إنه زمن البشرى.. فأين أهل تحقيقها؟
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
ما زلت أذكر قبل سبع سنوات في دورة المعارف المقدسية الأولى؛ التي أقامها ملتقى القدس الثقافي في الأردن جهلي بأبسط بدهيات المسجد الأقصى، وكنت أظن نفسي طالبة علم مهتمة، عندما سأل الدكتور عبد الله المعروف عن المعلم ذي القبة الذهبية! اعتبرت نفسي متفوقة فأنا أعلم، على عكس ما حاولوا تعليمه، وزرعه فينا ونحن أطفال بصور انتشرت في كل بيت ووسيلة أعلام، أن هذا المعلم الجميل ليس المسجد الأقصى، وإنما قبة الصخرة المشرفة التي بناها الأمويون!ثم جاء التحدي الثاني، وظننت نفسي سأنجح نجاحا باهرا في تسمية المعلم بالقبة الرصاصية بالمسجد الاقصى! وإذ به ليس المسجد الأقصى حتى ظننت أن الدكتور إما يمزح معنا، أو يريد أن يأتي باختراق جديد في المعلومات لم نجده في آبائنا الأولين!
في سنة أولى علوم المسجد الأقصى عرفنا أن المسجد هو كل ما دار حوله السور بمساحة ١٤٤ دونم، وما المعلمان المعروفان بالقبة الذهبية والرصاصية إلا جزء من مئات الآثار المباركة في القبلة الأولى للمسلمين، وثالث المساجد المشرفة والمقدسة والمباركة.
في سنة أولى علوم المسجد الأقصى تعلمنا أن الحب وحده لا يحرر مسجدا، ولا يعمره، وإنما يجب أن يكون مشفوعا بزيت يسرج في قناديله؛ ليبقى المسجد منارة إشعاع مهما اشتدت حوله الظلمة، بل إن اشتداد الظلمة هو وحده المؤذن بطلوع الفجر !
في السنة الأولى تعلمنا أيضا أن تقسيمات "سايكس بيكو" والقادم الأسوأ من التفتيت لا تعني شيئا في المسجد الأقصى؛ فالجنسية المقبولة في العمل والتقديم تُقاس بقدر الانتماء إلى الفكرة، والمفاضلة في التنافس.
ولقد خلدت في تاريخ الأقصى والمنطقة أسماء تعالت على الجغرافيا التقسيمية التشتيتية الضيقة، ووصلت بحق للوحدة الشعورية والعملية؛ التي دخل فيها الكردي قبل العربي، والمغربي قبل الشامي، والأسود قبل الأبيض.
بهذا المنطق، وهذه الرؤيا لا تعود القدس والمسجد أماكن ترث محبتها بنسب أو وطن، بل تصبح عقيدة في صلب الإيمان ، ورؤية مستقبلية إلى حيث سيكون اكتمال نصر الدين، ومنافع فردية وجماعية في التحقق وتحقيق البركة بكل تجلياتها الدنيوية والدينية.
لقد كان لهذا الجهد المعرفي الذي لازمه إعادة توجيه الاهتمام نحو القدس والأقصى كبوصلة تجمعية للأمة أكبر الأثر في إحياء القضية، والاهتمام بها على المستوى العربي الإسلامي والعالمي الدولي، وحتى الاستهداف المتكرر الممنهج للمسجد وتصدي المقدسيين الأسطوري له كان له صدى إيجابي في تنبيه الغافلين عن الأقصى بجسامة التحديات وعظم الخطر، فعاد الأقصى، كما يحب أن يكون، في بؤرة اهتمامات الشعوب ومتابعاتهم ومشاريعهم، وعاد للأقصى دور المسجد في أمور الدين والدنيا؛ فأصبحنا نرى الاستفتاءات الجماهيرية في ساحات المسجد على الأحداث السياسية المتغيرة في المنطقة.
كما نجح المقدسيون وإخوانهم في الموازنة في تقديم صورته للعالم من زوايا المأساة والخطر، ومن زوايا مختلفة تماما في الاحتفاء بالإنسانية والجمال والجلال والتحدي؛ للإثبات أن التهويد والنزاع والاقتتال هي حالات طارئة في مهد الرسالات وأرض السلام، وأن المكان موطن الحياة ومنبع الأمل، وأي وضع آخر هو وضع مفروض مصطنع كالكيان المصطنع؛ الذي حاول عبثا أن يخنق، ويحصر المسجد والمدينة، فحاصرته وحاصره أهلها الذين نقبوا الجدار، واستطاعوا أن يظهروه.
إن الصهاينة غيروا دينهم، واستصدروا فتاوى ؛ لتعجيل قدرهم المزعوم ببناء الهيكل ودخول قدس الأقداس، وإنزال المسيح المخلص فيما يعرف "بإجبار" يد الرب أو forcing god's hand
والمسلمون إن فقهوا سيعلمون أن الأقدار تسير بشراها بانسيابية دون جبر وعنف؛ ليكون الوعد بآخر خلافات الإسلام وبيعة الهدى في المسجد الأقصى، وهذا لا يعني الانتظار والركون؛ فالقدر مفهوم إيجابي في الدين، يبعث على الحركة، ويستحث العمل حتى تلتقي إرادة المولى بما يجريه من فعل على يد عباده من أولي البأس.
إن الأقصى قضية عادلة رابحة بكل المقاييس، ولكن كما يقول الرافعي " يا شباب العرب ! إن كلمة(حقي) لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها" فالعمل المبني على الحق هو الذي ينتج التغيير، وليس ركوب موجات التمني والاتكاء على انتظار الوعد الإلهي؛ فالوعد الالهي يتحقق ببشر يعملون لإنفاذه، وسنن الله لا تحابي أحدا.
" إن عمر الشر في الأرض المقدسة قصير إذا ما قورن بما سواها من أراض وبلاد، وقد يفسر هذا اضطراب المنطقة المستمر عبر العصور فقدسيتها تأبى عليها ان تتقبل على ظهرها الإفساد" والدارس للتاريخ يتبين صدق هذا التفسير للدكتور بسام جرار حيث كانت القدس بمسجدها مجس الإيمان واختباره؛ يعطيها الله لأهل العلم والفضل، وينزعها منهم بضلالهم وتحولهم عن الصراط المستقيم، وهذا ما حصل مع بني إسرائيل أنفسهم في دورة تاريخ المكان.
إن البشرى تنزل مع الكرب، ويتسابق اليسر؛ ليحيط العسر، ويمنعه من التمدد..
وأي عسر أكبر من الذي يعانيه المسجد الآن وهو رهين التقسيم والتهويد؟! ولكن المفصل في النتيجة وتحديد المستقبل هو العمل، ولا شيء غير ذلك، فالوعد بالنصر موجود، والبشرى تلوح فوق الرؤوس، ولكنها لا تتنزل إلا على العاملين المجاهدين، أما القاعدون والمتباكون والغاضبون فهم وقلتهم سواء!!!
لقد علمونا أن نبذر الحب دون انتظار النتائج، ولكنهم نسوا أن حب النصر ورؤية تحقيقه فطرة جبلها الله في البشر "{وأخرى تحبونها}"، لقد كان سعد بن معاذ يعرف أجر الشهادة ، وينتظر الفوز به، ولكنه أراد أن يفرّح آخر نفس في صدره والتماعة في عينيه برؤية مصارع الظالمين، فدعا أن يهدأ جرحه؛ حتى يرى النصر على أرض الواقع.
ونحن على سنته نريد أن نصلي في المسجد الأقصى، ولكن ليس أية صلاة، وإنما نصلي ركعتي الفتح، ونحن من جنود تحريره بإذن الله.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب الفأل، ويبشر بمدائن كسرى وقصور قيصر، والناس لا يأمنون قضاء حاجتهم..
وما أشبه حال الزلزلة ذاك بحال بلوغ القلوب الحناجر اليوم، ولكننا نسير بسيرة مصطفانا في الاستبشار، ونقول لكم"عيدكم القادم صلاة في الأقصى وهو محرر بإذن الله على أيديكم".
ديمة طارق طهبوب