شرح زاد المستقنع باب مقادير ديات النفس [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال رحمه الله تعالى: [ باب مقادير ديات النفس ].

تقدم معنا أن الدية واجبة في القتل، وأن للأعضاء والمنافع دية أيضاً تقدر بحسب الضرر المتعلق بالعضو والمنفعة.

والمصنف رحمه الله بعد أن بين لزوم الدية وفصل في دية العمد وشبه العمد والخطأ؛ التي هي أنواع القتل، شرع بعد هذا في بيان مقدار هذه الدية، وبناء على ذلك فإنه يتكلم على القدر الواجب من الديات، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان هذا، وتعتبر هذه المسألة من المسائل التي أجملها القرآن وفصلتها السنة؛ لأن الله يقول: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ [النساء:92]، فأجمل هذه الدية، هل هي من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو هي من الذهب أو الفضة، أو من مجموع هذه الأشياء؟ فهذا إجمال، وبينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت أقضية الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين المأمور باتباع سنتهم رضي الله عنهم وأرضاهم بتفصيل هذه الديات.

والمقادير: جمع مقدار، والمراد بذلك: القدر الذي فرضه الله عز وجل.

والسبب في هذا: أن الأنفس تتفاوت في ضمانها، وتختلف هذه الدية بحسب الأنواع، فالدية من الحيوان من الإبل والبقر والغنم تختلف في مقاديرها في الإبل ومقدارها في الغنم والبقر، ومن هنا أفرد المصنف رحمه الله باباً لبيان هذه المقادير، سواء كانت في الأثمان من الذهب والفضة، أو في الحيوانات.

وقال: [مقادير ديات النفس] لأن الدية إما في النفس وإما في الأعضاء، وإما في الجروح والشجاج، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله أن يفردوا دية الأنفس على حدة؛ لأنها تحتاج إلى تفصيل، وتختلف بحسب اختلاف المجني عليه، فدية المسلم ليست كدية الكافر، ودية الكافر الكتابي الذي له دين ليست كدية المجوسي، ودية الذكور ليست كدية الإناث، ومن هنا اختلفت مقادير الدية، ولما اختلفت وجب ضبطها وبيان القدر الواجب في كل منها.

قوله رحمه الله: [باب مقادير ديات النفس].

أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بتقدير الديات خاصة بالأنفس، وحينئذٍ لا يتكلم على دية الأعضاء والمنافع، لأنه سيأتي الكلام عليها تبعاً، فابتدأ بالأعلى وهو دية النفس، وسيتبع ذلك بالأدنى كما سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.

دية المسلم الحر

قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير].

الأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه المعروف بكتاب عمرو بن حزم الذي تقدم معنا، وكتبه لأهل اليمن في زمانه عليه الصلاة والسلام، بين فيه مقادير الديات، وقال: (دية المسلم مائة من الإبل).

قوله: (دية الحر) خرج العبد، فالعبد بقيمته كما سيأتي، فإذا قتل أحد عبداً فإنه يضمن بقيمته.

قوله: (المسلم) خرج الكافر؛ لأنه لا يبلغ هذا القدر، فدية المسلم أعلى من دية الكافر، فدية المسلم مائة من الإبل، والمراد به الذكر، أما الأنثى فإنها على الشطر من الذكر، تتنصف ديتها عن دية الذكر، فعقل المرأة على النصف من عقل الذكر في النفس.

والدية كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام، والأصل فيها قصة عبد المطلب حينما نذر إذا جاءه عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، وكان آخر العشرة عبد الله ، وهو والد النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى الكعبة ونذر السهام على عدد أولاده فخرج سهم عبد الله ، فأراد أن يقتله وأن يذبحه، فصاحت قريش وامتنعت من ذلك، وقيل: إنه هو نفسه كان يحب عبد الله حباً شديداً، وهذا من قصص التاريخ التي اختلفت، فقيل: إنه ذهب إلى عراف في المدينة واختصم إليه مع قريش، فقال العراف: أخرجوا في كل سهم عشرة من الإبل حتى يخرج السهم على الإبل، وكان الأصل في الدية في الجاهلية عشرة من الإبل، فلما أشار عليه بهذا الرأي أخرج القدح الأول، والعشرة من الإبل التي كانت دية ثابتة، ثم حاول المرة الثانية فخرج الولد عبد الله، فحاول المرة الثالثة والرابعة والخامسة، حتى بلغ مائة من الإبل فخرج السهم على المائة من الإبل، فنحر المائة من الإبل وصارت سنة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية ما يفعله العظماء يتخذونه سنة، فأصبحت الدية مائة من الإبل، فجاء الإسلام وهي مائة من الإبل فأقره.

وهذا مثلما ذكرنا أن أفعال الجاهلية منها ما أقرها الإسلام، ومنها ما أبطله، ومنها ما فصل فيه، وذكرنا من هذا أمثلة كثيرة، ومر بنا في العبادات والمعاملات مسائل من هذا، فهذه السنة كانت موجودة في الجاهلية؛ وهي ضمان الدم بالمال، وكانت الإبل أعز شيء وأنفس شيء عند العرب، وجاء الإسلام فجعلها رأساً في الدية، ولذلك لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب عمرو بن حزم لأهل اليمن جعل الإبل أساساً وابتدأ بها، وجاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إن في القتيل الخطأ -شبه العمد قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) فنص عليها عليه الصلاة والسلام، وهي كما ذكرت أعز ما كان يملكه العرب، فضمن بهذا الضمان؛ لأن الإبل محل إجماع، وكل العلماء متفقون بحمد الله على هذه السنة، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون رضي الله عنهم كلهم، والصحابة رضي الله عنهم على أن دية المسلم الحر الذكر هي المائة من الإبل.

ويشترط في هذه المائة من الإبل: أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجوز أن يكون فيها معيب، وتؤخذ هذه المائة من الإبل من العاقلة إذا كان القتل خطأ، مثلاً شخص عنده سيارة فارتطم بأحدهم حتى قتله، فيطالب قرابته بهذه الدية، وتقدم معنا أنها تكون مقسطة ويطالب بها العاقلة، وهذا من دية الخطأ، فإذا طالب بها أحدهم فإنه يخرج وسط ماله، مثلاً عنده عشرة من أولاد العم، وعدد أولاده عشرة أو أكثر، فإذا تعين مثلاً على واحد منهم أن يدفع بعيراً ننظر إلى وسط ماله، فنقول: أخرج بعيراً من وسط مالك، ولا يطالب بالأنفس والكريم والجيد، ولا يجوز أن يخرج السقيم والعليل، وإنما يتوسط ويؤخذ من أوسط ماله، وهي واجبة على العاقلة، وسيأتي تفصيل العاقلة.

هذه المائة من الإبل يشترط سلامتها من العيوب كما ذكرنا، وهي أصل عند بعض العلماء -الأصل في الدية الإبل- ومنهم من قال: إن الأصول هي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فجعل الأصول خمسة في الديات، فالإبل هي الأساس، وكذلك الذهب والفضة والبقر والغنم، فيخير أن يخرج أي واحد من هذه، يعني: ليس بملزم أن يخرج إبله، فلو جاء بمائتين من البقر أجزأه، أو جاء بألفي شاة أجزأه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- قالوا: هذه كلها أصول الديات، أيها أحضر أجزأه.

قال رحمه الله: [أو ألف مثقال ذهباً].

مثقال يعني: دينار من الذهب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم فقال: (ومن الورق ألف مثقال) وفي حديث السنن أن رجلاً من بني عدي عدا على رجل فقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بديته ألف دينار، فهذا يدل على أن الدية تكون من الذهب ألف دينار، وهذا طبعاً على الدينار الذي كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الدينار الذي ضرب على عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله: وهو ما يسمى بالدينار الإسلامي، واستشكل العلماء تقدير الذهب في الديات عندنا مع تقدير الذهب في الزكاة والجزية.

وأجيب عن ذلك بأنه لا تعارض بين الاثنين، وهذا راجع إلى صرف الذهب، فإن عدل الذهب في الزكاة كل عشرين مثقالاً تعادل مائتين من الدراهم، فمعنى ذلك أن المثقال والدينار كان يصرف بعشرة دراهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا ذكر المصنف رحمه الله أنها ألف مثقال.

قال: [أو اثنا عشر ألف درهم فضة].

هنا الإشكال (اثنا عشر ألف درهم من الفضة) قالوا: إذا كان ألف دينار، فالمفروض أن يقابله عشرة آلاف درهم؛ لأننا قلنا: إن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وتقدم معنا في الزكاة؛ لأنه قال: عشرين مثقالاً أو مائتي درهم من الورق خمس أواق، وهي تعادل مائتي درهم، فاستشكل العلماء هذا في الألف دينار، وأجيب: أن هذا يختلف باختلاف الصرف، وقالوا: إن تقدير الدنانير في صرفها تختلف، ولذلك اختلف الحكم في الزكاة عن الحكم في الديات، وفي الحقيقة هذه المسألة لا زلت أبحثها، وقد سبق أن نبهت في الزكاة على أن فيها إشكالاً وكلاماً طويلاً للعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين في ضبط الدينار القديم وبعده الدينار الإسلامي البغلي، ثم الدرهم الإسلامي في عهد عبد الملك، واختلاف تقديرها بالعملات الموجودة الآن، ولا زلت أبحث عن المسألة إن فتح الله عز وجل وتبين فيها وجه الصواب يستطيع الإنسان أن يجزم.

لكن مما ذكره بعض الأئمة والمحررين في رفع هذا الإشكال قد أشار إليه بعض الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وبعض أئمة المالكية، وبعض أئمة الحنفية أيضاً أشاروا إلى أن الصرف اختلف، وقد بين عمر رضي الله عنه ذلك في خطبته في الديات وقال: (ألا إن الإبل قد غلت) وهذا يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى تأثير السوق، وعلى كل حال جعل العدل اثني عشر ألفاً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضمن الرقبة باثني عشر ألف درهم، وهذا عند العلماء رحمهم الله يعتبر أصلاً في الورق الذي هو من الفضة أنها تكون اثني عشر ألفاً، سواء كانت عدلاً للذهب؛ لأن الصرف كل دينار باثني عشر درهماً، أو كانت غير الصرف، فإذا لم تكن صرفاً له صار أصلاً، ومن هنا نفهم أن الفضة ليست عوضاً عن الذهب، يعني: ليست مقابلاً من باب صرف الذهب، فإذا كانت أصلاً فلا إشكال، وأما إذا كانت بدلاً حينئذٍ يرد الإشكال، إلا أن الذين يقولون: إنها بدل وإنها من الأصول لكن فيها معنى البدلية يعتذرون باختلاف الصرف، وهذا وارد: أن صرف الناس بالسوق يختلف من زمان إلى آخر.

قال: [أو مائتا بقرة].

يدفع مائتين من البقر، فيخير؛ إن شاء دفع مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، وهذا يدل على التفاوت بين الإبل والبقر، وجاء في الشرع ما يدل على أن الإبل والبقر بمنزلة واحدة، وكلا الأمرين جاء شرعاً، ففي الشرع في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينحرون الإبل عن سبعة) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بالبقر عن نسائه، واتفق القول على أن البقر عن سبع كما أن الإبل عن سبع، وهذا يقتضي المساواة، لكن جاءت السنة بالتفاوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى في يوم الجمعة كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية كان كمن قرب بقرة) فجعل البقرة دون الناقة، وجعل البقر دون الإبل، فتارة يستويان وتارة يختلفان، ومن هنا انعقدت الكلمة على أنه لو ضحى بالبقر عن سبع أجزأه، ولو ضحى بالإبل عن سبع أجزأه، وفي الدماء الواجبة كذلك، فإن البقرة يجزي عنها الإبل، فهذا يقتضي المساواة، وهنا فرق بينهما.

وفي الحقيقة التفريق هنا وارد، وقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه في جعل العدل من البقر مائتين، ولم يخالفه فيه رضي الله عنه أحد من الصحابة، ولذلك يعتبر شبه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إجماع سكوتي من الصحابة رضوان الله عليهم.

أيضاً: في البقر يشترط أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن يخرج من البقر المعيب، ثم لا يشترط أن يخرج نوع البقر الموجود في بلده، يعني: في الإبل يجوز أن يخرجها عراباً أو يخرجها بختية، ولا يشترط أن تكون من غالب إبل القوم الموجودة، فنقول لكل واحد من العاقلة: ادفع تيسر لك على حسب ما هو واجب عليك، سواء كانت عراباً أو بختية، وهكذا بالنسبة للبقر جيدها ورديؤها من جهة النوع.

وأما من جهة المعيبة فإنها لا تجزئ لا في الإبل ولا في البقر كما قدمنا.

قال: [أو ألفا شاة].

وهذا عدل البقر والغنم، ومثلما ذكرنا أن الزكاة والأضاحي تختلف عن الديات، ومن هنا فرق بينهم، وقوي القول الذي قال: إن الألف دينار لا يقال: عدلها عشرة آلاف درهم، بل تفاوتت وزادت في الفضة، وهكذا هنا لا مانع أن تزيد البقر وأن تزيد الغنم، ولذلك في الأصل السبعة من الغنم تعادل البعير -كما في الأضاحي- ولكن هنا العشرة من الغنم تعادل البقرة الواحدة، ولذلك يصبح الواجب عليه ألفي شاة.

قال رحمه الله: [ هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله ].

كل واحد من هذه أصل، يستفاد منه: أنه لو أخرج أي واحد من هذه الخمس وجاء به فإنه يلزم الولي بقبوله، وعلى هذا لا يقول الولي: لابد أن تحضر لي الدية من الإبل، ولا يقول: لابد وأن تحضر لي الدية من النقود؛ أريد ذهباً، أريد فضة، لأن المراد ضمان حقه، وضمان حقه كما يحصل بالذهب يحصل بالفضة، وكما يحصل بالفضة يحصل بالإبل والبقر والغنم، ومن هنا لا يتعين واحد من هذه.

قال رحمه الله: [دية الحر المسلم مائة بعير].

الأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه المعروف بكتاب عمرو بن حزم الذي تقدم معنا، وكتبه لأهل اليمن في زمانه عليه الصلاة والسلام، بين فيه مقادير الديات، وقال: (دية المسلم مائة من الإبل).

قوله: (دية الحر) خرج العبد، فالعبد بقيمته كما سيأتي، فإذا قتل أحد عبداً فإنه يضمن بقيمته.

قوله: (المسلم) خرج الكافر؛ لأنه لا يبلغ هذا القدر، فدية المسلم أعلى من دية الكافر، فدية المسلم مائة من الإبل، والمراد به الذكر، أما الأنثى فإنها على الشطر من الذكر، تتنصف ديتها عن دية الذكر، فعقل المرأة على النصف من عقل الذكر في النفس.

والدية كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام، والأصل فيها قصة عبد المطلب حينما نذر إذا جاءه عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، وكان آخر العشرة عبد الله ، وهو والد النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى الكعبة ونذر السهام على عدد أولاده فخرج سهم عبد الله ، فأراد أن يقتله وأن يذبحه، فصاحت قريش وامتنعت من ذلك، وقيل: إنه هو نفسه كان يحب عبد الله حباً شديداً، وهذا من قصص التاريخ التي اختلفت، فقيل: إنه ذهب إلى عراف في المدينة واختصم إليه مع قريش، فقال العراف: أخرجوا في كل سهم عشرة من الإبل حتى يخرج السهم على الإبل، وكان الأصل في الدية في الجاهلية عشرة من الإبل، فلما أشار عليه بهذا الرأي أخرج القدح الأول، والعشرة من الإبل التي كانت دية ثابتة، ثم حاول المرة الثانية فخرج الولد عبد الله، فحاول المرة الثالثة والرابعة والخامسة، حتى بلغ مائة من الإبل فخرج السهم على المائة من الإبل، فنحر المائة من الإبل وصارت سنة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية ما يفعله العظماء يتخذونه سنة، فأصبحت الدية مائة من الإبل، فجاء الإسلام وهي مائة من الإبل فأقره.

وهذا مثلما ذكرنا أن أفعال الجاهلية منها ما أقرها الإسلام، ومنها ما أبطله، ومنها ما فصل فيه، وذكرنا من هذا أمثلة كثيرة، ومر بنا في العبادات والمعاملات مسائل من هذا، فهذه السنة كانت موجودة في الجاهلية؛ وهي ضمان الدم بالمال، وكانت الإبل أعز شيء وأنفس شيء عند العرب، وجاء الإسلام فجعلها رأساً في الدية، ولذلك لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب عمرو بن حزم لأهل اليمن جعل الإبل أساساً وابتدأ بها، وجاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إن في القتيل الخطأ -شبه العمد قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل) فنص عليها عليه الصلاة والسلام، وهي كما ذكرت أعز ما كان يملكه العرب، فضمن بهذا الضمان؛ لأن الإبل محل إجماع، وكل العلماء متفقون بحمد الله على هذه السنة، ونص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون رضي الله عنهم كلهم، والصحابة رضي الله عنهم على أن دية المسلم الحر الذكر هي المائة من الإبل.

ويشترط في هذه المائة من الإبل: أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجوز أن يكون فيها معيب، وتؤخذ هذه المائة من الإبل من العاقلة إذا كان القتل خطأ، مثلاً شخص عنده سيارة فارتطم بأحدهم حتى قتله، فيطالب قرابته بهذه الدية، وتقدم معنا أنها تكون مقسطة ويطالب بها العاقلة، وهذا من دية الخطأ، فإذا طالب بها أحدهم فإنه يخرج وسط ماله، مثلاً عنده عشرة من أولاد العم، وعدد أولاده عشرة أو أكثر، فإذا تعين مثلاً على واحد منهم أن يدفع بعيراً ننظر إلى وسط ماله، فنقول: أخرج بعيراً من وسط مالك، ولا يطالب بالأنفس والكريم والجيد، ولا يجوز أن يخرج السقيم والعليل، وإنما يتوسط ويؤخذ من أوسط ماله، وهي واجبة على العاقلة، وسيأتي تفصيل العاقلة.

هذه المائة من الإبل يشترط سلامتها من العيوب كما ذكرنا، وهي أصل عند بعض العلماء -الأصل في الدية الإبل- ومنهم من قال: إن الأصول هي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فجعل الأصول خمسة في الديات، فالإبل هي الأساس، وكذلك الذهب والفضة والبقر والغنم، فيخير أن يخرج أي واحد من هذه، يعني: ليس بملزم أن يخرج إبله، فلو جاء بمائتين من البقر أجزأه، أو جاء بألفي شاة أجزأه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- قالوا: هذه كلها أصول الديات، أيها أحضر أجزأه.

قال رحمه الله: [أو ألف مثقال ذهباً].

مثقال يعني: دينار من الذهب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم فقال: (ومن الورق ألف مثقال) وفي حديث السنن أن رجلاً من بني عدي عدا على رجل فقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بديته ألف دينار، فهذا يدل على أن الدية تكون من الذهب ألف دينار، وهذا طبعاً على الدينار الذي كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الدينار الذي ضرب على عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله: وهو ما يسمى بالدينار الإسلامي، واستشكل العلماء تقدير الذهب في الديات عندنا مع تقدير الذهب في الزكاة والجزية.

وأجيب عن ذلك بأنه لا تعارض بين الاثنين، وهذا راجع إلى صرف الذهب، فإن عدل الذهب في الزكاة كل عشرين مثقالاً تعادل مائتين من الدراهم، فمعنى ذلك أن المثقال والدينار كان يصرف بعشرة دراهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا ذكر المصنف رحمه الله أنها ألف مثقال.

قال: [أو اثنا عشر ألف درهم فضة].

هنا الإشكال (اثنا عشر ألف درهم من الفضة) قالوا: إذا كان ألف دينار، فالمفروض أن يقابله عشرة آلاف درهم؛ لأننا قلنا: إن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وتقدم معنا في الزكاة؛ لأنه قال: عشرين مثقالاً أو مائتي درهم من الورق خمس أواق، وهي تعادل مائتي درهم، فاستشكل العلماء هذا في الألف دينار، وأجيب: أن هذا يختلف باختلاف الصرف، وقالوا: إن تقدير الدنانير في صرفها تختلف، ولذلك اختلف الحكم في الزكاة عن الحكم في الديات، وفي الحقيقة هذه المسألة لا زلت أبحثها، وقد سبق أن نبهت في الزكاة على أن فيها إشكالاً وكلاماً طويلاً للعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين في ضبط الدينار القديم وبعده الدينار الإسلامي البغلي، ثم الدرهم الإسلامي في عهد عبد الملك، واختلاف تقديرها بالعملات الموجودة الآن، ولا زلت أبحث عن المسألة إن فتح الله عز وجل وتبين فيها وجه الصواب يستطيع الإنسان أن يجزم.

لكن مما ذكره بعض الأئمة والمحررين في رفع هذا الإشكال قد أشار إليه بعض الأئمة كالإمام ابن قدامة رحمه الله وبعض أئمة المالكية، وبعض أئمة الحنفية أيضاً أشاروا إلى أن الصرف اختلف، وقد بين عمر رضي الله عنه ذلك في خطبته في الديات وقال: (ألا إن الإبل قد غلت) وهذا يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى تأثير السوق، وعلى كل حال جعل العدل اثني عشر ألفاً، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضمن الرقبة باثني عشر ألف درهم، وهذا عند العلماء رحمهم الله يعتبر أصلاً في الورق الذي هو من الفضة أنها تكون اثني عشر ألفاً، سواء كانت عدلاً للذهب؛ لأن الصرف كل دينار باثني عشر درهماً، أو كانت غير الصرف، فإذا لم تكن صرفاً له صار أصلاً، ومن هنا نفهم أن الفضة ليست عوضاً عن الذهب، يعني: ليست مقابلاً من باب صرف الذهب، فإذا كانت أصلاً فلا إشكال، وأما إذا كانت بدلاً حينئذٍ يرد الإشكال، إلا أن الذين يقولون: إنها بدل وإنها من الأصول لكن فيها معنى البدلية يعتذرون باختلاف الصرف، وهذا وارد: أن صرف الناس بالسوق يختلف من زمان إلى آخر.

قال: [أو مائتا بقرة].

يدفع مائتين من البقر، فيخير؛ إن شاء دفع مائة من الإبل، أو مائتين من البقر، وهذا يدل على التفاوت بين الإبل والبقر، وجاء في الشرع ما يدل على أن الإبل والبقر بمنزلة واحدة، وكلا الأمرين جاء شرعاً، ففي الشرع في حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينحرون الإبل عن سبعة) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بالبقر عن نسائه، واتفق القول على أن البقر عن سبع كما أن الإبل عن سبع، وهذا يقتضي المساواة، لكن جاءت السنة بالتفاوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى في يوم الجمعة كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية كان كمن قرب بقرة) فجعل البقرة دون الناقة، وجعل البقر دون الإبل، فتارة يستويان وتارة يختلفان، ومن هنا انعقدت الكلمة على أنه لو ضحى بالبقر عن سبع أجزأه، ولو ضحى بالإبل عن سبع أجزأه، وفي الدماء الواجبة كذلك، فإن البقرة يجزي عنها الإبل، فهذا يقتضي المساواة، وهنا فرق بينهما.

وفي الحقيقة التفريق هنا وارد، وقد جاء في خطبة عمر رضي الله عنه في جعل العدل من البقر مائتين، ولم يخالفه فيه رضي الله عنه أحد من الصحابة، ولذلك يعتبر شبه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إجماع سكوتي من الصحابة رضوان الله عليهم.

أيضاً: في البقر يشترط أن تكون سالمة من العيوب، فلا يجزئ أن يخرج من البقر المعيب، ثم لا يشترط أن يخرج نوع البقر الموجود في بلده، يعني: في الإبل يجوز أن يخرجها عراباً أو يخرجها بختية، ولا يشترط أن تكون من غالب إبل القوم الموجودة، فنقول لكل واحد من العاقلة: ادفع تيسر لك على حسب ما هو واجب عليك، سواء كانت عراباً أو بختية، وهكذا بالنسبة للبقر جيدها ورديؤها من جهة النوع.

وأما من جهة المعيبة فإنها لا تجزئ لا في الإبل ولا في البقر كما قدمنا.

قال: [أو ألفا شاة].

وهذا عدل البقر والغنم، ومثلما ذكرنا أن الزكاة والأضاحي تختلف عن الديات، ومن هنا فرق بينهم، وقوي القول الذي قال: إن الألف دينار لا يقال: عدلها عشرة آلاف درهم، بل تفاوتت وزادت في الفضة، وهكذا هنا لا مانع أن تزيد البقر وأن تزيد الغنم، ولذلك في الأصل السبعة من الغنم تعادل البعير -كما في الأضاحي- ولكن هنا العشرة من الغنم تعادل البقرة الواحدة، ولذلك يصبح الواجب عليه ألفي شاة.

قال رحمه الله: [ هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله ].

كل واحد من هذه أصل، يستفاد منه: أنه لو أخرج أي واحد من هذه الخمس وجاء به فإنه يلزم الولي بقبوله، وعلى هذا لا يقول الولي: لابد أن تحضر لي الدية من الإبل، ولا يقول: لابد وأن تحضر لي الدية من النقود؛ أريد ذهباً، أريد فضة، لأن المراد ضمان حقه، وضمان حقه كما يحصل بالذهب يحصل بالفضة، وكما يحصل بالفضة يحصل بالإبل والبقر والغنم، ومن هنا لا يتعين واحد من هذه.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3185 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع