خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن عقد الإجارة يقوم على المنافع التي تتم المعاوضة عليها، وينبغي في هذه المنافع التي يتفق الطرفان على إجارتها أن تتوفر فيها جملة من الشروط، قصد الشارع من هذه الشروط المحافظة على حق المستأجر، بحيث يستأجر شيئاً يمكن حصول المقصود منه، فالمسلم إذا دفع ماله مستأجراً داراً من أجل أن يسكنها، فينبغي أن يكون على بينة من أمره، فيعرف الدار وصفاتها، وكذلك الأمور الذي يتوصل من خلالها إلى المنفعة الموجودة في تلك الدار المؤجرة.
أما إذا استأجر شيئاً لا يعرف حقيقته، أو يكون غير مملوك لمن أجره، أو يكون مما يتعذر أن يستوفي منه كالبعير الشارد والعبد الآبق، أو يكون ذلك الشيء من الأشياء التي لا توجد فيها المنفعة، كاستئجار المريض من أجل العمل، فإن الغالب على الظن أنه لا يستطيع أن يقوم بالعمل الذي اتفق عليه ونحو ذلك، وكاستئجار الأرض للزراعة إذا كان لا ماء فيها.
فكل الشروط الشرعية قصد منها المحافظة على حق المستأجر، وقصد منها العدل بين الطرفين، وأن يكون عقد الإجارة خالياً من الغش ومن أكل أموال الناس بالباطل وقد تقدم معنا في كتاب البيوع أن الشريعة تحافظ على حق الطرفين في المعاوضات، سواء كان في البيوع أو الإيجارات، فهذه جملة من الشروط ذكرها المصنف رحمه الله، كلها متعلقة بالمنفعة التي هي محل العقد.
وإذا قيل: يشترط في المنفعة. معناه: أنه يشترط في محل العقد -أي: عقد الإجارة- لأننا قدمنا في تعريف الإجارة أن العقد بين الطرفين منصب على المنفعة، ففي الإجارة ينصب العقد على المنفعة: سكنى الدور، والأعمال والحرف كالحدادة والنجارة والسباكة، ونحو ذلك وكلها منافع يقصد منها أن يتحصل المستأجر على المصلحة التي يريدها من ذلك الشيء المستأجر.
معرفة العين المؤجرة بعين أو صفة
العين المؤجرة تستوفى منها المنافع، ولا يمكن للإنسان أن يستأجر محلاً لا يعرفه ولم يوصف له، فهذا مما فيه الغرر، ومن أمثلة ذلك:
أن يستأجر داراً دون أن يكون قد رآها وشاهد غرفها ومنافعها لكي ينظر هل تصلح له أو لا تصلح، فإذا تم التعاقد بين الطرفين على عين من أجل الإجارة، فإنه لابد وأن تكون العين معروفة، قال رحمه الله: (أن تكون العين المؤجرة) أي: مثل: البيت.. العمارة.. الشقة.. الفلة.. المزرعة.. السيارة.. الدابة... فهذه كلها أعيان مؤجرة يقصد من ورائها المنافع.
إذا أجرك البيت من أجل تسكن، فالمنفعة هي السكنى، أو أجرك الأرض من أجل أن تزرع، فالمنفعة هي الزراعة، وحتى لو كانت الإجارة باليومية فقد يؤجر ديوان مزرعته من أجل أن تجلس فيه للراحة والاستجمام ونحو ذلك، فتكون المصلحة والمنفعة هي الارتفاق بهذا الموضع.
إذاً: لابد أن تكون العين التي هي محل التعاقد بين الطرفين معروفة للمستأجر؛ والسبب في هذا: أنه لو أجره شيئاً يجهله وقال له: أؤجرك سيارة. وظن المستأجر أنها جيدة، فإذا بها رديئة، فلربما كان يظن أن فيها منافع قد يرتاح إذا ركبها، فإذا به يفاجأ بالسيارة ليست فيها تلك المنافع، فيقول: يا فلان! أنا استأجرت منك السيارة لمنافع معينة، وهذه السيارة ليس فيها تلك المنافع.
فيقول: أجرتك السيارة، وقد قبلت.
فيحدث التشاحن والبغضاء بين الطرفين، فالشريعة تريد من الطرفين إذا تم التعاقد بينهما على عين مؤجرة أن تكون العين معروفة إما برؤية، أو بصفة في غير الدار أو نحوها.
(برؤية) مثال ذلك: لو كان لك جار عنده سيارة، وهذه السيارة يؤجرها للسفر، فأردت أن تسافر، فقلت له: أريد أن توصلني إلى المدينة. فقال: أوصلك بسيارتي. فأنت تعرف سيارته وتعرف صفاتها، إذاً يصح، وهذا هو معنى الرؤية، أي: سبق لك وأن رأيت سيارته.
أو قال له: أؤجرك أرضي الزراعية التي في موضع كذا. وأنت قد سبق وأن رأيتها، إذاً: المعرفة منك أنت المستأجر للعين المؤجرة بسبق رؤية.
(أو بصفة) يقول لك: أؤجرك عمارة بجوار الحرم أو على شارع كذا. ويصفها لك وصفاً تاماً بحيث إن هذا الوصف يخرج فيه الإنسان من الغرر الذي يترتب على الجهالة، فإذا وصفها كذلك فحينئذٍ يصح، لكن يستثنى من هذا الدور؛ لأن الدور كانت تختلف في الزمن القديم، ولم تكن مثل زماننا اليوم، حيث تخطط، وتكون أطوال الغرف دقيقة ومفصلة، بل كانت في القديم تختلف في أطوالها وأحجامها، ويصعب فيها الوصف؛ ولذلك قالوا في الدور: لابد وأن تشاهدها؛ لأجل دفع الغرر، وسنأتي إلى هذا المستثنى.
الأصل عندنا: أنه لابد أن تتقدم معرفة العين، إما برؤية كأن تكون قد عرفت سيارته أو عمارته أو فلته أو شقته، وسبق المعرفة يكون إما بالرؤية أو بالوصف، يقول لك: أجرتك سيارة. السيارة فيها الكبير وفيها الصغير، فقد تقول له: أريد منك أن توصلني إلى المدينة. قال: أوصلك وعائلتك -مثلاً- كل واحد بمائتين. قلت: قبلت. فربما تقبل بعائلتك أن تركب في سيارة خاصة، لكن لا ترضى أن تركب مع غيره، إذاً: لابد أن يحدد هل هي سيارة مشتركة أو سيارة منفصلة؛ لأنك قد تتضرر بالركوب مع غيره، وهل هي مكيفة أو غير مكيفة، صغيرة أو كبيرة؛ لأن الشريعة تريد من المستأجر أن يدخل في عقد الإجارة على بينة لا غرر فيها، ويكون مطمئناً أن يدفع المال في شيء يرى في نظره أنه يستحق.
إذاً: علمنا أنه لابد من الرؤية أو الصفة، فحينئذٍ لو أجر سيارة بدون رؤية أو صفة فقال له: أوصلك إلى المدينة بسيارتي، لم يجز ذلك حتى يبين ويحدد؛ دفعاً للضرر ودفعاً للمفسدة، وهكذا لو أراد أن يستأجر السيارة باليومية مثلما هو موجود الآن، فيأخذ السيارة ويستأجرها يوماً بمائة، أو كل مائة كيلومتر بألف ريال مثلاً، فإذا أراد أن يستأجر هذه السيارة فلابد أن تحدد الشركة المؤجرة نوعية السيارة وأوصافها؛ حتى يخرج من الغرر؛ ويكون حقه مضموناً من هذا الوجه.
ومسألة معرفة العين المؤجرة بالرؤية أو الصفة يترتب عليها حكم شرعي، وهو: أنه لو وصف لك السيارة، أو كنت تعرفها سابقاً بالرؤية، وتبين الأمر على خلاف ما عهدت أو خلاف ما وصف لك؛ فحينئذٍ يثبت لك خيار الرؤية بعد تبين حقيقة العين المؤجرة، مثال ذلك:
قال لك شخص: أؤجرك سيارتي الفلانية إلى المدينة بألف. فقلت له: قبلت.
وعهدك بالسيارة أنها مكيفة ونظيفة، فجئت وإذا بالسيارة مختلفة تماماً عن ذلك، عند ذلك لك خيار العين، فمن حقك أن ترجع وتقول: إنني أعرفها جيدة فأصبحت رديئة. لأن السيارة إذا كانت رديئة تعطلك عن المصالح بالتأخر، ولربما يخشى الإنسان منها الضرر أثناء قيادتها.
إذاً: إذا اختلفت العين المؤجرة عما عهدت من سبق الرؤية كان لك خيار، وخيار الرؤية يثبت في بيع الغائب كما ذكرناه في البيوع، ويثبت في العين المؤجرة الغائبة إذا وصفت.
ورؤية: كان له سبق رؤية فاختلفت عما كان يعهدها عليه، أو وصفها له فاختلفت الصفة، قال المستأجر: السيارة مكيفة؟ قال المؤجر: نعم. مكيفة. فلما ركب معه إذا بها غير مكيفة، إذاً: من حقه أن يفسخ عقد الإيجار؛ لأن هذا يعتبر تدليساً وغشاً، وبعض العلماء يقول: إنه يلزم بتأمين سيارة مثل ما وصف. أي: بدلاً عما وصف، فيلزم الطرف الثاني بتهيئة هذا النوع من السيارات على الصفة المتفق عليها.
إذاً: يشترط في المنفعة أن تكون العين التي تكون منها المنفعة معروفة عند المستأجر: إما برؤية، أو بصفة في غير الدار، وقلنا: الدور تختلف بحسب اختلاف أحجام الغرف واختلاف أحجام المنافع، فقالوا: لابد في إجارة الدور من الرؤية والمشاهدة، فلو أنه أجره شقة بالوصف على هذا القول لم يصح من حيث الأصل حتى يقف ويرى الشقة على حقيقتها؛ لأنها تختلف، ولا يمكن أن توصف وصفاً خالياً من الغرر.
أما بالنسبة لنحو الدور فمثل الحمامات في القديم، وقد ذكرنا هذا؛ لأنهم في القديم كانوا يؤجرون الحمامات من أجل الاغتسال، فالحمام يختلف حوضه صغراً وكبراً، ويختلف من حيث النظافة ونحوها، فقالوا: لابد من الرؤية.
ولذلك نجد الآن في بعض الفنادق إذا استأجر المستأجر يعطونه المفتاح ويقولون له: شاهد الغرفة. وهذا شيء طيب؛ لأن هذا يمكن المستأجر من أن يكون على بينة من الشيء الذي يستأجره، ويكون على بينة من الشيء الذي يريد أن يرتفق بها، وهكذا بالنسبة لإجارة المحلات ونحوها.
العقد على نفع العين المؤجرة دون أجزائها
الشرط الثاني: أن يكون العقد على منافع العين لا على أجزائها، والسبب في ذلك: أن الإجارة عقد على المنفعة، وليست على الذات، وقد بينا في كتاب البيوع: أنه إذا اتفق الطرفان على إجارة الدار أو إجارة السيارة أو إجارة العامل، فإن المستأجر يملك المنفعة من ركوب السيارة وسكنى الدار وخدمة العامل، ولا يملك رقبة السيارة ولا رقبة الدار ولا رقبة العامل، فالعقد ليس بُمنصَبٍّ على الذات، وإنما هو منصب على المصلحة المترتبة الموجودة في هذه العين، سواء كانت من العقارات أو غيرها.
حكم عقد الإيجار المنتهي بالتمليك
فالرجل إذا اتفق مع الغير أن يستأجر بيته فإنه لا يملك إلا السكنى، وليس من حقه أن يتصرف في ذلك البيت خارجاً عن هذا العقد، وبناءً عليه نقول:
أولاً: إن عقد الإجارة على المنفعة وليس على الذات ولا على أجزاء الذات.
ثانياً: نفهم من هذا أن العلماء لا يقولون: إن الإجارة كالبيع، أي: أنها تأخذ حكم البيع من كل وجه، بل إن الإجارة واردة على المنفعة، والبيع وارد على الذات، فالإجارة لا ترد على الذوات ولا ترد على الأجزاء، ولا يمكن أن يقول له: أؤجرك البرتقال لتأكله؛ لأن أكل البرتقال ملكية لذات البرتقال، وأياً كان ذلك الطعام فإن هذا المطعوم إذا بيعت أجزاؤه وانتفع بأكله، فإن أكله يكون استهلاكاً للذات وهذا بيع، والإجارة استهلاك للمنفعة وليست باستهلاك للذات.
وبناءً على ذلك: فإن عقد الإجارة المنتهي بالتمليك في العقارات أو في المنقولات من سيارات أو غيرها لا يصح، وذلك لأسباب:
أولاً: أن الإجارة تستلزم ملكية المنفعة، وهذا العقد منصب على المنفعة مع الذات.
ثانياً: أن هذا النوع من العقود يؤدي إلى عقدين في عقد على وجه الغرر.
وتوضيح ذلك: أنه يقول له: أؤجرك هذه السيارة أربعة وعشرين شهراً، ثم تدفع خمسة آلاف وتملكها، فحينئذ معناه: أنه يريد أن يضمن منه أن يستأجر أربعة وعشرين شهراً، ثم بعد ذلك يملك السيارة بعد الأربعة والعشرين شهراً، فنسأل: هل العقد عقد بيع أو عقد إجارة؟
إذا قال: هذا عقد بيع. قلنا: إن الأربعة والعشرين شهراً لو امتنع المستأجر في أول الفترة أو في نصفها أو بعد شهر أو شهرين، ثم أخذ منه مالك السيارة السيارة، فأصبح إجارة وليس بيعاً؛ لأن الإجارة هي التي يملك فيها البيع ويملك استرداد العين عند تعذر الإجارة، إذاً: ليس ببيع، وإن كان بيعاً في الظاهر، لكن في الحقيقة لا تنطبق عليه أوصاف البيع.
فلو قال قائل: هو بيع في المآل، أي: أنه خيره، فقال له: بعد الأربعة والعشرين شهراً إذا أردت أن تملكها فادفع خمسة آلاف.
نقول: باعه بعد أربعة وعشرين شهراً شيئاً -الذي هو السيارة- فلا ندري هل تبقى بعد أربعة وعشرين شهراً أو يأتي شيء يتلفها، ولا ندري هل تبقى على الصفات الكاملة، أو خلال الأربعة والعشرين شهراً مع الاستهلاك تتغير أوصافها وتتضرر، إذاً: لا يشك أحد في وجود الغرر.
ولا تصح -كما قلنا- بيوع الآجال، كأن يقول له: بعتك سيارتي بعد ثلاث سنوات أو بعد أربع سنوات، لا يمكن هذا؛ لأنه بيع لشيء لا ندري هل يسلم أو لا يسلم، وإذا سلم هل يبقى كاملاً أو ناقصاً.
ثالثاً: هب أن البيع صحيح، وهب أنه في الظاهر عقد بيع.
نقول: لو صح البيع إلى أجل -أي: إلى بعد سنة أو سنتين- فنقول: باعه بشرط أن يستأجر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
فهنا أمور أولاً: تداخل العقود، وثانياً: أنه باعه مجهولاً لا يدري عن حاله، وثالثاً: لم تطبق أحكام البيع على المبيع خلال مدة الإجارة، فهو بائع وغير بائع، بائع في العقد لكن في الحقيقة والمضمون لو عجز المستأجر ألزمه برده، وهذا هو المقصود.
وقد يقال: المقصود: أن أضمن الأقساط. وإنما سموه إجارة من باب ضمان الأقساط، ونحن نقول: فهذا لا تجيزه الشريعة؛ لأنه إذا اتفق مع شخص على بيع سيارة بعشرين ألف ريال، وأعطاه إياها أقساطاً على عشرين شهراً، وتعذر على المشتري أن يدفع الأقساط لعسرة، فنظرة إلى ميسرة، أو يعطى حكم الخيار على التفصيل المعروف في البيع، وعندنا حلول شرعية أفضل من هذا وأتم وأكمل، فلو مات المستأجر خلال هذه المدة فإنه قد أسس له حقاً بعد أربعة وعشرين شهراً، فلا ندري إذا مات هل هذه السيارة ملك له وتأخذ حكم الميراث أم ليست ملكاً له؟
ولذلك يقول بعض الفقهاء: من أعجب ما وجد في شروط الشريعة: أنها تيسر للقاضي الحكم عند الطوارئ، فتقفل أبواب الجهالة في العقود، فإذا انطبقت شروط الإجارة وشروط البيع، ووقعت الإجارة على السنن، ووقع البيع على السنن؛ فلا يمكن أن تقع خصومة في بيع أو إجارة إلا وعرفت حق كل ذي حق.
مثال: لو أن أجيراً استأجرته شهراً كل يوم بكذا ومات أثناء الشهر، فحينئذٍ يكون معروفاً ما الذي له وما الذي عليه، لكن لو مات الذي في عقد الإجارة المنتهي بالتمليك في سيارة أو أرض، فلا ندري حينئذٍ هل هو مالك للأرض فتكون قد دخلت إلى ملكية الورثة، ونلزمهم بالدفع فيما بقي، فننزله منزلته على أن البيع قد تم في الأول، أو هو ليس بمالك بل مستأجر، ثم تنطبق مسألة موت أحد المتعاقدين، وهل يلزم الورثة بإتمام العقد أو لا؟ فيحدث نوع من الاشتباه في العقود، ولذلك فالغرر موجود من حيث الجهالة في صفة المبيع إذا قيل: إنه بيع.
وثانياً: تداخل العقود على وجه يوجب الخصومة والشحناء.
وثالثاً: أن المبيع لا ندري عن حاله بعد الأشهر.
ولو قلنا إنه بيع، فإنه بيع وشرط، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولذلك لا يعرف هذا النوع من العقود عند المسلمين، ولم يذكر العلماء رحمة الله عليهم شيئاً يسمى إجارة تنتهي بتمليك أبداً، وهذه دواوين العلم وكتب الفقه موجودة، ومن أراد أن ينسب عقداً شرعياً إلى الشرع فعليه أن يتتبع كلام العلماء وأصولهم.
وعلى هذا: فإنه لا ينعقد عقد الإجارة على الأجزاء.
حكم تأجير ما لا تبقى عينه
يجوز لك أن تشتري الطعام لتأكل بإجماع العلماء، ويجوز بيع الطعام، فلا أحد يحرم بيع الطعام، ومعناه أن العلماء رحمهم الله يريدون الوفاء بالعقود، وهذا كله ينبني على كلمة واحدة وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فالشريعة حينما تضع الشروط وتقول: هذا حلال وهذا حرام، كل ذلك لمقصد، وهو أن الطرفين إذا اتفقا على شيء لابد وأن يكون شيئاً بيناً واضحاً، فلا يجوز إجارة الطعام للأكل؛ لأنه إذا استأجر الطعام من أجل أن يأكله فحينئذ استهلك ذاته، وإذا استهلك ذاته فالذوات تضمن بالقيمة ولا تضمن بالأجرة؛ لأن الشيء المستأجر تؤخذ منفعته وترد عينه، وأما بالنسبة لاستهلاك الأعيان بذاتها فيعتبر بيعاً، وتسري عليه شروط البيع المعتبرة.
وقوله: [ولا الشمع ليشعله].
ولا تجوز إجارة الشمع ليشعله، كانوا في القديم يضيئون بالشموع، وإذا قال له: أستأجر منك مائة شمعة توقدها الليلة. لم يصح، إنما يقول: أشتري منك مائة شمعة، وكل شمعة بعشرة ريال، وأؤجرك لإيقاد هذه الشموع كل شمعة بريال. فأصبحت مائة شمعة، وكل شمعة بعشرة ريال، فيصبح المجموع ألف ريال، وكل شمعة توقدها بريال، فهذا ليس فيه أي إشكال.
تأجير الحيوان ليأخذ لبنه
ولا يجوز إجارة الحيوان ليشرب أو يأخذ لبنه.
هناك حيوانات تستأجر من أجل الركوب، وهي: إجارة الظهر، ويسميها بعض العلماء بـ(الكراء) ويدخلها في مسائل الكراء كما هو مذهب المالكية، فيجعلون إجارة الدور والسفن والنواقل والدواب من الكراء، ويسمونه كراءً في الأكرية، فإذا قال المالكية: الأكرية. فالمراد بها هذا النوع من الإجارات.
