تفسير سورة الأنعام - الآيات [39-47]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا؛ إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

ففي الآيات التي سبق تفسيرها بين ربنا جل جلاله أنه يستجيب لدعوته وينتفع بكلامه من رزقه الله عز وجل سمعاً واعياً وقلباً حافظاً، أما الكفار فإنهم بالموتى أشبه، لا ينتفعون بسمعهم ولا أبصارهم ولا قلوبهم، إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:36]، وبين ربنا جل جلاله أن الكفار المعاندين المستكبرين كانوا يقترحون الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبون منه معجزات بعينها: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الأنعام:37]، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37]، لا يعلمون أن هذه الآيات لو نزلت، وهذه المعجزات لو تحققت، ثم استمروا على كفرهم وعنادهم فلا بد أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37].

قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ [الأنعام:37]، أي: في الأرض ولا في السماء، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، هذه المثلية إما أن تكون مثلية الخلق والرزق، فيكون المعنى يا بني آدم كما أنكم مخلوقون مرزوقون، والخالق والرازق هو الله الواحد، فكذلك ما على الأرض من الدواب والطيور إنما هي مخلوقة لله، مرزوقة من الله، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6].

وإما أن تكون المثلية مثلية معرفة الله عز وجل وتسبيحه، كما أنكم يا بني آدم تعرفون الله وتسبحونه، فكذلك هذه الدواب والأنعام والطيور تعرف الله وتسبحه، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، ويشهد لهذا قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، ويشهد لهذا قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج:18].

وإما أن تكون المثلية مثلية صفات، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من الناس من يعدو عدو الذئب ويفترس افتراس الأسد ويمكر مكر الثعلب.

قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، قد يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي أحصى الله فيه كل شيء عدداً وأحاط بكل شيء علماً، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحج:70].

وقد يكون المراد بالكتاب القرآن، ويشهد لهذا قول ربنا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ، هذه الدواب، هذه الأنعام هذه الطيور، وكذلك بنو آدم كلهم إلى ربهم يرجعون، كلهم عند ربهم محشورون.

المراد بكون الكفار صم وبكم ومعناهما

يقول الله عز وجل عطفاً على ما مضى من كلام: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:39]، هؤلاء الكفار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وصموا آذانهم عن سماع الحق الذي جاء به، وغضوا أعينهم عن رؤية دلائل الوحدانية ودلائل أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث من عند الله، هؤلاء يصفهم الله عز وجل بصفتين من صفات النقص؛ بأنهم صم وبكم، صم جمع أصم وهو الذي لا يسمع، والبكم جمع أبكم وهو الذي لا يعقل، وكل ما جاء على وزن أفعل وكان صفة مشبهة ومؤنثه فعلاء فإنه يجمع على فعل، كصم، وبكم، وعمي، وخضر، وحمر، هذه كلها مفردها على وزن أفعل، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ ، وتقدم معنا الكلام أن القرآن قد أثبت لهؤلاء الكفار أنهم يسمعون وأنهم يتكلمون، قال الله عز وجل: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، وقال تعالى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19]، وقال الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، لكن لما كان استماعهم في غير نفع، وكلامهم في غير نفع عدهم الله عز وجل بمزلة الصم البكم، وهذا معروف في كلام العرب حيث أنها تعد الشيء الذي لا نفع فيه كلا شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما سئل عن المنجمين قال: ليسوا بشيء )، ومنه قول القائل:

صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

زمن صيرورة الكفار في الظلمات

قوله تعالى: فِي الظُّلُمَاتِ .

(الظلمات) جمع ظلمة، هل المراد بذلك أنهم صم وبكم في الدنيا وأنهم في الظلمات في الدنيا، أم المراد بذلك الآخرة؟ أكثر العلماء على المعنى الأول، أن المراد بذلك صممهم وبكمهم وظلماتهم في الدنيا، ويشهد لهذا قول الله عز وجل: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

وقال بعض المفسرين: بل المراد بذلك أنهم صم بكم يوم القيامة، واستدلوا بقول الله عز وجل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، والظلمات كذلك ظلمات يوم القيامة، واستدلوا بقول الله عز وجل: يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13].

الفرق الضالة في القدر

قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ بعض الناس قد يستشكل هذه الآية، فيقول: إذا كان ربنا جل جلاله قد حكم عليهم بأنهم صم وبكم، وإذا كان ربنا قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فَلِمَ يحاسبهم؟!

والجواب: أن الله جل جلاله قد جعل على أبصارهم غشاوة، وجعل على قلوبهم أكنة؛ جزاء على كفرهم، كما قال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقال سبحانه: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]، وقال سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، وقال سبحانه: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم:75].

قول الجبرية في القدر والرد عليهم

هناك طائفة تسمى الجبرية وهم أصحاب مذهب الجبر، الذين يعتقدون بأن الإنسان مسير كريش في مهب الريح، وأن الحساب ظلم، وهذا يعتقده الآن بعض سفهاء المسلمين، وتجد الواحد منهم لا يصلي الخمس، ولا يصوم الشهر، ويلبس الحرير، ويتحلى بالذهب، ويخادن النساء في الحرام؛ بل ربما -والعياذ بالله- يخادن الولدان، ثم بعد ذلك إذا قيل: اتق الله، قال: هذا أمر قد كتبه الله علي، هذا أمر مقدر مكتوب، أنت ما تؤمن بقدر الله وأن هذا مكتوب؟! قل: نعم، نؤمن بقدر الله أنه مكتوب، لكن يا مسكين! أنت لست مجدداً، ولم تأت بشيء جديد، هذه حجة أبي جهل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء، وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]، هذه حجتهم، قال الله عز وجل: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، أنت! يا من تواقع الفواحش وتقصر في الأوامر، قبل أن تفعل ما فعلت ما أدراك أن الله كتبها؟ لم لا تفعل الخيرات وتسارع إلى الطاعات وتحافظ على الصلوات، وتجتنب الشبهات وتقول: هذا أمر قد كتبه الله علي، كان يمكن أن يكون العكس! اجتهد في الطاعات، وسارع إلى القربات، وقل: هذا أمر قد يسره الله لي ووفقني إليه، لكن هؤلاء لا يحتجون بذلك.

قول القدرية في القدر والرد عليهم

وفي مقابل هؤلاء طائفة أخبث، وهم القدرية، مجوس هذه الأمة الذين قالوا: بأن الله عز وجل لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، يعني ربنا سبحانه لا يعلم بسرقة من سرق ولا فحش من فحش إلا بعدما يفعل، وهؤلاء شر من أولئك، وكلاهما واقع في الكفر، فإن الله عز وجل علم ما كان وما يكون، ولذلك كان عمرو بن عبيد رأس هؤلاء المنحرفين -نسأل الله العافية- وكان في عبادة، فجاءه أحد الأعراب يوماً، قال له: إن دابتي قد سرقت، فادع الله أن يردها علي، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن هذا الأعرابي قد سرقت دابته وأنت لم ترد سرقتها؛ لأنك سبحانك منزه عن أن تريد هذه الفعلة الخبيثة، فقال له الأعرابي: يا هذا! كف عني دعاءك الخبيث، فإنه إن لم يرد سرقتها فسرقت لعلها يريد ردها فلا ترد، إذا كانت أصلاً سرقت رغم أنفه وجبراً عليه جل جلاله فلعله يريد ردها، فاللص يعاند الله ولا يردها، هذا مذهب من التفاهة بمكان.

وكان عبد الجبار المعتزلي يعتنق هذا المذهب، وفي مرة من المرات جلس في المسجد يقول: سبحان من تنزه عن الفحشاء! فقال أبو إسحاق الإسفراييني رحمه الله: كلمة حق أريد بها باطل، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، يعني: قال كلمة هذا الرجل: سبحان من تنزه عن الفحشاء، هذه كلمة حق، لكن أريد بها باطل، وهو أن الفحشاء تقع بغير قدر من الله، فرد عليه بقوله: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال له عبد الجبار : أتراه يشاؤها ثم يحاسبني؟ فقال له أبو إسحاق : أتراك تفعلها جبراً عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، فقال له: أتراه إن منع عني الهدى ويسر لي الردى، ثم حاسبني، أأحسن إلي أم أساء؟ فقال له أبو إسحاق : هذا الذي تسأله إياه أفضل منه أم فرض عليه؟ فبهت الرجل ولم يستطع جواباً، وقال الجلوس: والله ما لهذا جواب.

أنواع المشيئة

مشيئة الله نوعان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة شرعية دينية.

مشيئة كونية قدرية قد تعلق بها ما يقع في الكون ما يحبه الله وما لا يحبه الله، أما المشيئة الدينية الشرعية فيتعلق بها ما يحبه الله سواء وقع في الكون أم لم يقع؛ ولذلك قال الله عز وجل: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، هذه جملة شرطية، مَنْ يَشَإِ اللهُ ، من أداة الشرط، وفعل الشرط يشأ، وجوابه: يُضْللهُ .

مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ ، هذه الآية رد على القدرية مجوس هذه الأمة القائلين: بأن العبد هو خالق أفعال نفسه؛ وهذا خطأ؛ بل الهداية من الله، والضلال من الله، الكل موجود بخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة في القرآن، كقول ربنا الرحمن: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]، وقوله: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، وقوله: مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف:186].

مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ .

معاني الضلال في القرآن الكريم

وكلمة الضلال تطلق في القرآن مراداً بها ثلاثة معاني:

المعنى الأول: إطلاق الضلال وهو المشهور، بمعنى الذهاب عن طريق الجنة إلى طريق النار، وعن طريق الهدى إلى طريق الضلال، وعن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور إلى ما جاء به شياطين الإنس والجن من طرق الضلال، وهذا المعنى في القرآن كثير، كما في هذه الآية، وكما في قول ربنا: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77]، ومنه الآية التي نقرأها في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

المعنى الثاني من إطلاقات الضلال: الغيبوبة والاضمحلال، ومنه قول الله عز وجل على لسان الكفار: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10]، أَئِذَا ضَلَلْنَا ))، أي: غبنا، ومنه تقول العرب إذا دفن الناس ميتهم: ذهب القوم فأضلوا ميتهم، بمعنى: غيبوه تحت الثرى، ومنه قول الله عز وجل: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]، أي: غاب عنهم ما كانوا يفترون، ومنه قول القائل:

ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا

أي الحي الذاهب الغائب، هذا هو الإطلاق الثاني.

والمعنى الثالث من إطلاقات الضلال: الذهاب عن معرفة الشيء، بمعنى النسيان والحيرة، ومنه قول الله عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، أي: حائراً، ومنه قول الله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282]، أن تضل بمعنى: تذهل.. تنسى.. تذهب عن معرفة الشيء على وجهه، وليس في هذا انتقاص من المرأة كما يروج لذلك الملاحدة والمنافقون؛ لأن الله عز وجل ما تكلم هاهنا عن دين المرأة، ولا عن عدالة المرأة، وإنما تكلم عن طبيعة المرأة وضبطها؛ لأن لمرأة في الغالب لا تضبط قضايا العقود والأموال، وما يتعلق بالحساب وما أشبه ذلك؛ ولذلك الله عز وجل تخفيفاً عليها ورفعاً للحرج عنها جعل شهادة الرجل بشهادة امرأتين؛ ولذلك لا يفرق القاضي بينهما، فالقاضي لو أراد أن يسمع شهادة رجل فلا يسمع شهادته والشاهد الآخر موجود؛ لئلا يكون هناك تلقين.

أما بالنسبة للمرأة، فالله عز وجل جعل شهادتها مع أختها معاً؛ من أجل أنه إذا نسيت واحدة فالأخرى تذكرها؛ لأن المرأة في الغالب لا تضبط مثل هذه الأمور، وعلى هذا المعنى أيضاً قول نبي الله موسى عليه السلام لما قال له اللئيم فرعون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]، قال: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، جل جلاله، هذه الإطلاقات الثلاثة في القرآن.

وبعض أهل العلم أضاف إليها إطلاقاً رابعاً، وهو أن الضلال قد يطلق بمعنى المحبة، ومنه قول القائل:

وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم

وفسروا بهذا المعنى قول ربنا: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، أي: وجدك محباً للهداية فهداك، فهؤلاء فسروا الضلال بمعنى المحبة، ومنه قوله تعالى على لسان إخوة يوسف: قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:94-95]، يعني: محبتك القديمة هكذا قالوا.

إذاً أكثر المفسرين على أن الضلال في القرآن يراد به ثلاثة معانٍ، أو ثلاثة إطلاقات:

الإطلاق الأول: الضلال بمعنى ترك طريق الجنة إلى طريق النار، تعمد ترك الهدى إلى الضلال والحق إلى الباطل والصواب إلى الخطأ، وهذا هو أشهر الإطلاقات.

الإطلاق الثاني: الضلال بمعنى الغياب والذهاب والاضمحلال.

والإطلاق الثالث: الضلال بمعنى الذهاب عن معرفة الشيء ذهولاً أو نسياناً.

والإطلاق الرابع عند بعضهم: أن الضلال يطلق مراداً به المحبة.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالهداية للحق وتعوذه من الضلال

يقول الله عز وجل: مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، الهدى والضلال كله بيد الله ذي الجلال والإكرام؛ ولذلك عبد الله المؤمن لا يستغني طرفة عين عن طلب الهداية من الله عز وجل، كان من دعاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اهدني فيمن هديت )، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، وكان من دعائه إذا أمسى: ( يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )، وكان من دعائه إذا خرج من بيته: ( اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي )، يستعيذ بالله من الضلال، ويستعيذ بالله من الزلة والخطأ.

معنى الصراط المستقيم

يقول الله عز وجل عطفاً على ما مضى من كلام: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:39]، هؤلاء الكفار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وصموا آذانهم عن سماع الحق الذي جاء به، وغضوا أعينهم عن رؤية دلائل الوحدانية ودلائل أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث من عند الله، هؤلاء يصفهم الله عز وجل بصفتين من صفات النقص؛ بأنهم صم وبكم، صم جمع أصم وهو الذي لا يسمع، والبكم جمع أبكم وهو الذي لا يعقل، وكل ما جاء على وزن أفعل وكان صفة مشبهة ومؤنثه فعلاء فإنه يجمع على فعل، كصم، وبكم، وعمي، وخضر، وحمر، هذه كلها مفردها على وزن أفعل، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ ، وتقدم معنا الكلام أن القرآن قد أثبت لهؤلاء الكفار أنهم يسمعون وأنهم يتكلمون، قال الله عز وجل: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، وقال تعالى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19]، وقال الله عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، لكن لما كان استماعهم في غير نفع، وكلامهم في غير نفع عدهم الله عز وجل بمزلة الصم البكم، وهذا معروف في كلام العرب حيث أنها تعد الشيء الذي لا نفع فيه كلا شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما سئل عن المنجمين قال: ليسوا بشيء )، ومنه قول القائل:

صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

قوله تعالى: فِي الظُّلُمَاتِ .

(الظلمات) جمع ظلمة، هل المراد بذلك أنهم صم وبكم في الدنيا وأنهم في الظلمات في الدنيا، أم المراد بذلك الآخرة؟ أكثر العلماء على المعنى الأول، أن المراد بذلك صممهم وبكمهم وظلماتهم في الدنيا، ويشهد لهذا قول الله عز وجل: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، ويشهد لهذا قول ربنا سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

وقال بعض المفسرين: بل المراد بذلك أنهم صم بكم يوم القيامة، واستدلوا بقول الله عز وجل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، والظلمات كذلك ظلمات يوم القيامة، واستدلوا بقول الله عز وجل: يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2545 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2534 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2505 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2377 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2295 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2262 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2127 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2087 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2048 استماع