فعل العبد وكسبه
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
فعل العبد وكسبه(مقتطفات من كلام العلماء في القضاء والقدر)
وفعل العبد خلق لله - عز وجل - وكسب للعبد، وخروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة، يعني: أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة؛ كما خلق النبات بالماء، وخلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب.
وليست إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركًا، وإلا فتكون جميع الأسباب شركًا؛ قال تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [التوبة: 14]، وقال تعالى: ﴿ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ [الأعراف: 57]، وقال تعالى: ﴿ فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ﴾ [النمل: 60]، فبين أنه هو المعذِّب، وأن أيدينا أسباب وآلات ووسائط في وصول العذاب إليهم.
مثال ذلك - ولله المثل الأعلى -: إذا كتبت أنت بالقلم، وضربت بالعصا، ونجرت بالقدوم؛ هل يكون القلم شريكك، أو يضاف إليه شيء من نفس الفعل وصفاته؟ أم هل يصح أن تلغي أثره، وتقطع خبره، وتجعل وجوده كعدمه؟ أم يقال: به فعل، وبه صنع، مع أن الأسباب بيد العبد ليست من فعله، وهو محتاج إليها لا يتمكن إلا بها.
والله سبحانه خلق الأسباب ومسبباتها، وجعل خلق البعض شرطًا وسببًا في خلق غيره، وهو مع ذلك سبحانه غني عن الاشتراط والأسباب، ونظم بعضها ببعض، لكن لحكمة تتعلق بالأسباب، وتعود إليها، والله عزيز حكيم.
الجبر الذي أنكره السلف:
وتيسير العبد للعمل هو نفس إلهامه ذلك العمل، وتهيئة أسبابه، وهذا هو تفسير خلق أفعال العباد، فنفس خلق ذلك العمل هو السبب المفض إلى السعادة أو الشقاوة، ولو شاء سبحانه لفعله بلا عمل؛ بل هو فاعله، فإنه ينشئ للجنَّة خلقًا لم يعملوا صالحًا قط؛ لما يتبقى بها من الفضل، فقدرة العبد المحدثة لها تأثير من حيث هي سبب كتأثير القلم، وليس لها تأثير من حيث الابتداع والاختراع والبرء، وقدَّمنا أن جعل الأسباب مبتدعات مخترعات هو الإشراك، وإثباتها أسبابًا موصولات هو التوحيد.
فالعبد كاسب فاعل صانع عامل، والجبر الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرًا من غير إرادة ولا مشيئة من العبد الفاعل له باختياره، مثل: حركة المرتعش، أو انتفاض المحموم، أو حركة الأشجار بهبوب الرياح.
الآثار المترتبة على فعل العبد:
أما أن يكون الفعل المراد والمختار الواقع بمشيئة العبد مثل: صلاته وعبادته، أو زناه وسرقته؛ واقعة بالإرادة والمشيئة التي خلقهما الله خالق كل شيء ومقدِّر كل شيء؛ فهذا لا يعتبر جبرًا إلا إذا أمن اللبس بالأول، وانبنى الثواب والعقاب طمأنينة على الأخير؛ لأن الله خلق وجعل فعل العبد سببًا مقتضيًا لآثار محمودة أو مذمومة.
فالعمل الصالح تعقبه طمأنينة في النفس وانشراح في الصدر وانتهاء عن الفحشاء وحب في قلوب الخلق.
والعمل السيئ تعقبه ظلمة في الوجه وضيق في الصدر واضطراب في التصرفات.
ولذلك قيل: إن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن عقوبة السيئة السيئة بعدها، فهذه الآثار هي التي أورثتها الأعمال هي الثواب والعقاب، وإفضاء العمل إليها كإفضاء جميع الأسباب إلى مسبباتها، والإنسان إذا أكل أو شرب حصل له الري والشبع، وقد ربط الله سبحانه وتعالى الري والشبع بالأكل والشرب ربطًا محكمًا، ولو شاء الله أن لا يشبعه ولا يرويه مع وجود الأكل والشرب فعل؛ إما أن لا يجعل في الطعام قوة مشبعة، أو أن يجعل في المحل قوة مانعة، أو بما شاء سبحانه، ولو شاء أن يشبعه ويرويه بلا أكل ولا شرب، أو بأكل وشرب غير معتاد فعل.
الثواب والعقاب:
كذلك في الأعمال المثوبات والعقوبات حذو القذة بالقذة؛ فإنه إنما سُمِّي الثواب ثوابًا؛ لأنه يثوب إلى العامل من عمله، أي: يرجع، والعقاب عقابًا؛ لأنه يعقب العمل، أي: يكون بعده.
ولو شاء الله أن لا يثيبه على ذلك العمل لفعل، إما بأن لا يجعل في العمل خاصة تفضي إلى الثواب، أو لوجود أسباب تنفي ذلك الثواب، أو غير ذلك؛ لفعله سبحانه وتعالى، وكذلك في العقوبات.
وبيان ذلك: أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته التي هي من فعل الله سبحانه وتعالى أيضًا، وحصول الشبع عقب الأكل ليس للعبد فيه صنع البتة، حتى لو أراد دفع الشبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يطق.
وكذلك نفس العمل هو بإرادته واختياره، فلو شاء أن يدفع أثر ذلك العمل وثوابه بعد وجود موجبه لم يقدر.
إضافة الفعل إلى الإنسان:
وقد صح إضافة الفعل إلى الإنسان حقيقة وكسبًا، مع أن الله تعالى خالق العبد وعمله، وجعل هذا العمل له عملًا قام به وصدر عنه وحدث بقدرته الحادثة، وإذا صح نسبة الطاعة والمعصية إلى من خلقت فيه، ولو أنه بخلق الصفات؛ أفيحسن بالإنسان أن يقول: أسود وأحمر وطويل وقصير وذكي وبليد وعربي وعجمي؟؛ فيضيف إليه جميع الصفات التي ليس للإنسان فيها إرادة البتة لقيامها به وتأثيرها فيه تارة بما يلائمه وتارة بما ينافره، ثم يستبعد أن يضاف إليه ما خلق فيه من الفعل بواسطة قصده وإرادته المخلوقين أيضًا.
وليس للعبد في السيء شيءٌ فهل الجميع إلا له؟؛ بل ليست لأحد غيره، لكن الله سبحانه وتعالى خلقها له، وإضافة الفعل إلى خالقه ومبدعه لا تنافي إضافته إلى صاحبه ومحله الذي هو فاعله وكاسبه، وقد تقدم الجبر المذموم الذي تنزَّّه الله عنه.
والخلق بمعنى: الإبداع والبرء والتصوير والتقدير لله وحده، والعبد فاعل عامل كاسب.
والكسب: هو الأثر والتأثر، فكل محل تأثر عن شيء تأثيرًا ملائمًا أو منافرًا صح وصفه بالاكتساب، ولو لم يكن له عليه قدرة.
فيقال: الثوب قد اكتسب من ريح المسك، والمسجد قد اكتسب الحرمة من أفعال العابدين، والجلد غلاف المصحف اكتسب الحرمة من المصحف، والثمرة اكتسبت لونًا وريحًا وطعمًا، والإنسان يتأثر عن الأفعال الاختيارية ولا يتأثر عن الأفعال الاضطرارية، فتورثه أخلاقًا وأحوالًا، ثم إن الاضطرار إنما يكون على بدنه دون قلبه؛ إما بفعل الله تعالى كالأمراض، وإما بفعل العباد كالقيد والحبس.
وأما أفعال روحه المنفوخة فيه إذا حركت يديه فهي كلها اختيارية على النمط الموضح.
من كتاب "رسالتان في القدر والربا ومقالات متنوعة" للمؤلف.