شرح زاد المستقنع بعض المعاملات المالية المعاصرة وبطاقة الائتمان [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد كان حديثنا في المجلس الماضي عن نوع من المعاملات التي تعتبر مندرجةً تحت مسائل القرض وأحكامه، وقد بينا مسألة بطاقة الائتمان، وذكرنا حقيقة هذه البطاقة وتعريفها، ثم بينا أركان عقدها، وكذلك تعرضنا للحديث عن تخريج عقد بطاقة الائتمان، وكان حديثنا منصباً على جزئيات من التصور أكثر منها في الأحكام.

ونظراً لذلك سنتم الحديث على جوانب مهمة يمكن بها تلخيص التخريج الفقهي والحكم الشرعي لبطاقة الائتمان.

أركان البطاقة وأحوال حاملها

سبق وأن ذكرنا أن عقد البطاقة يقوم على مُصدِر وهو البنك أو المؤسسة أو الشركة التي تقوم بإصدار البطاقة، كما يقوم عقدها على طرفٍ ثانٍ وهو العميل الذي يوصف بكونه حاملاً للبطاقة، وتقوم بطاقة الائتمان على عقد واتفاقات والتزامات بين هذين الطرفين -المصدر والحامل- إلا أن هناك طرفاً ثالثاً يعتبر وسيطاً بين المصدر وبين العميل -حامل البطاقة- وهذا الطرف الثالث هو المستفيد الذي يكون تاجراً إذا كان حامل البطاقة قد استفاد من البطاقة في شراء السلع، ويكون غير تاجر إذا كان العميل أو حامل البطاقة قد استفاد منها في الخدمات.

وعقد بطاقة الائتمان تم تصويره وبيان جزئياته، إلا أن هنا أمراً لابد من بيانه لتصور الحكم الشرعي الذي سبق إيجازه وتلخيصه فيما سبق.

ومَن طلب البطاقة أو حمل البطاقة لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون له رصيد لدى المصدر.

والحالة الثانية: ألَّا يكون له رصيد.

فإن كان له رصيد، فإن المصدر أو البنك أثناء قيامه بتأمين وضمان هذا الحامل في التزاماته، لا يخلو من حالتين أيضاً:

الحالة الأولى: إما أن يقوم بالسحب من رصيد الحامل للبطاقة للوفاء بالالتزامات والحقوق المترتبة عليه.

الحالة الثانية: وإما أن يقوم بتسديد هذه الالتزامات والفواتير والاستحقاقات من عنده، ثم يطالب العميل بالسداد.

فحينئذ عندنا الحالة الأولى: أن يكون لحامل البطاقة رصيد في البنك أو المصرف أو الشركة، فإن كان له رصيد إما أن يقوم البنك أو الشركة بالسحب من رصيده لسداد الحقوق التي عليه، وإما أن يقوم بالسداد من عنده ثم تكون هناك مخالصة بين البنك وبين حامل البطاقة.

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من رصيد الحامل

فأما في الصورة الأولى وهي أن يقوم البنك بالسحب من رصيد العميل، فإنه في هذه الحالة تكون طبيعة العقد والتعاقد وكالة: أي كأن البنك وكيلٌ عن صاحب البطاقة في سداد الحقوق والالتزامات التي عليه، مثال ذلك: لو أن حامل البطاقة ذهب ونزل في فندق وكلفه ذلك خمسة آلاف ريال، ثم اشترى جملة من السلع فكلفه ذلك ثلاثة آلاف ريال، فأصبح المجموع ثمانية آلاف ريال، هذه الثمانية آلاف ريال: كنا قد سبق وأن ذكرنا أن التاجر أو صاحب الفندق أو من يتعامل معه الحامل للبطاقة يقوم بإثباتها في فاتورة، ومن ثم تُدخل إلى حسابه، فإذا قام البنك بالسحب من الرصيد، يكون بمثابة الوكيل عن الحامل في سحب ذلك المبلغ المعين للوفاء بالالتزامات التي عليه، وأشبه بالشيك الذي يكتبه صاحب الرصيد للبنك الذي يدفع لفلان كذا وكذا، فهو بمثابة الوكيل، لكن الإشكال ليس هنا، الإشكال أننا لو اعتبرنا البنك أو المصرف وكيلاً عن صاحب الرصيد في الدفع فالأصل يقتضي أن يكون للموكل وهو العميل أو حامل البطاقة الحق كاملاً في التعامل مع هذا الطرف الثاني، وطبيعة العقد ما بين البنك وبين حامل البطاقة تخلي صاحب البطاقة من كثير من الحقوق، منها ما سبقت الإشارة إليه: أنه لو كان العميل قد اشترى بعملة غير العملة المعروفة؛ فإن هناك عقداً -عقد الصرف- يخول ويفوض البنك أن يصرف الريالات بالدولارات بأي سعرٍ كان، وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة تجعل النظر في الأحظ للعميل عند التحويل إلى عملةٍ أخرى لا النظر في الأحظ للبنك أو المصرف، بيد أن التعاقد والأنموذج الذي تم الاتفاق عليه بين الحامل للبطاقة وبين المصدر -البنك- يلزم حامل البطاقة بالرضا بكل صرف قام به المصدر -أعني البنك- وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة في الأصل، يكون الموكل هو الذي له الحق الكامل، هذا أول شيء.

