شرح زاد المستقنع كتاب الجهاد [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد]

الجهاد في اللغة: مأخوذ من مادة جَهَد، وأصل الجَهْد: بذل الوسع والطاقة في تحصيل الأمر، ولا يقال ذلك إلا لأمرٍ عظيم، فيقال: اجتَهَدَ في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهد في رفع الخردلة، فلا يكون الجهاد إلا في الأمر العظيم الذي يحتاج إلى مشقة وعناء.

وأما في الاصطلاح: فهو بذل الوسع واستفراغه في قتال أعداء الله؛ لإعلاء كلمة الله عز وجل.

وهذه الشعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وهي ذروة سنام الإسلام كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل هذه الشعيرة، وما أعد الله لأهلها من ثواب في الدنيا والآخرة.

وقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد.

مناسبة وقوع كتاب الجهاد بين كتابي الحج والبيوع

لعل سائلاً يسأل: ما هي مناسبة كتاب الجهاد لكتاب الحج؟

والجواب: أنك إذا تأملت كتاب الحج وجدته كتاباً متعلقاً بالعبادة فيما بين الإنسان وربه.

وأما بالنسبة للجهاد فإنه عبادة؛ ولكنه يشتمل على شيء من المعاملة.

ولذلك يرد السؤال: ما وجه ذكر المصنف لكتاب الجهاد بعد الحج؟

والجواب: أن المناسبة في ذلك منتزعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سألته أم المؤمنين عائشة ، فقالت: (يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم. عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).

فلما فرغ من الحج -وهو العبادة التي تشتمل على المعاني العظيمة من الجهاد- ناسب أن يتبعه بالجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لاشتمال هاتين العبادتين على بذل الوسع واستفراغه في طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهما عبادتان بالنفس وبالمال؛ ولكن الجهاد من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله، وهو أفضل من الحج، ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور) فجعل منزلة الحج بعد منزلة الجهاد في سبيل الله عز وجل.

فلما فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل الحج ناسب أن يعتني ببيان مسائل الجهاد.

ثم انظر -رحمك الله!- إلى دقة هذا العالم الجليل، وفقهه، وحسن ترتيبه للأبواب، فإنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الجهاد، ومن تأمل كتاب البيع وجده مشتملاً على المعاملة المحضة؛ لأنه يتعلق ببذل السلع، سواءً كانت من المثمونات، أو من الأثمان بعضها ببعض، فهو معاملة محضة، والحج عبادة محضة، فلو أنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الحج، لكان البون شاسعاً بين البابين، فمن الصعوبة بمكان أن تنتقل من باب يتعلق بالعبادة المحضة إلى باب يتعلق بالمعاملة المحضة -لأن أمور البيع تتعلق بالدنيا كما لا يخفى، ولذلك لا يكون البيع قُربة إلا إذا قصد الإنسان الطاعة فيه والامتثال- فناسب أن يدخل بين الحج وبين البيع باباً متوسطاً، وهو باب الجهاد حيث إن فيه وجهاً من التعبد وفيه وجهاً من المعاملة، فينتقل الفقيه من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة بوسيط بينهما، وبعض العلماء يدخل باب النكاح لكي يكون رابطاً بين أبواب العبادات وأبواب المعاملات، ولكلٍ وجهة؛ ولكن إدخال كتاب الجهاد أنسب وأفضل، خاصة وأن السنة قد أشارت للترابط بين الحج وبين الجهاد.

فرضية الجهاد

يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد] هذه الشعيرة شَرَعَها الله سبحانه وتعالى لحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ جليلةٍ كريمة، وبيَّن سبحانه وتعالى هذه الشعيرة ودعا إليها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن الجهاد يعتبر شعيرةً من أعظم شعائر الإسلام، وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، وشَرَعَ الله عز وجل الجهاد في المدينة، أما عندما كان المسلمون بمكة فلم يُفرض الجهاد عليهم، ولكنهم لما انتقلوا إلى المدينة فرض الله عليهم الجهاد، وإنما لم يوجب الله عزَّ وجلَّ عليهم الجهاد بمكة لضعفهم وعدم تمكُّنهم من ذلك، وإنما يكلف الله عز وجل العباد ما في وسعهم، والشريعة شريعة رحمة، وتيسير، وليست بشريعة عنت ولا تعسير، ولذلك لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -دار الهجرة- وآزره ونصره الأنصار، واستقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أذن الله له بالجهاد في سبيله، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] فكتب الله عز وجل الجهاد والقتال، فقال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] وهي آية من سورة البقرة المدنية، والسبب في ذلك أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ممتنع عن الإسلام للشُّبَه والعوارض المتعلقة بفكره، فهذا يحتاج إلى قوة الحجة، وبيان السبيل والمحجة، فتكفل الله عز وجل ببيان ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أمثال هؤلاء -غالباً- يتعلق بالعلماء وطلاب العلم؛ فعليهم أن يبينوا لهم سبيل الله عز وجل، ويبينوا لهم ما في الإسلام مِن سماحة ومِن يسر، وأن يزيلوا عنهم الشبه، حتى تطمئن قلوبهم لدين الله، وتنشرح صدورهم لكلمة الله، فينالوا سعادة الدنيا والآخرة.

وأما القسم الثاني من الممتنعين عن الإسلام: فهم أقوام تغريهم المادة، يحتاجون إلى الدنيا ويطمعون فيها، فإذا أُغْرُوا بالمال أحبوا الإسلام وأقبلوا عليه، فبعدها إذا رأوا قوته وصدقه اطمأنت قلوبهم بدون الدنيا، وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاهم الله عز وجل حظاً في الزكاة، وجعل لهم سهماً من سهامها، وفعل ذلك نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه -بأبي هو وأمي- يوم حنين، فأعطى عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، فاطمأنت قلوب المؤلفة قلوبهم حتى وثقوا بدين الله، واستسلموا لشرع الله عز وجل.

وأما القسم الثالث: فهم الذين يعاندون ولهم منعة وقوة، فيحتاجون إلى كسر الشوكة، وإرغام الأنوف، فإذا أرغمت أنوفهم على الإسلام ورأوا قوة الإسلام، أذعنوا وذلوا لله واستسلموا، فهذا القسم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى قوة وتضحية، وبيع للأنفس في سبيل الله عز وجل، وهي التجارة التي لا يبور أصحابها، وقد تكفَّل الله لمن خرج لها:

إما أن ينال الشهادة فتقر عينه بجنة عرضُها كعرض السماء والأرض، وبما تكفَّل الله له به من رضوان مقيم، وهو أكبر من ذلك النعيم، وتكفَّل الله له بالفضائل في برزخه، وفي حشره ونشره، فينال بذلك البيع سعادةَ الدنيا والآخرة.

وإما أن يرجع إلى أهله سالماً، نائلاً ما نال من الغنيمة وسهم الدنيا العادل، مع ما ينتظره عند الله سبحانه وتعالى من الأجر.

وقد جاهد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وجاهد الخلفاء الراشدون، وجاهد السلف الصالح من هذه الأمة، ولم تزل هذه الشعيرة باقية، ولا تزال إلى يوم القيامة، ليجاهدوا مَن كفر بالله ورسوله، حتى يدين بدين الحق، وحَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].

والإسلام دين سماحة ويسر؛ ولكن السماحة واليسر إذا وضعت في غير موضعها كانت جُبناً وخَوَراً، ولذلك هو دين رحمة ويسر وسماحة لمن يستحق الرحمة ولمن هو أهل أن يُرْأَف به، وأما من كفر بالله ورسوله وعادى الله ورسوله، وأعلن البراءة من دين الله، فقد كفر نعمة الله عز وجل عليه، واعتدى على حدود الله، وخرج عن الأصل الشرعي الذي من أجله أوجده الله في هذا الوجود، وهو توحيدُ الله وإفرادُه بالعبادة، فاستحق أن يُزال من هذا الوجود، لتبقى كلمة الله هي العليا.

وفي هذا الجهاد حِكَمٌ عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فإن المسلمين إذا لم يغزوا أعداء الله غزاهم أعداء الله، فإن القلوب فيها حنق وغيظ على هذا الدين، وأصحاب الحق على مر الزمان وتعاقبه وتتابع الدهور لا يمكن أن يسلَموا من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعل الله عزة هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وجعل كرامتها في إقامة هذه الشعيرة العظيمة، ومَن تأمل حال المسلمين وجد أنهم إذا قاموا بهذا الأمر العظيم قام لهم أمر الدين والدنيا والآخرة، ونالوا سعادة الدنيا والآخرة، وأعزهم الله وقذف الرعب في قلوب أعدائهم، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر -وفي رواية-: مسيرة شهرين) قال العلماء: إن هذا الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعداء الإسلام، هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، فمن استقام على دين الله واستسلم لله ظاهراً وباطناً، فإن الله يُعِزُّه ويَرْفَعُ شأنَه، ويُعْظِمُ شأوَه، ويجعل له كرامةَ الدنيا والآخرة.

أقسام الجهاد

والجهاد منقسم إلى أقسام:

الأول: يكون بالجَنان.

الثاني: ويكون باللسان.

الثالث: ويكون بالجوارح والأركان.

فأما جهاد الجَنان: فهو بغضهم في الله، وعداوتهم في الله عز وجل، فمَن أحب في الله وعادى في الله فقد ذاق طعم الإيمان وحلاوته، ولا يمكن أن ينال العبد ولاية الله سبحانه حتى يحب بحب الله، ويبغص ببغض الله، فإذا فعل ذلك فإنه ينال حلاوة الإيمان، ويجد طعم الإسلام الذي أسلم به لله عز وجل ظاهراً وباطناً.

وأما الأمر الثاني: فهو جهاد اللسان، وهذا أعظم ما يكون وأكمل ما يكون من العلماء العاملين والأئمة الصديقين، الذين هم هداةٌ مهتدون، يقولون بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ [الأحزاب:39]، فأعداء الله يحتاجون إلى جهاد الكلمة، ومما يدخل في جهاد الكلمة جهادُ الشعراء وقولُ الشعر، وتأليفُه ونَظْمُه لنصرة دين الله وإعزازه، ورفع كلمة الله عز وجل، وشحذ الهمم إلى مرضاة الله، وتقوية الإيمان في القلوب، وقد أثنى الله عز وجل على هذا الصنف، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لما نزل قوله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] جاء كعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد علمتَ ما أنزل الله في الشعراء، فأنزل الله عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]) فاستثنى الله عز وجل هؤلاء؛ لأن هذا من جهاد الكلمة.

وأما النوع الثالث: فهو جهاد الجوارح والأركان، وهذا هو المقصود هنا بقول الفقهاء: (كتاب الجهاد)، فإنهم يبينون الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يلم بها إذا أراد القيام بهذه الشعيرة.

فالجهاد في سبيل الله عز وجل له ترتيبه، وله ضوابطه، وله أحكامه ومسائله، وقد بيَّن الله عز وجل هذه المسائل والأحكام في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن السلف الصالح ومَن بعدهم أحكامَ الجهاد، وفصَّلوها في كتبهم.

لعل سائلاً يسأل: ما هي مناسبة كتاب الجهاد لكتاب الحج؟

والجواب: أنك إذا تأملت كتاب الحج وجدته كتاباً متعلقاً بالعبادة فيما بين الإنسان وربه.

وأما بالنسبة للجهاد فإنه عبادة؛ ولكنه يشتمل على شيء من المعاملة.

ولذلك يرد السؤال: ما وجه ذكر المصنف لكتاب الجهاد بعد الحج؟

والجواب: أن المناسبة في ذلك منتزعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سألته أم المؤمنين عائشة ، فقالت: (يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم. عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).

فلما فرغ من الحج -وهو العبادة التي تشتمل على المعاني العظيمة من الجهاد- ناسب أن يتبعه بالجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لاشتمال هاتين العبادتين على بذل الوسع واستفراغه في طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهما عبادتان بالنفس وبالمال؛ ولكن الجهاد من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله، وهو أفضل من الحج، ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور) فجعل منزلة الحج بعد منزلة الجهاد في سبيل الله عز وجل.

فلما فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل الحج ناسب أن يعتني ببيان مسائل الجهاد.

ثم انظر -رحمك الله!- إلى دقة هذا العالم الجليل، وفقهه، وحسن ترتيبه للأبواب، فإنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الجهاد، ومن تأمل كتاب البيع وجده مشتملاً على المعاملة المحضة؛ لأنه يتعلق ببذل السلع، سواءً كانت من المثمونات، أو من الأثمان بعضها ببعض، فهو معاملة محضة، والحج عبادة محضة، فلو أنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الحج، لكان البون شاسعاً بين البابين، فمن الصعوبة بمكان أن تنتقل من باب يتعلق بالعبادة المحضة إلى باب يتعلق بالمعاملة المحضة -لأن أمور البيع تتعلق بالدنيا كما لا يخفى، ولذلك لا يكون البيع قُربة إلا إذا قصد الإنسان الطاعة فيه والامتثال- فناسب أن يدخل بين الحج وبين البيع باباً متوسطاً، وهو باب الجهاد حيث إن فيه وجهاً من التعبد وفيه وجهاً من المعاملة، فينتقل الفقيه من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة بوسيط بينهما، وبعض العلماء يدخل باب النكاح لكي يكون رابطاً بين أبواب العبادات وأبواب المعاملات، ولكلٍ وجهة؛ ولكن إدخال كتاب الجهاد أنسب وأفضل، خاصة وأن السنة قد أشارت للترابط بين الحج وبين الجهاد.

يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد] هذه الشعيرة شَرَعَها الله سبحانه وتعالى لحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ جليلةٍ كريمة، وبيَّن سبحانه وتعالى هذه الشعيرة ودعا إليها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن الجهاد يعتبر شعيرةً من أعظم شعائر الإسلام، وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، وشَرَعَ الله عز وجل الجهاد في المدينة، أما عندما كان المسلمون بمكة فلم يُفرض الجهاد عليهم، ولكنهم لما انتقلوا إلى المدينة فرض الله عليهم الجهاد، وإنما لم يوجب الله عزَّ وجلَّ عليهم الجهاد بمكة لضعفهم وعدم تمكُّنهم من ذلك، وإنما يكلف الله عز وجل العباد ما في وسعهم، والشريعة شريعة رحمة، وتيسير، وليست بشريعة عنت ولا تعسير، ولذلك لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -دار الهجرة- وآزره ونصره الأنصار، واستقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أذن الله له بالجهاد في سبيله، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] فكتب الله عز وجل الجهاد والقتال، فقال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] وهي آية من سورة البقرة المدنية، والسبب في ذلك أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ممتنع عن الإسلام للشُّبَه والعوارض المتعلقة بفكره، فهذا يحتاج إلى قوة الحجة، وبيان السبيل والمحجة، فتكفل الله عز وجل ببيان ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أمثال هؤلاء -غالباً- يتعلق بالعلماء وطلاب العلم؛ فعليهم أن يبينوا لهم سبيل الله عز وجل، ويبينوا لهم ما في الإسلام مِن سماحة ومِن يسر، وأن يزيلوا عنهم الشبه، حتى تطمئن قلوبهم لدين الله، وتنشرح صدورهم لكلمة الله، فينالوا سعادة الدنيا والآخرة.

وأما القسم الثاني من الممتنعين عن الإسلام: فهم أقوام تغريهم المادة، يحتاجون إلى الدنيا ويطمعون فيها، فإذا أُغْرُوا بالمال أحبوا الإسلام وأقبلوا عليه، فبعدها إذا رأوا قوته وصدقه اطمأنت قلوبهم بدون الدنيا، وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاهم الله عز وجل حظاً في الزكاة، وجعل لهم سهماً من سهامها، وفعل ذلك نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه -بأبي هو وأمي- يوم حنين، فأعطى عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، فاطمأنت قلوب المؤلفة قلوبهم حتى وثقوا بدين الله، واستسلموا لشرع الله عز وجل.

وأما القسم الثالث: فهم الذين يعاندون ولهم منعة وقوة، فيحتاجون إلى كسر الشوكة، وإرغام الأنوف، فإذا أرغمت أنوفهم على الإسلام ورأوا قوة الإسلام، أذعنوا وذلوا لله واستسلموا، فهذا القسم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى قوة وتضحية، وبيع للأنفس في سبيل الله عز وجل، وهي التجارة التي لا يبور أصحابها، وقد تكفَّل الله لمن خرج لها:

إما أن ينال الشهادة فتقر عينه بجنة عرضُها كعرض السماء والأرض، وبما تكفَّل الله له به من رضوان مقيم، وهو أكبر من ذلك النعيم، وتكفَّل الله له بالفضائل في برزخه، وفي حشره ونشره، فينال بذلك البيع سعادةَ الدنيا والآخرة.

وإما أن يرجع إلى أهله سالماً، نائلاً ما نال من الغنيمة وسهم الدنيا العادل، مع ما ينتظره عند الله سبحانه وتعالى من الأجر.

وقد جاهد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وجاهد الخلفاء الراشدون، وجاهد السلف الصالح من هذه الأمة، ولم تزل هذه الشعيرة باقية، ولا تزال إلى يوم القيامة، ليجاهدوا مَن كفر بالله ورسوله، حتى يدين بدين الحق، وحَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].

والإسلام دين سماحة ويسر؛ ولكن السماحة واليسر إذا وضعت في غير موضعها كانت جُبناً وخَوَراً، ولذلك هو دين رحمة ويسر وسماحة لمن يستحق الرحمة ولمن هو أهل أن يُرْأَف به، وأما من كفر بالله ورسوله وعادى الله ورسوله، وأعلن البراءة من دين الله، فقد كفر نعمة الله عز وجل عليه، واعتدى على حدود الله، وخرج عن الأصل الشرعي الذي من أجله أوجده الله في هذا الوجود، وهو توحيدُ الله وإفرادُه بالعبادة، فاستحق أن يُزال من هذا الوجود، لتبقى كلمة الله هي العليا.

وفي هذا الجهاد حِكَمٌ عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فإن المسلمين إذا لم يغزوا أعداء الله غزاهم أعداء الله، فإن القلوب فيها حنق وغيظ على هذا الدين، وأصحاب الحق على مر الزمان وتعاقبه وتتابع الدهور لا يمكن أن يسلَموا من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعل الله عزة هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وجعل كرامتها في إقامة هذه الشعيرة العظيمة، ومَن تأمل حال المسلمين وجد أنهم إذا قاموا بهذا الأمر العظيم قام لهم أمر الدين والدنيا والآخرة، ونالوا سعادة الدنيا والآخرة، وأعزهم الله وقذف الرعب في قلوب أعدائهم، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر -وفي رواية-: مسيرة شهرين) قال العلماء: إن هذا الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعداء الإسلام، هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، فمن استقام على دين الله واستسلم لله ظاهراً وباطناً، فإن الله يُعِزُّه ويَرْفَعُ شأنَه، ويُعْظِمُ شأوَه، ويجعل له كرامةَ الدنيا والآخرة.

والجهاد منقسم إلى أقسام:

الأول: يكون بالجَنان.

الثاني: ويكون باللسان.

الثالث: ويكون بالجوارح والأركان.

فأما جهاد الجَنان: فهو بغضهم في الله، وعداوتهم في الله عز وجل، فمَن أحب في الله وعادى في الله فقد ذاق طعم الإيمان وحلاوته، ولا يمكن أن ينال العبد ولاية الله سبحانه حتى يحب بحب الله، ويبغص ببغض الله، فإذا فعل ذلك فإنه ينال حلاوة الإيمان، ويجد طعم الإسلام الذي أسلم به لله عز وجل ظاهراً وباطناً.

وأما الأمر الثاني: فهو جهاد اللسان، وهذا أعظم ما يكون وأكمل ما يكون من العلماء العاملين والأئمة الصديقين، الذين هم هداةٌ مهتدون، يقولون بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ [الأحزاب:39]، فأعداء الله يحتاجون إلى جهاد الكلمة، ومما يدخل في جهاد الكلمة جهادُ الشعراء وقولُ الشعر، وتأليفُه ونَظْمُه لنصرة دين الله وإعزازه، ورفع كلمة الله عز وجل، وشحذ الهمم إلى مرضاة الله، وتقوية الإيمان في القلوب، وقد أثنى الله عز وجل على هذا الصنف، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لما نزل قوله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] جاء كعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد علمتَ ما أنزل الله في الشعراء، فأنزل الله عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]) فاستثنى الله عز وجل هؤلاء؛ لأن هذا من جهاد الكلمة.

وأما النوع الثالث: فهو جهاد الجوارح والأركان، وهذا هو المقصود هنا بقول الفقهاء: (كتاب الجهاد)، فإنهم يبينون الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يلم بها إذا أراد القيام بهذه الشعيرة.

فالجهاد في سبيل الله عز وجل له ترتيبه، وله ضوابطه، وله أحكامه ومسائله، وقد بيَّن الله عز وجل هذه المسائل والأحكام في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن السلف الصالح ومَن بعدهم أحكامَ الجهاد، وفصَّلوها في كتبهم.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع