من سورة النحل [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

مر معنا المثل الوارد ذكره في الآية الخامسة والسبعين من سورة النحل، قول ربنا تبارك وتعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75]، وعرفنا بأن هذا المثل ضربه الله عز وجل للأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله، وهي لا تقدر على شيء، وقوله سبحانه: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً[النحل:75] يعني به ذاته المقدسة، حيث أن يده سحاء بالليل والنهار لا يغيضها عطاء.

وفي الآية السادسة والسبعين، يقول الله عز وجل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، في هذه الآية يضرب الله جل جلاله مثلاً للمؤمن والكافر، أما الكافر فمثله مثل عبد مملوك، هذا العبد المملوك صفاته، كما قال ربنا:

أولها: أبكم، والأبكم هو الذي لا يتكلم، ويلزم من ذلك أنه لا يسمع؛ لما بين البكم والصمم من الملازمة، فالأبكم هو أصم، هذه صفته الأولى بأنه أبكم.

ثانيها: لا يقدر على شيء، ويلزم من ذلك أنه أيضاً أعمى.

ثالثها: وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ[النحل:76]، (كَلُّ) بمعنى أنه عبء ثقيل، عالة، لا قيمة له.

رابعها: أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ[النحل:76]، أي: حيثما وجه فإنه لا يأتي بخير قط، هذا مثل للكافر، والكفار كما وصفهم الله عز وجل: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، هذا هو حال الكافر.

وأما المؤمن الطيب فيصفه الله عز وجل بوصفين عظيمين:

الوصف الأول: أنه يأمر بالعدل، وفق ما أمر الله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ[النحل:90]، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ[النساء:58].

الوصف الثاني: وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]، قد لزم دين الله القويم، وصراطه المستقيم من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة، كما قال ربنا جل جلاله: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ[الشورى:15]، هذا هو حال عبد الله المؤمن مع ذلك الكافر الأصم الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير.

ثم في الآية الحادية والتسعين والثانية والتسعين من السورة نفسها، بعدما قال ربنا جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، وهذه الآية جامعة لخير يؤمر به ولشر يجتنب.

يقول الله عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:92]، يقول الله عز وجل: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ[النحل:94]، هذه الآية جاءت بعد قوله سبحانه: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ[النحل:91]، وعهد الله يشمل الإيمان به سبحانه، والالتزام بشرعه ودينه وتعظيم نبيه صلى الله عليه وسلم.

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ[النحل:91]، جمع يمين، وهو الحلف، بَعْدَ تَوْكِيدِهَا[النحل:91]، أي: بعد توثيقها، وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً[النحل:91]، أي: ضامناً وشهيداً، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:91].

أي: يا مسلمون! أوفوا بعهد الله، ويدخل في ذلك ما كان بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من المبايعات، حيث بايعوه على ألا يعصوه في معروف صلوات ربي وسلامه عليه.

ثم يقول سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً[النحل:92]، قالوا: كانت امرأة من بني تيم بن مرة بن كعب يقال لها: ريطة بنت عمرو ، هذه المرأة كانت تسمى بالحمقاء، كان في عقلها شيء، وكانت ذات مال، وعندها جوار وخدم، وعندها مغزل، وقد وصفوا هذا المغزل وحددوا طوله وعرضه، كانت تجلس مع جواريها منذ أن تطلع الشمس إلى أن تزول وهي تغزل، حتى يغزلن غزلاً كثيراً، ثم بعد زوال الشمس تأمرهن بأن ينقضن هذا الغزل ويبعثرنه، فالله عز وجل ضرب المثل للإنسان الذي يعاهد الله عز وجل ثم ينقض العهد وينكث بتلك المرأة الحمقاء، ولا تكونوا كـريطة بنت عمرو تلك التي تنقض الغزل بعد إحكامه، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً[النحل:92] أشتاتاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ[النحل:92]، الدخل: الخديعة، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً[النحل:92]، أي: خديعة، كحال المنافقين الذين قال الله عنهم: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:2].

فالله عز وجل يقول: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ[النحل:92]، يقول المفسرون: أوشك بعض الناس أن يرتد لما رأى قوة قريش وعنفوانها وبطشها بالمؤمنين، وفي الوقت نفسه رأى ضعف المؤمنين وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، فالله عز وجل قال لهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ[النحل:92] وهي قريش، أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ[النحل:92]، يعني: أكثر عدداً من أمة المسلمين.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.