الشيء الثاني: لو صورنا هذا العقد على أنه عقد وكالة، لابد أن يوضع في الحسبان الرسم والمبلغ الذي دفعه الموكل للمصدر، فالرسوم التي دُفِعت للبطاقة كرسوم الاشتراك المقدمة ورسوم الخدمة المؤجلة، فهنا رسمان طالب بهما البنك -المصدر- حامل البطاقة، فيمكن أن نعتبر هذا المبلغ الذي طولب به من قبيل أجرة، ومن المعلوم في الفقه أنه يجوز أن يوكل بأجرة، يعني يجوز للشخص أن يوكل غيره على أن يقوم بمهمة ويعطيه أجرةً عليها، مثال ذلك:

لو قلت لرجل: اشتر لي بضاعةً من نوع كذا وكذا بخمسة آلاف، وأعطيته خمسة آلاف وقلت له: وهذه مائة أجرة لك على تعبك، حينئذ تكون تفويضاً ووكالة مقيدة بأجرة وهي جائزة ولا إشكال، لكن أين الإشكال فيما نحن فيه؟

أن هذه الرسوم -وهي الأجرة- إذا اعتبرنا العقد الذي بين حامل البطاقة وبين البنك وكالة بأجرة فينبغي أن تسري أحكام الإجارة الشرعية على هذا النوع من الوكالة، فلابد من النظر في شروط صحة الإيجار الشرعي، والتي منها باتفاق العلماء: العلم بالأجرة وبالمنفعة.

توضيح هذا الشرط حتى يمكن تطبيقه: أنك لو استأجرت شخصاً لكي يعمل أو يقوم بمنفعة لك فقلت له: اعمل عندي يوماً وأعطيك ما يرضيك لم يجز بالإجماع؛ لأن الذي يرضيه لا ندري كم هو، فقد يكون في ظنك أن المائة ترضيه وفي ظنه أنه لا تعطيه إلا مائة وخمسين فيحدث التشاحن، وبالإجماع لا يجوز أن تكون الأجرة مجهولة، هذا الشرط الأول.

الشرط الثاني: لا يجوز أن تكون المنفعة التي تستأجره لفعلها مجهولة، كأن تقول له: ابن لي جداراً وأعطيك مائةً، فلا تصح الإجارة حتى تحدد طول الجدار وعرض الجدار حتى يصبح كلٌ على بينة، ويعرف ما لهذا الأجير من حق، وما لصاحب العمل من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه، فهذا منهج الشريعة وهذه قواعد الشريعة الواضحة في التعامل والتي قامت على العدل وإعطاء الحقوق كاملة: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، المهم أنك تدفع المال لقاء شيء معلوم، وإذا ثبت هذا فلا يصح أن تكون الإجارة بقيمة مجهولة، ولا يصح أن تكون على عمل مجهول، وفي البطاقة إذا اعتبرنا أن البنك يقوم بالسحب من الرصيد وكيلاً عن صاحب الرصيد فإنه قد أخذ أجرةً على هذا السحب لقاء سحب مجهول، فلا ندري كم قدر تلك السحوبات، ولا ندري هل تكون مثلا في بلدٍ قريب، أو بلد بعيد فالعمل الذي دُفِع الرسم لقاءه مجهول، وقد لا يستخدم البطاقة إلا مرة واحدة، وقد يستخدمها عشرين أو ثلاثين أو أربعين مرة والأجرة واحدة، فهذا مجهول من جهة العمل.

ثانياً: مجهول من جهة الأجرة، وتوضيح ذلك أن الأجرة عن البطاقة اشتملت على نوعين من الرسوم:

الرسم الأول: وهو الرسم المقدم الذي يكون في حال الاشتراك وهذا قد يعفى منه صاحب الرصيد، فعلاً في بعض الأحوال تعطى البطاقة لمن له رصيد بدون رسم الدخول، لكن بقي الإشكال في الرسم الثاني: وهو رسم الخدمة؛ وقد ذكرناها عند استعراضنا لبعض البنود التي تكون في العقد ويتفق عليها كل من العميل والمصرف عند صرف هذه البطاقة، فذكرنا أن العميل يلتزم بدفع رسم الخدمة على كل عملية، فلو أنه نزل في فندق وكلف نزوله ثلاثة آلاف ريال، فهناك رسم الخدمة، ولو فرضنا أنه (5%)، فثلاثة آلاف ريال سيكون نصيبها ما يقارب من مائة وخمسين، فنحن في هذه الحالة لا ندري بالنسبة في وقتها، فأصبحت الأجرة التي تستحق لعمل البنك مجهولة، فهي وإن كانت معلومة النسبة لكنها مجهولة القدر، وهذا نوع من الجهالة يبطل الإجارة.

إذاً فأصبحت الجهالة من وجهين: إذا كان للعميل رصيد وفوّض البنك في السحب من رصيده وفاءً للالتزامات والحقوق التي عليه، هو عقد وكالة بأجرة، إلا أنه شابه جهالة الثمن التي هي الأجرة، وجهالة العمل والمنفعة المستحقة لقاءه.

بناءً على ذلك في الحالة الأولى: وهي كون البنك يقوم بالسحب من الرصيد لتغطية الالتزامات تخرج على أنها وكالة بأجرة وفيها ما ذكرنا.

