أرشيف المقالات

الأخطر فى تفجيرات لندن.. ليس عدد القتلى - طلعت رميح

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .

الجمعة 2 جمادى الآخر1426هـ - 8 يوليو 2005م

جاء توقيت عمليات تفجيرات لندن فى لحظة كانت فيها بريطانيا تعيش حالة من النشوة السياسية والاقتصادية بعد حصولها على حق استضافة الأولمبياد الذي كانت الصرخة البريطانية التي انطلقت لحظة سماع نبأ فوزها على فرنسا وروسيا وغيرها أشد دلالات أهمية هذا الأمر، والأكثر تعبيرًا فى الوقت نفسه عن خطورة توقيت التفجيرات التي لا شك أنها مثلت ضربة بالغة الحدة لكل الطموحات السياسية والاقتصادية المنتظرة من تنظيم الأولمبياد.


كما جاء توقيت عمليات التفجير متزامناً مع وقت استلام بريطانيا لرئاسة الاتحاد الأوروبي متوجة بالنصر الكبير لسياستها، بعدما وجه الشعب الفرنسي لطمة لحكومته والاتحاد الأوروبي.


كما جاء التوقيت قاتلاً بتزامنه مع انعقاد قمة الدول الاستعمارية الثماني الكبرى في دبلن، ولم يكن المؤشر الأشد إيلامًا هو قطع بلير للاجتماعات والعودة إلى لندن فقط بل كان الأخطر أنها كررت نفس التجربة التي ووجه بها بلير وبوش خلال وجود بوش فى زيارة إلى لندن بعملية كبرى في تركيا ضد بنك بريطاني.


غير أن الأخطر فى العملية ليس فقط توقيتها، ولكن فى تنفيذها ومغزاها الاستراتيجي فهي تأتي:
أولاً: بعد أن حدثت نفس التفجيرات وبنفس الطريقة فى دولة أوروبية أخرى - أسبانيا - بما يعني أن المنفذين تمكنوا من تكرار نفس التجربة دون أن يتعلم الأمن البريطاني من تجربة عملية قطارات مدريد، أو بما يعني فشل كل أشكال التعاون الأوروبي والإجراءات المشتركة والتنسيق المشترك وتبادل المعلومات والخبرات، وبما يعني في الجانب المقابل أن من قام بها بات يمتلك القدرة على تنفيذ نفس السيناريو المعلن مسبقًا بلا قدرة من أجهزة الأمن على إفشال مهمته.


وهو أمر ذو مغزى استراتيجي تزداد أهميته أنه جاء بعدما قامت أجهزة الأمن البريطانية بعمليات اعتقال 'وقائية ' طالت كل من تظن إنهم من الإسلاميين المرتبطين فكريًا أو تنظيميًا بتنظيم قاعدة الجهاد - بلغ عددهم فى الآونة الأخيرة أكثر من 360 إسلاميًا - وبعد أن تمكنت أجهزة الأمن عبر الحكومة البريطانية من تمرير كل القوانين المعادية للحريات فى بريطانيا تحت مسمى مكافحة الإرهاب، بما يجعلها لا تملك حجة أخرى يمكن التعلل بها 'بأنها طلبت ولم تلبَ طلباتها من الجهاز السياسي'؛ وأنها لذلك لم تتمكن من منع وقوع التفجيرات.


وكذلك الأخطر، ثانيًا، فى العملية: هو أنها أثبتت أنه لا توجد دولة ترتكب العدوان يمكن أن تكون محصنة ضد الانتقام منها، مهما كانت قدراتها الاستخبارية أو درجة تحصين نفسها، ومهما كانت درجة إتقان الألاعيب السياسية التي تقوم بها.


لقد كانت الضربة هنا ذات مغزى استراتيجي متعدد الأبعاد بالنسبة لبريطانيا بشكل خاص.
فهي حاولت أن تلعب بالورقة الفلسطينية خلال المرحلة الأخيرة أو فيما بعد مشاركتها فى العدوان على العراق، لتغطي على جرائمها هناك، وكان بلير هو اللاعب الأكبر فى دفع الإدارة العدوانية الأمريكية نحو اللعب الإعلامي بهذه الورقة، فإذا الضربة تأتى لتؤكد أن لا أحد ينخدع بهذه الألاعيب، وأن كل تلك الألاعيب لم توقف الضربة.


وقد بذلت كل جهدها فى المنطقة التي تحتلها فى جنوب العراق لكي تظهر أن الاحتلال ليس عدوانًا، كما نجحت فى تقليل حجم العمليات ضدها فى الجنوب وفق علاقات استخبارية وسياسية مع عناصر مؤثرة فى الجنوب، وها هي تُضرب هناك فى لندن بما يؤكد أن كل العمل الاستخباري والعسكري والسياسي فى العراق لم يفلح فى منع انتقال العمليات إلى لندن.


والأخطر ثالثًا: أن المخطط الاستراتيجي للعملية أمسك بالفكرة الاستراتيجية الأكثر دقة فى المواجهة مع بريطانيا، فإذا حالت الأوضاع فى الجنوب من الرد على جرائم بريطانيا فى العراق وأفغانستان لظروف متعددة، فإنه قد قرر أن الضربة لابد أن تكون هناك فى بريطانيا وعلى أرضها بما يعني أننا أمام تطور استراتيجي بات ثابتًا ومجربًا وناجحًا من قِبل من يقومون بتلك العمليات، أو أننا أمام مرحلة بات معتمدًا فيها استراتيجية نقل المعركة إلى أرض الخصم أو إلى الأرض التي يعيش عليها؛ لهدم نظرياته فى الأمن القومي، ولتفعيل الضغط الشعبي ضد نُظم الحكم؛ بما ينهي المرحلة التاريخية التي استمرت لأكثر من قرنين والتي كانت الدول الاستعمارية العدوانية تمارس اعتداءاتها خلالها ضد الشعوب العربية والإسلامية وغيرها، بينما تنعم هي بالاستقرار والأمن والرخاء .


