عبر وعظات من حياة الإمام الشافعي


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على عبادته وذكره وشكره، وأن يعفو عنا فيما قصرنا وأذنبنا في حقه سبحانه وتعالى.

الحمد لله الذي جعل نجوم السماء هداية للحيارى في البر والبحر من الظلماء، وجعل نجوم الأرض -وهم العلماء- هداية من ظلمات الجهل والعمى، وفضل بعضهم على بعض في الفهم والذكاء، كما فضَّل بعض النجوم على بعض في الزينة والضياء، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.

وبعد..

أيها الإخوة! فإن موضوعنا في هذه الليلة عن شيء من العبر والعظات من حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، ومن حق سلفنا علينا أن نتعرف على سيرهم، وأن نقف مع أحداث حياتهم، وخصوصاً إذا كنا نريد طلب العلم، فإن القراءة في حياة أهل العلم لاشك أنها من الأمور التي تكسب طالب العلم أدباً وفقهاً وخشوعاً وإعجاباً بهؤلاء، والخير في هذه الأمة لا ينقطع ولله الحمد، ولكنه كان كثيراً في أولها.

إن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتنة، والمطلوب منا هو الصبر على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، والتفقه في هذا الدين؛ لأن التفقه في الدين من الواجبات.

إن حياة هذا الإمام -رحمه الله تعالى- حياة حافلة، ولاشك أنه من المجددين، وهو من الأئمة الذين كانوا يهدون بأمر الله وصبروا على ذلك، ولاشك أنه كان للمتقين إماماً ولا يزال، وقد عدَّه كثير من أهل العلم من المجددين، ولاشك أنه أول من كتب في أصول الفقه في كتابه الرسالة ، وكانت حياته -رحمه الله تعالى- مليئة بالعبر والعظات.

وأما حياته، فإنه رحمه الله تعالى- كما هو معلوم لكثير من الإخوان- كان قد توفي في مصر ، كما ذكر أهل العلم عنه في مسألة نسبه ومولده، فإنه قد ولد بـغزة في سنة (150هـ) وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وكان في أول عمره في عسقلان وبها ولد، وغزة وعسقلان شيء واحد، ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز ، ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن ؛ لأن أمه كانت أزدية من الأزد، فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع، فحولته إلى مكة.

وقد اتفق أهل العلم على أن الشافعي رحمه الله ولد سنة (150هـ) وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وقال الشافعي عن نفسه: قدمت مكة وأنا ابن عشر أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي ... إلى آخر القصة.

الشافعي قرشي مطلبي

لاشك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من جهة النسب، كان عربياً قرشياً، ولاشك أن هذه ميزة، وهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ، فإن اسم الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي ... إلى آخر النسب المعروف، فهو يجتمع مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبد مناف .

إذاً: الشافعي قرشي، وهو ينسب إلى جده شافع بن السائب ، وهو لاشك أنه مطلبي، وبما أنه قرشي فنحن نعلم ميزة قريش التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله قد اصطفاهم من قبائل العرب) ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشاً ولا تؤخروها، فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش) أي: في الرأي، وهذا من الأشياء التي تدل على نباهة هذا الإمام القرشي الشافعي، وأن عقله كان فيه من الكمال أمر عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعلموا من قريش ولا تعلموها ).

ولأن القرشي فيه من رجاحة العقل أكثر من غيره ولذلك كان الأئمة من قريش، فالشرط في الخليفة شرعاً أن يكون قرشياً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشاً ولا تؤخروها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها مال لخيارها عند الله تعالى) وقد رواه الطبراني رحمه الله، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من أهان قريشاً، أهانه الله).

وقريش أول الناس من العرب موتاً، وأسرعهم فناءً وزوالاً، فـالشافعي رحمه الله إذاً هو إمام قرشي، وأمه من الأزد، والأزد من اليمن وهم أصل العرب، ولاشك أن أهل اليمن كثير منهم قد أقام في بلاد الشام وفي أرض فلسطين وغيرها.