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات من غير رصيد الحامل

الصورة الثانية من الحالة الأولى: وهي أن يقوم البنك بالوفاء بالالتزامات من عنده ثم يقسط الحقوق على العميل دفعات على ما يراه أو يتفق مع العميل عليه، ففي هذه الحالة: لا يسحب من الرصيد، ويكون رصيد العميل أشبه بالرهن والغطاء، فلو فرضنا أن العميل له عشرة آلاف ريال أو عشرين ألف ريالٍ والبطاقة يسحب بها في حدود خمسة آلاف ريال، فالخمسة آلاف الموجودة في الرصيد هي في الحقيقة غطاء لعمليات البطاقة التي هي في حدود خمسة آلاف ريال.

فيمكن لنا أن نقيّم الصورة الثانية وهي التي لا يتدخل فيها البنك في الرصيد إلا بأمر وإيعاز من العميل، ويكون الرصيد فيها عبارة عن غطاء، وهذا ما سبق وأن سميناه بالرهن؛ لأن الرهن يكون للاستيثاق من أجل أن يوفي منه صاحب الحق إذا لم يسدد وقد سبق شرطه وبيان ضوابطه، وفي هذه الحالة البنك يقوم بالتالي:

إذا اشترى العميل بمبلغ ثلاثة آلاف ريال، فالبنك له طرف من التعاقد مع التاجر كما بيناه سابقاً، فهو يدخل لحساب التاجر مبلغ ثلاثة آلاف ريال، دون رسم الخدمة التي طالبه بها البنك، في هذه الحالة: إذا قام البنك بالسداد عن العميل وتوجه للعميل لأخذ ما يستحقه عليه من دفعات، كان طبيعة التعاقد أن البنك التزم بالدفع عن العميل وجعل رصيد العميل غطاءً لوفاء العميل، فلو تأخر العميل أو امتنع من السداد فالأمر يسير حيث يسحب من رصيده، والبنك في مأمن من الإخلالات بهذه الالتزامات التي سبق ذكرها.

الآن عرفنا طبيعة العقد، فيبقى السؤال من الناحية الفقهية، لو أن اعتبرنا الرصيد رهناً وغطاءً للعمليات التي يقوم بها العميل بالبطاقة، فالسؤال الأول: ما هو نوع هذا الرهن؟ والجواب: أن الرهن من النقود: أعني الذهب أو الفضة، فهل يجوز أن تُرهن النقود أم أن الرهن يكون في المثمونات دون الأثمان؟

جمهور العلماء يجيزون رهن النقود، ونص على ذلك فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وهو مفهوم عبارات الحنابلة: كل ما جاز بيعه جاز رهنه، وبناءً على ذلك: مذهب الجمهور على جواز رهن النقود، والدليل على ذلك: أننا لو رهنا العقار كالبيت إنما قصدنا ضمان حق صاحب الدين، وسنبيع البيت عند عجز المدين عن السداد ثم نسدد، قال العلماء: فلأن يجوز رهن النقد المباشر من باب أولى وأحرى؛ لأنه إذا جاز رهن البيت والعمارة والدابة والأرض لكي تباع عند عدم الوفاء، فمن باب أولى أن يرهن النقد نفسه، وهذا واضح.

إذا ثبت هذا فإن النقود تعتبر رهناً لعملية البطاقة، لكن الإشكال ليس هنا، إنما الإشكال في المسألة الثانية: وهي هب أن الرصيد اعتبر رهنا، فقد تقدم معنا في باب الرهن: أن الرهن الشرعي لا يجوز لصاحب الدين أن يغيره، أو يبدله، أو يتصرف فيه، وهنا عند النظر في المبلغ المدفوع نجد أن البنك قد ضمن مثل الرهن لا عين الرهن.

توضيح ذلك: أجمع العلماء من حيث الأصل على أنك لو استدنت من رجل عشرة آلاف ريال، وقال لك الرجل: أعطني رهناً، فأعطيته سيارة عندك، تقدم معنا أن هذه السيارة إذا وضعت عند صاحب الدين فلا يحق له أن يتصرف فيها ولا أن ينتفع بها، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالمحافظة على الرهن، كل ذلك لأجل الخوف من (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).

إذا ثبت هذا وقلنا: إن الرهن لا يتصرف فيه، فطبيعة الرهن الشرعي أنك تأخذ العين وتردها بعينها، فإذا أعطاك سيارة لا يجوز أن تبدل السيارة بمثلها، ثم تقول له إذا سدد: خذ هذه سيارة مثل سيارتك، بل الواجب أن تضمن له عين سيارته، وهذا ذكرنا فيه الأصول والضوابط وقررنا: أن الرهن يضمن بعينه، فإذا ثبت أن الرهن يضمن بعينه، فالسؤال: الخمسة آلاف التي في رصيد زيد أو عمرو -وهو حامل البطاقة- إذا وضعت في الرصيد: هل الذي يضمن عين النقد الذي دُفِع أم يضمن مثله في القدر؟

الجواب: أنه يضمن مثله في القدر، فليست عين الخمسة آلاف المدفوعة؛ لأن الرهن يتعين وينبغي حفظه بعينه كما ذكرنا، وهنا لا يقصد بعينه إنما يحفظ بقدره ومثله.

بناء على ذلك في الصورة الثانية من الحالة الأولى: إذا كان له رصيد، ولا يسحب البنك من الرصيد يعتبر رصيده بمثابة الرهن والغطاء لعمليات البطاقة وإذا كان بمثابة الرهن ففيه مسألتان:

المسألة الأولى: أن الرهن بالنقود جائزٌ في أصح قولي العلماء وهو قول الجماهير.

والمسألة الثانية: أنه يُشكل على هذا أن رهن النقود -الرصيد- لا يضمن ولا يحفظ بعينه، وإنما يضمن بمثله، فخرج عن ثمن الرهن في الشرع، لكن عندنا في هذه الحالة أيضاً إشكال، وهذا الإشكال يقوم على قاعدة: كل قرض جر منفعة فهو ربا، وتوضيحه: أننا سبق وأن ذكرنا في باب القرض أن العلماء مُجمعون على أنه إذا دفع رجل لآخر قرضاً فلا يجوز له أن ينتفع منه منفعة؛ لأن ذلك ذريعة إلى الربا، وقد بينا ذلك وذكرنا ما ورد عن السلف رحمهم الله من تحريم المنافع لقاء القروض، إذا ثبت أن صاحب القرض لا يجوز له أن ينتفع لقاء قرضه، فلو فرضنا أن صاحب البطاقة له رصيد -كما في الصورة التي معنا- وقام البنك بالسداد عنه، فإن صاحب البطاقة يعتبر في هذه الحالة قرض ما بين البنك وما بين العميل، فكأن البنك أقرض العميل قيمة الاستحقاقات التي في بطاقته، والتي فرضنا أنها خمسة آلاف، لكن البنك لم يقبل على دفع خمسة آلاف بدلاً عن رصيد العميل إلا لوجود المنفعة التي سيجنيها من الطرفين: من العميل -وهذا ما سنبينه في الرسوم المؤجلة- ومن التاجر. والسؤال: أين المنفعة التي يستفيدها البنك من التاجر؟ سبق وأن ذكرنا في عقد البطاقة: أن المصدر الذي يصدر البطاقة يلزم العميل ألا يتعامل إلا مع محلات معينة، وتجد شعارات البطاقة التي يريد أن يتعامل بها موجودة، إما في الخدمات وإما في أماكن السلع.

إذا ثبت هذا فكأن البنك يقول له: أدينك بشرط أن تشتري من فلان وفلان -المحل الذي سيشتري منه- والبنك مستفيد؛ لأن بينه وبين هذا التاجر أو المستفيد عقداً، مفاده أن كل عملية يقوم العميل بفعلها كأن يشتري بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف فإنه يجب على التاجر أن يدفع للبنك رسم الخدمة، ورسم الخدمة لو فرضناه مثلاً (5%) فمعنى ذلك: أن العملية إذا تمت بخمسة آلاف ريال، وعليها (5%) فمعنى ذلك أن البنك سيستفيد ما مقداره مائتين وخمسين ريالاً، وعلى هذا فتكون حقيقة الأمر: أن البنك ديّن صاحب البطاقة الأربعة آلاف وسبعمائة وخمسين واستفاد المائتين والخمسين التي سيجنيها من التاجر، وأطبقها على العميل خمسة آلاف؛ لأن المسجل عند البنك أنها خمسة آلاف، والذي يسجل في الفاتورة عند التاجر خمسة آلاف، فأصبحت للبنك منفعتان:

منفعة من العميل وهذا ما سنذكره إن شاء الله من جهة الربا، ومنفعة من جهة التاجر والمستفيد.

فإذاً: الحال في هذه الصورة الثانية: أن يكون البنك بمثابة المقرض للعميل؛ لأنك إذا جئت تكيف المسألة من الناحية العقلية فكون البنك يلتزم بالدفع عن العميل معناه: أنه سيقرض العميل؛ لأن الخمسة آلاف مستحقة على العميل لا على البنك، وفي هذه الحالة تعجل البنك بدفع الخمسة آلاف، والواقع أنه دفع أربعة آلاف وسبعمائة وخمسين واستفاد منها مائتين وخمسين، فهو يستفيد من التاجر، وقد يقال: هذا راجع إلى النظرة التي ينظرها البنك بأنه إذا أعطى العميل البطاقة وعين له المحل الذي يشتري منه يصبح عندها للبنك حق على هذا المحل، ومن حقه أن يستفيد من هذا المحل، طبعاً هذه وجهة نظر، لكن من الناحية الشرعية تعتبر قرضاً جر نفعاً، هذا بالنسبة للتخريج الأول المتعلق ببطاقة الائتمان التي لها رصيد.

والخلاصة: إن كان العميل له رصيد في البنك فلا يخلو البنك في تأمينه للحقوق والالتزامات المترتبة على التعامل بالبطاقة من حالتين أو صورتين:

إما أن يقوم بالسحب من مال العميل وحينئذٍ هو وكيل مستأجر، والوكالة بأجرة اختل فيها هنا: شرط العلم بالأجرة، والعلم بالمنفعة، فالأجرة مبنية على النسبة وهي معلومة من جهة القدر، لكنها مجهولة من جهة القيمة.

كذلك أيضاً شابتها الجهالة: أعني إجارة الوكالة، من جهة جهالة المنفعة التي سيقدمها البنك للعميل، حيث لا يدرى عدد العمليات ولا يدرى هل هي في الداخل أو الخارج وهل هي في المحلات القريبة أو البعيدة، وهذا حاصل ما يقال في مسألة إذا كان للعميل رصيد عند تحرير البطاقة.

التخريج الفقهي لبطاقة الائتمان لو قام البنك بتغطية الالتزامات دون أن يكون للعميل رصيد في الأصل

الحالة الثانية: ألا يكون للعميل رصيد، فإذا لم يكن للعميل رصيد، فحينئذٍ يكون البنك قد أعطى العميل البطاقة وألزمه بدفع الحقوق المترتبة عليه في أمد معين، وقام البنك بالتسديد عن العميل، فأنت بالخيار بين أمرين:

الأمر الأول: إما أن تعتبر البنك مقرضاً للعميل، فالبنك أقرض العميل وسدد عنه ثم أخذ بعد ذلك حقه بالأقساط كما هو متبع في بعض الأحوال.

