خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الوصية بالأنصباء والأجزاء
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [باب الوصية بالأنصباء والأجزاء].
الأنصباء: جمع نصيب، ونصيب الإنسان حظه المقدّر، والمراد هنا: ما قدره الله تبارك وتعالى للوارثين، فقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإعطاء الوارثين حقوقهم، فأعطى الله جل جلاله كل ذي حق حقه من التركة، وجعل هذا الإعطاء مقدراً بمقادير معيّنة، أو يكون تعصيباً ينال الإنسان به ما فضل عن أصحاب المواريث، كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب الفرائض.
فالمراد هنا بقوله: (بالأنصباء): نصيب الوارث، وقوله: (الأجزاء): جمع جزء، وجزء الشيء بعضه، سواء كان أكثر البعض، أو نصفه، أو أقل من ذلك.
وقوله رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء)، هذا الباب يذكر فيه الموصِي أنه قد أعطى من أُوصِي له قدراً معيناً أو مبهماً يمثِّله بنصيبٍ لوارث؛ كأن يقول: أعطوا خال أولادي مثل أُخته، فأخته زوجة، ولها نصيب في كتاب الله عز وجل حيث ترث الثمن إذا كان هناك أولاد، فلما قال: أعطوه مثل نصيبها، فمعناه أنه يريد أن يعطيه الثمن.
وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلاناً أقل نصيبٍ لوارث، فحينئذٍ لا يُحدِّد، وإنما يبيّن أن له الأقل، فننظر فربما كان الأقل أثناء كتابته للوصية شيئاً، ثم يختلف بعد موته فيكون شيئاً آخر.
وفي بعض الأحيان يقول: أعطوا فلاناً من تركتي جزءاً أو سهماً أو حظاً أو شيئاً، فيبهم، ففي هذه الأحوال -أي: كلها- درس العلماء رحمهم الله هذا النوع من الوصايا، وعند التأمل والنظر نجد أن هذا النوع من الوصايا يرجع إلى كتاب الفرائض.
والمسائل فيه مسائل حِسابية، ولكن المصنف رحمه الله والعلماء يفردونه بباب مستقل عناية به، وقد تقدم بيان السبب في هذا، وهو أن أهل العلم رحمهم الله ربما يقتطعون من الباب العام أو الكتاب العام مسائل تُذكَر في مواضع خاصة مفرقة على حسب مناسبات كتبها وأبوابها.
فقد تقدم معنا أن كتاب القضاء ينتضمن أحكام الشهادات والبيِّنات، فربما ذكر العلماء رحمهم الله مسائل من القضاء في كتاب البيوع، ويذكرون مسائل البيوع المتصلة بالقضاء؛ لأنهم يرونها في هذا الباب ألطف.
وعلى كل حال: هذا بابٌ مهم، ولذلك يقول عنه الإمام النووي رحمه الله في الروضة: ( هذا فن طويل، ولذلك جعله العلماء علماً برأسه، وأفردوه بالتدريس والتصنيف).
قوله: (هذا فن طويل جعله العلماء علماً برأسه) يعني: من عناية أهل العلم به أنهم جعلوه رأساً، وإلا فالمفروض أن يكون مندرجاً تحت الفرائض؛ لكنهم جعلوه رأساً مستقلاً، وأفردوه بالتصنيف والتدريس، فصنفوا فيه، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء)، فأفرده ببيانه وتدريسه.
وهذا الباب مسائله كثيرة جداً، وهو من أمتع الأبواب في دراسة مسائله الحسابية، لكن بعد إتقان الفرائض، ولا يستطيع الإنسان أن يضبطه ضبطاً تاماً إلا بعد إتقانه للفرائض، مع الإلمام بأصول الأحكام المتعلقة به.
يقول رحمه الله: (باب الوصية بالأنصباء والأجزاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالوصايا التي يُذكر فيها النصيب، أو يذكر فيها الجزء، ويتبع هذا ذكر الوصايا بالسهم وبالشيء المجهول .
وإذا وَصَّى الإنسان فإما أن يذكر قدراً معيناً من التركة بالنسبة، كقوله: أعطوا فلاناً نصف مالي، أو أعطوا فلاناً بعد موتي ثلث مالي، فإذا حدد بالنسبة ففي هذه الحالة تنقسم المسألة إلى ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يعطيه الثلث.
الصورة الثانية: أن يعطيه أكثر من الثلث.
الصورة الثالثة: أن يعطيه أقل من الثلث.
فإذا أعطاه الثلث فأقل فبالإجماع أنه تنفذ وصيته على التفصيل الذي قدمناه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير)، فأعطى المريض مرض الموت أن يتصرف في ثلث ماله فيعطيه من شاء.
إذاً: النص يدل على أن من حقك أن توصي بثلث مالك وصية شرعية معتبرة، وكذلك دل النص على أن ما دون الثلث يجوز للإنسان أن يوصي به.
الصورة الثالثة: أن تكون وصيته أكثر من الثلث، فقد ذكرنا أنها لا تجوز، وأنه ليس من حق الميت أن يُوصِي بأكثر من الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع سعداً من ذلك.
وبيّنا إجماع العلماء رحمهم الله على هذا، وقد اختلف العلماء إذا أوصى بأكثر من الثلث فأجاز الورثة ورضوا: هل هي عطية مبتدئة أو عطية تنفيذية؟ ثم ذكرنا خلاف العلماء والثمرة المتعلقة بهذا الخلاف.
إذاً: مسألة أن يُحدد نسبة معينة من المال كله لا إشكال فيها.
الحالة الثانية: أن يذكر نصيباً أو جزءاً أو حظاً، فإذا أعطى مثل نصيب الوارث فقال: أَعطوا خال أولادي مثل محمد، أو أعطوا خال أولادي مثل أخته، فإذا حدَّد نصيب الموصَى إليه بنصيب وارث لم يخل الورثة من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون نصيب الورثة مستوياً، فيأخذ كلٌ منهم مثلما يأخذ الآخر، مثاله: لو تُوفي رجل عن ابنين ليس له غيرهما، فحينئذٍ المال يُقسم بينهما بالسوية، فإذا قال: أعطوا فلاناً -عم أولادي، أو خال أولادي- مثل نصيب أحدهم؛ فحينئذٍ لا إشكال أن المال يُقسَم بين الجميع على حد سواء، وكأنه ابن ذكر دخل بينهم.
الحالة الثانية: أن يكون النصيب مختلفاً، فيقول: أعطوا خال أبنائي مثلما تأخذه أخته، فحينئذٍ الذي تأخذه الزوجة هو الثمن، ولو توفي وترك زوجة وثلاثة أولاد أبناء ذكور، ففي هذه الحالة تجعل المسألة من ثمانية، فتعطى الزوجة الثمن، ويعطى كل واحد من الأبناء ثمنين، فتصبح المسألة من سبعة، ثم يدخل هذا الخال معهم فتصبح المسألة من ثمانية.
فإذا اختلفت الأنصبة بين الورثة فإننا في هذه الحالة ننظر إلى الشخص الذي عيّنه، ونضيف سهم الشخص الذي أدخله من غير الوارثين في الوارثين بذلك السهم، مضافاً إلى أصل المسألة، كما سيأتي -إن شاء الله- بيانه وشرحه.
إذاً: اتفقت أنصبة الورثة، فيكون كواحدٍ منهم، وإذا اختلفت فتعطيه سهم من سَمّى من الورثة -كالزوجة ونحوها- وتدخله في المسألة حتى ولو عالت المسألة، وسيأتي -إن شاء الله- توضيح هذه الأمثلة.
وإذا أبهم وقال: أعطوا خال أولادي أو عمهم مثل نصيب وارث، ولم يحدد الأقل ولا الأكثر، والورثة مختلفون، فهل نعطيه نصيب الأكثر أو نعطيه نصيب الأقل؟
جمهرة أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة على أنه يُعطى مثل نصيب أقلِّهم؛ لأنه هو اليقين الذي يجب صرفه إليه، ولا يُعطى مثل نصيب الأكثر.
أما لو قال: أعطوه جزءاً من مالي، أو شيئاً من مالي، فحينئذٍ نقول للورثة: أعطوه أي شيء ترضاه أنفسكم، فأقل ما يصدُق عليه أنه مال إذا أعطوه إياه فقد نفذَت الوصية وتمت؛ لأنه قال: أعطوه شيئاً، والشيء يصدق على القليل والكثير، فكل ما طابت به أنفس الورثة فإنه هو المجزئ تنفيذاً لهذه الوصية.
وبقيت مسألة أخيرة وهي: إذا قال: أعطوا فلاناً سهماً من مالي، فبعض العلماء يقول: نعطيه أقل نصيب من الورثة، وهذا قول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من أهل العلم.
وبعض العلماء يقول: نعطيه سدس المال؛ لأن السهم في كتاب الله عز وجل -كما هو معلوم، وكما تقدم معنا في كتاب الجهاد وغيره- هو السدس، وهذا هو الذي يكون نصيباً له إذا عبّر الميت بالسهم.
وهذا القول أفتى به علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ، وقضى به إياس بن معاوية القاضي المشهور، واختاره جمع من الأئمة رحمهم الله.
هذا حاصل ما يذكر في الأنصبة والأجزاء، وسيفصل المؤلف رحمه الله في هذه المسائل في هذا الباب.
الوصية بمثل نصيب وارث معين
لو أوصى أن يُعطى مثل ابنه محمد، وله ثلاثة أبناء، فحينئذٍ في الأصل -قبل أن يدخل هذا الشخص- أن يُقسم المال على ثلاثة، فكل واحد من أبناء الذكور يأخذ ثلث المال، فإذا أدخل هذا الأجنبي ووصى له فإنه في هذه الحالة يقسم المال على أربعة، فيكون لكل واحد من هؤلاء الأبناء الربع، وله هو أيضاً الربع، فنصيبه مثل نصيب الوارث.
هذا هو معنى قوله: (فله مثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة).
ونبدأ المسألة بالتدريج، فإذا وصَّى لشخص بمثل نصيب وارثه، وليس له وارث إلا ابن ذكر واحد، ففي هذه الحالة يكون لهذا الوارث مثل نصيب الابن الذكر؛ فيُقسم المال بينهما مناصفة، فإذا قسمناه بينهما مناصفة فحينئذٍ سيكون حظه فوق الثلث، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصية فيما زاد عن الثلث، فتصح في الثلث، ونقول لهذا الوارث: هل تأذن له بما زاد أو لا تأذن؟ فإن أذن مضت الوصية، وكان له نصف المال، وإن لم يأذن لم يكن له إلا الثلث.
وأما إذا كان له ابنان، ففي هذه الحالة يكون المال مقسوماً بين الابنين، وكل منهما يأخذ النصف، فإذا دخل هذا الأجنبي الذي وصَّى له فسيكون المال منقسماً على ثلاثة، ولكل واحد منهم الثلث؛ لأن الابنين شرَّكا هذا الأجنبي بقوله: (مثل نصيب الوارث)، ففي هذه الحالة يكون له الثلث، وإذا كان له ثلث المال فهذا حظُّه ونصيبه الذي تجوز الوصية به.
وإذا كان له ثلاثة أبناء ذكور، ففي هذه الحالة يكون لكل ابن ثلث المال قبل دخول الأجنبي، فلما دخل هذا الأجنبي أصبح المال منقسماً على أربعة، فيكون للأجنبي ربع المال، وكل واحد من الأبناء يأخذ ربعاً، فتتم القسمة على أربعة، وعلى هذا تسير المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث].
قوله: (فله الثلث) بدأ بهذا، ولم يذكر إذا كان له ابن واحد؛ لأن المسألة فيها زيادة على الثلث؛ لأنه سيكون له النصف، فابتدأ رحمه الله بالثلث الذي هو أصل الاستحقاق، فإذا كان له ابنان ووصى له بمثل نصيب أحدهم، فإنه في هذه الحالة يكون له ثلث المال وللابنين الثلثان.
قال رحمه الله: [وإن كانوا ثلاثة فله الربع].
لأن المال منقسم على ثلاثة، وكل واحد سيأخذ الثلث، ثم لما دخل الأجنبي انقسم على أربعة؛ لأنه جعله كواحد منهم، فينقسم على أربعة، فيكون له ربع التركة.
قال رحمه الله: [وإن كان معهم بنت فله التسعان] أي: إن كان الثلاثة الأبناء الذكور معهم بنت وأجنبي، فالثلاثة الأبناء الذكور لما دخلت معهم البنت سيكون لكل واحد منهم اثنان وللبنت واحد، فتكون المسألة من سبعة، وفي هذه الحالة سيدخل هذا الأجنبي معهم كواحد من الذكور، فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له تُسعان، ولكل واحد من الذكور تسعان.