ومن طريف ما يحكى عن أم الشافعي من الحذاقة: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين ليختبر صدق كل واحدة -يفرق بينهما فيسمع من هذه على حدة ومن الأخرى على حدة- فقالت له أم الشافعي : ليس لك ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة:282] إذاً لا يكون لك أن تفرق بيننا، قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا فرع غريب واستنباط قوي".

وبالنسبة لكنيته فإن الشافعي رحمه الله تعالى يكنى بـأبي عبد الله، وقد تزوج، وله أولاد، واستدل عدد من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) بأن الشافعي هو المجدد في المائة الثانية، وعمر بن عبد العزيز هو المجدد في رأس المائة الأولى.

والبحث في موضوع التجديد طويل، والتجديد الصحيح أنه يتجزأ، فمن الناس من يبعثهم الله ليجددوا للأمة في الحديث، ومنهم من يجدد في الفقه، ومنهم من يجدد في أصوله، ومنهم من يجدد في الجهاد.. وهكذا، وقد تجتمع نواحي التجديد كلها في شخص واحد كما حصل في عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.

ومن الرؤى التي رؤيت ما جاء عن ابن عبد الحكم ، وهو من مشاهير تلاميذه، قال: لما حملت أم الشافعي رأت كأن المشتري خرج منها حتى انقض بـمصر ، ثم وقع في كل بلد منه شظية، وهذا فيه إشارة إلى انتشار علم الشافعي رحمه الله تعالى في أرجاء المعمورة، وأن علمه سيدخل البلدان.

ولادة الشافعي في عسقلان وتربيته في الصحراء

وولادته بـعسقلان أيضاً ميزة؛ لأنها من الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وذكرنا أنه حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي بـمصر سنة (204هـ) وهو ابن (54) سنة في آخر يوم من شهر رجب سنة (204هـ).

وكان من أمر الشافعي رحمه الله تعالى في بداية أمره أنه دخل في الصحراء وجلس إلى العرب يستمع منهم ومن أخبارهم، حتى بلغ عشرين سنة، وهذا كان من الأسباب التي جعلت لغته قوية جداً، وحفظ من الشواهد المهمة في تفسير النصوص ومعرفة التنزيل شيئاً كثيراً، حتى أنه كان يحفظ نحواً من عشرين ألفاً من الشواهد، ولاشك أن هذا قد ساعده كثيراً في مسألة فهم الكتاب والسنة.

ولاشك أن طفولة الشخص من الأشياء التي تؤدي إلى نبوغه وبراعته، فنحن نأخذ من هنا درساً وفائدة، وهي أن الإنسان المسلم إذا أراد أن يعد ولده لأن يكون طالب علم، فلابد أن يعتني بنشأته، وأن يبذل من الأسباب ما يجعل هذا الولد من المتفوقين في هذا الجانب، ولاشك فإن طلب العلم الشرعي من أعظم الأمور.

وكان الشافعي رحمه الله تعالى قد رزق فطنة كبيرة، وقد رزق أيضاً ذكاءً وحفظاً، حتى أنه قال عن نفسه: كنت أنا في الكُتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها، ولقد كنت أسمع وهم يكتبون، فما أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم إلا وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً- لا أخذ منك أجرة، وأنت بهذا النبوغ والحفظ- ثم لما خرجت من الكُتاب كنت أتلقط الخزف -وهو الآجر؛ الطين المشوي الذي يشوى لكي يكون صلباً- والدفوف وكرب النخل -أصول السعف الغلاظ من النخل -وأكتاف الجمال- وهي: العظام العريضة خلف المنكب وكانت تستعمل للكتابة- أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور -وهي الأوراق- وأكتب فيها، حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً -والحباب: الجرار جمع جرة، كان عندها جرار فملأها من هذه الأشياء المكتوبة- ثم إني خرجت عن مكة، فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، مع السنتين التي قضاها في مكة قارب العشرين، فرجع إلى مكة وقد حفظ شيئاً عظيماً.

لاشك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من جهة النسب، كان عربياً قرشياً، ولاشك أن هذه ميزة، وهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ، فإن اسم الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي ... إلى آخر النسب المعروف، فهو يجتمع مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبد مناف .

إذاً: الشافعي قرشي، وهو ينسب إلى جده شافع بن السائب ، وهو لاشك أنه مطلبي، وبما أنه قرشي فنحن نعلم ميزة قريش التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله قد اصطفاهم من قبائل العرب) ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشاً ولا تؤخروها، فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش) أي: في الرأي، وهذا من الأشياء التي تدل على نباهة هذا الإمام القرشي الشافعي، وأن عقله كان فيه من الكمال أمر عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعلموا من قريش ولا تعلموها ).

ولأن القرشي فيه من رجاحة العقل أكثر من غيره ولذلك كان الأئمة من قريش، فالشرط في الخليفة شرعاً أن يكون قرشياً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشاً ولا تؤخروها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها مال لخيارها عند الله تعالى) وقد رواه الطبراني رحمه الله، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من أهان قريشاً، أهانه الله).

وقريش أول الناس من العرب موتاً، وأسرعهم فناءً وزوالاً، فـالشافعي رحمه الله إذاً هو إمام قرشي، وأمه من الأزد، والأزد من اليمن وهم أصل العرب، ولاشك أن أهل اليمن كثير منهم قد أقام في بلاد الشام وفي أرض فلسطين وغيرها.

ومن طريف ما يحكى عن أم الشافعي من الحذاقة: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين ليختبر صدق كل واحدة -يفرق بينهما فيسمع من هذه على حدة ومن الأخرى على حدة- فقالت له أم الشافعي : ليس لك ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة:282] إذاً لا يكون لك أن تفرق بيننا، قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا فرع غريب واستنباط قوي".

وبالنسبة لكنيته فإن الشافعي رحمه الله تعالى يكنى بـأبي عبد الله، وقد تزوج، وله أولاد، واستدل عدد من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) بأن الشافعي هو المجدد في المائة الثانية، وعمر بن عبد العزيز هو المجدد في رأس المائة الأولى.

والبحث في موضوع التجديد طويل، والتجديد الصحيح أنه يتجزأ، فمن الناس من يبعثهم الله ليجددوا للأمة في الحديث، ومنهم من يجدد في الفقه، ومنهم من يجدد في أصوله، ومنهم من يجدد في الجهاد.. وهكذا، وقد تجتمع نواحي التجديد كلها في شخص واحد كما حصل في عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.

ومن الرؤى التي رؤيت ما جاء عن ابن عبد الحكم ، وهو من مشاهير تلاميذه، قال: لما حملت أم الشافعي رأت كأن المشتري خرج منها حتى انقض بـمصر ، ثم وقع في كل بلد منه شظية، وهذا فيه إشارة إلى انتشار علم الشافعي رحمه الله تعالى في أرجاء المعمورة، وأن علمه سيدخل البلدان.

وولادته بـعسقلان أيضاً ميزة؛ لأنها من الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وذكرنا أنه حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي بـمصر سنة (204هـ) وهو ابن (54) سنة في آخر يوم من شهر رجب سنة (204هـ).

وكان من أمر الشافعي رحمه الله تعالى في بداية أمره أنه دخل في الصحراء وجلس إلى العرب يستمع منهم ومن أخبارهم، حتى بلغ عشرين سنة، وهذا كان من الأسباب التي جعلت لغته قوية جداً، وحفظ من الشواهد المهمة في تفسير النصوص ومعرفة التنزيل شيئاً كثيراً، حتى أنه كان يحفظ نحواً من عشرين ألفاً من الشواهد، ولاشك أن هذا قد ساعده كثيراً في مسألة فهم الكتاب والسنة.