وبالنسبة للحيوان: يكون منه الركوب، ويكون منه الحليب، والحليب من بهيمة الأنعام يرتفق به طعاماً، يشرب ويغتذى به وينتفع، فإذا تعاقد مع شخص على حليب، وقال: أستأجر منك حليب هذه الناقة، أو حليب هذه البقرة، أو حليب هذه الشاة. لم يصح؛ لأن التعاقد على ذات الحليب بيع، فعليه أن يقول: أشتري منك كل لتر من هذه البقرة أو يقول له: أشتري منك مائة لتر بألف ريال. وهذا يعتبر بيعاً.
لكن أن يقول له: أستأجر منك هذه الناقة اليوم من أجل أن أحلبها. لا يصح؛ لأن الحليب ذات، والتعاقد على الذوات بيع، والمعاوضة عليها بيع، ولا يصح أن يقول له: أستأجر منك هذه الدابة لحلبها، لكن لركوبها يصح، وعلى هذا: يفرق بين المنفعة والذات.
حكم بيع لبن الآدمية وتأجيرها على الرضاع
(الظئر): المرضعة، والرضاعة تكون من الآدمي، يعني: يستأجر امرأة من أجل أن ترضع طفله، فقال طائفة من العلماء رحمة الله عليهم: إن هذا النوع من العقود -وهو: استئجار المرأة للرضاع- يعتبر مستثنى من الأصل، فهو يسمى إجارة، لكنه في الحقيقة بيع، واستثنيناها لورود القرآن بذلك: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6]، هذا نص من كتاب الله على اعتبار الإجارة على الرضاع، وإن كان بعض العلماء يقول: بل فيه معاوضة، وتكون أجورهن أشبه بالعوض، وليس المراد به الإجارة، لكن جماهير العلماء على أنها إجارة.
وعندنا مسألتان ينبغي التنبيه عليهما في مسألة استئجار المرأة للرضاع، فقد يحتاج الرجل لإرضاع صغيره، إما لموت أمه، أو وجود آفة أو ضرر، أو تعذر إرضاع أم الطفل للطفل، فيحتاج أن يسترضع لولده، وهذا الاسترضاع يكون على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون على عقد إجارة بالمدة.
والوجه الثاني: أن يكون على عقد البيع.
فاللبن الذي تخرجه المرضعة إذا قال لها: أرضعي طفلي سنة وأعطيك كذا وكذا، أو أرضعيه الشهر بألف. وتمت الموافقة، فهذه إجارة وحكمها حكم الإجارة.
النوع الثاني: أن تحلب المرأة حليبها، وتضعه في وعاء أو في كأس ويحتاجه لصبيه، أو يقول لها: أرضعي صبيي. فقالت: لا أرضعه، لكني أحلب الحليب في الكأس وأبيع الحليب.
فعندنا عقد بيع وعندنا عقد إجارة، ولابد من التفريق بين العقدين، فأما ما كان من الإجارة لمدة الشهر.. الشهرين.. السنة.. السنتين، فهذا لا إشكال فيه، ونص القرآن فيه واضح.
لكن بالنسبة لبيع لبن الآدمية، هناك فرق بين لبن الآدمية ولبن الحيوان، فلبن الحيوان يجوز بيعه بالإجماع، لكن بيع لبن الآدمية اختلف فيه، فإن قالت لك: أبيعك هذا الكأس بمائة فللعلماء قولان:
قال طائفة من العلماء: يصح بيع لبن الآدمية، ولا بأس بذلك؛ لأن الله تعالى أحل المعاوضة عليه بالإجارة، والإجارة نوع بيع، فإذا صحت المعاوضة عليه إجارة صحت المعاوضة عليه بيعاً من باب أولى وأحرى؛ لأن الإجارة مستثناة من الأصل، فمن باب أولى إذا كان العقد على صورة البيع الحقيقية، واستدلوا بقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6].
الدليل الثاني: القياس، فقالوا: يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب كما يجوز بيع لبن بهيمة الأنعام، بجامع كون كل منهما فضلة حيوان ومباحة.
وبالنسبة لهذا القياس يقولون: أنتم تجيزون بيع لبن الإبل والبقر والغنم بالإجماع، ولا فرق بين لبن الآدمية ولبن الإبل والبقر والغنم، هذا فضلة حيوان وهذا فضلة حيوان، وكل منهما فضلة مباحة، فلا بأس بذلك.
وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمة الله عليهم، ووافقهم بعض الحنابلة فقالوا: لا يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب. واحتجوا بأن لبن الآدمية جزء من الآدمي، والآدمي لا يجوز بيع أجزائه أو أعضائه؛ ولذلك لا يجوز بيع الآدمية كما لا يجوز بيع أعضاء الإنسان الآدمي، بجامع كون كل منهما جزءاً من البدن، والإنسان لا يملك نفسه ولا يملك أجزاء نفسه فلا يجوز أن يبيعها؛ لأن البيع لا يصح إلا بشيء يملكه، فإذا كان الإنسان لا يملك أجزاءه فلا يصح أن يبيع ما لا يملك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما لا يملك.
إذا ثبت هذا فالحنفية كلامهم صحيح: أن أجزاء الآدمية لا يجوز بيعها.
ثانياً: قالوا: إن بيع الآدمي فيه امتهان، والله يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]. فإذاً ينبغي أن يكرم.
أما مسألة الرقيق فهذه مستثناة لورود النص، لكن من حيث الأجزاء ليس عندنا نص يجيز البيع، فإذا ثبت أن أجزاء الآدمي ليست محلاً للبيع، فإذاً: لبن المرأة مثل يدها ورجلها وأعضائها. فكما أنكم تقولون: لا يجوز بيع أعضاء الآدمية فإنه لا يجوز بيع لبنها، بجامع كون كل منها جزءاً من البدن.
واعترض عليهم الجمهور وقالوا: إن أعضاء الآدمية ليست كاللبن، فاللبن فضلة سائلة، وينفصل من البدن ويخرج منه، والأعضاء لا تنفصل إلا بضرر، فقال الحنفية: نعطيكم أجزاء تستحلب من البدن: فما رأيكم في دموع الآدمية أو دمها؟ وما رأيكم في البصاق واللعاب وغيرها من الفضلات السائغة هل يجوز بيعها؟ قالوا: لا يجوز بيعها، قالوا: إذاً لبن الآدمية لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع دموعها ودمها وفضلاتها.
قيل لهم: إن الدموع والفضلات لا فائدة فيها، ولكن اللبن فيه فائدة.
فالذي يظهر أن مذهب الجمهور بجواز صحة البيع هو الأقوى؛ لأن الله تعالى أحل دفع العوض على اللبن، وهذا يدل على أنه محل للمعاوضة، فكما جاز استحقاق الأجر عليه بالإجارة جاز استحقاق العوض عليه في البيع.
إذاً الخلاصة: أن استئجار المرأة للبن إن كان على المدة -كقوله: أرضعي ولدي ساعة، أو يوماً، أو شهراً- فهو جائز، وهو منصوص عليه في قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] وأما إذا كان العقد وارداً على ذات اللبن فهذا بيع، وفيه التفصيل الذي ذكرنا.
تبقى مسألة: لو كان الحليب في ثدي المرأة، فقالت المرأة: أبيعك ما في ثديي من اللبن. لم يجز بإجماع العلماء والسبب: أن الذي في الثدي مجهول، ولا ندري أهو قليل أم كثير، فتحريمه من جهة الجهالة.
نقع البئر وماء الأرض
هذه المسألة في مسألة إجارة الأرضين.
ذكرنا في الشرط الذي معنا: أنه يتشرط في المنفعة أن تتعاقد مع أخيك على منفعة الشيء لا على أجزائه.
فيرد السؤال: لو أن شخصاً عنده أرض زراعية ليس فيها زرع، ولكن فيها بئر وهي صالحة للزراعة، فجاءه رجل وقال: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض من أجل أن أزرعها السنة بمائة ألف. فقال: قبلت. وتم العقد بينهما؛ جاز ذلك وصح، وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وهو قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
وذلك لحديث رافع بن خديج في الصحيح، أن ما كان بذهب وفضة فلا بأس، أي: ما كان من إجارة الأرضين الزراعية بالذهب أو الفضة فلا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص فيه.
وإذا ثبت أنه يجوز إجارة الأرضين للزراعة فقد يعترض المعترض ويقول: أنتم تجيزون إجارة الأرض للزراعة، مع أن الأرض فيها ماء، ولا تصح إجارة الأرض للزراعة إلا إذا كان فيها ماء، والماء يستهلك بذاته، فمعنى ذلك: أن العقد وقع على الأجزاء ولم يقع على المنافع، وأنتم تقولون: الإجارة يشترط فيما ألا يتم العقد على أجزاء العين المؤجرة، فكيف تصححون إجارة الأرضين للزراعة مع أن الماء المستهلك في زرعها جزء من العين المؤجرة؟
والجواب: أن القاعدة تقدمت معنا في باب البيوع، وذكرنا دليلها من حديث ابن عمر في الصحيحين: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل. فالماء هنا تبع للأرض، ويجوز أن يباع الشيء تبعاً لكنه لا يجوز أن يباع استقلالاً، ويجوز أن يكون تابعاً بإجارة أو نحوها لكنه لا يجوز أن يكون أصلاً في الإجارة، فجاز تبعاً، وبينا أن هذه القاعدة صحيحة في العبادات والمعاملات، وذكرنا من أمثلتها في العبادات: أن الإجماع منعقد على أن المسلم لا يجوز له أن يصلي عن الميت، وأن الميت إذا مات لا تجوز العبادات البدنية عنه إلا ما استثناه الشرع من الصيام عنه على التفصيل الذي ذكرناه في باب الصيام.
ولكننا قلنا: لو أنه حج عن ميت فطاف، وأراد أن يصلي ركعتي الطواف فإن الصلاة وقعت هنا تبعاً ولم تقع أصلاً، فصحت العبادة تبعاً ولم تصح أصلاً.
وذكرنا في بيع النخل قبل بدو صلاحه إذا باعه وقد أُبِّر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فصحح عليه الصلاة والسلام وقوع الثمرة بالبيع تبعاً للبستان إذا بيع، مع أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها إذا كانت مؤبرة وقبل أن يبدو صلاحها استقلالاً، فهذا كله مفرع عن القاعدة التي ذكرناها: يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن الماء الموجود داخل الأرض الزراعية تبع وليس بأصل.
ونفرع على هذا مسائل معاصرة، فمثلاً: الاستئجار في الفنادق؛ في غرفة الفندق منافع في دورات المياه، ويجد فيها منافع في مكان جلوسه، مثل: المناديل والصابون ونحوها من الأشياء التي يرتفق بها، فوقع استهلاك هذه الأعيان تبعاً ولم يقع أصلاً، فإن وقع أصلاً لا يجوز، لكن إذا وقع تبعاً فإنه يصح؛ لأنه يصح في التابع ما لا يصح في الأصل.
فتتفرع هذه المسألة من أخذ المنافع، فلو أنك ركبت سيارة أجرة، فستجد -مثلاً- علبة المناديل، وقد جرى العرف أن توضع علبة المناديل في السيارة، فلو أخذت من مناديلها فلا زالت مناديلك، فكل شيء له قيمته وكل شيء له حقه، فأنت تستحقها بالركوب رفقاً، لكن هذا تبع وليس بأصل.
فاستهلاك الذوات التي جرى العرف باستهلاكها كالماء في الأرض والزرع، وهكذا بالنسبة للمنافع والأعيان الموجودة في منافع الأشياء المؤجرة في المركوبات والعقارات، كلها جائزة على سبيل التبع لا على سبيل الأصل.
القدرة على تسليم العين المؤجرة
هذا هو الشرط الثالث: أن يكون قادراً على تسليم المنفعة.
أنت حينما تستأجر شيئاً ينبغي أن تضمن حقك في الوصول إلى المنفعة، وهذا الشرط سنفصل فيه -إن شاء الله- في المجلس القادم، وهو مبني على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وسنبين -إن شاء الله- وجه اشتراط العلماء رحمهم الله للقدرة على تسليم المنافع في الإجارة.
يقول رحمه الله: [و يشترط في العين المؤجرة: معرفتها بعين، أو صفة في غير الدار ونحوها].
العين المؤجرة تستوفى منها المنافع، ولا يمكن للإنسان أن يستأجر محلاً لا يعرفه ولم يوصف له، فهذا مما فيه الغرر، ومن أمثلة ذلك:
أن يستأجر داراً دون أن يكون قد رآها وشاهد غرفها ومنافعها لكي ينظر هل تصلح له أو لا تصلح، فإذا تم التعاقد بين الطرفين على عين من أجل الإجارة، فإنه لابد وأن تكون العين معروفة، قال رحمه الله: (أن تكون العين المؤجرة) أي: مثل: البيت.. العمارة.. الشقة.. الفلة.. المزرعة.. السيارة.. الدابة... فهذه كلها أعيان مؤجرة يقصد من ورائها المنافع.
إذا أجرك البيت من أجل تسكن، فالمنفعة هي السكنى، أو أجرك الأرض من أجل أن تزرع، فالمنفعة هي الزراعة، وحتى لو كانت الإجارة باليومية فقد يؤجر ديوان مزرعته من أجل أن تجلس فيه للراحة والاستجمام ونحو ذلك، فتكون المصلحة والمنفعة هي الارتفاق بهذا الموضع.
إذاً: لابد أن تكون العين التي هي محل التعاقد بين الطرفين معروفة للمستأجر؛ والسبب في هذا: أنه لو أجره شيئاً يجهله وقال له: أؤجرك سيارة. وظن المستأجر أنها جيدة، فإذا بها رديئة، فلربما كان يظن أن فيها منافع قد يرتاح إذا ركبها، فإذا به يفاجأ بالسيارة ليست فيها تلك المنافع، فيقول: يا فلان! أنا استأجرت منك السيارة لمنافع معينة، وهذه السيارة ليس فيها تلك المنافع.
فيقول: أجرتك السيارة، وقد قبلت.
فيحدث التشاحن والبغضاء بين الطرفين، فالشريعة تريد من الطرفين إذا تم التعاقد بينهما على عين مؤجرة أن تكون العين معروفة إما برؤية، أو بصفة في غير الدار أو نحوها.
(برؤية) مثال ذلك: لو كان لك جار عنده سيارة، وهذه السيارة يؤجرها للسفر، فأردت أن تسافر، فقلت له: أريد أن توصلني إلى المدينة. فقال: أوصلك بسيارتي. فأنت تعرف سيارته وتعرف صفاتها، إذاً يصح، وهذا هو معنى الرؤية، أي: سبق لك وأن رأيت سيارته.
أو قال له: أؤجرك أرضي الزراعية التي في موضع كذا. وأنت قد سبق وأن رأيتها، إذاً: المعرفة منك أنت المستأجر للعين المؤجرة بسبق رؤية.
(أو بصفة) يقول لك: أؤجرك عمارة بجوار الحرم أو على شارع كذا. ويصفها لك وصفاً تاماً بحيث إن هذا الوصف يخرج فيه الإنسان من الغرر الذي يترتب على الجهالة، فإذا وصفها كذلك فحينئذٍ يصح، لكن يستثنى من هذا الدور؛ لأن الدور كانت تختلف في الزمن القديم، ولم تكن مثل زماننا اليوم، حيث تخطط، وتكون أطوال الغرف دقيقة ومفصلة، بل كانت في القديم تختلف في أطوالها وأحجامها، ويصعب فيها الوصف؛ ولذلك قالوا في الدور: لابد وأن تشاهدها؛ لأجل دفع الغرر، وسنأتي إلى هذا المستثنى.
الأصل عندنا: أنه لابد أن تتقدم معرفة العين، إما برؤية كأن تكون قد عرفت سيارته أو عمارته أو فلته أو شقته، وسبق المعرفة يكون إما بالرؤية أو بالوصف، يقول لك: أجرتك سيارة. السيارة فيها الكبير وفيها الصغير، فقد تقول له: أريد منك أن توصلني إلى المدينة. قال: أوصلك وعائلتك -مثلاً- كل واحد بمائتين. قلت: قبلت. فربما تقبل بعائلتك أن تركب في سيارة خاصة، لكن لا ترضى أن تركب مع غيره، إذاً: لابد أن يحدد هل هي سيارة مشتركة أو سيارة منفصلة؛ لأنك قد تتضرر بالركوب مع غيره، وهل هي مكيفة أو غير مكيفة، صغيرة أو كبيرة؛ لأن الشريعة تريد من المستأجر أن يدخل في عقد الإجارة على بينة لا غرر فيها، ويكون مطمئناً أن يدفع المال في شيء يرى في نظره أنه يستحق.
إذاً: علمنا أنه لابد من الرؤية أو الصفة، فحينئذٍ لو أجر سيارة بدون رؤية أو صفة فقال له: أوصلك إلى المدينة بسيارتي، لم يجز ذلك حتى يبين ويحدد؛ دفعاً للضرر ودفعاً للمفسدة، وهكذا لو أراد أن يستأجر السيارة باليومية مثلما هو موجود الآن، فيأخذ السيارة ويستأجرها يوماً بمائة، أو كل مائة كيلومتر بألف ريال مثلاً، فإذا أراد أن يستأجر هذه السيارة فلابد أن تحدد الشركة المؤجرة نوعية السيارة وأوصافها؛ حتى يخرج من الغرر؛ ويكون حقه مضموناً من هذا الوجه.
ومسألة معرفة العين المؤجرة بالرؤية أو الصفة يترتب عليها حكم شرعي، وهو: أنه لو وصف لك السيارة، أو كنت تعرفها سابقاً بالرؤية، وتبين الأمر على خلاف ما عهدت أو خلاف ما وصف لك؛ فحينئذٍ يثبت لك خيار الرؤية بعد تبين حقيقة العين المؤجرة، مثال ذلك:
قال لك شخص: أؤجرك سيارتي الفلانية إلى المدينة بألف. فقلت له: قبلت.
وعهدك بالسيارة أنها مكيفة ونظيفة، فجئت وإذا بالسيارة مختلفة تماماً عن ذلك، عند ذلك لك خيار العين، فمن حقك أن ترجع وتقول: إنني أعرفها جيدة فأصبحت رديئة. لأن السيارة إذا كانت رديئة تعطلك عن المصالح بالتأخر، ولربما يخشى الإنسان منها الضرر أثناء قيادتها.
إذاً: إذا اختلفت العين المؤجرة عما عهدت من سبق الرؤية كان لك خيار، وخيار الرؤية يثبت في بيع الغائب كما ذكرناه في البيوع، ويثبت في العين المؤجرة الغائبة إذا وصفت.
ورؤية: كان له سبق رؤية فاختلفت عما كان يعهدها عليه، أو وصفها له فاختلفت الصفة، قال المستأجر: السيارة مكيفة؟ قال المؤجر: نعم. مكيفة. فلما ركب معه إذا بها غير مكيفة، إذاً: من حقه أن يفسخ عقد الإيجار؛ لأن هذا يعتبر تدليساً وغشاً، وبعض العلماء يقول: إنه يلزم بتأمين سيارة مثل ما وصف. أي: بدلاً عما وصف، فيلزم الطرف الثاني بتهيئة هذا النوع من السيارات على الصفة المتفق عليها.
إذاً: يشترط في المنفعة أن تكون العين التي تكون منها المنفعة معروفة عند المستأجر: إما برؤية، أو بصفة في غير الدار، وقلنا: الدور تختلف بحسب اختلاف أحجام الغرف واختلاف أحجام المنافع، فقالوا: لابد في إجارة الدور من الرؤية والمشاهدة، فلو أنه أجره شقة بالوصف على هذا القول لم يصح من حيث الأصل حتى يقف ويرى الشقة على حقيقتها؛ لأنها تختلف، ولا يمكن أن توصف وصفاً خالياً من الغرر.
أما بالنسبة لنحو الدور فمثل الحمامات في القديم، وقد ذكرنا هذا؛ لأنهم في القديم كانوا يؤجرون الحمامات من أجل الاغتسال، فالحمام يختلف حوضه صغراً وكبراً، ويختلف من حيث النظافة ونحوها، فقالوا: لابد من الرؤية.
ولذلك نجد الآن في بعض الفنادق إذا استأجر المستأجر يعطونه المفتاح ويقولون له: شاهد الغرفة. وهذا شيء طيب؛ لأن هذا يمكن المستأجر من أن يكون على بينة من الشيء الذي يستأجره، ويكون على بينة من الشيء الذي يريد أن يرتفق بها، وهكذا بالنسبة لإجارة المحلات ونحوها.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3705 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |