من سورة النور [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

في الآية التاسعة والثلاثين من سورة النور يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

كان المشركون إذا سمعوا في آيات القرآن ما أعد الله عز وجل للمؤمنين الطيبين في جنات النعيم من جزاء على أعمالهم الصالحات، يمنون أنفسهم فيقولون: ونحن نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحجيج، ونطعم المسكين ونقري الضيف ونفعل الخير، وقد رد الله عليهم في سورة التوبة فقال: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:19-22]، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

هنا في هذه الآية في سورة النور يبين ربنا جل جلاله أن الكفار لا ينتفعون بشيء من أعمالهم التي حسبوها صالحة حين قدموها في الدنيا، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ[النور:39]، والسراب هو ذلك الشعاع الأبيض الناتج من رطوبة في الجو، يعلو على سطح الأرض فيخيل للناظر إليه من بعيد أنه ماء وليس بماء، ثم قال: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ[النور:39] أي: العطشان، مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً[النور:39] أي: لم يجد ماء، بل لم يجد شيئاً، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

يقول العلامة الطاهر ابن عاشور : وهذا التمثيل أو هذا التشبيه يمكن تفصيله إلى أجزاء، فأعمال الكفار كالسراب من حيث كونها تحسب ماء وليست بماء، والكافر كالظمآن من حيث حاجته إلى عمله يوم القيامة كحاجة الظمآن إلى الماء في الدنيا.

ثم إن فجأة الكافر بذهاب عمله وكونه هباء منثوراً يوم القيامة كفجأة الظمآن حين يصل إلى المكان الذي حسبه ماء فلم يجد شيئاً.

ثم بعد ذلك فإن أخذ الله عز وجل للكافر أخذ عزيز مقتدر، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ[النور:39]، وهذه الآية كقوله في سورة إبراهيم: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ[إبراهيم:18]، وكقوله في سورة الفرقان: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: وقد دلت آيات القرآن على أن الله يجزي الكافر بعمله في الدنيا؛ لأن الله لا يظلم، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[النساء:40]، وهو الذي قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8]، فالكافر يوم القيامة ليس له إلا النار، لكن الله عز وجل يجزيه في الدنيا بما قدم من عمل، ويدل على ذلك قوله سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، وكقول الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وكقول الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:18].

ثم إنه في الآية التي بعدها يضرب الله مثلاً آخر لأعمال الكفار، فيقول: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، يشبه الله عز وجل أعمال الكفار الفجار بالظلمات.

قال أهل التفسير: الظلمات أعمال الكافر، والبحر اللجي قلبه، ولجي نسبة إلى اللجة، وهي البحر المتكاثر المتعاظم، فالظلمات أعمال الكافر، والبحر اللجي قلبه، والموج الذي من فوقه هو الموج الذي يعتري قلبه -والعياذ بالله- من الجهل والحيرة والشك، وأما السحاب فما جعل الله على قلبه من الختم والطبع والرين، كما في الآية: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[البقرة:7]، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:155].

قال الله عز وجل: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ[النور:40]، ويؤيد هذا قول أبي بن كعب رضي الله عنه: بأن الكافر في خمس ظلمات، قوله ظلمة وفعله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى النار في ظلمة، كما قال ربنا: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97].

نسأل الله أن يعيذنا من الكفر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.