أرشيف المقالات

قطعة اللباب في بيان إشارات الكون إلى إصلاح السلوك والآداب

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
قطعة اللباب
في بيان إشارات الكون إلى إصلاح السلوك والآداب
الحمد لله الكريم الوهاب، الذي أثنى في كتابه على أولي الألباب، والصلاة والسلام على النبي المفرِّق بين الخطأ والصواب، وعلى آله وصحبه ذوي السلوك المستطاب.
 
أما بعد:
فهذه كلمات يسيرة في بيان الدروس المستفادة من الحوادث الكونية ومن الجمادات، التي تشير إلى أهمية التحلي بجميل السلوك والآداب.
يسأل الكاتب ربَّه الكريم عز وجل أن يجعل هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله نافعًا لكاتبه وقارئه وناشره.
 
من آيات الله عز وجل في الكون ما يلي:
1- بقاء الجنين في الرحم:
إن لله مفاتيحَ الغيب التي لا يعلمها إلا هو، ومن ذلك الأجنة التي تكون في الأرحام، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]، وذلك من آيات الله العظيمة في هذا الكون.
 
إن الجنين الذي يكون في بطن أمِّه إذا خرج قبل موعده قد يكون متشوهًا فمات؛ لذلك على الأم أن تترك جنينها في بطنها حتى يخرج في وقته مكتمًلا غير متشوه.
هذا يشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يتعجل للحصول على أمر من الأمور، أو يستعجل نتيجةً من النتائج قبل موعده؛ لذلك ذكر الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابه حلية طالب العلم (ص: 79) أن من آفات طلاب العلم (التصدر قبل التأهل).
 
وقد جات قاعدة من القواعد الفقهية المقررة عند العلماء: (من استعجل شيئًا قبل أوانه، عوقب بحرمانه)، وبعبارة أخرى: (من استعجل ما أخَّره الشرع، يجازى بردِّه)، كما في كتاب الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، للبورنو، (ص: 159).
وهذا يشير إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعجل في أمر من الأمور قبل موعده.
 
إن هذا المبدأ يدفع طالبَ العلم للصبر على مشاقات العلم، ومجاوزة الصعاب في سبيله؛ لذلك رحب أحد الشعراء بالشباب الذين لديهم طموح في الحصول على العلم وهمة قوية لنيل المجد.
قال الأمير الشاعر عبدالله الفيصل (الأدب، ص: 166):

ورنا إلى مستقبلٍ
يرقى له متنَ الصعاب

قد راح يستهدي العلا
ويصارع الموجَ العُباب

في الأرض أو في البحر أو
في الجوِّ فوق ذرا الضباب

 
2- المكان المنخفض:
لقد خلق الله تعالى سطح الأرض بأنواعه، فمنها ما هو مرتفع، كالجبل والتلال، ومنها ما هو منخفض كالوادي، وهذا من آيات الله تعالى الدالة على عظمته وقدرته وحكمته، قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22].
 
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره (6/309 - تحقيق سلامة): (وَمِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ العظيمة ﴿ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ أي: خلق السموات فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا، وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرْض فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ، وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ، وَحَيَوَانٍ وَأَشْجَارٍ).
 
إن وجود المنخفضات تشير إلى أن الإنسان الذي لديه تواضع فهو الذي يقدر على جمع العلوم والمعارف.
فالذي يشعر أنه بحاجة ماسة إلى مزيد من العلم يقدر على تحصيله، بخلاف الذي ليس له شعور بحاجته إلى العلم.
وقد أورد الخطيب البغدادي في كتابه (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، رقم 345) كلامًا نفيسًا لعبدالله بن المعتز: (الْمُتَوَاضِعُ فِي طِلَابِ الْعِلْمِ أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ الْبِقَاعِ مَاءً).
 
إذا لاحظنا البركتين العميقة والضحلة، وجدنا بينهما فرقًا في كمية الماء، البركة إذا كانت عميقة فإنها تحتوي على كمية كبيرة أكثر من البركة الضحلة، وكذلك الإنسان إذا كان متواضعًا فإن تواضعه يفتح له أبواب العلم، ويكون سببًا لتيسيره للحصول على العلم.
 
إن هذا التفكير له آثاره الطيبة في حياة طلاب العلم.
الطالب يحاول أن يجعل نفسه متواضعًا؛ حتى يكون حاصلًا على العلم النافع والعمل الصالح، ومن ذلك أنه إذا سئل عما لا يعلم قال: لا أدري.
وهذا يفتح بابًا من العلم حتى يكون داريًا في يوم من الأيام.
ذكر الإمام ابن عبدالبر في كتابه جامع بيان العلم وفضله (رقم 1589 - بتحقيق الزهيري) أن أب الذيال قال: (تَعَلَّمْ "لَا أَدْرِي"؛ فَإِنَّكَ إِنْ قُلْتَ: لَا أَدْرِي، عَلَّمُوكَ حَتَّى تَدْرِيَ، وَإِنْ قُلْتَ: أَدْرِي، سَأَلُوكَ حَتَّى لَا تَدْرِيَ).
 
إذا اعترف الإنسان بأنه لا يعلم أمرًا من الأمور، فإن اعترافه يكون دافعًا له للقراءة والمطالعة والبحث والسؤال؛ وبالتالي سينفتح له باب من العلم فسيزداد علمُه بإذن الله تعالى.
قال الشاعر:

تَوَاضَعْ تَكُن كالنجمِ لاحَ لِنَاظِرٍ
على صَفَحَاتِ الماءِ وهْو رَفيعُ

ولا تكُ كالدُّخانِ يعلُو بنفسهِ
إلى طَبَقَاتِ الجوِّ وهْو وَضيعُ

(موسوعة الأخلاق، لخالد بن جمعة الخراز، ص: 301).
 
3- سقوط الطفل عند تدرب المشي:
إذا رأينا الطفل في تدرب المشي، فإنه لا يمشي مباشرة في دفعة واحدة، ولكنه يتدرج في حركاته، فهو يقوم مجرد القيام مدة، ثم يتخطى خطوة واحدة، ثم توقف، ثم يخطو مرة أخرى وفيما بعد يقدر على الجري.
 
إن ما يحدث عند الطفل من تدرب المشي شيئًا فشيئًا يعلِّمنا أن الحياة سعي ومحاولة، وجهاد ومجاهدة، وكفاح وصبر ومصابرة.
كيف لا، وقد قال الله تعالى مبينًا طبيعة الحياة: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4].
 
قال مصطفى صادق الرافعي كما نقله الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد في كتابه المنتقى من بطون الكتب، (1 /145): (ليس اللذة في الراحة ولا الفراغ، ولكنها في التعب، والكدح، والمشقة، حين تتحول أيامًا إلى راحة وفراغ.
 
قال الشاعر:
لا تحسبنَّ المجد تمرًا أنت آكلُه = لن تبلُغَ المجدَ حتى تلعقَ الصَّبِرَا
 
4- التوءمان:
إن الجنينين إذا كانا توءمين فإنهما لا يخرجان في نفس الوقت، ولكن يخرج أحدهما ثم الآخر، إنْ خرَجا في وقت واحد تضررت الأم.
 
هكذا يعلِّمنا كيفيةُ ولادة التوءمين أنه لا بد من ترتيب الأولويات؛ فالإنسان ينبغي له أن يقدِّم الأهم من المهم في أموره وشؤونه، إن كان يريد أن يفعل أمورًا في آن واحد فإنه قد يؤدي إلى الخلل، وقد جاء في كتاب تعظيم العلم (ص: 57) أن من طيار شعر الشناقطة قول أحدهم:

وإن ترد تحصيل فنٍّ تمِّمَهْ
وعن سواه قبل الانتهاء مَهْ

وفي ترادف العلومِ المنعُ جا
إنْ توءمان استبقا لن يخرُجَا

 
أورد الإمام النووي كلامًا بديعًا عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في مقدمة المجموع شرح المهذب (1 / 13) في قضية ترتيب الأولويات، وهو قوله: (إذَا كَثُرَتِ الْحَوَائِجُ فَابْدَأْ بِأَهَمِّهَا)، هذا الكلام صالحٌ ليكون قاعدة من القواعد المهمة التي يطبقها الإنسان في شوونه المختلفة.
 
وفي كيفية خروج التوءمين درس آخر، وهو أهمية التنظيم لتحقيق المصلحة المستديمة.
إذا كانت حياة الإنسان غير منظمة، فإنه قد يؤدي إلى مفاسدَ وأضرار عديدة في كثير من جوانبها، وذكر عبدالله الزبير في بحثه الذي عنوانه (من فقه الدعوة: رعاية المصالح والموازنة فيها) في مجلة دراسات دعوية العدد 4 ص: 183 قاعدة من القواعد المهمة، وهي (المصلحة المستديمة مقدَّمة على المصلحة المؤقتة).
 
5- احتراق العود:
إن العود إذا لم يمسَّه نار فإنه لا يُعرَف طيبُ رائحته، وحاله مثل حال الخشب العادي، ولكنه إذا حرقته النار تفوح منه رائحةٌ عطرة تعطر ما حوله.
 
هذا الأمر يعلمنا أن بعض الأمور قد تكون شديدة وحارة وثقيلة، لكن هذه الشدة تكون سببًا للخيرات.
مثال ذلك وجود الحاسد، إن وجوده يفسد المجتمع، ولكن من وراء وجوده انتشرت فضيلة من فضائل شخص، وكانت تلك الفضائل غير معروفة لدى الناس.
 
وقد جاء في كتاب (الأدب العربي وتاريخه: العصر العباسي، ص: 52) أن من أبيات أبي تمام ما يلي:

وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلةٍ
طُويتْ أتاح لها لسانَ حسودِ

لولا اشتعالُ النار فيما جاورتْ
ما كان يُعرَفُ طِيبُ عَرفِ العودِ

إن الله قد شرع لعباده الاستعاذة من عدة أمور في سورة الفلق، منها من شر الحاسد.
 
نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا للتفكر في مخلوقات الله؛ حتى نستفيد منها فوائدَ ودروسًا وعبرًا رائعة في حياتنا تشبُّهًا بأولي الألباب، كما قال تعالى: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].
 
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