أرشيف المقالات

معجزات المرسلين هل تخضع لحكم العقل؟!

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
معجزات المرسلين هل تخضع لحكم العقل؟

خلق الله رب العالمين هذه الدنيا بمحض قدرته، ودبَّر أمورها بمحض حكمته؛ ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [إبراهيم: 32 - 33].
 
وهذه الكائنات وإن استوتْ في الإتقان والإحكام غير أن الخالق - جل جلاله وعز سلطانه - اختار من بينها نوعًا شرَّفه وكرمه ورفع قدره، هذا النوع المشرَّف هو النوع الآدمي؛ قال تعال في مُحكَم التنزيل: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ [الإسراء: 70]، وجهة التكريم في هذا الإنسان ليستْ استقامة القامة، أو وجاهة المنظر، وإنما جهة التكريم فيه مردُّها إلى نعمة ميَّزه بها ربه، هي نعمة العقل، وبه كُلِّف، وشرِّف، وبه امتاز على غيره من سائر الكائنات، ولكن نعمة العقل وحدها غير كافية في تحصيل السعادة الحقَّة الصحيحة البعيدة عن الانحراف، ومن أجل ذلك أرسل إليه رسلاً منه مبشِّرين ومُنذِرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجَّة بعد الرسل؛ يقول الله - عز وجل -: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].
 
ولما كان الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - مبعوثين من الخالق سبحانه، فقد أيدهم بالمعجزات التي تقهر العقل السليم على الاعتراف الذي يُعجز البشر متفرِّقين أو مجتمعين على الإتيان بمثلها، يُظهرها الله تعالى على يد رسوله في التوِّ والحين عند التحدي له من قومه، وهي من الله تعالى لرسوله المبلِّغ عنه شرعه للناس بمنزلة قوله: صدق عبدي في كل ما يبلغه عني.
 
ولكل رسول من المرسلين معجزات من جنس ما برَع فيه قومه، غير أنها تفوق ما برع فيه القوم، بحيث إنهم يَعجزون عجزًا تامًّا عن الإتيان بمثلها، مهما حاولوا؛ لأن المعجزة من صنْع الله خالق البشر وغيرَهم، ولا يستطيع المخلوق أن يأتي بمثل صنْع من خلقه وصوَّره، وجعل مصيره إليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6].
 
فمن معجزات نبي الله موسى - عليه الصلاة والسلام - عصاه التي ألقاها يوم الزينة، وقد اجتمع سحرة فرعون، ومعهم جماهير القوم، ووجهاؤهم وعظماؤهم، فإذا بها حية تلقف سحر السحرة الذين ألقوا بحبالهم وعصيِّهم، فخُيِّل إليه وإلى غيره من سحرهم أنها تسعى وتتحرَّك، فأوجس في نفسه خيفةً موسى، فأوحى الله تعالى إليه: لا تخف إنك أنت الأعلى من هؤلاء؛ لأنك على الحق وهم على الباطل، فلما ألقى عصاه وابتلعتْ حِبالهم التي كانت تتحرَّك وعِصيَّهم التي كانت تسعى، أيقن السَّحَرة أنفسهم أن هذا الصَّنيع الذي جاء به موسى - عليه السلام - ليس مِن صُنعِ البشر؛ إنما هو من صنْع خالق القوى والقُدَر، فآمنوا بالله رب العالمين، خالق الخلق أجمعين، ولما هدَّدهم فرعون بتقطيع أيديهم وأرجلهم لم يُقيموا وزنًا لهذا التهديد، قائلين له ما حكاه القرآن الكريم: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ﴾ [طه: 72 - 73].
 
نعم، إن هذا التهديد بقطع الأيدي والأرجل، ثم بتصليبهم في جذوع النخل، لم يؤثِّر عليهم عند إيمانهم؛ لأن حلاوة الإيمان غلبتْ مرارة التهديد، مهما كان بمثل هذا الصنيع البَشِع القبيح، ومن معجزات نبي الله سليمان - عليه السلام - ما كان من معرفة لغات الطير، ومنطقها؛ قال الله تعالى في هذا الشأن: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ ﴾ - أي: الهدهد -: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 22 - 24].
 