ففي هذه الحالة تجعل الأجنبي داخلاً بمثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة، فهم ثلاثة ذكور مع أختهم، والثلاثة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فتضربهم في اثنين فتصبح من ستة، والأنثى لها واحد، فتصبح المسألة من سبعة، فأصل المسألة من سبعة، فلكل ذكر سبعان، والأنثى لها سُبع واحد، فلما دخل الأجنبي أصبحت المسألة من تسعة، فبدلاً من أن يكون للذكر سُبعان سيكون له تسعان، ويكون للأجنبي التُسعان، هذا إذا قال: له مثل الذكر، أما لو قال: مثل بنتي؛ فيكون له ثمن المال.
الوصية بمثل نصيب أحد الورثة دون تحديد الوارث
إذا وصى له بمثل ما لوارثه ولم يبين، فلم يقل: أعطوه مثل ابني أو ابنتي، أو مثل فلان؛ فمن العلماء رحمهم الله من قال: يُعطى مثل أقلهم؛ لأن هذا هو اليقين، وهذا هو الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، وعليه الفتوى والعمل.
فإذا قال: أعطوه مثل ما للأنثى، وعنده وارث من الذكور يرث سهمين، ووارث من الإناث يرث سهماً واحداً، ففي هذه الحالة نُعطيه مثل ما للأنثى، وتكون المسألة التي قدمناها -في الثلاثة الذكور والأنثى- من ثمانية؛ فيكون للأنثى الثمن، وللثلاثة الذكور لكل واحد منهم ثمنان.
فإذا كانوا ثلاثة فلهم ستة والأنثى معهم السابعة، فتكون المسألة من سبعة، من حيث الأصل، فعندما قال: أعطوا فلاناً مثل ما لوارثي، ولم يبيِّن، فحينئذٍ نعدل به إلى الأنثى، وإذا عدلنا به إلى الأنثى فمعناه: أنه سيأخذ مثل الأنثى، وإذا أخذ مثل الأنثى فمعناه: أن له سهماً واحداً، فبدلاً من أن تكون المسألة من سبعة ستكون من ثمانية، فيكون لكل ذكر سهمان من ثمانية، وهما الثمنان، فتكون ستة أثمان للذكور، ويبقى الباقي -وهو الثمنان- منقسماً بين البنت وبين هذا الأجنبي، هذا إذا لم يُسَمِّ.
ولماذا قال العلماء بالأقل؟ هناك عند العلماء قاعدة تقول: (اليقين لا يُزال بالشك)، وهذه القاعدة تفرّعت عليها من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك اعتبرها الأئمة رحمهم الله من أمهات القواعد الفقهية الخمس المشهورة، فيقولون: إذا قال: أعطوه مثل ما لوارثي، فعندنا وارث ينال الأقل، ووارث ينال الأكثر، فإذا أعطيناه الأقل فلا نشك أنه ينال هذا الحظ الذي هو السهم، ولكن نشك في السهم الزائد، والأصل أنه ليس له حق في التركة؛ لأنه أجنبي، فنبقى على اليقين، ولا نعطيه ما زاد عن هذا النصيب الأقل حتى يَنُص صاحب المال على أنه يزاد له في حظه.
هذا هو السبب في أننا نعطيه الأقل؛ لأنه اليقين، وقد ثبت بيقين أنه يأخذ هذا السهم، وما زاد عنه باقٍ على الأصل، وهو أنه لا حظ له حتى يدل الدليل؛ لأنه لو أراد أن يعطيه أكثر لقال: أعطوه مثل فلان، فلما قال: أعطوه مثل ما لوارثي؛ أَلست إذا أعطيته مثل نصيب البنت تكون قد أعطيته نصيب وارث؟ بلى، فالبنت وارثة، فإذا كانت البنت ترث، ووصف الإرث متعلق بها؛ فإنك إذا أعطيته مثل نصيب الأقل فقد أعطيته نصيب الوارث، وهذا مذهب طائفة من العلماء كما ذكرنا، وهو الذي عليه العمل والفتوى؛ لصحة دلالة قواعد الشريعة عليه.
لكن في الحقيقة يبقى الإشكال: وهو أن أحد مشايخنا رحمة الله عليه أورد مسألة لطيفة وهي: إذا قال: أعطوه مثل نصيب وارثي، وكان أبناؤه كلهم ذكوراً، وزوجته حامل، فلما توفي وضعت أنثى، فالوارث في الأصل هم الذكور، فكان المفروض أنه يدخل معهم بنصيب أفضل، لكن وضعت الأم بنتاً وماتت الأم، فإن نصيب البنت سيكون الأقل، والواقع أننا نعطيه مثلما نعطي الإناث؛ لأنه بعد الموت -والوصية مضافة لما بعد الموت- يصدُق وصف الإرث على الأنثى كما يصدق على الذكر، ولذلك تسري نفس القاعدة الأولى، وهذه من بعض الإشكالات التي يورِدها بعض العلماء.
