شرح زاد المستقنع باب الشركة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلا زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه للشروط التي ينبغي توافرها للحكم بصحة شركة العنان، ومن ذلك: مسألة الربح، فإن الشريكين إذا دفع كل واحد منهما مالاً واتفقا على المتاجرة بالمال الذي اشتركا فيه، فإنه ينبغي أن يحددا نسبة ربح لكل منهما، وذلك لأن أصل عقد الشركة يقتضي المشاركة في الربح.

وبناءً على هذا: لا يجوز أن يكون الربح كله لواحد منهما، فلو دفع كل واحد منهما عشرة آلاف -مثلاً- واتفقا على أن الربح لأحدهما لم يصح؛ لأن مقتضى الشراكة أن يكون لكل منهما نصيب من هذا الربح.

وقد بيَّن المصنف رحمه الله أن لكل واحد من الشريكين حظاً من الربح، ثم هذا الحظ من الربح، لابد أن يكون مشاعاً معلوماً، فلما قال: [مشاعاً] دل على أنه لا يجوز أن يستبد به أحدهما دون الآخر، كما يقول رجل لآخر: أعطني عشرة آلاف وأدفع أنا عشرة آلاف وتكون الشركة بيننا، والربح كله لي أو الربح كله لك، فإنه غير مشاع، ولا يجوز.

كذلك ينبغي أن يكون هذا المشاع معلوماً، فلو قال له: ادفع عشرة آلاف، وأنا أدفع عشرة آلاف، ونشترك في تجارة العود -مثلاً-، على أن لي جزءاً من الربح، ويسكت، ولا يحدده، ولا يبين كم قدر ذلك الجزء من الربح، فإنه لا يجوز؛ لأنه مشاع غير معلوم.

فلابد أن يكون الربح مشاعاً ومعلوماً.

ومشاعاً: أي: لا يستبد به أحدهما دون الآخر.

ومعلوماً: أي: غير مجهول، والجهالة في الربح تكون بالنصيب نفسه، كقوله: نشترك بعشرين ألفاً، تدفع عشرة آلاف، وأدفع عشرة آلاف، ولك جزء من الربح نتفق عليه لاحقاً، أو سوف نتراضى على الربح، أو نقتسم الربح بيننا بعد ذلك بما يُرضي كل منا الآخر، كل هذا من الجهالة، وقد قال جماهير السلف والخلف بعدم جواز هذا النوع من الشركة، وهو أن يكون نصيب كل واحد منهما مجهولاً في الشركة.

إذاً: تكون الجهالة بعدم تحديد النسبة -نسبة كل واحد منهما من الربح- وتزول هذه الجهالة بالتحديد، كقوله: لي نصف الربح ولك نصفه، أو لي ثلثا الربح ولك ثلث، أو لي ثلاثة أرباع الربح ولك الربع، وهكذا.

فقوله: النصف، أو الثلثان، أو الثلاثة أرباع والربع، كله مشاع معلوم؛ لأن نسبة النصف معلومة، ونسبة الثلث والربع معلومة، على خلاف بين العلماء: هل ينبغي أن يكون الربح متعلقاً برأس المال؟

فمثلاً: إذا دفعنا رأس مال مشترك بيننا بالسوية، فهل ينبغي أن يكون الربح بالسوية؟ فمن دفع النصف من رأس المال يكون له النصف من الربح، ومن دفع الثلثين، يكون له الثلثان من الربح؟ هذا لا شك أنه أحوط الأقوال وأولاها -إن شاء الله- بالصواب، وهو أن الربح يتعلق برأس المال، وذلك لأن شركة العنان لا تشبه شركة المضاربة كما يقول بعض الفقهاء، فيجيز تفاضل النسبة في الربح بتفاضل العمل.

والأقوى والأشبه بالأصول: أنه لابد أن تكون نسبة الربح على نسبة رأس المال، فإذا اشتركا بعشرين ألفاً ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف، فالربح ينبغي أن يكون مناصفةً بينهما، وإذا كان المبلغ أربعين ألفاً دفع أحدُهما ثلاثين ألفاً، ودفع الآخر عشرة آلاف، فالربح يكون بينهما أرباعاً، ثلاثة أرباع لِمَن دفع ثلاثين، والربع يكون للآخر.

وإن كان بعض العلماء يجيز التساوي في رأس المال مع التفاضل في الربح، كأن تدفع خمسين ألف ريال، ويدفع الآخر خمسين ألف ريال، ويكون لأحدكما ثلثا الربح، فقد تفاضل الربح مع تساوي رأس المال، وإن كان الأوجه والأقرب -إن شاء الله- للصواب التساوي؛ لأن القياس هنا مُعْتَرَضٌ عليه، وسنبين -إن شاء الله- في باب المضاربة أنه قياس على الخارج من الأصل، ولا يستقيم على هذا الوجه.

قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يذكرا الربحَ، أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً، أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:

عدم تسمية الربح

(فإن لم يذكرا الربحَ): إذا لم يذكر الطرفان الربح وقالا: نشترك بأربعين ألفاً ودخلا في الشركة ولم يحددا نسبة ربح كل منهما من المال، فإنه لا يجوز، ولا تصح الشركة.

والسبب في هذا أن العلماء رحمهم الله يقولون: إن الربح محل العقد في الشركة، ومعنى قولهم: (محل العقد) أي: أن العقد ورد عن الربح، فمثلاً: حينما تتفق مع شخص على التجارة في السيارات، وتقول: نشترك في شركة بخمسين ألفاً، تدفع نصفها، وأدفع أنا نصفها، ونتاجر في السيارات، نشتري السيارات ونبيعها ونستثمر، فإنكما إذا اتفقتما على الخمسين ألفاً أن تتاجرا فيها، فإن محل العقد ومورد الصيغة (نشترك) على الخمسين ألفاً وعلى ربحها ونتاجها.

إذاً: محل العقد منصب على الربح، ومنصب على رأس المال، قالوا: وإذا كان العقد منصباً على محله، وهو الربح، فلا يجوز أن يكون الربح مجهولاً، كما لا يجوز في البيع أن يكون الثمن والمُثْمَن مجهولاً، وقد بينا في البيع أنه لا يصح أن يتعاقد الطرفان في المعاوضة على شيء مجهول، كذلك هنا لا يصح أن يتعاقد الشريكان بدفع كل منهما لمال، وهو لا يدري كم ربحه من ذلك المال، ثم إن وجود الجهالة في الربح تفضي إلى الخصومة والنزاع، وتفضي إلى الأذية والإضرار؛ لأن كلاً منهما سيحاول بعد ذلك أن يكون له الأحظ من الربح، وحينئذٍ يظلم أحدهما الآخر، ولربما وقعت في ذلك الشحناء، وقد بينا أن الشريعة لا تجيز الوسائل المفضية إلى المفاسد المحرمة، كالشحناء ونحوها من الخصومات والنزاعات التي تترتب على الجهالة، وقد فصلنا هذه المسألة، وبيناها وبينا مقاصد الشريعة حينما تكلمنا على بيع المجهول.

أن يشترط أحدهما جزءاً مجهولاً

قوله: [أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً]:

مثل أن يقول: لي شيء من الربح، فالشيء من الربح مجهول، ما يُدرَى أهو كثير أو قليل، فهذا لا يجوز.

أن يشترط أحدهما دراهم معلومة

قوله: [أو دراهم معلومة]: كقوله: نشترك ولي ألف، أو لي عشرة آلاف من الربح، فلا يجوز.

وقوله: [أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:

إذا حدد أحد الشريكين شيئاً من الشركة على أن يأخذ ربحه، فإنه محرم ولا يجوز؛ لأنه قد لا يربح إلا هذا الثوب، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على تحريم هذا النوع من الاشتراط.

فقوله: [فإن لم يذكرا الربحَ، أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً، أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:

والدراهم المعلومة في زماننا كقوله: نشترك بعشرين ألفاً، ويكون لي كل شهر -مثلاً- ألف ريال، أو يكون لي في نهاية الشركة عشرة آلاف؛ لاحتمال ألَّا تربح الشركة إلا هذه، فإنه لو قال لي: أشاركك بعشرين ألفاً، منك نصفها، ومني نصفها، على أن آخُذَ عشرةَ آلافٍ من الربح، أو آخُذَ عشرين ألفاً، أو آخُذَ خمسةَ آلافٍ، أو آخُذَ ألفاً، فإنه إذا حدد شيئاً معيناً من المال فإنه غرر، وقد نص جماهير العلماء حتى إن ابن المنذر رحمه الله يحكي الإجماع على أنه إذا اشترط مالاً معيناً كألف ريال أو عشرة آلاف درهم أو نحو ذلك أن الشركة باطلة، ولا يجوز أن يحدد مالاً معيناً أو جزءاً معيناً؛ لأنه يحتمل أن الشركة لا تربح إلا هذا الشيء.

ومن أمثلة هذا النوع في زماننا: أن يشتركا -مثلاً- في تجارة العود، فيقول له: نشترك في تجارة العود خشباً ودهناً، ويكون رأس المال خمسين ألف ريال، اتفقا ودفعا الخمسين ألفاً، هذا خمسة وعشرون، وهذا خمسة وعشرون، فلما أرادا التعاقد على إتمام الشركة قال أحدهما: أشترط أن يكون لي ربح عود الخشب، ويكون لك ربح عود الدهن. فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا يربحا إلا عود الدهن، فيُظلم أحدهما بنصيبه، ويستفيد الآخر من نصيب صاحبه دون أن يعاوضه بحق الشركة، والعكس: فلو قال له: لي ربح الخشب، فإنه يحتمل ألَّا يربح إلا الخشب، فحينئذٍ يُظلم الطرف الثاني الذي يكون له ربح الدهن.

وعلى هذا قال العلماء: يدخلان في الشركة ويكون الربح مشاعاً بينهما، فلا يحددان نسبةً معينةً، ولا ربحاً من جزء معين، ولا من نتاجٍ معينٍ من الشركة، بل يكون على أصل الشيوع الذي ذكرناه.

وقد حكى ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أنه لو ذكر مع النسبة شيئاً معيناً كقوله: لي ألف ريال كل شهر، أو لي خمسمائة كل شهر، كأن يقول له: أدخل معك، ونشترك في تجارة العود، أو تجارة السيارات؛ ولكن أشترط أنني آخذ كل شهر ألف ريال، أو آخذ كل شهر خمسمائة ريال، فإنه لا يجوز؛ لأن فيه غرراً، ولذلك خرج عن مقتضى الشركة بالتميز عن صاحبه بهذا القدر.

اشتراط ما يوجب الضرر والغرر

[أو ربح أحد الثوبين]: قوله: لي ربح أحد الثوبين: هذا إذا اشتركا في شراء ثوبين، فقال أحدهما: تأخذُ أنت ربح الثوب القطن، وآخذُ أنا ربح الثوب الصوف، فهذا لا يجوز؛ لأنه يفصل ربح الشركة عن الطرفين. وهذه أمثلة -كما ذكرنا غير مرة- أن العلماء والفقهاء رحمهم الله يذكرون أمثلة يقصدون منها التقعيد.

والمسألة ليست في الثياب، إنما المسألة أنه لا يجوز أن يعطيه ربحاً مجهولاً.

وفي حكم الجهالة: التغريرُ، كأن يدخلا في الشركة في تجارة الأقمشة -مثلاً-، فيشتريا بنصف المال أقمشة من القطن، وبالنصف الآخر أقمشة من الصوف، فيقول أحدهما للآخر: الآن اشترينا القماش، فتأخذُ أنت ربح الصوف، وآخذُ أنا ربح القطن، فلا يجوز، فكما أن الجهالة تكون في الأول، كذلك تكون أيضاً في الأخير، وتكون في الأثناء. فإذا قال له: تأخذُ ربح كذا، وآخذُ ربح كذا، فلا يجوز.

وفي زماننا: لو أنهما اشتركا بمائة ألف ريال ودخلا في الشركة، وكان من عادتهما أن يسافر أحدهما إلى الخارج ليجلب التجارة، فالشركة بينهما تستلزم بضائعَ تستورَد ثم تُباع، فقال أحدهما: السفرة الأولى لي ربحُها، والسفرة الثانية لك ربحُها، تسافر أنت وتأخذ الربح، أو أسافر أنا وآخذ الربح، أو لي ربح السفر إلى المشرق، ولك ربح السفر إلى المغرب.

إذاً: ليس مراد العلماء في مسألة (لي ربح أحد الثوبين) القصر على الثياب أو على مسألة البضائع إذا كانت من الثياب، لا. إنما هي قاعدة: أن الشركة تستلزم دخول الشريكين مستويين، من بداية العقد إلى نهاية العقد.

وبناءً على ذلك: فلو اشترط أحدهما على الآخر نصيباً معيناً، مثل: لي ربحُ أحدِ الثوبين، أو لي ألفُ ريالٍ كل شهر، أو لي عشرةُ آلافٍ كل سنة، أو لي من الربح صافياً خمسةُ آلافٍِ، ثم نقسم الربح بيننا، كل ذلك مما يوجب الجهالة، ومما يغرر بالطرف الآخر الذي فرض عليه الشرط.

وعلى هذا لا يجوز أن يحدد ربحاً من أحد المبيعات، ولا يجوز -كما في زماننا- أن يحدد ربح سَفْرة من السَّفْرات، أو يقول له: إذا كانت السَّفْرة إلى جهة كذا كان لي ربحها، وأنت إلى جهة أخرى يكون لك ربحها، أو تكون التجارةُ صيفيةً شتويةً، فيقول: لي ربح الصيف، ولك ربح الشتاء، كتجارة الرطب والتمر -مثلاً-، فيقول له: ندفع مائة ألف ونشتري التمر ونبيعه، ونشتري الرطب ونبيعه، فما كان من نتاج الرطب فلك ربحه، وما كان من نتاج التمر فلي ربحه.

وهكذا لو أن الشريكين دخلا في الشركة، على أن يتاجرا -مثلاً- في العطورات عموماً، وكان أحدهما أعرف بالعود، والآخر يعرف بقية الأصناف، فشاء الله أن الذي يعرف العود قال: أسافر وأجلب العود وأبيعه ولي ربحه، وأنت تسافر للأنواع الأخرى ولك ربحها. هذا كله لا يجوز. لماذا؟

أولاً: لأن مقتضى عقد الشركة يستلزم دخولهما سوياً في الربح، وأن يكون أحدهما حاملاً لكسر الآخر.

ثانياً: لأننا لو أجزنا هذا النوع لغرر أحدهما بالآخر؛ لاحتمال ألَّا يربح إلا الوجه الذي حدده، واحتمال ألَّا يربح إلا الصفقة أو العَرَض الذي خصه، وفي ذلك ضرر على الطرف الثاني.

(فإن لم يذكرا الربحَ): إذا لم يذكر الطرفان الربح وقالا: نشترك بأربعين ألفاً ودخلا في الشركة ولم يحددا نسبة ربح كل منهما من المال، فإنه لا يجوز، ولا تصح الشركة.

والسبب في هذا أن العلماء رحمهم الله يقولون: إن الربح محل العقد في الشركة، ومعنى قولهم: (محل العقد) أي: أن العقد ورد عن الربح، فمثلاً: حينما تتفق مع شخص على التجارة في السيارات، وتقول: نشترك في شركة بخمسين ألفاً، تدفع نصفها، وأدفع أنا نصفها، ونتاجر في السيارات، نشتري السيارات ونبيعها ونستثمر، فإنكما إذا اتفقتما على الخمسين ألفاً أن تتاجرا فيها، فإن محل العقد ومورد الصيغة (نشترك) على الخمسين ألفاً وعلى ربحها ونتاجها.

إذاً: محل العقد منصب على الربح، ومنصب على رأس المال، قالوا: وإذا كان العقد منصباً على محله، وهو الربح، فلا يجوز أن يكون الربح مجهولاً، كما لا يجوز في البيع أن يكون الثمن والمُثْمَن مجهولاً، وقد بينا في البيع أنه لا يصح أن يتعاقد الطرفان في المعاوضة على شيء مجهول، كذلك هنا لا يصح أن يتعاقد الشريكان بدفع كل منهما لمال، وهو لا يدري كم ربحه من ذلك المال، ثم إن وجود الجهالة في الربح تفضي إلى الخصومة والنزاع، وتفضي إلى الأذية والإضرار؛ لأن كلاً منهما سيحاول بعد ذلك أن يكون له الأحظ من الربح، وحينئذٍ يظلم أحدهما الآخر، ولربما وقعت في ذلك الشحناء، وقد بينا أن الشريعة لا تجيز الوسائل المفضية إلى المفاسد المحرمة، كالشحناء ونحوها من الخصومات والنزاعات التي تترتب على الجهالة، وقد فصلنا هذه المسألة، وبيناها وبينا مقاصد الشريعة حينما تكلمنا على بيع المجهول.

قوله: [أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً]:

مثل أن يقول: لي شيء من الربح، فالشيء من الربح مجهول، ما يُدرَى أهو كثير أو قليل، فهذا لا يجوز.

قوله: [أو دراهم معلومة]: كقوله: نشترك ولي ألف، أو لي عشرة آلاف من الربح، فلا يجوز.

وقوله: [أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:

إذا حدد أحد الشريكين شيئاً من الشركة على أن يأخذ ربحه، فإنه محرم ولا يجوز؛ لأنه قد لا يربح إلا هذا الثوب، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على تحريم هذا النوع من الاشتراط.

فقوله: [فإن لم يذكرا الربحَ، أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً، أو دراهم معلومة، أو ربح أحد الثوبين، لم تصح]:

والدراهم المعلومة في زماننا كقوله: نشترك بعشرين ألفاً، ويكون لي كل شهر -مثلاً- ألف ريال، أو يكون لي في نهاية الشركة عشرة آلاف؛ لاحتمال ألَّا تربح الشركة إلا هذه، فإنه لو قال لي: أشاركك بعشرين ألفاً، منك نصفها، ومني نصفها، على أن آخُذَ عشرةَ آلافٍ من الربح، أو آخُذَ عشرين ألفاً، أو آخُذَ خمسةَ آلافٍ، أو آخُذَ ألفاً، فإنه إذا حدد شيئاً معيناً من المال فإنه غرر، وقد نص جماهير العلماء حتى إن ابن المنذر رحمه الله يحكي الإجماع على أنه إذا اشترط مالاً معيناً كألف ريال أو عشرة آلاف درهم أو نحو ذلك أن الشركة باطلة، ولا يجوز أن يحدد مالاً معيناً أو جزءاً معيناً؛ لأنه يحتمل أن الشركة لا تربح إلا هذا الشيء.

ومن أمثلة هذا النوع في زماننا: أن يشتركا -مثلاً- في تجارة العود، فيقول له: نشترك في تجارة العود خشباً ودهناً، ويكون رأس المال خمسين ألف ريال، اتفقا ودفعا الخمسين ألفاً، هذا خمسة وعشرون، وهذا خمسة وعشرون، فلما أرادا التعاقد على إتمام الشركة قال أحدهما: أشترط أن يكون لي ربح عود الخشب، ويكون لك ربح عود الدهن. فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا يربحا إلا عود الدهن، فيُظلم أحدهما بنصيبه، ويستفيد الآخر من نصيب صاحبه دون أن يعاوضه بحق الشركة، والعكس: فلو قال له: لي ربح الخشب، فإنه يحتمل ألَّا يربح إلا الخشب، فحينئذٍ يُظلم الطرف الثاني الذي يكون له ربح الدهن.

وعلى هذا قال العلماء: يدخلان في الشركة ويكون الربح مشاعاً بينهما، فلا يحددان نسبةً معينةً، ولا ربحاً من جزء معين، ولا من نتاجٍ معينٍ من الشركة، بل يكون على أصل الشيوع الذي ذكرناه.

وقد حكى ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أنه لو ذكر مع النسبة شيئاً معيناً كقوله: لي ألف ريال كل شهر، أو لي خمسمائة كل شهر، كأن يقول له: أدخل معك، ونشترك في تجارة العود، أو تجارة السيارات؛ ولكن أشترط أنني آخذ كل شهر ألف ريال، أو آخذ كل شهر خمسمائة ريال، فإنه لا يجوز؛ لأن فيه غرراً، ولذلك خرج عن مقتضى الشركة بالتميز عن صاحبه بهذا القدر.

[أو ربح أحد الثوبين]: قوله: لي ربح أحد الثوبين: هذا إذا اشتركا في شراء ثوبين، فقال أحدهما: تأخذُ أنت ربح الثوب القطن، وآخذُ أنا ربح الثوب الصوف، فهذا لا يجوز؛ لأنه يفصل ربح الشركة عن الطرفين. وهذه أمثلة -كما ذكرنا غير مرة- أن العلماء والفقهاء رحمهم الله يذكرون أمثلة يقصدون منها التقعيد.

والمسألة ليست في الثياب، إنما المسألة أنه لا يجوز أن يعطيه ربحاً مجهولاً.

وفي حكم الجهالة: التغريرُ، كأن يدخلا في الشركة في تجارة الأقمشة -مثلاً-، فيشتريا بنصف المال أقمشة من القطن، وبالنصف الآخر أقمشة من الصوف، فيقول أحدهما للآخر: الآن اشترينا القماش، فتأخذُ أنت ربح الصوف، وآخذُ أنا ربح القطن، فلا يجوز، فكما أن الجهالة تكون في الأول، كذلك تكون أيضاً في الأخير، وتكون في الأثناء. فإذا قال له: تأخذُ ربح كذا، وآخذُ ربح كذا، فلا يجوز.

وفي زماننا: لو أنهما اشتركا بمائة ألف ريال ودخلا في الشركة، وكان من عادتهما أن يسافر أحدهما إلى الخارج ليجلب التجارة، فالشركة بينهما تستلزم بضائعَ تستورَد ثم تُباع، فقال أحدهما: السفرة الأولى لي ربحُها، والسفرة الثانية لك ربحُها، تسافر أنت وتأخذ الربح، أو أسافر أنا وآخذ الربح، أو لي ربح السفر إلى المشرق، ولك ربح السفر إلى المغرب.

إذاً: ليس مراد العلماء في مسألة (لي ربح أحد الثوبين) القصر على الثياب أو على مسألة البضائع إذا كانت من الثياب، لا. إنما هي قاعدة: أن الشركة تستلزم دخول الشريكين مستويين، من بداية العقد إلى نهاية العقد.

وبناءً على ذلك: فلو اشترط أحدهما على الآخر نصيباً معيناً، مثل: لي ربحُ أحدِ الثوبين، أو لي ألفُ ريالٍ كل شهر، أو لي عشرةُ آلافٍ كل سنة، أو لي من الربح صافياً خمسةُ آلافٍِ، ثم نقسم الربح بيننا، كل ذلك مما يوجب الجهالة، ومما يغرر بالطرف الآخر الذي فرض عليه الشرط.

وعلى هذا لا يجوز أن يحدد ربحاً من أحد المبيعات، ولا يجوز -كما في زماننا- أن يحدد ربح سَفْرة من السَّفْرات، أو يقول له: إذا كانت السَّفْرة إلى جهة كذا كان لي ربحها، وأنت إلى جهة أخرى يكون لك ربحها، أو تكون التجارةُ صيفيةً شتويةً، فيقول: لي ربح الصيف، ولك ربح الشتاء، كتجارة الرطب والتمر -مثلاً-، فيقول له: ندفع مائة ألف ونشتري التمر ونبيعه، ونشتري الرطب ونبيعه، فما كان من نتاج الرطب فلك ربحه، وما كان من نتاج التمر فلي ربحه.

وهكذا لو أن الشريكين دخلا في الشركة، على أن يتاجرا -مثلاً- في العطورات عموماً، وكان أحدهما أعرف بالعود، والآخر يعرف بقية الأصناف، فشاء الله أن الذي يعرف العود قال: أسافر وأجلب العود وأبيعه ولي ربحه، وأنت تسافر للأنواع الأخرى ولك ربحها. هذا كله لا يجوز. لماذا؟

أولاً: لأن مقتضى عقد الشركة يستلزم دخولهما سوياً في الربح، وأن يكون أحدهما حاملاً لكسر الآخر.

ثانياً: لأننا لو أجزنا هذا النوع لغرر أحدهما بالآخر؛ لاحتمال ألَّا يربح إلا الوجه الذي حدده، واحتمال ألَّا يربح إلا الصفقة أو العَرَض الذي خصه، وفي ذلك ضرر على الطرف الثاني.

[وكذا مُساقاةٌ، ومُزارَعةٌ، ومُضارَبةٌ]:

المساقاة: من السقي.

والمزارعة: من الزرع.

والمساقاة: أن يدفع رب الأرض التي عليها النخل وما في حكمه -وسيأتي إن شاء الله بيان ما الذي يلتحق بالنخل- أن يدفع النخل إلى العامل على أن يقوم بسقيه وإصلاحه ورعايته، والثمرة بينهما على ما اشترطا.

ومثال ذلك: عندك بستان ووقتك لا يسمح لك بالعمل فيه، أو ليست عندك خبرة بإدارة هذا البستان، فتأتي إلى عامل وتقول له: اشتغل في هذا البستان، واسقِ زرعه -يعني: النخل الموجود فيه- وأصلح النخل، ثم الثمرة الموجودة في النخل بيني وبينك مناصَفَةً، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيهود خيبر، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها)، فكانوا -أي: اليهود- يعملون في النخل، ويصلحونه، ويرعونه بالسقي، ويقومون على رعايته حتى تخرج الثمرة، فتُقسم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر رضي الله عنه، أخرجهم وأجلاهم، كما هو مشهور.

الشاهد: أن المساقاة أن يدفع رب الأرض للعامل الأرضَ على أن يعمل فيها، ويقول له: خذ جزءاً من الثمرة.

كيف نقدر المساقاة على مسألتنا؟

مثال ذلك أن يقول رب المال أو رب الأرض للعامل: اسقِ الأرض وأُرْضِيكَ.

فيقول: كم لي؟

فيقول له: لا يهمك، نتفق.

إذاً: يدخل المساقاة على جهالة، وهذا لا يجوز.

وإذا بطُلت ينقلب العامل إلى أجرة المثل، فيقدر تعبه، ويأخذ أجرة المثل، وسوف نبين ذلك إن شاء الله.

هذه هي جهالة النسبة.

ومن جهالة النسبة: إدخال المجهول على المعلوم، كقوله: اسقِ الأرض، ولك نصف ما يخرج، وهدية من عندي، أو رَضْوَة من عندي، فالرَّضْوَة مجهولة، وصحيحٌ أن نصف الثمرة معلوم. وإذا قال: أعطيك نصف الثمرة، فهذا معلوم؛ لكن إذا قال: أعطيك هديةً أو رَضْوَةً، صيَّرت المعلوم مجهولاً، والقاعدة تقول: (دخول المجهول على المعلوم يُصَيِّر المعلومَ مجهولاً)، فصحيحٌ أنه حدد النصف أو الربع؛ لكنه حينما أدخل الهديةَ والرَّضْوَةَ المجهولة أصبح المعلوم مجهولاً، ولذلك لا يجوز هذا النوع.

فنحن ذكرنا أن يجهل النسبة، أو يُدخل مجهولاً على النسبة المعلومة، أو يُدخل معلوماً مفروضاً أو معيناً من الأرض: معلوماً مفروضاً: يقول له: اسقِ الأرض ولك نصف الثمرة، وأعطيك كل شهر مائة، أو أعطيك خمسين، أو نحو ذلك.

أو يقول له: اسقِ نخلي وزرعي وأعطيك الثمرة التي في النوع الفلاني، فقد يكون نخله -مثلاً- سكرياً أو برحياً، فيقول للعامل: إن سقيت المزرعة فلك ثمرة البرحي، ولي ثمرة السكري. فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا تخرج إلا ثمرة السكري، فيُظلم رب الأرض؛ لأن هذا ماله، وله الحق أن يأخذ منه، واحتمال ألَّا يخرج إلا البرحي، فيُظلم العامل، فيكدح طيلة عامه بدون ثمرة وبدون نتيجة، فهذا مما فيه غرر وفيه ضرر، وكما ذكرنا في الشركة أنه إذا حدد جزءاً معلوماً فلا.

وقد قيل في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه والذي وقعت فيه الخصومة بين الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء المزارع، وعن إجارة الأراضي، حتى إن زيد بن ثابت رضي الله عنه استغفر لـرافع وقال: (أنا أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه)، وكذلك جاء عن رافع ما يدل فعلاً على أن النهي المراد به أن يقول: اسقِ الأرض وآخذُ الذي هو قريب من الماء، وتأخذ البعيد من الماء. وهذا فسره رافع كما في الصحيحين؛ يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذِيانات، وأقبال الجداول) فمن المعلوم أن القناطر كانت من التراب، وكانوا يزرعون، وبطبيعة الحال كان الثمر الذي يُزرع أو البذر الذي يُزرع بجوار القنطرة أجود وأفضل، وغالباً ما يسلم، فيقول رب الأرض: أنا آخذ الذي يلي الجدول، وأنت أيها العامل تأخذ الذي هو بعد الجدول، قال رضي الله عنه: (كانوا يؤاجرون على الماذِيانات -في القناطر- وأقبال الجداول -يعني: التي تجري فيها المياه- فيسلم هذا -أي: الذي عند الماء-، ويهلك هذا -البعيد عن الماء للعطش أو يخرج ضعيفاً-، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وأما ما كان بشيء معلوم فلا بأس) يعني: ما كان لا غرر فيه ولا ضرر ويدخل الطرفان فيه فلا بأس، مثلاً: حينما يقول له: ولك نصف الثمرة، دخل الاثنان، الصالح منها وغير الصالح، ودخل الاثنان في غُنْمها وغُرْمهما.

وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه لا يجوز للشريكين أن يغرر أحدهما بالآخر؛ لأن مقتضى عقد الشركة قائم على نصيحة كل منهما للآخر، ولا يمكن أن تصلح الشركة وأحدهما يستفضل نفسه على الآخر، ولا يمكن لشريك أن يعامل شريكه بأمانة ونزاهة ونصيحة وحرص على المصلحة للشركة إذا كان يعلم أن شريكه قد غبنه؛ لأنه يحس أنه مظلوم، ولربما تأثُّره بظلم شريكه يضر بمصالح الشركة، ولذلك لابد أن يدخلا وهما مستويان في الغُنْم والغُرْم.

وهذا على الأصل الذي ذكرناه، فلا يغرر رب المال، ولا يغرر الشريك بشريكه بتعيين ربح شيء معين، ولا نسبة مجهولة على الصفة التي بيناها وقررناها.

قوله: [ومُزارَعةٌ]:

كذلك المزارعة، كأن يكون عندك أرض زراعية ولا تحسن زراعتها، فتسلمها لرجل عنده خبرة، وهذا من سماحة الإسلام، وإن تبجح المعاصرون الذين لا يدينون بدين الإسلام أنهم نظموا أمورهم، فكم في الإسلام من تنظيمات وشرائع حكيمة عالية سامية؛ ولكن من الذي يفقهها؟! ومن الذي ينظر إلى هذه الشريعة نظرة تأمل، فيدرك فيها العدل والإنصاف، وإقامة الأمور على أتم الوجوه وأكملها؟!

فانظر إلى العامل العاطل الذي ليس عنده عمل، إذا بالشريعة تؤمِّن له ذلك عن طريق هذه العقود الشرعية، فالعامل الذي تكون عنده خبرة في الزراعة، قد يبقى هكذا بدون عمل؛ لأنه لا يملك أرضاً يزرعها، فإذا بالشريعة تجيز للرجل الذي عنده أرض؛ وربما كانت الأرض لأيتام لا يحسنون زراعتها، ولربما كانت لمعتوه أو نحو ذلك، أو كانت لإنسان كثير الشغل، أو لطالب علم، أو لعالم لا يتفرغ لزراعتها، ولا يحسن زراعتها، فإذا بهذه الأعمال تؤمَّن، وتقول الشريعةُ لرب الأرض: ادفع أرضك لهذا العامل، ليستثمرها، فاستَغَلَّت طاقات الناس، وأمَّنت المجتمع من البطالة، فدعت إلى أن يدخل مع رب المال في هذه الأرض، فيزرعها وله جزء مما يخرج منها.

وهل البذر على رب الأرض أو على العامل؟

هذا على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- في باب المزارعة.

فالشاهد: أن الأرض أصبحت شراكة بين الطرفين في ما يخرج منها، وليس في الرقبة ذاتها، إنما يشتركان في ما يخرج منها، فيقول له: خذ الأرض وازرعها، وما كان من نتاجٍ فبيني وبينك -الذي هو المناصفة-

فإذا قال له: خذها وازرعها، ولي الزراعة التي بجوار الماء، أو لي الزراعة أو الثمرة التي تخرج من شرقيِّ الأرض ولك غربيُّها، أو لي قِبْلِيُّها ولك جنوبيُّها، أو نحو ذلك، لم يصح ولم يجُز، على التفصيل الذي ذكرناه في الشركة.

قوله: [ومُضارَبةٌ]:

وكذلك المضاربة، مُفاعَلةٌ من الضرب في الأرض للتجارة، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على عقد المضاربة وحقيقته ومشروعيته وأحكامه ومسائله إن شاء الله تعالى.

لكن مراد المصنف بقوله: [ومُضارَبةٌ] أي: مثل الذي مضى من الحكم بالتحريم في حال إعطاء نسبة من الربح مجهولة ينطبق على عقد المضاربة كما ينطبق على عقد الشركة، فلو قال له: خذ مائة ألف واضرب بها في الأرض للتجارة، وما كان من ربح فسأرضيك منه، أو سأعطيك ما يسرك، فهذا مجهول؛ فإنه لا يدري ما الذي يسره، فقد يكون الذي يسر العامل ثلاثة أرباع الربح، والذي يسره عند رب المال ربع الربح، وقد يسره النصف بالكثير، فهذا يُدخل المفاسد والشرور؛ وقد ذكرنا هذا في مقدمة البيوع حينما بيَّنَّا أن بيوع الجهالة تفضي إلى النزاع والخصومة، كذلك أيضاً لو قال له: اضرب بمالي في الأرض، فاشترى عشرين سيارة -مثلاً-، وأراد أن يتاجر بها، فقال له: هذه العشرون، لي منها فقط ربح سيارتين، والباقي لك ربحه، فهذا لا يجوز؛ لأنه يحتمل ألَّا تربح إلا هاتان السيارتان، واحتمال ألَّا تربح السيارتان وتربح بقية السيارات، ولذلك يدخل على غرر، فلابد أن يشتركا في الغُنْم والغُرْم، وعلى هذا فلابد أن يحددا نسبةً مشاعةً معلومة، كما قلنا في الشركة.

ولو قال له: اضرب بمالي في الأرض، والربح بيني وبينك -يعني: مناصفةً- وأعطيك مع الربح إكرامية، أو هدية، أو أرضيك بزيادة، لم يجز.