استنهاض الهمم للعمل للإسلام


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالعمل، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل للدين -يا عباد الله- هو حياة الإنسان المسلم الذي يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة.. العمل وترك البطالة والكسل هو منهج حياتنا.. العمل للإسلام واغتنام الفرص لأجل ذلك.. العمل لإعزاز دين الله.. العمل لرفع راية لا إله إلا الله.

إن العمل -أيها المسلمون- هو ما ينبغي علينا أن نقوم به، لأن من حق الله عز وجل علينا أن نعمل لدينه، وأن نقوم بما يريده منا سبحانه وتعالى، ولذلك خلقنا لأجل أن نعمل.

أيها المسلمون: إن العمل للإسلام واجب لا مفر منه، وإن المعوقات عن هذا الواجب لا بد من إزالتها والتغلب عليها، والعمل للإسلام في جميع مراحل العمر، فإن من نعم الله علينا في هذا الدين أن العمل له صالح في كل الأعمار، للصغير والكبير، والذين يقولون: إن السن قد تقدم ولا مجال للعمل، وقد رق العظم، وظهر الشيب، فلنتركه للشباب .. إن هؤلاء ما فقهوا دين الله تعالى، وقد قال عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].

قال الحسن البصري رحمه الله: [ لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت ] فالنهاية التي نقف عندها هي الموت، ألم تر أن ورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ). هذا مع كبر سنه وذهاب بصره، وتمنى أن يكون فيها جذعاً قوياً عندما يظهر أمر الدعوة، ليقوم بالواجب .. إن مثل هذه الأمنية تنفع صاحبها عند الله، لأن نيته حسنة.

وقال أبو طلحة الأنصاري لما قرأ سورة براءة، وأتى على هذه الآية: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] قال: [ أرى ربنا عز وجل استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني أي بني. فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فجهزوه فركب البحر، فمات غازياً في البحر في سبيل الله، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير، فدفنوه فيها ].

أيها المسلمون: إن العبد لا يجوز له أن يطعم طعم الراحة التامة والنهائية من العمل ولا يستريح إلا بالموت، بل قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. وهؤلاء الأنبياء بعثوا بعد الأربعين، وعملوا إلى الموت، وهذا عمر رضي الله عنه يعمل في مصالح المسلمين، وهو مطعون وجرحه يثعب دماً!!

أيها المسلمون: إن الدنيا تشغلنا عن العمل للإسلام كثيراً، وإن أوقات الكثيرين لتذهب في قضايا الدنيا، وبعضهم يعمل مع أنه يكسب أكثر من حاجته، لكن الطمع في الدنيا يجعله يعمل زيادة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن يكون له ثان، وهكذا ... فإذا قنعك الله -يا عبد الله- بما رزقك، فاستعمل بقية وقتك في خدمة دينك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).

وإن الانهماك التام في الأعمال الدنيوية يضيع على العبد فرصاً عظيمة لنيل الأجر والثواب، فكيف بمن ينشغل بالدنيا عن عمل الآخرة؟! وقد مدح الله المؤمنين الذين يتركون عمل الدنيا عند حضور عمل الآخرة، فقال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37].

وترى بعض الطلاب ينهمكون في دراسات قد لا تعود عليهم بفائدة في أمتهم ودينهم، ويعملون أكثر من المطلوب، ويستهلكون وقت اليوم كله في أمور الدنيا، كما يستهلكه أولئك التجار وغيرهم من العاملين للدنيا، من عمل إلى عمل، ومن قضية إلى قضية، إلى آخر اليوم .. فماذا بقي للآخرة إذاً؟

يا أخا الإسلام: أين العمل للآخرة في برنامجك اليومي؟ هذه الصلوات تؤديها، لكن العمل لإعزاز الدين ونشره والدعوة إليه أين هو في حياتك؟ أين إقامة الإسلام؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين تعليم الشرع؟ أين نصح الناس في حياتك؟

لما تخاذل أكثر المسلمين عن نشر الدين؛ صرنا في هذه المنزلة الوضيعة بين الخلق، وكثيرٌ من الموظفين لا يغتنمون مجالات الدعوة في وظائفهم لنشر الإسلام، والدعوة إليه، ونصح الخلق.