ولاشك أن طفولة الشخص من الأشياء التي تؤدي إلى نبوغه وبراعته، فنحن نأخذ من هنا درساً وفائدة، وهي أن الإنسان المسلم إذا أراد أن يعد ولده لأن يكون طالب علم، فلابد أن يعتني بنشأته، وأن يبذل من الأسباب ما يجعل هذا الولد من المتفوقين في هذا الجانب، ولاشك فإن طلب العلم الشرعي من أعظم الأمور.

وكان الشافعي رحمه الله تعالى قد رزق فطنة كبيرة، وقد رزق أيضاً ذكاءً وحفظاً، حتى أنه قال عن نفسه: كنت أنا في الكُتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها، ولقد كنت أسمع وهم يكتبون، فما أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم إلا وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً- لا أخذ منك أجرة، وأنت بهذا النبوغ والحفظ- ثم لما خرجت من الكُتاب كنت أتلقط الخزف -وهو الآجر؛ الطين المشوي الذي يشوى لكي يكون صلباً- والدفوف وكرب النخل -أصول السعف الغلاظ من النخل -وأكتاف الجمال- وهي: العظام العريضة خلف المنكب وكانت تستعمل للكتابة- أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور -وهي الأوراق- وأكتب فيها، حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً -والحباب: الجرار جمع جرة، كان عندها جرار فملأها من هذه الأشياء المكتوبة- ثم إني خرجت عن مكة، فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، مع السنتين التي قضاها في مكة قارب العشرين، فرجع إلى مكة وقد حفظ شيئاً عظيماً.

كان اهتمام الشافعي في بداية أمره بالأشعار، وهذا نجده موجوداً عند بعض الشباب، أنهم يستغلون حافظتهم في حفظ الأشعار، ويكون لهم اتجاهات أدبية، ولكن قد يقدر الله سبحانه وتعالى شيئاً يجعل اتجاه الشخص يتغير، وقد حدث للشافعي رحمه الله في هذه الفترة من حياته قصة كانت عبارة عن كلمة غيرت اتجاه هذا الرجل.

كان السبب في اتجاه الشافعي من الشعر والأدب إلى الفقه أنه كان ذات مرة يسير على دابة، فتمثل ببيتٍ من الشعر، فقال له كاتب كان لوالد مصعب بن عبد الله الزبيري : مثلك يذهب بمروءته في هذا! أين أنت من الفقه؟ -قال له: إن هذا يذهب بمروءتك، تعلم الفقه -فهزته هذه الكلمات- وبعدها قصد الشافعي رحمه الله مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فلازمه، ثم قدم المدينة على الإمام مالك رحمه الله تعالى، ودرس الموطأ عنده.

إذاً توفيق الله عز وجل يكون من الأشياء التي تؤدي بطالب العلم إلى الاتجاه في طلب العلم، وقد يكون له اتجاهات أخرى.

بعض الناس لهم اشتغال بعلوم دنيوية، أو بأدب وشعر، أو بتجارة وأمور من الوظائف ونحوها، فيقدر الله سبحانه وتعالى حادثة تجعل الشخص يتجه إلى الاهتمام بطلب العلم، ولذلك لابد أن يطلب الإنسان من الله عز وجل التوفيق دائماً.

ولما قصد الشافعي رحمه الله مالكاً في المدينة ، أخذ كتاباً معه من والي مكة إلى والي المدينة توصية، وجاء والي المدينة معه إلى مالك وهو متهيب، وهو يقول له: مالنا ولـمالك ، الشافعي يريد من الوالي أن يذهب معه إلى مالك ليكون هذا من نوع التوصية، فلما قصدوا مالكاً ، تقدم رجلٌ فقرع الباب، فخرجت جارية سوداء، فقال لها الوالي: قولي لمولاك إني بالباب، قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت، فقالت: إن مولاي يقرئك السلام، ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب- هذا من عزة العلماء في ذلك الزمان- وإن كان للحديث- إن جئت لتسمع الحديث- فقد عرفت يوم المجلس فانصرف." اليوم المخصص للحديث أنت تعرفه.

فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي، فوضعته، ثم إذا أنا بـمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية -أي: طويل اللحية- فجلس وهو متطلس -لابس الطيلسان: كساء مدور لا أسفل له- فرفع إليه الوالي كتاباً، فبلغ إلى هذا: إن هذا رجلٌ من أمره وحاله، فتُحدثه وتفعل وتصنع، توصية للشافعي مكتوبة، فرمى مالك الكتاب من يده، ثم قال: سبحان الله! أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل؟! -أي: الوساطات- قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي، وأخبره، فلما سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكان عند مالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال لي: يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، هذه من فراسة مالك رحمه الله تعالى، وفي رواية أنه قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي.

وطلب الشافعي من مالك أن يقرأ عليه، قال له: لابد لك من مقرئ، لا تقرأ مباشرة على الشيخ، تقرأ على تلميذ الشيخ الذي ضبط كتاب الشيخ، فقال الشافعي -التمس من مالك - قال: اسمع مني ولو صفحة، فإن أعجبتك أواصل، وإلا فلا، فأمره أن يقرأ، قال: فبدأت أقرأ كتاب مالك رحمة الله عليه، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع القراءة وأقف، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى! زد، حتى قرأته في أيام يسيره، ثم أقمت بـالمدينة حتى توفي مالك بن أنس .

ثم ذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اليمن.

إذاً: جلس الإمام الشافعي إلى الإمام مالك ، وسمع منه الموطأ ، وهذا فيه فائدة وهي:

1- الحرص على التلقي من الأكابر، طلب ما أمكن من أهل العلم الكبار، فإن لم يكن، فطلبة العلم الآخذين عن العلماء، وهذا أمر مهم جداً.

2- عدم إذلال العلم، وإنما يعز:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولكن للأسف! فإن كثيراً من حملته لا يقدرون العلم حق قدره، فيضعونه عند الأسافل، ويكونون مطية لغيرهم من الفسقة والفجرة.

3- أن من الأمور المهمة لطالب العلم الاعتناء بالإعراب، فإنه إذا قرأ على الشيخ ونحوه، وكان يلحن في قراءته، يرفع المنصوب، ويخفض المرفوع.. ونحو ذلك، كان ذلك منفراً للشيخ، حتى لا يريد أن يسمع منه شيئاً.

ثم انظروا -أيها الإخوة- إلى قدر الله سبحانه وتعالى الذي جعل الإمام الشافعي ينصرف من الشعر إلى الفقه، من جراء تلك الكلمة التي سمعها، فرضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً، وأن تكون القضية قضية شعر، فوقر في قلبه ذلك الكلام، فالإنسان إذا وجد من يعظه ويوجهه فعليه أن يتوجه، ولاشك أن من صفات المسلم أن يقبل النصيحة.

كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى منذ صغره معروفاً بالنباهة، حتى قال مالك: "ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى".

وكان مسلم بن خالد الزنجي يقول للشافعي: "أفتي يا أبا عبد الله ، فقد آن لك والله أن تفتي"، وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان قد لقي مالكاً وعمره ثلاث عشرة سنة.

وقال إبراهيم بن محمد بن عباس: كنت في مجلس ابن عيينة والشافعي حاضر، فحدث ابن عيينة عن الزهري بحديث صفية والرجلين، وفيه: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) فقال ابن عيينة للشافعي : ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتوى يسأل عنها التفت إلى الشافعي ، فقال: سلوا هذا.

وقد أثنى العلماء عليه ثناءً عظيماً، وأثنى عليه من الأئمة الكبار يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، حتى قال يحيى بن سعيد القطان: "إني لأدعو الله للشافعي في كل صلاة، لما فتح الله عليه في العلم ووفقه للسداد فيه".

وأما بالنسبة لـعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى فإنه قد كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يصنع له كتاباً في معاني القرآن يجمع فيه قبول الأخبار، وحجية الإجماع، وبيان الناسخ من المنسوخ في القرآن والسنة، فكانت رسالة عبد الرحمن بن مهدي للشافعي هي السبب في تأليف الشافعي كتاب الرسالة المعروف والمشهور، وهو أول كتاب في أصول الفقه.

ويعتبر الشافعي رحمه الله هو أول من كتب في هذا العلم، فكان جواب الشافعي لـعبد الرحمن بن مهدي هو كتاب الرسالة المجلد المعروف المطبوع الموجود، فلما وصل الكتاب إلى عبد الرحمن بن مهدي -وكان من كبار الأئمة- قال: "ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها".

وقال: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له".

أيضاً كان المبتدعة يهابون الإمام الشافعي ويعرفون مكانته، فهذا بشر المريسي -وكان في بداية أمره على السنة ثم انحرف، نسأل الله الهداية والثبات- وكان بشر يرافق الشافعي ، كان زميلاً له وكان يعرفه، ولكنه انحرف وصار من أهل البدعة، ولذلك لما جاء بشر المريسي وكان عنده أشياء من علم الكلام، قال بعضهم: كنا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين ، الحكم والقضاء بالشاهد ويمينه، فدرسته في ليلتين، ثم تقدمت إلى حلقة بشر ، فناظرته فيه فقطعته- أي: أسكته وأفحمته- فقال بشر: "ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بـمكة ، معه نصف عقل أهل الدنيا"، يقصد الشافعي .

وصف يحيى بن أكثم للشافعي

وصفه يحيى بن أكثم فقال: كنا معاً عند محمد بن الحسن في المناظرة، فكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل والفهم والدماغ، سريع الإصابة، ولو كان أمعن في الحديث لاستغنت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره من العلماء، ومعروف أن الشافعي رحمه الله لم يكن من المكثرين في جمع الحديث، وإن كان جمع في أشياء وله المسند، ولكنه لم يكن مثل الإمام أحمد رحمه الله الذي كان من المكثرين من جمع الحديث.

وصف أحمد بن حنبل للشافعي

قال أحمد رحمه الله يصف الشافعي : قدم الشافعي فوضعنا على المحجة البيضاء.

يقول عبد الله بن أحمد : جاء الشافعي إلى أبي زائراً وهو عليل يعوده - الشافعي يعود أحمد مع أن أحمد من تلاميذ الشافعي ، لكن الشافعي رحمه الله كان يعود تلاميذه- فوثب أبي إليه، فقبل ما بين عينيه، وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، مع أن أحمد كان مريضاً، فلما قام ليركب، راح أبي فأخذ بركابه ومشى معه.

وكان أحمد رحمه الله حريصاً على مجلس الشافعي كثيراً، وعلى الجلوس إليه، وكان ربما يفوت مجالس علماء ومحدثين كبار كـابن عيينة من أجل أن يجلس عند الشافعي ، حتى قال بعض أهل العلم: حججت مع أحمد بن حنبل فنزلت في مكان واحد معه، فخرج باكراً وخرجت بعده، فدرت المسجد فلم أجده في مجلس ابن عيينة ولا غيره، حتى وجدته جالساً مع أعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله ! تركت ابن عيينة وجئت إلى هذا؟ فقال لي: اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، لو فاتك ابن عيينة -تأخذ حديث ابن عيينة من تلاميذ ابن عيينة - وإن فاتك عقل هذا -أي: الشافعي- أخافك ألا تجده، ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتى، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي .

وقال أحمد رحمه الله: كان الفقه قفلاً على أهله، حتى فتحه الله بـالشافعي ، وقال أحمد أيضاً: ما أحدٌ مس محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منة، وقال أحمد أيضاً: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، فـالشافعي له فضل على أهل الحديث بتبيان معاني الحديث، والناسخ والمنسوخ، والجمع بين الأحاديث المتعارضة، وكان بعض العلماء مثل يحيى بن معين يستغربون من إقبال أحمد على الشافعي، حتى أن يحيى بن معين -مرةً- بلغه أن الإمام أحمد مشى مع بغلة الشافعي فأرسل إليه يعاتبه، فأرسل أحمد رداً يقول لـيحيى : لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك.

أي: لو مشيت أنت من الجانب الآخر من البغلة كان أنفع لك.

فـالشافعي رحمه الله رزق منهجاً سليماً، وفكراً ثاقباً، وحصافة وفطنة، وكانت أصوله في غاية الجودة، فسهَّل على أهل الحديث كثيراً فهم الأحاديث، صحيح أنه ما كان واسعاً جداً في طلب الحديث وجمعه، ولكن إذا بلغه يعرف وجهه، وكثيراً ما كان يقول: إذا صح الحديث هذا فأنا أمشي عليه؛ لأنه لم يكن يعرف صحته في بعض الأحيان، ولكن من تجرده وإنصافه- كما سيأتي- أنه كان يتبع الحديث.

وصف الربيع بن سليمان للشافعي

قال الربيع بن سليمان: "لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه".

وكان الشافعي رحمه الله سبباً في توجيه بعض طلبة العلم المشتغلين بعلم الكلام إلى اتباع السنة، منهم الأئمة الكبار، مثل: أبي ثور رحمه الله تعالى، والحسين بن علي الكرابيسي، أبو ثور من كبار الفقهاء، وكذلك الحسين بن علي الكرابيسي كان أول ما اشتغل هؤلاء بعلم الكلام، وكانوا ينبزون بأهل الحديث.

ولما جاء الشافعي إلى العراق ، قال أبو ثور للحسين بن علي الكرابيسي -وكانا من أهل الرأي، وربما تهكما بأهل الحديث، واعتبرا أن الرأي الذي عندهما هو القوي، وهو العلم- قال أبو ثور للكرابيسي: ورد رجلٌ من أهل الحديث يتفقه، فقم بنا نسخر منه -لأنهم يقولون: هؤلاء حملة آثار لا يفهمون شيئاً، فقط يحملون النصوص لكن لا يفهمونها- فذهبنا إليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل يقل: قال الله، قال رسول الله، حتى أظلم عليهم البيت، فتركا ما كانا عليه واتبعاه. تركا قضية الرأي واشتغلا بالنصوص والآثار، فكان له فضل على مثل هؤلاء.

وكان بليغاً جداً في المناظرة، حتى قال بعضهم: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة بأنه من ذهب لأقنعه بأنه من ذهب، وستأتي بعض قصص مناظراته.

وصف يونس بن عبد الأعلى للشافعي

ومن الأمور المهمة التي حصلت للشافعي الجمع بين الفقه والحديث، وكان عذب المنطق جداً، حتى قال يونس بن عبد الأعلى : كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر، وقال: كنا إذا قعدنا حوله لا ندري كيف يتكلم، كأنه سحرٌ، وكان اطلاعه في الأنساب واسعاً جداً، حتى أن ابن هشام النحوي صاحب المغازي جاء فجلس إلى الشافعي، فذاكره أنساب الرجال، هذا يذكر نسب رجل، وهذا يذكر آخراً، فقال له الشافعي بعد أن تذاكرا: دع عنك أنساب الرجال فإنها لا تذهب عني وعنك، وخذ بنا في أنساب النساء، قال: ندخل في أنساب النساء، فلانة بنت من؟ قال: فلما أخذ فيها قعد هشام ، أي: بقي هشام ساكتاً والشافعي مستمر في سرد أنساب النساء.

وصفه يحيى بن أكثم فقال: كنا معاً عند محمد بن الحسن في المناظرة، فكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل والفهم والدماغ، سريع الإصابة، ولو كان أمعن في الحديث لاستغنت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره من العلماء، ومعروف أن الشافعي رحمه الله لم يكن من المكثرين في جمع الحديث، وإن كان جمع في أشياء وله المسند، ولكنه لم يكن مثل الإمام أحمد رحمه الله الذي كان من المكثرين من جمع الحديث.