شرح زاد المستقنع باب الهبة والعطية [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يتم بها عقد الهبة.

فالهبة تارةً تنعقد بالقول وتارةً تنعقد بالفعل، وإذا وهب الإنسان شيئاً وقبله أخوه المسلم؛ فقد تم عقد الهبة.

فقال رحمه الله: [وتنعقد بالإيجاب والمعاطاة] الإيجاب هو قول الواهب: وهبتك سيارتي أو دابتي أو بيتي.

والقبول قول الموهوب له: قبلتُ، رضيتُ، ونحو ذلك من الألفاظ.

فإذا قال الواهب: وهبتك، وقلت أنتَ: قبلتُ، فقد تمت الهبة وتم عقدها.

وحينئذٍ صرح المصنف -رحمه الله- بأن هذه الصيغة القولية تقتضي ثبوت عقد الهبة.

وكما تنعقد الهبة بالأقوال تنعقد بالأفعال، فإذا جرى العرف بأن فعلاً معيناً يدل على الهبة؛ فإنه يُحكم بثبوتها بذلك الفعل.

ومن أمثلة ذلك: ما يقع في الهدايا والهبات في المناسبات، فقد جرى العرف أنه لو صارت للإنسان مناسبة من زواج أو غيره فجاء شخص بهدية وحملها معه ليلة زواجه ودفعها للشخص الذي له المناسبة دون أن يتكلم وأخذها الموهوب له دون أن يتكلم أيضاً، فإن هذا الفعل تنعقد به الهبة، ويحصل القبض على الصفة التي سنذكرها -إن شاء الله- وتكون الهبة والهدية ملكاً للموهوب والمُعطى.

إذاً: عندنا قول، وعندنا فعل.

قوله رحمه الله: (والمعاطاة) أي: تنعقد بالمعاطاة؛ وهذه هي الصيغة الفعلية، وقد بينا أن شيخ الإسلام -رحمه الله قرر في أكثر من موضع في مجموع الفتاوى وفي كتابه النفيس القواعد النورانية: أن الشريعة لا تلزمنا بألفاظ مخصوصة إلا فيما دل الشرع على التقيد فيه باللفظ المخصوص، ولا تلزمنا بصيغة القول إلا إذا دل الشرع على التقيد بالصيغة القولية، وأن الأصل أنه إذا جرى العرف بين المسلمين أن فعلاً ما يدل على شيء من العقود فإنه يُحكم بذلك الفعل.

فإذاً: مراده رحمه الله أننا لا نتقيد بالقول، فلو أن شخصاً جاء وأعطى ساعةً لأخيه المسلم في مناسبة، فقبضها الموهوب له دون أن يتكلم، ثم قال: أنا لم أقصد الهبة أو العطية، نقول: الدلائل والقرائن كلها دالة على الهبة والهدية، فتُلزم بها؛ لأنها قد قُبضت، ونُنَزِّل الأفعال منزلة الأقوال، ولا نقيد الحكم بالقول؛ لأن العرف في الإسلام مُحْتَكَمٌ إليه، وقد ذكرنا غير مرة أن من قواعد الشريعة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وأجمع العلماء على العمل بها قولهم: (العادة مُحَكَّمَة).

فإذاً: إذا جرى العرف بأن فعلاً ما يدل على الهبة أو الهدية، وأن فيه ما يدل على القبول والرضا، فإنه يُحْكَمُ بذلك ويُعْتَدُّ به.

قال المصنف رحمه الله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ].

قوله: [وتلزم بالقبض] عندنا عقد الهبة والهدية والعطية، وعندنا اللزوم.

الهبة والهدية من حيث الأصل تبرُّعٌ وإحسان، والإنسان إذا أعطى هديةً لأخيه المسلم أو وهبه شيئاً فإنه في حكم المحسن، والله تعالى يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]؛ لكن هذا الإحسان نلزمه به، وتصبح العين الموهوبة ملكاً للموهوب له بوصفٍِ شرعي أو بشرط أجمع العلماء رحمهم الله على اعتباره والعمل به، وأنه يصيِّر الهبة والهدية ملزِمة.

هذا الشرط هو القبض، فإذا خاطب إنسان غيره وقال: وهبتُك سيارتي أو هذه الساعة أو هذا القلم، فقال الآخر: قبلتُ أو رضيتُ، فقد تم عقد الهبة والهدية.

فلو أنه رجع عن هبته وقال: رجعتُ، أو طرأ عليه ظرف، فامتنع من إنفاذه، فإنه لا يُلزم به؛ لأن الشرط المعتبَر للإلزام حصول القبض، فإذا قُبض الشيء الموهوب لزم، والأصل في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما حضرته الوفاة قال لابنته عائشة رضي الله عنها: (يا بُنَيَّة! إني كنت قد وهبتك عشرين وسقاً جاداً من أرضي بالغابة -وهي شمالي المدينة، وكان له فيها مزارع- فلو أنك قبضتها لكانت ملكاً لكِ اليوم، أما وإنك لم تقبضيها فأنت اليوم وإخوتك فيها سواء).

هذا الخليفة الراشد سنته مُحْتَجٌّ بها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على العمل بما دل عليه هذا الأثر، من حيث أن القبض يصير الهبة لازمة، فهو قد وهبها وأعطاها عشرين وسقاً من التمر من مزرعته، ولكنها تأخرت في قبض هذه الهبة والعطية، فعندما حضرت أبا بكر الوفاة رجع عن هبته وأعطيته، فإذا حضرت الوفاة للشخص الواهب، ولم يتم قبض الهدية والهبة، فحينئذٍ يكون حكمها حكم التصرف بالتبرعات في مرض الموت، حكمها -كما سيأتينا ونبهنا غير مرة- أنها لا تصح إلا في حدود الثلث، فما زاد عن الثلث، فهذا يُرجع فيه إلى الورثة، إن أجازوه وأمضوه فلا إشكال، وإلَّا فلا.

إذاً: أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يحكم بلزوم هبته وعطيته لأم المؤمنين رضي الله عنها إلا بالقبض، ولذلك قال لها: (لو أنك قبضتيه -وفي رواية: حزتيه - لكان ملكاً لك اليوم، أما وإنك لم تفعلي ذلك، فأنت وإخوتك فيه اليوم سواء).

فدل هذا على أن القبض معمول به، وقد حكى الإمام ابن قدامة وابن أبي هبيرة في الإفصاح وغيرهم من الأئمة والفقهاء الإجماع على أن الهبة تلزم بالقبض.

وبين المصنف رحمه الله أن هناك مرحلتين:

المرحلة الأولى: مرحلة الصيغة والعقد، والمرحلة الثانية: مرحلة القبض.

فكل هبة صدرت من إنسان اشتملت على عقد وقبض حكمنا بلزومها.

أما ما قبل ذلك فلا نحكم بلزومها، أي: إذا وقع العقد ولم يحصل القبض كأن يقول شخص لآخر: وهبتك كذا، فيرد عليه: رضيت، ولم يقبضها، فإنه لا يُلْزَم الواهب بالهبة التي وعد بها أو تلفظ بها، ولو كانت حاضرة.

فطالما لم تمتد يد الموهوب له، لقبضه بإذن الواهب فإنه لا يُحكم بلزوم الهبة والهدية والعطية إلا بعد تحقق هذا الشرط.

إذاً: هناك عقد، وهناك قبض، وقد يجتمع الاثنان مع بعضهما، مثلما ذكرنا، كأن تأتي في مناسبة -زواج أو غيره- إلى أخيك ومعك الهدية أو الشيء الذي تريد أن تهبه، ولا تتكلم، فتعطيه إياها، فيجتمع الفعل في الدلالة على الصيغة، ويكون قبضُه لذلك الشيء الموهوب ملزم للواهب لهبته.

قبض الهبة صوره وأحكامه

وقوله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ]

القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء، والأصل عند العلماء رحمهم الله -وهي قاعدة نبهنا عليها في المعاملات- أن كل شيء اشترطه الشرع ولم يضع له قيوداً معينة وأطلقه؛ فإنه يُرجع فيه إلى عرف الناس.

فالقبض ليس في الكتاب والسنة تحديد لضوابطه وما يُحكم به، ولذلك يقول العلماء: يُرجع في القبض إلى العرف.

فكل ما سماه العرف قبضاً حكمنا بكونه قبضاً.

فمثلاً: في البيوت والعمائر والمساكن والعقارات، يتمثل القبض في إعطاء المفتاح، ويخلِّي بينه وبين العمارة أن يفتحها، فحينئذٍ لو لم يُمْكِنْه أن يقبض العمارة فهل يستطيع أن يقبضها بيده؟

لا يمكن، هذا مستحيل.

فنقول: القبض في البيوت والدور والمساكن والمزارع بالتخلية، وهذا نص عليه العلماء.

فإذا مكَّنه من مفاتيح المزرعة والدار والعقار، وقال له: وهبتك مزرعتي، وأعطاه المفاتيح وخلى بينه وبينها، فقد تم القبض.

والقبض -مثلاً- في السيارة في أعرافنا اليوم: أن يعطيه مفاتيحها ويخلي بينه وبين ركوبها، فإن ركبها وأدار محركها، فلا إشكال في أنه قد قبض.

والقبض في الطعام يكون قبضاً حقيقياً، فلو أنه وهبه صاعاً فليأخذ الصاع وليقبضه، إذ لا بد فيه من الحيازة، فإذا حازه حكمنا بثبوت القبض.

ويستوي في ذلك أن يقبض الموهوبُ بنفسه أو يقبضه وكيلُه نيابةً عنه، فيقول: يا محمد! اقبض عني السيارة، أو خذ السيارة من فلان، أو خذ هديتي التي أعطانيها فلان، فإذا قبض وكيله نُزِّل منزلة الأصيل؛ لأن القاعدة: أن الوكيل مُنَزَّل منزلة الأصيل.

يكون القبض في الأشياء العادية بإمساكها، فالقلم يأخذه ويمسكه ويضعه في جيبه أو حقيبته.

ففي هذه الأحوال كلها يختلف القبض بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة، وما جرى العرف باعتباره قبضاً.

ومن هنا نص العلماء -رحمهم الله- على أن القبض في المبيعات يختلف بحسب اختلافها، ويُحتكم إلى العرف في تحديد ضابط القبض، حتى يحكم القاضي والمفتي بثبوت الهبة والهدية إذا تحقق وجوده.

لكن الشرط في القبض أن يكون بإذن الواهب.

فالقبض له صورتان:

- الصورة الأولى: أن يأذن الواهب للموهوب له بالقبض، فيقول له: وهبتك سيارتي، خذ هذه المفاتيح. ويرمي مفاتيحها إليه.

- أو: خذ قلمي هذا، أو وهبتك قلمي، أو كتابي، ويعطيه إياه.

فإذا كان القبض بإذن من الواهب فالإجماع منعقد على أنه قبض معتبر.

لكن لو أن القبض بدون إذن الواهب، كرجل وهب سيارة، فقام الموهوب له وأخذ مفتاح السيارة بدون علم الواهب، وركبها وقادها، ثم رجع الواهب عن هبته، فإننا نقول: الهبة غير لازمة؛ لأنه لم يقع القبض المعتبر بإذن الواهب.

إذاً: يشترط في لزوم الهبة: القبض، وهذا القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة.

ويشترط أيضاً أن يكون بإذن الواهب، فلو قبض الموهوب له بدون إذن الواهب لم يكن قبضه مؤثراً.

قوله: [إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ]

في الحقيقة هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فبعض العلماء يقول: يشترط القبض بإذن الواهب ولو كان الشيء في يد المُتَّهِب.

مثال ذلك: جاءه وقال: أريد السيارة أذهب بها إلى مكان.

فقال له: خذها.

فذهب بالسيارة وقضى بها حاجته، فلما جاء يردها قال: وهبتُكها، وهي في يده، فهل يُستدام حكم القبض ويكون كأنه قبض مستأنف، فتكون السيارة له مِن كونه يقول له: خذها، وهبتُكها.

أو جاء بالقلم يكتب به، ثم جاء ليرده فقال له: وهبتُكَه. فأخذ القلم ووضعه، ولم يرده إلى صاحبه.

أو جاء وقال له: يا فلان! إني استعرت منك الكتاب وأريده مدةً أطول، فقال: هو هبة لك، فقال: قبلتُ؟

فهل يُشترط أن يرده ويقبضه مرة أخرى حتى يفرق بين اليدين: اليد الأولى واليد الثانية؛ لأن اليد الأولى: يد عارية، واليد الثانية: يد تمليك.

فالأولى: تكون له يدٌ على سبيل التمليك للمنفعة، وأما الثانية: فتمليك للعين والمنافع.

فبعض العلماء يقول: إنه يشترط أن يقع القبض حتى ولو كان في الشيء الذي تستدام فيه اليد، كما لو أعطاه داراً يسكنها شهراً، ثم في نهاية الشهر قال: وهبتُها لك، أو أعطاه سيارة ليحمل عليها متاعه، ثم قال: وهبتُها لك.

فإنه يُحكم بثبوت اليد الأولى، ويكون في حكم من أقبض وأنشأ القبض.

وبعض العلماء يقول: لا بد أن يردها، ثم بعد ذلك يعطيه إياها حتى يتحقق القبض المشترط.

ولا شك أن إحداث القبض ورد العين ثم حصول القبض على الصفة المعتبرة أسلم وأفضل وأبرأ خروجاً من الخلاف.

فائدة الخلاف:

لو أن رجلاً مكن شخصاً من عمارة ليسكنها شهراً ثم وهبه له، ثم توفي الواهب.

فإذا قلنا: يشترط أن تسترد ويَقْبِض الواهب عمارته ثم يُقْبِض الموهوب له بعد ذلك بإقباض جديد، فإن لم يحصل هذا الأمر واعترض الورثة فإن الهبة تلغى، وتكون في حدود الثلث، حكمها حكم الوصية إن كانت في مرض الموت ونحوه.

أما إذا لم نشترط ذلك الشرط، فإنه يملكها الموهوب له، ولا يؤثر طَرَيان الموت بعد ذلك.

قوله: [ووارث الواهب يقوم مقامه] أي: يقوم مقام الواهب في التمكين وحكم الهبة؛ لأن الورثة يأخذون حكم مورثهم، ولذلك جعل الله الاستحقاقات للوارث مكان مورثه.

وقوله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ]

القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء، والأصل عند العلماء رحمهم الله -وهي قاعدة نبهنا عليها في المعاملات- أن كل شيء اشترطه الشرع ولم يضع له قيوداً معينة وأطلقه؛ فإنه يُرجع فيه إلى عرف الناس.

فالقبض ليس في الكتاب والسنة تحديد لضوابطه وما يُحكم به، ولذلك يقول العلماء: يُرجع في القبض إلى العرف.

فكل ما سماه العرف قبضاً حكمنا بكونه قبضاً.

فمثلاً: في البيوت والعمائر والمساكن والعقارات، يتمثل القبض في إعطاء المفتاح، ويخلِّي بينه وبين العمارة أن يفتحها، فحينئذٍ لو لم يُمْكِنْه أن يقبض العمارة فهل يستطيع أن يقبضها بيده؟

لا يمكن، هذا مستحيل.

فنقول: القبض في البيوت والدور والمساكن والمزارع بالتخلية، وهذا نص عليه العلماء.

فإذا مكَّنه من مفاتيح المزرعة والدار والعقار، وقال له: وهبتك مزرعتي، وأعطاه المفاتيح وخلى بينه وبينها، فقد تم القبض.

والقبض -مثلاً- في السيارة في أعرافنا اليوم: أن يعطيه مفاتيحها ويخلي بينه وبين ركوبها، فإن ركبها وأدار محركها، فلا إشكال في أنه قد قبض.

والقبض في الطعام يكون قبضاً حقيقياً، فلو أنه وهبه صاعاً فليأخذ الصاع وليقبضه، إذ لا بد فيه من الحيازة، فإذا حازه حكمنا بثبوت القبض.

ويستوي في ذلك أن يقبض الموهوبُ بنفسه أو يقبضه وكيلُه نيابةً عنه، فيقول: يا محمد! اقبض عني السيارة، أو خذ السيارة من فلان، أو خذ هديتي التي أعطانيها فلان، فإذا قبض وكيله نُزِّل منزلة الأصيل؛ لأن القاعدة: أن الوكيل مُنَزَّل منزلة الأصيل.

يكون القبض في الأشياء العادية بإمساكها، فالقلم يأخذه ويمسكه ويضعه في جيبه أو حقيبته.

ففي هذه الأحوال كلها يختلف القبض بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة، وما جرى العرف باعتباره قبضاً.

ومن هنا نص العلماء -رحمهم الله- على أن القبض في المبيعات يختلف بحسب اختلافها، ويُحتكم إلى العرف في تحديد ضابط القبض، حتى يحكم القاضي والمفتي بثبوت الهبة والهدية إذا تحقق وجوده.

لكن الشرط في القبض أن يكون بإذن الواهب.

فالقبض له صورتان:

- الصورة الأولى: أن يأذن الواهب للموهوب له بالقبض، فيقول له: وهبتك سيارتي، خذ هذه المفاتيح. ويرمي مفاتيحها إليه.

- أو: خذ قلمي هذا، أو وهبتك قلمي، أو كتابي، ويعطيه إياه.

فإذا كان القبض بإذن من الواهب فالإجماع منعقد على أنه قبض معتبر.

لكن لو أن القبض بدون إذن الواهب، كرجل وهب سيارة، فقام الموهوب له وأخذ مفتاح السيارة بدون علم الواهب، وركبها وقادها، ثم رجع الواهب عن هبته، فإننا نقول: الهبة غير لازمة؛ لأنه لم يقع القبض المعتبر بإذن الواهب.

إذاً: يشترط في لزوم الهبة: القبض، وهذا القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة.

ويشترط أيضاً أن يكون بإذن الواهب، فلو قبض الموهوب له بدون إذن الواهب لم يكن قبضه مؤثراً.

قوله: [إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ]

في الحقيقة هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فبعض العلماء يقول: يشترط القبض بإذن الواهب ولو كان الشيء في يد المُتَّهِب.

مثال ذلك: جاءه وقال: أريد السيارة أذهب بها إلى مكان.

فقال له: خذها.

فذهب بالسيارة وقضى بها حاجته، فلما جاء يردها قال: وهبتُكها، وهي في يده، فهل يُستدام حكم القبض ويكون كأنه قبض مستأنف، فتكون السيارة له مِن كونه يقول له: خذها، وهبتُكها.

أو جاء بالقلم يكتب به، ثم جاء ليرده فقال له: وهبتُكَه. فأخذ القلم ووضعه، ولم يرده إلى صاحبه.

أو جاء وقال له: يا فلان! إني استعرت منك الكتاب وأريده مدةً أطول، فقال: هو هبة لك، فقال: قبلتُ؟

فهل يُشترط أن يرده ويقبضه مرة أخرى حتى يفرق بين اليدين: اليد الأولى واليد الثانية؛ لأن اليد الأولى: يد عارية، واليد الثانية: يد تمليك.

فالأولى: تكون له يدٌ على سبيل التمليك للمنفعة، وأما الثانية: فتمليك للعين والمنافع.

فبعض العلماء يقول: إنه يشترط أن يقع القبض حتى ولو كان في الشيء الذي تستدام فيه اليد، كما لو أعطاه داراً يسكنها شهراً، ثم في نهاية الشهر قال: وهبتُها لك، أو أعطاه سيارة ليحمل عليها متاعه، ثم قال: وهبتُها لك.

فإنه يُحكم بثبوت اليد الأولى، ويكون في حكم من أقبض وأنشأ القبض.

وبعض العلماء يقول: لا بد أن يردها، ثم بعد ذلك يعطيه إياها حتى يتحقق القبض المشترط.

ولا شك أن إحداث القبض ورد العين ثم حصول القبض على الصفة المعتبرة أسلم وأفضل وأبرأ خروجاً من الخلاف.

فائدة الخلاف:

لو أن رجلاً مكن شخصاً من عمارة ليسكنها شهراً ثم وهبه له، ثم توفي الواهب.

فإذا قلنا: يشترط أن تسترد ويَقْبِض الواهب عمارته ثم يُقْبِض الموهوب له بعد ذلك بإقباض جديد، فإن لم يحصل هذا الأمر واعترض الورثة فإن الهبة تلغى، وتكون في حدود الثلث، حكمها حكم الوصية إن كانت في مرض الموت ونحوه.

أما إذا لم نشترط ذلك الشرط، فإنه يملكها الموهوب له، ولا يؤثر طَرَيان الموت بعد ذلك.

قوله: [ووارث الواهب يقوم مقامه] أي: يقوم مقام الواهب في التمكين وحكم الهبة؛ لأن الورثة يأخذون حكم مورثهم، ولذلك جعل الله الاستحقاقات للوارث مكان مورثه.

قوله: [ومَن أبرأ غريمَه من دَينه] من أحب الطاعات إلى الله سبحانه وتعالى إدخال السرور على المسلم بتنفيس كربته وتفريج همه وغمه وقضاء دَينه.

والدَّين -كما لا يخفى- من أعظم البلايا وأشد الرزايا؛ لأن الإنسان يتحمل تبعةً عظيمة من حقوق الناس، فهو ذل النهار وهم الليل، ومن تحمل حقوق الناس تنغصت حياته، وتنكَّد عيشه، ولربما شوش عليه ذلك حتى في صلاته وعبادته، حتى كان بعض العلماء يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن مرهونة بدَينه)، يقول: الحديث عام، فقد تجد الرجل صالحاً دَيِّناً خيِّراً؛ ولكنه يُعاق عن كثير من الطاعات بتعلق نفسه بحقوق الناس، التي هي في رقبته، ومسئول عنها.