خذ على سبيل المثال: هؤلاء الأطباء الذين يحتكون يومياً ويتعاملون مع المرضى، ومن أسهل شيء عليهم أن يقوموا بدعوة المرضى للتمسك بالدين، من خلال المعالجة التي يقومون بها، فماذا قدم هؤلاء وغيرهم من أصحاب المكاتب لأجل الدين، حتى في وسط العمل، وفي وسط الموظفين الذين يعملون معهم؟ كم أمروا شخصاً بإقامة الصلاة؟ وكم نهوا شخصاً عن منكر ومعصية؟ وكم نصحوا للدين وأخلصوا لله؟

أيها المسلمون: إنها مسئولية سوف نحاسب عليها، يقول تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44].

عباد الله: إن بعض الناس أتوا من فساد تصورهم، فتركوا العمل للدين، وقالوا: إن القضية ليست قضيتنا، ونحن نتركها للدعاة العاملين، وأنا مقصر لست ملتزماً بكثير من الأحكام، فليست الدعوة من شأني ولا من وظيفتي، وليس إقامة الدين والنصح من أمري .. كيف -أيها الأخ المسلم- تقول ذلك؟ إن نشر الدين ليس مقتصراً على طبقة دون طبقة، ولا على مستوى دون مستوى، ولا على نوعية من المسلمين دون أخرى، بل كلنا دعاة وكلنا ناصحون، وكلنا يجب أن نقوم بأمر الدين، قال الله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

أين المسارعة في الخيرات؟ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]، كل واحد يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى- وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإذاً لا بد لكل إنسان أن يقوم بذلك، ليس نهياً عن المنكر فقط، وإنما أمر بالمعروف أيضاً، وإنما هو تعليم للدين، وإرشاد ونصح.

أيها الإخوة: أيها المسلمون: كم من الخلل والعيب يكون عندما ينشغل الإنسان عن العمل بنقد الآخرين، فيكون شأنه أن يلمز هذا، ويسخر من هذا، وينتقص هذا من الدعاة العاملين، وهو لا يعمل شيئاً؟!

أيها الإخوة: إن الذي يعمل هو الذي يخطئ، والذي لا يعمل قد لا يُرى منه خطأ، فلا يغرنك ألا ينتقد شخص، فربما يكون سبب عدم انتقاده أنه لا يعمل أصلاً.

مشكلة ترك العمل لأجل الناس

إيها الإخوة: إن حساسية بعض الناس من النقد تجعله يترك العمل، ويقول في نفسه: لماذا أصبر على لوم الناس؟ وما الذي يجبرني على تحمل هذه الانتقادات؟ فيترك العمل، وهل الدين إلا مناصحة، ودلٌّ على العيوب؟ كما قال عمر رضي الله عنه داعياً ربه: [رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا] وكذلك كان الصالحون يطلبون النقد لأعمالهم والتصحيح، ولذلك قال ميمون بن مهران رحمه الله: قولوا لي ما أكره في وجهي، لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

وليس المقصود إساءة الأدب، ولا التطاول والتعدي، ولكن يكون النصح في بعض الأحيان ثقيلاً على النفس؛ لأن فيه نوع انتقاد، ألا فلا ينبغي أن يمنع هذا، أو أن يترك الإنسان العمل لأجل خوف نقد الآخرين، فإن شخصية المسلم ليست شخصية هزيلة، وإن مرضاة الناس لا تقدم عنده على مرضاة الله عز وجل.

ثم إن بعض هؤلاء يقولون: إن الآخرين لا يقدرون جهودنا .. سبحان الله! وهل نحن نعمل لأجل أن يقدر الآخرون جهودنا؟ إننا نعمل لوجه الله .. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل ويذهب.

أيها الإخوة: إذا كان القصد أن يثني الناس على أعمالنا فقد هلكنا والله، فينبغي أن نعمل سواءً قدر الآخرون جهدنا وأثنوا علينا، أو لم يثنوا علينا، ذكرونا بخير أو ذكرونا بغيره، فإنه ينبغي علينا أن نعمل لأن الثناء من الله هو مقصودنا، وكذلك ينبغي أن يكون الثواب من الله عز وجل هو الباعث لنا على العمل، لا ثناء الناس ولا مدحهم.

أيها الإخوة: إننا في حال نحتاج فيه إلى أن نصبر أنفسنا مع العمل للإسلام، وألا نتغير مزاجياً مع الأمور والأودية والأنواع والمجالات، فلا نتم هذا ولا نتم هذا، بل (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه) فإذا أمسكت بعمل -يا عبد الله- فأتمه وأتقنه.

ولم أر في عيوب الناس عيباً     كنقص القادرين على التمام

فاثبت عليه وأتمه وأتقنه، وعند ذلك تكون منجزات تحسب لك عند الله عز وجل، أما الانقطاع في منتصف الطريق، والتغير من مكان إلى مكان، دون أن يكون في ذلك مصلحة شرعية، فهي من خدع إبليس، يريدك ألا تتم هذا ولا تكمل هذا، حتى لا تظهر الثمرة ولا يُنتفع بالعمل.

إيها الإخوة: إن حساسية بعض الناس من النقد تجعله يترك العمل، ويقول في نفسه: لماذا أصبر على لوم الناس؟ وما الذي يجبرني على تحمل هذه الانتقادات؟ فيترك العمل، وهل الدين إلا مناصحة، ودلٌّ على العيوب؟ كما قال عمر رضي الله عنه داعياً ربه: [رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا] وكذلك كان الصالحون يطلبون النقد لأعمالهم والتصحيح، ولذلك قال ميمون بن مهران رحمه الله: قولوا لي ما أكره في وجهي، لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

وليس المقصود إساءة الأدب، ولا التطاول والتعدي، ولكن يكون النصح في بعض الأحيان ثقيلاً على النفس؛ لأن فيه نوع انتقاد، ألا فلا ينبغي أن يمنع هذا، أو أن يترك الإنسان العمل لأجل خوف نقد الآخرين، فإن شخصية المسلم ليست شخصية هزيلة، وإن مرضاة الناس لا تقدم عنده على مرضاة الله عز وجل.

ثم إن بعض هؤلاء يقولون: إن الآخرين لا يقدرون جهودنا .. سبحان الله! وهل نحن نعمل لأجل أن يقدر الآخرون جهودنا؟ إننا نعمل لوجه الله .. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل ويذهب.

أيها الإخوة: إذا كان القصد أن يثني الناس على أعمالنا فقد هلكنا والله، فينبغي أن نعمل سواءً قدر الآخرون جهدنا وأثنوا علينا، أو لم يثنوا علينا، ذكرونا بخير أو ذكرونا بغيره، فإنه ينبغي علينا أن نعمل لأن الثناء من الله هو مقصودنا، وكذلك ينبغي أن يكون الثواب من الله عز وجل هو الباعث لنا على العمل، لا ثناء الناس ولا مدحهم.

أيها الإخوة: إننا في حال نحتاج فيه إلى أن نصبر أنفسنا مع العمل للإسلام، وألا نتغير مزاجياً مع الأمور والأودية والأنواع والمجالات، فلا نتم هذا ولا نتم هذا، بل (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه) فإذا أمسكت بعمل -يا عبد الله- فأتمه وأتقنه.

ولم أر في عيوب الناس عيباً     كنقص القادرين على التمام

فاثبت عليه وأتمه وأتقنه، وعند ذلك تكون منجزات تحسب لك عند الله عز وجل، أما الانقطاع في منتصف الطريق، والتغير من مكان إلى مكان، دون أن يكون في ذلك مصلحة شرعية، فهي من خدع إبليس، يريدك ألا تتم هذا ولا تكمل هذا، حتى لا تظهر الثمرة ولا يُنتفع بالعمل.

عباد الله: إن بعض الناس يريد الحياة أن تكون سهلة مريحة، خالية من كل ما يكدر الخاطر ويتعب البال، وهذه حياة ليست والله بحياة كريمة، فإن المسلم ينبغي أن يسعى في طاعة ربه، ولو كان ذلك متعباً، ولو كان ذلك قاسياً، ولو كان ذلك شاقاً، لأنه يريد الحياة المريحة في الجنة.

قالوا السعادة في السكون     وفي الخمول وفي الجمود

في العيش بين الأهل لا     في المشي عيش المهاجر والطريد

خلف الركب في دعة     وفي خطو وئيد

في أن تقول كما يقال     فلا اعتراض ولا ردود

قلت الحياة التحرك     لا السكون ولا الهمود

وهي التلذذ بالمتاعب     لا التلذذ بالرقود

هي أن تذود عن الحياض     وأي حر لا يذود

هي أن تحس بأن كأس     الذل من ماء صديد

فإذا أحس الإنسان بأن ما يتجرعه المسلمون من الذل اليوم هو من ماء صديد، فإنه يرفض أن يتجرع الكأس مع الآخرين، فينهض للعمل، وينفض عنه غبار النوم والكسل، ويقوم لله تعالى بالواجب والمطلوب.

عباد الله: إن العمل لا يعظم ولا يندفع الإنسان له -ونتحدث عن عمل الآخرة بالذات- إلا إذا كان للمرء صلة قوية بربه، ولذلك كان العابدون أعظم المندفعين للعمل، لأن صلتهم القوية بالله عز وجل كانت تجعلهم يغتنمون أوقاتهم في العمل للدين.

قال الوليد بن مسلم رحمه الله تعالى: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس. وأخبروا عن بعض السلف أنهم كان هذا هديهم، في ذكر الله إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض -بعد الخلوة والعبادة الفردية- يفيضون في ذكر الله تعالى، والتفقه في دينه، قال ضمرة بن ربيعة : حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعاً في المحمل، كان يصلي فإذا غلبه النوم أستند إلى القتب، وكان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاءً، حتى إن أمه كانت تدخل منزله وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطباً من دموعه في الليل. قال ابن جريج : صحبت عطاء ثماني عشرة سنة، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة، وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك .. فكيف إذاً كان لما كان قوياً؟!

وكان الربيع بن خثيم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه ثم يقول: أدركنا قوماً كنا في جنبهم لصوصاً. أي: إذا نسبنا أنفسنا إليهم، وأعمالنا إلى أعمالهم، كنا في جنبهم لصوصاً، وهكذا يقول مع شدة عمله.

أيها الإخوة: إن العمل في النهار يحتاج إلى عبادة بالليل، والعمل في الضحى يحتاج إلى ذكر بعد الفجر، وهكذا إذا كان الإنسان حسن الصلة بالله قوي العبادة، كان ذلك زاداً له في طريق الدعوة، وتحصيل العلم، ونشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم إن من أكثر ما ذبح أولئك الذين يريدون العمل: زوجات غير صالحات، أشغلنهم في أمور الدنيا، وأركبنهم مطاياها، وذهبن بهم في أوديتها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ينطلق أحدهم فيتزوج امرأة قد سمنها أبواها وترفوها، حتى كأنها زبدة، يتزوجها فتأخذ بقلبه، فيقول لها: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا. فيأتي به، ثم يقول: أي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا. فيأتي به، فتمرط والله دينه وتمزق، ولو أنه تزوج يتيمة ضعيفة كساها أُجِرَ على ذلك.

إذاً: ينبغي أن يكون إرضاء الله مقدماً على إرضاء الزوجات والأولاد، ولكلٍّ حقٌ يجب القيام به: (إن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه).

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من العاملين لدينك يا رب العالمين، اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم إنا نسألك الرشد في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والبشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: إن من أعظم الأسباب الداعية إلى مواصلة العمل للإسلام وعدم تركه: أن يكون الإنسان مع العاملين المخلصين .. أن يؤاخيهم، ويرافقهم، وألا ينفصل عنهم .. المحيا محياهم، والممات مماتهم، وهكذا يكون معهم أخاً صادقاً .. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] يكونون كالبنيان المرصوص في مواجهة كيد الأعداء، ويكونون كالجسد الواحد في التآخي فيما بينهم، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .. إن الانفصال عن الأخيار العاملين هو الداء الوبيل، وهو الشر الكبير.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) وذكَّرنا بأن يد الله مع الجماعة، وذكَّرنا بأن البركة في ثلاث: في الجماعة، والثريد، والسحور.

إذاً: الجماعة المجتمعون على الخير بركة، فإذا كنت مع الأخيار عملت، وأججوك وأزوك للعمل ودفعوك، واقتديت بهم، ونلت نصيحة أو حافزاً وحماساً، أو تسديداً وستراً على عيب، وتكميلاً لشخصية، واقتباس خلق، وعلم، ونحو ذلك من الفوائد العظيمة.

عباد الله: أيها المسلمون! إن المعاصي من شر ما يقطع الإنسان عن العمل للدين، وإن الشيطان ليستثمر المعصية استثماراً ويرابي فيها، بحيث تكون قاطعة عن الله والدار الآخرة، ولا يزال يقول لمن اتبع دربه ومشى في ركبه: أنت عاص مقصر، لا يليق بك أن تدعو وتعمل وتنصح .. ولا شك أن هذا في الحقيقة إضافة تقصير إلى تقصير، فلو أن المقصر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل هذه الحجة الواهية، التي ليست بحجة أصلاً، فماذا سيحدث أيها الإخوة؟ إنه سيضيف إلى معاصيه وتقصيره معصية وتقصيراً آخراً، وهو ترك إنكار المنكر الواجب، وترك النصيحة الواجبة في الدين.

وهكذا يتنقل الشيطان بالمرء من حفرة إلى حفرة، وينزل به سلم الدرج حتى يورده قاع الذل والهزيمة والمعصية، فإياكم -يا عباد الله- من الاستجابة لهذه الخدعة الإبليسية!!

أيها المسلمون: إن الإنسان المسلم قد تعرض له عوارض، فيعرض له ضعف، ويعرض له شيء من الكسل والخمول، فعليه أن يزيله بالإقبال على الله، والانطراح بين يديه، والذل عنده .. يقف ويناشد ربه أن يعيد إليه إيمانه جذوة مشتعلة، وحماسة متقدة، وأن يأخذ بيده إلى سبيل الطاعة والنهوض بنفسه مرة أخرى، ويطلب من إخوانه المسلمين أن يكونوا عوناً له ومدداً في تجاوز هذا الحال المؤقت.

إن هذه المنعطفات الموجودة في طريق الطاعة عند كثير من الناس ينبغي أن يتغلب عليها لا أن يستسلم لها، وأن نأخذ من كتاب ربنا ومن سيرة سلفنا ونبينا إمامهم وقدوتهم العلاج في مواجهة مثل هذه الحالات التي تحدث لدينا من كسل أو خمول أو تباطؤ أو فتور، بل حتى وانتكاس، لنعود مرة أخرى متغذين بهذه المحفزات لأعمال الخيرات، وأن نرجع مرة أخرى إلى الطريق كما كنا وأفضل مما كنا، والسعيد من عرف كيف يعالج نفسه، ولو أنك لم تهتد إلى علاج فسألت من إخوانك من يدلك على الطريق والعلاج لكان ذلك من الحكمة العظيمة.