أدرك نبي الله سليمان معنى قول الهدهد، فقال ما حكاه القرآن الكريم أيضًا: ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27].
 
بل إنه - عليه السلام - كان يَفهم لغة المخلوقات الصغيرة جدًّا، الدقيقة في الخلق والتكوين، التي لا يَكاد يُدرَك لها صوت؛ قال تعالى في هذا الشأن أيضًا: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 18، 19].
 
ومن معجزات نبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - أنه كان يُبرئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله، ومن معجزات خاتم هؤلاء المرسلين محمد بن عبدالله - صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم أجمعين - انشقاق القمر، وقد سجل القرآن الكريم هذه المعجزة في قوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ﴾ [القمر: 1 - 3].
 
وقضية انشقاق القمر عندما طلب المشركون من سيدنا محمد رسول الله آية تشهد بصدق رسالته رآها الراؤون، وتحدث عنها المشاهدون، ورأس المعجزات ورئيسها بالنسبة لخاتم الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم- هو القرآن الكريم، وهو الألفاظ التي تتألف منها الآيات القرآنية الكريمة، التي تَنطوي عليها السورة التي نزل بها أمين الوحي جبريل على قلبه الشريف: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 193 - 195].
 
وهو شفاء ودواء لأمراض المجتمعات؛ ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82].
 
وهو الناطق بالحق وألوان الهداية؛ ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ﴾ [الجاثية: 29].
 
وبه حياة القلوب والعقول حياة طيبة كريمة بعيدة عن السوء؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].
 
وهو المعجزة التي عجز الفحول من البلغاء والفصحاء عن الإتيان بمثله أو بمثْل أقصر سورة من سُوَره؛ ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
 
نعم، إن القرآن الكريم هو المعجزة الكُبرى لرسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وهذه المعجزة باقية على الدهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تكفَّل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم وصَونه؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
 
وهذه المعجزات لرسل الله تعالى لا سلطان للعقل عليها؛ لأنها لا تخضع لحُكمِه، فالعقل مهما أوتي من القوة والعبقرية والذكاء، قاصر كليل عاجز عن إدراك كل الحقائق، وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
 
أما الكثير من العلم، فمردُّه إلى الله تعالى، ونحن لا نعلم منه إلا بمقدار ما علَّمنا ربنا، نعم، إن العقل يتطاول إلى المعرفة، ولكنه لا يأخذ منها إلا بمقدار ولو أخذ منها كل شيء، لأدرك كنه ذاته التي يجهل حقيقتها، فمدلول العقل حتى الآن مع تقدُّم العلوم والمعارف منه غامض، والعقل يموت بموت صاحبه، ويمرض بمرضه، نعم، إنه قوة هائلة ولكن ما حقيقتها؟ أهو النور الذي يشرق منها وبه المقدار المحدود من الإدراك؟ إن حقيقة علم ذلك إلى الله الذي يعلم السر وأخفى، فالمعجزات لرسل الله تعالى لا تخضع لحكم العقل؛ لأنها من صنع خالق العقل ولا ينبغي أن يقاس صنع الله تعالى على صنع البشر من خلقه؛ لأن صنع البشر له أسباب وله عِلَل، وهو مبنيٌّ على بحوث ودراسات المؤسسات العلمية والصناعية، يَبني الباحث عمله على عمل من سبقه، وهكذا المخترعات والمبتكرات مهما انطوت على الغرابة في الصنع، أما المعجزات التي ذكرنا طرفًا منها، فهي من محْض قدرة الله تعالى القادر على كل شيء والتي أيَّد بها رسله الذين أرسلهم إلى عباده مبشِّرين ومُنذِرين، يدلُّون عليه ويُبلِّغون إليهم شرعه، فمن اهتدى بعد ذلك فلنفسه ومن ضل فعليها.
 
هذا وبالله التوفيق...

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١