وهناك من يقول: يُعطى مثل الذكر؛ لأنه وإن لم يُسم الذكر فقد عُلِم من دلالة الحال أنه يريد الوارث الذكر، ولكن هذا لا يخلو من نظر؛ لمسائل نظيرة لهذه المسائل يفتي فيها حتى العلماء الذين يقولون بأنه يكون له مثل نصيب الوارث مع كونه أقل، وعلى هذا فإنه يأخذ نصيب الأقل بكل حال.
وقوله: [وإن وصَّى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين؛ كان له مثل ما لأقلهم نصيباً، فمع ابن وبنت ربع].
فالابن له سهمان، والبنت لها سهم واحد، ففي هذه الحالة تصبح المسألة من ثلاثة، فإذا أَعطيت الابن السهمين وأعطيت البنت سهماً، فقد أعطيت الذكر مثل حظ الأنثيين، فتصبح المسألة من ثلاثة.
وفي هذه الحالة إذا قال صاحب الورث: أعطوا محمداً مثل ما لوارثي، فإذا كان عنده ابن وبنت، فالابن له اثنان، والبنت لها واحد، فتصبح المسألة من أربعة، فالبنت لها سهم واحد، والأجنبي له سهم واحد؛ لأنه هو السهم الأقل، والابن الذكر له سهمان، فتصبح المسألة من أربعة، ويُقسم المال بينهما، لكلٍ من الأجنبي والبنت الربع، وللابن الذكر نصف المال الذي هو الربعان.
وقوله: [ومع زوجة وابن تسع].
لأن المسألة في الأصل من ثمانية، فالزوجة لها الثمن واحد، والابن له سبعة أثمان؛ لأن الابن عصبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر)، فالابن عصبة، ودائماً إذا اجتمع صاحب فرضٍ وصاحب تعصيب وليس هناك غيرهما، فصاحب الفرض يأخذ فرضه، وتصح المسألة من نفس المقام الذي للفرض، ثم تُعطِي الباقي للعصبة، فالزوجة تأخذ الثمن لوجود الابن، فيبقى سبعة أثمان تَصرِفها إلى الابن الذكر.
فلما قال: أعطوا مثلما لوارثي، فالزوجة وارثة، فنعطيه مثل الحظ الأقل وهو الثمن، فيكون له سهم واحد، فتعول المسألة، فبدلاً من أن كانت من ثمانية فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له التُّسع وللزوجة التُّسع، وسبعة أتساع للابن الذكر.
الوصية بسهم من المال
قوله: (وبسهم من ماله) كما لو قال: أعطوا فلاناً سهماً من مالي، فمن أهل العلم من قال: يُعطى أقل ما يصدُق عليه أنه مال؛ لأنه سهم، ومنهم من قال: يُعطى السدس، كما ذكرنا، وهو الذي أفتى به بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـعلي وابن مسعود رضي الله عنهما، وفيه حديث مرفوع -لكنه حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن وصى بالسهم بالسدس)، ولكن هذا الحديث ضعيف السند، والعمل على أنه يأخذ السدس؛ لأنه هو السهم في كتاب الله عز وجل، فيُعْطَى سدس المال.
الوصية بشيء أو جزء أو حظ من المال
إذا قال: وصيت لفلان بجزءٍ أو بشيءٍ من مالي، فننظر إلى أقل ما يصدُق عليه أنه مال -وهو الواجب- فيجب على الوارث أن يعطيه أقل ما يصدُق عليه أنه مال، فإذا أحب الورثة أن يزيدوا فهذا أمر يعود إليهم.
أما الذي يستحقه فهو أقل ما يصدُق عليه أنه مال؛ لأنك إذا أعطيته ولو ريالاً واحداً؛ فإنه شيء من المال، وإذا أعطيته ريالاً من التركة فإنه جزء من المال، وإذا أعطيته ريالاً من التركة فهو بعض من المال، ويصدُق عليه أنه بعض وأنه جزء، وعلى هذا فيعطيه الوارث ما شاء.
قال رحمه الله: [إذا أوصَى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة]
لو أوصى أن يُعطى مثل ابنه محمد، وله ثلاثة أبناء، فحينئذٍ في الأصل -قبل أن يدخل هذا الشخص- أن يُقسم المال على ثلاثة، فكل واحد من أبناء الذكور يأخذ ثلث المال، فإذا أدخل هذا الأجنبي ووصى له فإنه في هذه الحالة يقسم المال على أربعة، فيكون لكل واحد من هؤلاء الأبناء الربع، وله هو أيضاً الربع، فنصيبه مثل نصيب الوارث.
هذا هو معنى قوله: (فله مثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة).
ونبدأ المسألة بالتدريج، فإذا وصَّى لشخص بمثل نصيب وارثه، وليس له وارث إلا ابن ذكر واحد، ففي هذه الحالة يكون لهذا الوارث مثل نصيب الابن الذكر؛ فيُقسم المال بينهما مناصفة، فإذا قسمناه بينهما مناصفة فحينئذٍ سيكون حظه فوق الثلث، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصية فيما زاد عن الثلث، فتصح في الثلث، ونقول لهذا الوارث: هل تأذن له بما زاد أو لا تأذن؟ فإن أذن مضت الوصية، وكان له نصف المال، وإن لم يأذن لم يكن له إلا الثلث.
وأما إذا كان له ابنان، ففي هذه الحالة يكون المال مقسوماً بين الابنين، وكل منهما يأخذ النصف، فإذا دخل هذا الأجنبي الذي وصَّى له فسيكون المال منقسماً على ثلاثة، ولكل واحد منهم الثلث؛ لأن الابنين شرَّكا هذا الأجنبي بقوله: (مثل نصيب الوارث)، ففي هذه الحالة يكون له الثلث، وإذا كان له ثلث المال فهذا حظُّه ونصيبه الذي تجوز الوصية به.
وإذا كان له ثلاثة أبناء ذكور، ففي هذه الحالة يكون لكل ابن ثلث المال قبل دخول الأجنبي، فلما دخل هذا الأجنبي أصبح المال منقسماً على أربعة، فيكون للأجنبي ربع المال، وكل واحد من الأبناء يأخذ ربعاً، فتتم القسمة على أربعة، وعلى هذا تسير المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث].
قوله: (فله الثلث) بدأ بهذا، ولم يذكر إذا كان له ابن واحد؛ لأن المسألة فيها زيادة على الثلث؛ لأنه سيكون له النصف، فابتدأ رحمه الله بالثلث الذي هو أصل الاستحقاق، فإذا كان له ابنان ووصى له بمثل نصيب أحدهم، فإنه في هذه الحالة يكون له ثلث المال وللابنين الثلثان.
قال رحمه الله: [وإن كانوا ثلاثة فله الربع].
لأن المال منقسم على ثلاثة، وكل واحد سيأخذ الثلث، ثم لما دخل الأجنبي انقسم على أربعة؛ لأنه جعله كواحد منهم، فينقسم على أربعة، فيكون له ربع التركة.
قال رحمه الله: [وإن كان معهم بنت فله التسعان] أي: إن كان الثلاثة الأبناء الذكور معهم بنت وأجنبي، فالثلاثة الأبناء الذكور لما دخلت معهم البنت سيكون لكل واحد منهم اثنان وللبنت واحد، فتكون المسألة من سبعة، وفي هذه الحالة سيدخل هذا الأجنبي معهم كواحد من الذكور، فتصبح المسألة من تسعة، فيكون له تُسعان، ولكل واحد من الذكور تسعان.
ففي هذه الحالة تجعل الأجنبي داخلاً بمثل نصيب الوارث مضافاً إلى أصل المسألة، فهم ثلاثة ذكور مع أختهم، والثلاثة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فتضربهم في اثنين فتصبح من ستة، والأنثى لها واحد، فتصبح المسألة من سبعة، فأصل المسألة من سبعة، فلكل ذكر سبعان، والأنثى لها سُبع واحد، فلما دخل الأجنبي أصبحت المسألة من تسعة، فبدلاً من أن يكون للذكر سُبعان سيكون له تسعان، ويكون للأجنبي التُسعان، هذا إذا قال: له مثل الذكر، أما لو قال: مثل بنتي؛ فيكون له ثمن المال.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |