالميزان الشرعي، وبما عند الله لا بما عند الناس، فالمرأة قالت: صفقة رابحة، اعتبرتها رابحة ووافقت زوجها.

أنت إذا ذبحت شاة وتصدقت بجزء منها وبقي لك جزء ما هو معيارك في النظر إلى الشيء الباقي والشيء الذاهب؟ الشيء الذي تصدقت به ذهب، والذي بقي هو ما عندك حقيقة، لكن عند الله تعالى المسألة تختلف، روى الترمذي عن عائشة : (أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ما بقي منها؟ فقالت: ما بقي منها إلا كتفها -تصدقنا بكل الشاة المذبوحة ما أبقينا إلا الكتف، لأنها تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكتف- فقال عليه الصلاة والسلام -العبارة العظيمة-: بقي كلها غير كتفها) وذلك لأن الكتف سيؤكل بعد قليل ويذهب، إذاً ما الذي بقي حقيقة؟ الذي تصدقوا به هو الذي بقي.

إذاً: هو هذا المعيار الشرعي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) عند الله هذا هو المفلس.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه فقهاء، وأن يجعلنا بأحكامه عالمين، وعلى سنة نبيه سائرين، وبحبله مستمسكين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

لقد كانت وقعة أحد هزيمة عظيمة، وألماً وجرحاً دامياً، ومرارة تجرع غصتها المسلمون في سبعين قتيلاً من خيارهم، علماء وقادة وشجعان فقدهم المسلمون، وحصل من وراء ذلك أرامل وأيتام صاروا عبئاً إضافياً على المسلمين؛ لفقد الكاسب والمعيل، هذه مات زوجها، وهذه مات أبوها، وهذه مات أخوها، وهذه مات أبوها وزوجها وأخوها.

ولكن كان ذلك عند الله سبحانه وتعالى بميزان آخر، قال الله عز وجل: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].. مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] .. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] .. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:166-167].

إذاً: الله سبحانه وتعالى أراد من وراء هذه الهزيمة أموراً، أراد كشف المؤمنين وتبيان حالهم، وإظهار أمرهم في الواقع ليطابق الواقع علم الله الأزلي بشأنهم، وأراد الله كشف أستار المنافقين وتعرية موقفهم، وإظهارهم للمؤمنين ليحذروهم، وأراد الله أن يميز الخبيث من الطيب، فالله سبحانه وتعالى لا يرضى بأن يكون الأمر مختلطاً، وتتلبس الأمور، يريد اللهُ أن يهلك من هلك عن بينه، وأن يحيا من حيَّ عن بينه.

يريد الله تمييز الصفوف، يريد الله كشف الحقائق وإظهار البواطن، فأظهر المؤمنين الصادقين الثابتين المطيعين، وأظهر المنافقين المنسحبين، وكذلك أراد الله بهذه المعركة أن يتخذ شهداء لم يكونوا ليصلوا إلى مرتبة الشهادة بغير هزيمة أحد ، هذا العدد الكم الكبير سبعون قتيلاً من المسلمين، شهداء عند الله، أراد الله حكماً، أراد الله أموراً مع أن الهزيمة بالنسبة للمسلمين في الظاهر شر كبير.

حادثة الإفك اعتبرها الناس شراً؛ لأن فيها إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وبلبلة عظيمة حصلت في المجتمع المسلم، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] فيها تمحيص وثبات المؤمنين، وكف ألسنتهم، وفيها انزلاق ألسنة المنافقين ومن ضعفت نفسه، وتعليمه درساً عظيماً لئلا يتابعهم فيما يُستقبل، ورفع منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عائشة وتبرئتها في القرآن، وأمور أخرى عظيمة كانت في تلك الواقعة.

الشهداء بالنسبة إلينا ما هم؟ إنهم أموات، ماتوا وذهبوا، وفارقت أرواحهم أجسادهم، لكن يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] الشهداء عند الله أحياء، وعندنا أموات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].

انظروا إذاً -أيها الإخوة- للاختلاف بين ميزان الله وميزان البشر، الشهداء أحياء عند الله، وعندنا أموات، نحزن لفراقهم، وهم عند الله تعالى أحياء فرحون جداً بما وجدوا من كرم الله تعالى، وهم يفضلون ما عند الله على ما عندنا بالتأكيد، لكننا نحن نحزن لأجلهم، ولفراقهم.

من الموازين التي يظهر فيها الاختلاف أيضاً، ميزان العطية والمنحة، والحرمان والقلة، قال الله تعالى: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16] قدر عليه رزقه: أي: ضيق.

ماذا قال الله عن هذا الميزان البشري الدنيوي؟ قال: كَلَّا [الفجر:17] أي: ليس الأمر كذلك، لأنه إذا أعطى عبداً وأكرمه ونعمه فإن ذلك لا يقتضي أنه راض عن هذا العبد، بل إنه يعطي الكفار والفساق والفجرة والعصاة أعطيات عظيمة، لماذا؟ هم عند الناس: رب أكرمن، يقولون: الله أكرمهم، ولكن عند الله استدراج: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].

لا حظ الفرق يا أخي! لاحظ الفرق لتعتبر، فالمسألة تحتاج إلى نظر وفقه، عند الناس يقولون: هذا أكرمه الله عز وجل ونعمه بهذه الملايين، وهذه النعم، لكن يقول الله تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178] هل هذه كرامة ونعمة؟ لا. بل هذه نقمة وشر، واستدراج، إذا رأيت العبد مقيماً على معصية الله والله يعطيه، فاعلم أنما هو استدراج، وفي المقابل إذا حُرم شخص من نعمة مال ومن دنيا، فإن هذا ليس دليلاً على أن الله يريد أن يهينه، كما يظنه بعض الناس بميزانهم الدنيوي البشري، كما قال تعالى عنهم: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:16-17] لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، والقلة له خير من الكثرة، والكثرة يشتغل بها عن الطاعة وعن دينه فيهلك.