فلا شك أن الإنسان يصيبه الهم والغم من تبعة الدَّين، فإذا أبرأه صاحب الدَّين؛ فإن ذلك من أعظم الإحسان وأفضله وأجزله ثواباً عند الله سبحانه وتعالى حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في من كان قبلكم رجلٌ يُدَيِّن الناس، وكان يقول لغلمانه ووكلائه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا. قال: فلقي الله، فقال الله تعالى: يا ملائكتي! نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عنه)، وهذا يدل على فضل التجاوز على المعسر، وخاصةً إذا وجد الإنسان الصدق في هذا المعسر، وأنه أخذ المال لأنه احتاجه، مثل: أن يسكن هو وأهله، فاستدان من أجل أجرة السكن، أو من أجل طعامه وطعام أولاده.

فالتخفيف عن أمثال هؤلاء والتوسعة عليهم وتفريج الكربة وإزالة الهم والغم عنهم بمسامحتهم وإبرائهم، من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأعظمها أجراً وثواباً عند الله سبحانه وتعالى، ومما يبارك الله به وبسببه في مال العبد، وهذا هو المال الصالح عند الرجل الصالح، الذي يتزكى ويرجو زكاة نفسه وماله بالتوسعة على إخوانه المسلمين.

صور الإبراء والإحلال من الدين

قوله: [ومَن أبرأ غريمَه] يكون الإبراء على صورتين:

الصورة الأولى: أن تجود نفسُك بدون أن يطلب منك أخوك المسلم، فهذا أفضل وأكمل وأعظم ثواباً وأجراً؛ وذلك لأنه إذا سألك فقد أحوج نفسه، وأصابه ذل السؤال؛ لكن كونك أنت الذي تتفضل وتقول: يا فلان! لا أريد من هذا الدَّين شيئاً؛ فإن هذا أعظم ثواباً.

وكان بعض العلماء رحمهم الله إذا جاءه أحد إخوانه يسأله الدَّين نوى من أول إعطائه المجاوزة، أنه لا يريد هذا الدَّين، ويوصي ورثته ويكتب: أن ديني عند فلان قد أسقطته وأبرأته، وهو في حل منه، ولو جاء يرده فلا تأخذوه منه، ويقول: ما أعطيتك هذا المال وأنا أرجوه يوماً من الأيام.

وهذا من أفضل ما يكون من الإبراء؛ لأنك إذا أبرأت الغريم، وقد جاءك معسراً أو محتاجاً، وأعطيته ديناً في أول محرم إلى آخر السنة، إن سامحته من أول أخذه؛ كتب الله لك ثواب الأجر تاماً كاملاً من أول لحظة من الدين؛ لكن لو انتظرت حتى يأتي وقت السداد، كان أجر المال قرضاً في الفترة التي يستغرقها مستقرضاً، ثم يكون بعد ذلك فضل الإنسان بالمسامحة، وهذا أقل ثواباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله يتلقى الصدقة من عبده بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له ويربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ حتى يجدها يوم القيامة أوفر ما تكون).

فهذا يدل على فضل الإبراء عند أول الدين، ولا شك أن هذا -كما قلنا- أفضل وأعظم ثواباً وأجراً.

أما الصورة الثانية من الإبراء فهي: الإبراء الذي يكون بعد الطلب أو السؤال أو اطلاع الإنسان على حالة المحتاج، فهذا أقل ثواباً وأقل فضيلة من الأول.

وهناك ما يسمى بالإبراء المعلق، والإبراء المعلق يدخل في الصورة الأولى، مثاله: أن يعطيه الدَّين ويقول: إن وجدتَ سداداً فردَّه، وإذا لم تجد سداداً فإني مسامحك وأنت في حل.

هذا يكون فيه معلقاً بين الأمرين؛ لكن الأول أفضل وأكمل.

حتى كان بعض المحسنين والصالحين ممن أدركناهم يخبر عن والده الذي كان من أكثر أهل المدينة فضلاً وإحساناً على الناس، فيقول: لما حضرته الوفاة -وكان عنده سجلان في تجارته- قال لولده: ناشدتك الله أو أسألك بالله، هذا السجل الأول لا تفتحه، ولا تسأل أحداً ما في هذا السجل، وأما السجل الثاني فهذا فيه الغرماء القادرون على السداد والعطاء، فأما الأول فوالله ما وضعتُ فيه إلا أيتاماً وأرامل ومحتاجين، فإياك أن تفتحه، واستسمح إخوانك من حقوقهم فيه، وأحرقه مباشرة.

قال: فبمجرد ما توفي نفذنا وصيته، فأحرقنا السجل، ولا نعلم من هي الأسر الموجودة فيه.

وهذا من أكمل ما يكون من التوفيق.

لكن إذا كان أبرأه إبراءً بالطلب وقال له: يا فلان! إني عاجز عن السداد، فقال: أنت في حل، أو قال: إني عاجز عن رد المبلغ فقال: أبرأتُك، فحينئذٍ إذا أبرأه مَلَكَ مالَه، وحُكِم ببراءة ذمة المديون، ولا يلزم أن يرد المال ثم يبرئه.

وهذه المسألة مثل الهبة لكنها اختلفت في وجود الدَّين السابق، ثم بعد أخذه للدَّين سامحه صاحب الدَّين وأبرأه، فهل يشترط أن يرد له ثم يعطيه؟

والجواب: أنه إذا أبرأه فقد برئ، وإذا جعله في حل؛ فقد أصبح حلالاً من تبعة ذلك المال أو الدَّين.

صيغ الإبراء من الدين

قال المصنف رحمه الله: [بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها]

قوله: [بلفظ الإحلال] أي: أنت في حل، أو بلفظ الإبراء: أبرأتك، أو بلفظ الهبة: وهبتُك دَيني.

ولا عبرة باللفظ بل يرجع إلى العرف؛ لأن الأعراف تختلف، وبعض الكلمات يستحي الواحد من ذكرها، فتكون صريحة عند العلماء؛ لكنها في العرف صعبة، فيختار لفظاً مناسباً بالعرف، فكل ما دل على الإبراء وجرى العرف به؛ فإنه يُحكم به ويُعتد، كما سبق بيانه في الصيغة الفعلية.

قوله: [برئت ذمته] أي: ذمة المديون.

قوله: [ولو لم يقبل] هناك خلاف عند العلماء -رحمهم الله- في شخص لك عليه دَين وقلت له: سامحتُك وأبرأتُك.

فقال: لا. سأرد الدَّين. ثم توفي هذا الشخص.

فإن قلنا: إن القبول شرط؛ فإنه حينئذٍ يُخصم من تركته على قدر الدَّين، ويجب الوفاء؛ لأن ذمته مشغولة بهذا الدَّين.

وإن قلنا: إن قبول المديون ليس شرطاً، فحينئذٍ لزمه الإبراء، وقد سقط الدَّين، ولا يؤخذ من تركته بقدر دَينه.

فهذه فائدة الخلاف.

فأشار رحمه الله بقوله: [ولو لم يقبل] إلى خلاف في المذهب، فبعض العلماء يقول: يشترط القبول؛ لأن من حقي ألَّا أقبل هذا الإبراء؛ لأنه ربما يكون غضاضة على الإنسان ومنقصةً له، ولذلك يقولون: لا يمكن أن نلزمه بهذه الهبة؛ لأنه قد يحصل له غضاضةٌ، فمن حقه أن يمتنع وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولا شك أنه إذا كان هناك مثل هذه المعاني يُخشى من الإنسان الذي وهب أن يكون له غرض سيئ، أو يكون ممن يمن على الإنسان أو يشهِّر به فيقول: أعطيتُ فلاناً، وفعلتُ مع فلان، وفلان استدان مني فسامحته، وفلان كان لي عليه دَين ففعلت معه كذا، فمن حقك أن تدفع هذه الغضاضة.

فالحقيقة: القول باشتراط القبول من القوة بمكان.

وبعض العلماء يقول: لا يشترط القبول، وهو اختيار المصنف، لكن -في الحقيقة- قبول الإبراء إذا نُظِر إلى وجود الضرر فيه في بعض الأحوال فلا شك أن الأصل يقتضيه؛ لأن من الحق أني أخذت المال ملتزماً برده، والعقد بيني وبينه على أن أرده، وهذا أكمل لكرامة الإنسان، وأصون لماء وجهه.

فإذا مُكِّن من هذا فلا شك أنه أحظ له.

أما أن يقال: أنه لا يشترط، ويُلزم بذلك، ثم يصبح الرجل يمتن عليه أو يؤذيه بذلك أو يستغله في أمور لا تُحمَد، فإن هذا يؤدي إلى المفاسد، والشريعة جاءت لدرء المفاسد، فاعتبار الأصل من هذا الوجه أقوى.

قوله: [ومَن أبرأ غريمَه] يكون الإبراء على صورتين:

الصورة الأولى: أن تجود نفسُك بدون أن يطلب منك أخوك المسلم، فهذا أفضل وأكمل وأعظم ثواباً وأجراً؛ وذلك لأنه إذا سألك فقد أحوج نفسه، وأصابه ذل السؤال؛ لكن كونك أنت الذي تتفضل وتقول: يا فلان! لا أريد من هذا الدَّين شيئاً؛ فإن هذا أعظم ثواباً.

وكان بعض العلماء رحمهم الله إذا جاءه أحد إخوانه يسأله الدَّين نوى من أول إعطائه المجاوزة، أنه لا يريد هذا الدَّين، ويوصي ورثته ويكتب: أن ديني عند فلان قد أسقطته وأبرأته، وهو في حل منه، ولو جاء يرده فلا تأخذوه منه، ويقول: ما أعطيتك هذا المال وأنا أرجوه يوماً من الأيام.

وهذا من أفضل ما يكون من الإبراء؛ لأنك إذا أبرأت الغريم، وقد جاءك معسراً أو محتاجاً، وأعطيته ديناً في أول محرم إلى آخر السنة، إن سامحته من أول أخذه؛ كتب الله لك ثواب الأجر تاماً كاملاً من أول لحظة من الدين؛ لكن لو انتظرت حتى يأتي وقت السداد، كان أجر المال قرضاً في الفترة التي يستغرقها مستقرضاً، ثم يكون بعد ذلك فضل الإنسان بالمسامحة، وهذا أقل ثواباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إن الله يتلقى الصدقة من عبده بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها له ويربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ حتى يجدها يوم القيامة أوفر ما تكون).

فهذا يدل على فضل الإبراء عند أول الدين، ولا شك أن هذا -كما قلنا- أفضل وأعظم ثواباً وأجراً.

أما الصورة الثانية من الإبراء فهي: الإبراء الذي يكون بعد الطلب أو السؤال أو اطلاع الإنسان على حالة المحتاج، فهذا أقل ثواباً وأقل فضيلة من الأول.

وهناك ما يسمى بالإبراء المعلق، والإبراء المعلق يدخل في الصورة الأولى، مثاله: أن يعطيه الدَّين ويقول: إن وجدتَ سداداً فردَّه، وإذا لم تجد سداداً فإني مسامحك وأنت في حل.

هذا يكون فيه معلقاً بين الأمرين؛ لكن الأول أفضل وأكمل.

حتى كان بعض المحسنين والصالحين ممن أدركناهم يخبر عن والده الذي كان من أكثر أهل المدينة فضلاً وإحساناً على الناس، فيقول: لما حضرته الوفاة -وكان عنده سجلان في تجارته- قال لولده: ناشدتك الله أو أسألك بالله، هذا السجل الأول لا تفتحه، ولا تسأل أحداً ما في هذا السجل، وأما السجل الثاني فهذا فيه الغرماء القادرون على السداد والعطاء، فأما الأول فوالله ما وضعتُ فيه إلا أيتاماً وأرامل ومحتاجين، فإياك أن تفتحه، واستسمح إخوانك من حقوقهم فيه، وأحرقه مباشرة.

قال: فبمجرد ما توفي نفذنا وصيته، فأحرقنا السجل، ولا نعلم من هي الأسر الموجودة فيه.

وهذا من أكمل ما يكون من التوفيق.

لكن إذا كان أبرأه إبراءً بالطلب وقال له: يا فلان! إني عاجز عن السداد، فقال: أنت في حل، أو قال: إني عاجز عن رد المبلغ فقال: أبرأتُك، فحينئذٍ إذا أبرأه مَلَكَ مالَه، وحُكِم ببراءة ذمة المديون، ولا يلزم أن يرد المال ثم يبرئه.

وهذه المسألة مثل الهبة لكنها اختلفت في وجود الدَّين السابق، ثم بعد أخذه للدَّين سامحه صاحب الدَّين وأبرأه، فهل يشترط أن يرد له ثم يعطيه؟

والجواب: أنه إذا أبرأه فقد برئ، وإذا جعله في حل؛ فقد أصبح حلالاً من تبعة ذلك المال أو الدَّين.