لقد كانت خطورة ضربات 11 سبتمبر فى تخطيطها وتنفيذها أنها هدمت نظرية الأمن القومي الأمريكي التي امتدت منذ قيام الولايات المتحدة بأنها بلد محمي بفعل الأطلسي خارجيًا، وأنها بلد لا يتعرض للضرب من الداخل فإذا الضربة تأتى من الداخل.


وكذلك كانت أحداث قطارات مدريد نقلاً للمعركة إلى أرض الخصم، حيث جاءت تعزيزًا لرؤية ضرب الخصم على أرضه بنفس المنطق والاستراتيجية التي ينقل فيها الخصم قواته إلى الأراضي الإسلامية، كما جاءت إدراكًا لأهمية 'المساهمة فى التغيير الداخلي' فى البلدان المعتدية، وعدم الاكتفاء بالمواجهة العسكرية ـ العسكرية على أراضي البلاد الإسلامية. وكذلك كان نقل المعركة من أرض الشيشان إلى الأرض الروسية نقلاً للقضية من حالة ترتكب فيها الجرائم ضد الشعب الشيشاني 'بلا حس ولا خبر' ودون أي تأثير على الرأي العام الروسي إلى حالة داخلية فى روسيا تهدد الحكم وتظهر فشله.


وكذلك كانت الأهمية البالغة لمصارعة العدو الصهيوني على الأرض التي يحتلها فى فلسطين فى عام 48 هي أهم تغيير استراتيجي فى الصراع منذ عام 1948 وحتى الآن، حيث كانت كل الاعتداءات التي يقوم بها الكيان الصهيوني تجري وهو مستقر داخليًا، بل كان الصهاينة يفخرون بأن حروب 56 و67 و73 تجري والصهاينة يتنزهون على شواطئ البحر الأبيض.
وكم كان التأثير مفزعًا ومرعبًا حينما بدأت العمليات الاستشهادية فى عمق العدو على كل المستويات السياسية والنفسية والاقتصادية والعسكرية.


التأثيرات الضارة

كانت تلك محاولة لتلمس أهمية التوقيت والمغزى الإستراتيجي للعمليات التي جرت فى لندن، ولاشك أن المراقبين والمحللين عند تناولهم لآثار وتبعات هذه التفجيرات لن يغفلوا - على فرض ثبوت مسئولية جهات إسلامية عنها سواء أكانت تنظيم القاعدة أم غيره - لن يغفلوا الحديث عن آثارها السيئة المتمثلة في الإضرار بسمعة الإسلام والمسلمين، أو حول توسع الحملات ضد الإسلام واحتمالات تعرض الجاليات الإسلامية فى الغرب إلى مضايقات جراء هذه العمليات، وحول إضعاف دور الإسلاميين فى أوروبا فى دعم القضايا العربية والإسلامية، وحول التأثير المضاد لهذه العمليات على الرأي العام الغربي، وحول أن العمليات توفر فرصة لتوحيد أوروبا وأمريكا ضد المسلمين..أو شرعية هذه التفجيرات ابتداء وجواز استهداف المدنيين من الأطفال والنساء وغيرهم...
إلخ وهي كلها أمور ينظر لها باهتمام من زاوية أنها تنطلق من محاولة مخلصة لخدمة الإسلام والمسلمين والحرص على الحركة الإسلامية، ومن زاوية أنها رؤى تحمل مضامين هامة حول استراتيجية الدعوة .


وبعيداً عن وجهة النظر تلك والموقف من تلك الآثار السيئة الناجمة عن تلك التفجيرات أو التي سبقت في أماكن أخرى- والتي تختلف وتتفاوت فيها وجهة نظر المحللين والمراقبين - فالذي يظهر أن المخطِط الإستراتيجي لها- والذي يرجح كثير من المراقبين تبعيته لتنظيم القاعدة حيث يقول هؤلاء المراقبون إن هذا هو أسلوب القاعدة -الذي يظهر أن المخطِط الإستراتيجي لها نظر إلى جوهر المشكلة باعتبار أن كل التحركات لم تتمكن من إفشال العدوان ومنعه، أو هو قدّر أن عدم قدرة الرأي العام الأوروبي على منع الحكومات الغربية من المشاركة فى الاعتداءات على الشعوب الإسلامية، يتطلب أعمالاً ضخمة لتحريكها ولجعلها جزءًا من المعركة، أو لإدخالها في أتون المعركة، باعتبار أن مثل هذه الأعمال الضاغطة يمكن لها أن تحرك قطاعات أوسع من الرأي العام الغربي تحت الشعور بأن تركهم لحكوماتهم ترتكب الاعتداءات سينقلب عليهم وبالاً، ولو حتى بمقدار جانب يسير مما تذيقه جيوشهم للمسلمين.


كما يبدو أن المخطِط الاستراتيجي لهذه العمليات رأى أن فكرة الخوف من توحيد أوروبا مع أمريكا فى مواجهة الإسلام والمسلمين هي أمر متحقق على الأرض ومنذ قرون، وأن ما نراه من خلافات ليس إلا اختلافات اللصوص على أفضل الطرق للسرقة لا على مبدأ السرقة نفسها.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١