الأمر الثاني: أن تعتبره كافلاً للعميل، فكفل العميل ثم بعد كفالته للعميل غرم؛ لأن صاحب المحل التجاري لما رأى البطاقة لم يلتفت إلى العميل، وإنما التفت إلى مصدر البطاقة -البنك مثلاً- أنه سيؤمن له حقه، فيكون تخريجها بالكفالة أقوى، وقد سبق وأن شرحنا الكفالة، وبينا أنها ضم ذمة رشيد إلى ذمة آخر في الوفاء والسداد.

بناءً على ذلك فتصوير هذا العقد كالآتي عندنا كافل وعندنا مكفول وعندنا شيء تكفل به ذلك الكافل، وإذا جئت تطبق ذلك على واقع الحالة تقول: الكافل: البنك، والمكفول: العميل، والمكفول له: التاجر، والمتكفل به: سداد المبلغ الذي تم الشراء به أو أخذ الخدمات في مقابله.

بناءً على ذلك دعونا نطبق مسألة الكفالة: فالبنك تكفل للفندق أو تكفل للتجّار أياً كانوا أن من حمل هذه البطاقة أعطوه في حدود خمسة آلاف، فكيف نخرجها على ما تقدم معنا في مبحث الكفالة؟

سبق وأن بينا أن الكفالة لها صورتان:

الصورة الأولى: وهي صورة مشهورة: أن يكون الشخص الذي عليه الدين قد طالبه صاحب الدين، فتأتي أنت وتقول: أنا أكفله أن يسددك في نهاية السنة، في هذه الحالة تكون قد كفلت ديناً ثابتاً مستقراً ولا إشكال.

الصورة الثانية: وقد سبق معنا دراستها في آخر باب الكفالة والضمان، وهي الديون التي تئول إلى الضمان في المستقبل.

وذكرنا أنه يجوز أن تتكفل بدين مجهول يئول إلى العلم ومسألة الكفالة بالبطاقة على دين مجهول آيلٌ إلى العلم تتخرج عليها، فأنت في مسألة الدين المجهول الذي يئول إلى العلم يجوز أن تأتي لصاحب البقالة وتقول له: ديّن فلاناً، وأعط فلاناً ما يريده وأنا أتكفل بسداد حقه أو أن حقك يعطى لك أو أنه يسددك في نهاية الشهر، فذكرنا هذا وبيناه وضربنا أمثلة على ذلك كأن تأتي وتتكفل نفقة أيتام أو نحو ذلك قلنا: هذا ضمان لدين في المستقبل، وكفالة لدين في المستقبل، فموضوع البطاقة في الصورة التي ذكرناها تتخرج على هذه الصورة؛ لأن الدين حال إحضار البطاقة غير معلوم، ولكنه آل إلى العلم، لكن يجب أن نتنبه إلى أن الكفالة غير الإجارة ففي الإجارة لا يصح أن تقول: المجهول يئول إلى العلم، بينما في الكفالة يصح؛ لأن الإجارة من عقود الغرر، أما الكفالة فمن عقود الرفق، وقد سبق عند كلامنا في بداية أبواب المعاملات المالية: أن هناك فرقاً بين عقود المعاوضات المبنية على الغرر والغبن وبين عقود المعاوضات المبنية على الرفق، وبينا هذا وذكرنا وجه منهج الشرع في كل منهما، ففي الكفالة: كفالة بمجهول يئول إلى العلم، والآن أثبتنا أن البطاقة إذا أُعطيت بدون رصيد لصاحبها، وتكفل البنك بالدفع عنه، وخرجنا على أنها كفالة، فلابد أن نعرف طبيعة هذه الكفالة، هل هي بأجرة أو بدون أجرة؟ هل البنك حينما التزم أن يسدد عن صاحب البطاقة، التزم أن يسدد تطوعاً على سنن الكفالة المعروفة أم أنه التزم أن يسدد لقاء أجرة؟ والجواب: أن البنك لم يسدد إلا لقاء أجرة ورسم مقدم.

وتوضيح ذلك: أن البطاقة بدون رصيد جرى العرف على أنها لا تعطى إلا بعمولة، وهذ العمولة هي عبارة عن رسم الاشتراك، ثم عمولة الخدمة بعد ذلك، فأصبح عندنا نوعان من الأجرة تدفع على هذه الكفالة.

النوع الأول: الرسم الذي يدفع قبل الدخول وأخذ البطاقة، والنوع الثاني: الرسم الذي يؤخذ على عمليات البطاقة، وهو الذي يسمى في العرف التجاري برسم الخدمة، فإذا ثبت كل هذا فمعنى ذلك: أن عندنا كفالة بأجرة، فيرد السؤال في الحكم الشرعي.

إذاً: انتهينا الآن من تكييف عقدها فقهاً وتبين أنها كفالة بأجرة، فهل يجوز أخذ الأجرة على الكفالات؟ هل يجوز لشخص يأتيك ويقول لك: فلانٌ له عليَّ مائة ألف ويحتاج إلى كفيل، فاكفلني سنة أو سنتين وأعطيك ثلاثة آلاف أو أعطيك على كل سنة ألفاً؟

لا يجوز بإجماع العلماء أخذ الأجرة على الكفالة.

والسبب في ذلك يتضح ببيان الآتي:

أنه لو كفل شخص شخصاً في مال أو دين، وأخذ أجرة على الكفالة فإنه في حال عجز المدين عن السداد يلزم شرعاً أن يسدد عنه، فلو سدد عنه المائة ألف أصبح المكفول مديناً للكافل بمائة ألف بالإضافة إلى المبلغ الذي اتفق عليه كأجرة، فتصبح المسألة: أن الكافل دفع مائة ألف وأخذ مائة ألف وزيادة، والزيادة هي الأجرة، ولذلك أجمع العلماء والسلف والخلف على تحريم أخذ الأجرة على الكفالات؛ لأنها من باب عقود الذرائع الربوية، وليست بالربوية الأصل؛ لأن الربا إما أن يكون أصلاً وإما أن يكون ذريعةً، فهي من عقود الذرائع الربوية، ويتذرع بها ويتوصل إلى الربا، فصارت الكفالةُ بعوض كفالةً لقاءَ الدين، وكأنه أعطاه الدين بالدين مع الفضل، وهو مبلغ الأجرة.

إذاً: لو خرجناها كفالةً لا تصح ولا تجوز؛ لأنها كفالة بأجرة، وحُكي الإجماع على عدم جواز الكفالة بأجرة.

قال بعض المتأخرين والمعاصرين ومنهم من توفي رحمة الله عليهم: يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، وهذا قول شاذ وباطل، يُحكى ولا يعوّل عليه؛ لأن المعوَّل على مذاهب العلماء والأئمة، والاجتهاد بعد هذا الجمع العظيم من سلفنا الصالح وأئمة العلم ودواوين العلم بأن يأتي شخص ويحدث قولاً جديداً مخالفاً لقول الجماهير، فهذا لا يعد ولا يلتفت إليه، ونحن علينا بما درج عليه السلف.

قال الإمام مالك : حق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار واتباع لأثر من مضى قبله، والله تعالى يقول: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، فلا يجوز للمسلم أن ينحرف عن سبيل المؤمنين وسبيل هذه الأمة الصالحة التي مضت على قول، ولا شك أن الحق في قولها؛ لأن الله لا يجمع الأمة على ضلالة.

الخلاصة: أنه إذا ثبت هذا فإذاً: إذا قلنا: إن البطاقة لها رصيد تخرج فيها مسألة الرهن والوكالة، وإذا قلنا: إنها بدون رصيد تخرج فيها مسألة الكفالة بأجرة.

هذا كل الذي بحثناه الآن في العقد في مبتداه؛ لكن تبقى البطاقة في مآلها ونهايتها، فإن البطاقة في مآلها ونهايتها عليها رسم مترتب على الديونات المستحقة، فإذا نظرنا إلى طبيعة التعاقد فإن البنك والمصْدِر يعطي حامل البطاقة مهلة ما بين خمسة وعشرين إلى خمسة وخمسين يوماً، ليقوم بتسديد الجزء المستحق ثم بعد ذلك تتركب الفوائد الربوية على كل يوم يتأخر فيه عن السداد، وهذا بالإجماع يجعل البطاقة عقداً ربوياً بدون شك.

إذاً: عندنا هذه المسائل الأولى التي ذكرناها في أحوال الرصيد وغير الرصيد بحثناها إذا خلت عن الفائدة، يعني لو جاء شخص يقول: نسقط الفائدة الربوية ونجري البطاقة على هذا الوجه لشابه ما ذكرنا، ويبقى الإشكال إذا انضاف إليها علةٌ ثانية مما ذكرناه من وجود الفائدة المترتبة على التأخير، هناك جملة في تعريف بطاقة الائتمان وهي الجملة الأخيرة التي سنتعرض لها وهي السحب بالبطاقة، أو ببطاقة الصرف الموجودة الآن في ظاهر حالها، وبطاقة الصرف هذه إذا لم تؤخذ عليها عمولة مقدمة ولم تؤخذ عليها عمولة مؤجلة فهي جائزة إلا أن هناك إشكالاً قد يرد في مسألة قرض جر منفعة، وتوضيحه أنه لو كان لبطاقة الصرف رصيد، فرضنا عشرة آلاف ريال، والشخص أخذ البطاقة، فقد قررنا أن الوديعة المصرفية تعتبر قرضاً ولا تعتبر وديعة في الأصل، حتى إن المواد التجارية المتعارف عليها في العرف التجاري والنظام الاقتصادي تنص: على أن الودائع المصرفية تعتبر قرضاً ولا تعتبر وديعة، فهي قرض فإذا ثبت أن الوديعة ورصيد الإنسان في البنك يعتبر قرضاً على البنك؛ يرد الإشكال في أنه أقرض ووضع هذا الرصيد لينتفع بنقله وسحبه من موضع غير الموضع الذي وضعه فيه، فهو في الأصل ما أخذ البطاقة -خاصة إذا كان في السفر وغيره- إلا لأنه يريد منفعة ومصلحة في مكان غير المكان الذي صدرت منه فهذه تدخل تحت مسألة كل قرض جرّ منفعة فهو ربا، لكن في الحقيقة فيها وجه للجواز، وأرجو من الله تعالى أن يكون مغتفراً، خاصة وأنه في بعض الأحوال يأتي عرضاً ولا يأتي قصدًا.

والباقي من كون الإنسان يسحب في حدود رصيده من كونه لا ضريبة له على ذلك الرصيد إن شاء الله يؤذن بالجواز، إذا كان الإنسان يدفع ويأخذ، سواء سحب رصيده أو سحب عملة من غير الرصيد الأصلي، كأن يكون رصيده من الريالات فيسحب دولارات، فإن سحب من رصيده فلا إشكال، وإن سحب بعملة غير عملة الرصيد فالصرف سيكون في الحال؛ لأنه أعطى الجهاز طلباً لصرف ما قيمته عشرة آلاف أو خمسة آلاف -مثلاً- فالصرف سيكون فورياً، هذا إذا قلنا: إن مجلس العقد الذي هو المجلس الذي يكون فيه الإيجاب والقبول، وذكرنا صحة بيع المعاطاة، فإذا صح التعامل مع الآلة ونزلت منزلة الشخص الذي وضعها أو منزلة المصدر يتخرج على هذا أنه من باب الصرف في مجلس العقد، وحينئذٍ يقوى القول بجواز أن تصرف بالعملة نفسها وبعملة أخرى غير العملة التي أودعت.

سبق وأن ذكرنا أن عقد البطاقة يقوم على مُصدِر وهو البنك أو المؤسسة أو الشركة التي تقوم بإصدار البطاقة، كما يقوم عقدها على طرفٍ ثانٍ وهو العميل الذي يوصف بكونه حاملاً للبطاقة، وتقوم بطاقة الائتمان على عقد واتفاقات والتزامات بين هذين الطرفين -المصدر والحامل- إلا أن هناك طرفاً ثالثاً يعتبر وسيطاً بين المصدر وبين العميل -حامل البطاقة- وهذا الطرف الثالث هو المستفيد الذي يكون تاجراً إذا كان حامل البطاقة قد استفاد من البطاقة في شراء السلع، ويكون غير تاجر إذا كان العميل أو حامل البطاقة قد استفاد منها في الخدمات.

وعقد بطاقة الائتمان تم تصويره وبيان جزئياته، إلا أن هنا أمراً لابد من بيانه لتصور الحكم الشرعي الذي سبق إيجازه وتلخيصه فيما سبق.

ومَن طلب البطاقة أو حمل البطاقة لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون له رصيد لدى المصدر.

والحالة الثانية: ألَّا يكون له رصيد.

فإن كان له رصيد، فإن المصدر أو البنك أثناء قيامه بتأمين وضمان هذا الحامل في التزاماته، لا يخلو من حالتين أيضاً:

الحالة الأولى: إما أن يقوم بالسحب من رصيد الحامل للبطاقة للوفاء بالالتزامات والحقوق المترتبة عليه.

الحالة الثانية: وإما أن يقوم بتسديد هذه الالتزامات والفواتير والاستحقاقات من عنده، ثم يطالب العميل بالسداد.

فحينئذ عندنا الحالة الأولى: أن يكون لحامل البطاقة رصيد في البنك أو المصرف أو الشركة، فإن كان له رصيد إما أن يقوم البنك أو الشركة بالسحب من رصيده لسداد الحقوق التي عليه، وإما أن يقوم بالسداد من عنده ثم تكون هناك مخالصة بين البنك وبين حامل البطاقة.

فأما في الصورة الأولى وهي أن يقوم البنك بالسحب من رصيد العميل، فإنه في هذه الحالة تكون طبيعة العقد والتعاقد وكالة: أي كأن البنك وكيلٌ عن صاحب البطاقة في سداد الحقوق والالتزامات التي عليه، مثال ذلك: لو أن حامل البطاقة ذهب ونزل في فندق وكلفه ذلك خمسة آلاف ريال، ثم اشترى جملة من السلع فكلفه ذلك ثلاثة آلاف ريال، فأصبح المجموع ثمانية آلاف ريال، هذه الثمانية آلاف ريال: كنا قد سبق وأن ذكرنا أن التاجر أو صاحب الفندق أو من يتعامل معه الحامل للبطاقة يقوم بإثباتها في فاتورة، ومن ثم تُدخل إلى حسابه، فإذا قام البنك بالسحب من الرصيد، يكون بمثابة الوكيل عن الحامل في سحب ذلك المبلغ المعين للوفاء بالالتزامات التي عليه، وأشبه بالشيك الذي يكتبه صاحب الرصيد للبنك الذي يدفع لفلان كذا وكذا، فهو بمثابة الوكيل، لكن الإشكال ليس هنا، الإشكال أننا لو اعتبرنا البنك أو المصرف وكيلاً عن صاحب الرصيد في الدفع فالأصل يقتضي أن يكون للموكل وهو العميل أو حامل البطاقة الحق كاملاً في التعامل مع هذا الطرف الثاني، وطبيعة العقد ما بين البنك وبين حامل البطاقة تخلي صاحب البطاقة من كثير من الحقوق، منها ما سبقت الإشارة إليه: أنه لو كان العميل قد اشترى بعملة غير العملة المعروفة؛ فإن هناك عقداً -عقد الصرف- يخول ويفوض البنك أن يصرف الريالات بالدولارات بأي سعرٍ كان، وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة تجعل النظر في الأحظ للعميل عند التحويل إلى عملةٍ أخرى لا النظر في الأحظ للبنك أو المصرف، بيد أن التعاقد والأنموذج الذي تم الاتفاق عليه بين الحامل للبطاقة وبين المصدر -البنك- يلزم حامل البطاقة بالرضا بكل صرف قام به المصدر -أعني البنك- وهذا خلاف الوكالة؛ لأن الوكالة في الأصل، يكون الموكل هو الذي له الحق الكامل، هذا أول شيء.

الشيء الثاني: لو صورنا هذا العقد على أنه عقد وكالة، لابد أن يوضع في الحسبان الرسم والمبلغ الذي دفعه الموكل للمصدر، فالرسوم التي دُفِعت للبطاقة كرسوم الاشتراك المقدمة ورسوم الخدمة المؤجلة، فهنا رسمان طالب بهما البنك -المصدر- حامل البطاقة، فيمكن أن نعتبر هذا المبلغ الذي طولب به من قبيل أجرة، ومن المعلوم في الفقه أنه يجوز أن يوكل بأجرة، يعني يجوز للشخص أن يوكل غيره على أن يقوم بمهمة ويعطيه أجرةً عليها، مثال ذلك:

لو قلت لرجل: اشتر لي بضاعةً من نوع كذا وكذا بخمسة آلاف، وأعطيته خمسة آلاف وقلت له: وهذه مائة أجرة لك على تعبك، حينئذ تكون تفويضاً ووكالة مقيدة بأجرة وهي جائزة ولا إشكال، لكن أين الإشكال فيما نحن فيه؟

أن هذه الرسوم -وهي الأجرة- إذا اعتبرنا العقد الذي بين حامل البطاقة وبين البنك وكالة بأجرة فينبغي أن تسري أحكام الإجارة الشرعية على هذا النوع من الوكالة، فلابد من النظر في شروط صحة الإيجار الشرعي، والتي منها باتفاق العلماء: العلم بالأجرة وبالمنفعة.

توضيح هذا الشرط حتى يمكن تطبيقه: أنك لو استأجرت شخصاً لكي يعمل أو يقوم بمنفعة لك فقلت له: اعمل عندي يوماً وأعطيك ما يرضيك لم يجز بالإجماع؛ لأن الذي يرضيه لا ندري كم هو، فقد يكون في ظنك أن المائة ترضيه وفي ظنه أنه لا تعطيه إلا مائة وخمسين فيحدث التشاحن، وبالإجماع لا يجوز أن تكون الأجرة مجهولة، هذا الشرط الأول.

الشرط الثاني: لا يجوز أن تكون المنفعة التي تستأجره لفعلها مجهولة، كأن تقول له: ابن لي جداراً وأعطيك مائةً، فلا تصح الإجارة حتى تحدد طول الجدار وعرض الجدار حتى يصبح كلٌ على بينة، ويعرف ما لهذا الأجير من حق، وما لصاحب العمل من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه، فهذا منهج الشريعة وهذه قواعد الشريعة الواضحة في التعامل والتي قامت على العدل وإعطاء الحقوق كاملة: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، المهم أنك تدفع المال لقاء شيء معلوم، وإذا ثبت هذا فلا يصح أن تكون الإجارة بقيمة مجهولة، ولا يصح أن تكون على عمل مجهول، وفي البطاقة إذا اعتبرنا أن البنك يقوم بالسحب من الرصيد وكيلاً عن صاحب الرصيد فإنه قد أخذ أجرةً على هذا السحب لقاء سحب مجهول، فلا ندري كم قدر تلك السحوبات، ولا ندري هل تكون مثلا في بلدٍ قريب، أو بلد بعيد فالعمل الذي دُفِع الرسم لقاءه مجهول، وقد لا يستخدم البطاقة إلا مرة واحدة، وقد يستخدمها عشرين أو ثلاثين أو أربعين مرة والأجرة واحدة، فهذا مجهول من جهة العمل.

ثانياً: مجهول من جهة الأجرة، وتوضيح ذلك أن الأجرة عن البطاقة اشتملت على نوعين من الرسوم:

الرسم الأول: وهو الرسم المقدم الذي يكون في حال الاشتراك وهذا قد يعفى منه صاحب الرصيد، فعلاً في بعض الأحوال تعطى البطاقة لمن له رصيد بدون رسم الدخول، لكن بقي الإشكال في الرسم الثاني: وهو رسم الخدمة؛ وقد ذكرناها عند استعراضنا لبعض البنود التي تكون في العقد ويتفق عليها كل من العميل والمصرف عند صرف هذه البطاقة، فذكرنا أن العميل يلتزم بدفع رسم الخدمة على كل عملية، فلو أنه نزل في فندق وكلف نزوله ثلاثة آلاف ريال، فهناك رسم الخدمة، ولو فرضنا أنه (5%)، فثلاثة آلاف ريال سيكون نصيبها ما يقارب من مائة وخمسين، فنحن في هذه الحالة لا ندري بالنسبة في وقتها، فأصبحت الأجرة التي تستحق لعمل البنك مجهولة، فهي وإن كانت معلومة النسبة لكنها مجهولة القدر، وهذا نوع من الجهالة يبطل الإجارة.

إذاً فأصبحت الجهالة من وجهين: إذا كان للعميل رصيد وفوّض البنك في السحب من رصيده وفاءً للالتزامات والحقوق التي عليه، هو عقد وكالة بأجرة، إلا أنه شابه جهالة الثمن التي هي الأجرة، وجهالة العمل والمنفعة المستحقة لقاءه.

بناءً على ذلك في الحالة الأولى: وهي كون البنك يقوم بالسحب من الرصيد لتغطية الالتزامات تخرج على أنها وكالة بأجرة وفيها ما ذكرنا.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع