أرشيف المقالات

نار لا تخبو

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
نار لا تخبو
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فما من إنسان عاقل يتمنَّى أن يشعل نارًا، فضلًا أن يشعلها، فكيف إذا كانت هذه النار لا تخبو؟! فما هو الحال إذا كانت هذه النار في قلبه؟! وهذا ما يفعله الإنسان الحاقد، أنه يُشعل نارًا في قلبه لا تخبو، قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: لكل حريق مُطفئ: للنار الماء، وللسم الدواء، وللحزن الصبر، وللعشق الفرقة، ونار الحقد لا تخبو.


وهذه النار تحرق الحاقد قبل أن تحرق غيره، ولكنه لا يشعر بذلك.

والحقد دوام بغض المحقود عليه واستثقاله، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: ومعنى الحقد...أن يلزم قلبه استثقاله، والبغضة له، والنفار عنه، وأن يدوم ذلك ويبقى.

والحقد بطيء الزوال، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الحقد بطيء الزوال.

والحقد والحسد من أشر الخصال، قال عبدالملك للحجاج: إنه ليس أحد إلا وهو يعرف عيبه، فعِبْ نفسَك، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، فأبى عليه، فقال: أنا لجوج حقود حسود، فقال: ما في الشيطان أشرُّ مما ذكرتَ.
 
للحقد أسباب متعددة، فمنها: الغضب، يقول الإمام الغزالي رحمه الله:اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال، رجع إلى الباطن، واحتقن فيه فصار حقدًا....فالحقد ثمرة الغضب.

ومنها: الشيطان الذي يزين للإنسان الحقد، يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الشيطان هو الذي يوقد نار العداوة والشحناء بين المؤمنين؛ لأنه يحزن أن يرى المسلمين متآلفين متحابِّين، ويفرح إذا رآهم متفرقين، والعداوة والشحناء بينهم.

ومنها: مرض في القلب، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والحقد يجيء مع ضيق القلب واستيلاء ظلمة النفس.


والحقد يثمر أمورًا كثيرة، قال الإمام الغزالي رحمه الله: الحقد يثمر ثمانية أمور:
الأول: الحسد، وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنَّى زوال النعمة عنه، فتغتم بنعمة إن أصابها، وتسر بمصيبة إن نزلت به.
الثاني: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء.

الثالث: أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه، وإن طلبك وأقبل عليك.

الرابع: وهو أن تعرض عنه استصغارًا له.

الخامس: أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر، وهتك ستر، وغيره.

السادس: أن تحاكيه استهزاء به، وسخرية منه.

السابع: إيذاؤه بالضرب، وما يؤلم بدنه.

الثامن: أن تمنعه حقه من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك حرام.

وهذه الأمور فضلًا على أنها أمور محرمة تنكد على الحاقد قبل المحقود عليه حياته.
فمن رام أن يعيش في راحة وسعادة وطمأنينة وانشراح صدر وسرور قلب، فليجاهد نفسه لإزالة ما في قلبه من أحقاد، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: عليك أن تجاهد نفسك ولو أهنتها في الظاهر، فإنك تعزها في الحقيقة؛ لأن من تواضع لله رفعه، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا.
وجرب تجد أنت إذا عفوت، وأصلحت ما بينك وبين إخوانك، تجد أنك تعيش في راحة وطمأنينة وانشراح صدر وسرور قلب، لكن إذا كان في قلبك حقد عليهم أو عداوة فإنك تجد نفسك في غاية ما تكون من الغم والهم.

الإنسان لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون حاقدًا، أو محقودًا عليه، أو سالمًا.

فمن كان سالمًا فهو ليس بحاقد، ولا محقود عليه، فليحمد الله وليشكره، وليسأله المزيد من فضله.

وأما المحقود عليه فإنه عند قدرته على استيفاء حقه ممن حقد عليه، له أحوال ثلاثة، ذكرها الإمام الغزالي رحمه الله، فقال: أحوال المحقود عليه عند القدرة:
الأول: أن يستوفي حقه الذي يستحقه، من غير زيادة، أو نقصان، وهو العدل.

الثاني: أن يحسن إليه بالعفو، والصلة، وذلك هو الفضل.

الثالث: أن يظلمه بما لا يستحقه، وذلك هو الجور، وهو اختيار الأراذل، والثاني هو اختيار الصديقين، والأول هو منتهى درجات الصالحين.

فكن من أصحاب الحال الثانية، فإن لم يكن فكن من أصحاب الحال الأولى، وإياك ثم إياك أن تكون من أصحاب الحال الثالثة فتكون ظالمًا بعدما كنت مظلومًا.

وأما الحاقد فجاهد نفسك على أن تكثر من التضرع والدعاء إلى الله أن يجعل قلبك سليمًا ليس فيه غلّ ولا حقد ولا شحناء أو بغضاء على أحد من المسلمين، فقد وصف الله عز وجل مَنْ بَعْدَ الصحابة بأنهم يدعون أن يزيل ما في قلوبهم من حقد على إخوانهم المسلمين؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أفضل الأعمال: سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها.


واعلم أن الحقد ينقص من إيمانك، فمن شعب الإيمان التي ذكرها أهل العلم: ترك الحقد وكفّ الأذى عن الناس، وأنت واقع فيهما بقلبك أو لسانك أو يدك، أو بها جميعًا، وهذه ليست خصال المسلم، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده))؛ [أخرجه البخاري] وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا))؛ [متفق عليه].


واعلم أن الحقد يشوش عليك فكرك، وينكد عليك حياتك، ويضيع عليك وقتك، ويجلب لك الهموم والغموم والأحزان، فأقل الناس راحة الحقود.

واعلم بأن أهل الجنة هم أصحاب القلوب السليمة من الحقد، ففي المسند عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ثلاثة أيام: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فيطلع رجل واحد، فاستضافه عبدالله بن عمرو، فنام عنده ثلاثًا لينظر عمله، فلم يرَ له في بيته كثيرَ عملٍ، فأخبره بالحال، فقال له: هو ما ترى، إلا أني أبيتُ وليس في قلبي شيء على أحدٍ من المسلمين، فقال عبدالله: بهذا بلغ ما بلغ.

واعلم أن أفضل الناس سليم القلب من الحقد؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ الناس أفضلُ؟ قال: ((كل مَخْمُوم القلب، صدُوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، الذي لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غلّ، ولا حسد))؛ [أخرجه ابن ماجه، وصححه العلامة الألباني].

واعلم أن سليم القلب يجعل الله عز وجل له محبة في قلوب الناس، يقول فضيلة الشيخ عبدالعزيز السدحان في كتابه "الإمام ابن باز" وقد سألته ذات مرة في سيارته، وقلت له ما معناه: يا شيخ عبدالعزيز، ما أعلم أحدًا إلا يُحبك صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، وهذا أمر شبهُ متفق عليه، فما السّر يا شيخ في ذلك؟ فحاول الشيخ رحمه الله أن يتعذر من الجواب، فكررتُ السؤال مرةً أو مرتين، فقال ما معناه: "ما أعلم في قلبي غلًّا على أحد من المسلمين، ولم أعلم بين اثنين شحناء إلا سارعتُ بالصلح بينهما".


واعلم أن الفرح والسرور حتى في أوقات البلاء، تكون لسليم القلب، فعن زيد بن أسلم رحمه الله، قال: دُخل على أبي دُجانة رضي الله عنه وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنتُ لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا.


وختامًا فليتذكر من بينه وبين أخيه بغضاء وشحناء هذا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تُفتحُ أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنْظِرُوا هذين حتى يَصْطَلِحا، أَنْظِرُوا هذين حتى يَصْطَلِحا، أَنْظِرُوا هذين حتى يَصْطَلِحا)).


اللهم طهِّر قلوب المسلمين من الشحناء والبغضاء، والغل والحقد، واجعلهم إخوة متحابِّين، يرحم بعضهم بعضًا، ويعذر بعضهم بعضًا.

 

شارك الخبر

المرئيات-١