شرح زاد المستقنع باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ومن جامع في نهار رمضان في قُبُل أو دبر فعليه القضاء والكفارة].

فإن الله حرم على الصائم أن يجامع زوجته، ولذلك يعتبر الجماع موجباً لفساد الصوم، وقد ذكرنا أدلة الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة على تحريم ذلك على الصائم.

وبقي السؤال: لو وقع هذا الإخلال من الصائم فما حكمه؟

الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة

فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر).

هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان.

أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها.

فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا.

فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة.

وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات:

أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه.

الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله.

فيكون هناك عدة إخلالات:

أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع.

وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام.

وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان

قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان].

الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان.

وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء.

وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك.

فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم.

قوله رحمه الله: [في نهار رمضان].

خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه.

قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر].

وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة.

والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع.

ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر.

حكم من جامع دون الفرج

قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل].

هذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها وهي: ضابط الجماع من الناحية الشرعية؛ لأن مسائل الجماع تترتب عليها أحكام في العبادات وأحكام في المعاملات، فبعض من الناس يظن أن مجرد مس الفرج للفرج أنه يوجب الغسل، وأنه لو وضع العضو على العضو أنه يجب عليه الغسل، وبعضهم يعتقد أنه لو حصل مس للعضو بالعضو أنه يجب عليه الحد وأنه قد زنى، وهذا كله خلاف الأصل، فالأصل الشرعي: أنه لا يتحقق الجماع إلا بإيلاج رأس الذكر وهو الذي حده العلماء-رحمة الله عليهم- بقولهم: بإيلاج الحشفة، وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعه، ولذلك لا يثبت حد الزنا إلا إذا سأل القاضي وتحقق أنه قد حصل إيلاج لهذا القدر.

وبناءً على ذلك نبه الشرع على هذا بقوله: (إذا مس الختان الختان -وفي رواية: إذا جاوز الختان الختان. وفي رواية: إذا التقى الختانان- فقد وجب الغسل) وكل ذلك -كما يقول الأئمة رحمة الله عليهم- يُعتبر من باب التنبيه على إيلاج رأس العضو، فلو كان مقطوع الرأس فقدره حكماً؛ لأن الشرع ينزِّل الشيء بالتقدير عند العجز عن الشيء بعينه، فإذا كان يتعذر فيه ذلك الشيء لقطع أو خِلقة لم يوجد فيه فإنه يُنَزَّل قدرها من مقطوعه.

بناءً على ذلك: إذا حصل الإيلاج لهذا القدر ثبت الحد وثبت الإحصان، بمعنى: لو أن رجلاً تزوج امرأة ودخل عليها، وحصل منه إيلاج برأس العضو فقط ولو لم تفتض البكارة فإنه يثبت كونه ثيباً (محصناً) ويعطى حكم الثيب، وإذا زنى يرجم ولا يجلد كالبكر، فهناك ثمانون حكماً كلها مفرعة على هذه المسألة، ونحن نذكرها ونبينها لترتب الأحكام الشرعية عليها، فلابد من حصول هذا القدر، فقوله رحمه الله: (ومن جامع) هنا المراد به تحقق هذا الشرط.

وأما قوله: (ومن جامع في غير القبل والدبر) كما هو الحال في المفاخذة -كما يسميها العلماء- أو المباشرة دون إيلاج، فهذه في الأصل الشرعي لا تسمى مجامعة، فالمجامعة لا تتحقق إلا بالإيلاج لكنها في الصورة مجامعة؛ لأن الجماع سمي جماعاً من الاجتماع.

المقصود: أن المصنف رحمه الله تجوز في هذه العبارة وقال: (ومن جامع في غير القبل والدبر) فلا يحصل الجماع في غير القبل والدبر، ولكنه تَجَوّز في العبارة، وإلا لو وقع الجماع لثبتت الكفارة، وإنما الصورة هنا: ألا يقع الجماع، كأن يضع العضو على العضو دون إيلاج، أو مثلاً يضعه مفاخذة كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، فهذا كله لا يوجب الكفارة، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.

وذهب المالكية إلى أن من فاخذ امرأته أو استمنى بيدها أنه يعتبر منتهكاً لحرمة شهر رمضان، والشرع أوجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ليس من الجماع فقط؛ وإنما للجماع ولكونه انتهك حرمة شهر رمضان، فاستوى عندهم أن يكون قد جامع أو يكون باشر امرأته ثم أنزل بمفاخذة أو غير ذلك حال المضاجعة.

فعندهم يجب عليه في هذه الحالة أن يُكَفِّر؛ لأنه قد حصل المحظور من انتهاك حرمة الشهر بالفطر عمداً بالإنزال، وهكذا بالنسبة للمفاخذة وما في حكم ذلك من صور الاستمتاع.

المصنف رحمه الله يتكلم على مسألة شرعية دلت النصوص عليها وهي: وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، يلزمه حينئذٍ أن يتكلم عن الصور التي لا تتحقق بها المجامعة، وكأنه حينما يبين لك حكم المفاخذة والمضاجعة بدون إيلاج كأنه يضع لك الحدود التي إذا وصل المكلف إليها وجبت عليه الكفارة، وإذا لم يجاوزها ولم يصل إليها فإنه يعتبر مطالباً بالقضاء إذا حصل إنزال، ولا تجب عليه الكفارة لما ذكرنا.

قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة].

هذا هو الشرط، لكن لو جامع دون الفرج كأن فاخذها وضاجعها ولكن لم يحصل إيلاج ولا إنزال فيعتبر صومه صحيحاً، ولو حصل منه مذي فإننا قدمنا أن الصحيح أنه لا يوجب الكفارة ولا يوجب القضاء، فالمذي والمني لا يوجب كفارة، ولكن يختص المني بإيجاب القضاء، وأما المذي فيه التوبة والاستغفار، ولا شيء على المكلف من جهة العقوبات والكفارات.

إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان

[أو كانت المرأة معذورة].

إذا كانت المرأة معذورة في الجماع فإنه لا يجب عليها كفارة، وتعذر المرأة بالإكراه، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكّن الزوج منها في نهار رمضان؛ لأن الله حرم عليها أن تستمتع بهذه الشهوة، وحرم على الزوج أن يستمتع بها، وحينئذٍ إذا طاوعته أعانته على الإثم والعدوان، وعلى انتهاك حد الله عز وجل وإصابة حرماته، ومن هنا يجب عليها أن تدفعه، بل قالوا: تدفعه بقدر ما تستطيع، حتى ولو أنه حاول فرمته وألقته على الأرض لم يكن عليها شيء، وتنصحه وتذكره بالله عز وجل وتعظه بلسانها، فإن طاولها وأرادها بفعله فإنها تدفعه بيدها وبرجلها ما استطاعت؛ شريطة ألا يحصل الضرر، بل قال بعض العلماء: حتى ولو حصل ضرر؛ لأنه هو المتعاطي للسبب في الإخلال بحد الله عز وجل والانتهاك لحرمته، فيجوز لها أن تدفعه، ولو كان ذلك بدفعه برجلها أو بيدها ولو حصل ضرر، قال بعض الأئمة: إنها تعذر في هذا الضرر، وتعتبر هذه الصورة من الصور المستثناة في إعراض المرأة عن طاعة زوجها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه معصية لله سبحانه وتعالى، بل متعلقة بفرض وركن من أركان الإسلام وهو الصيام.

ولذلك: ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب في دفعه، فإذا كانت مغلوبة على أمرها -كأن تكون نائمة أو مكرهة- فغالبها فوقع عليها ولم تستطع دفعه، فقالوا: إنها في هذه الحالة تعذر، وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان بعضهم يُفَصِّل ويفرق بين مسائل الجماع وبين مسائل الزنا في إكراه المرأة كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الخلاف بين الجمهور والحنفية في ضابط إكراه المرأة في مسألة الزنا.

فالمقصود: أنها تدفع وترد زوجها ما أمكنها، فإن غلبها فلا كفارة عليها؛ ولكن عليها القضاء لحصول الشهوة واللذة ولا تلزمها الكفارة.

حكم جماع من نوى الصوم في سفره

قال رحمه الله: [أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة].

رجل سافر وكان قد نوى أول اليوم أن يصوم، فقال بعض العلماء: لماذا ذكر نية الصوم؟ لأن بعض العلماء يفرق في المسافر بين أن ينوي أو لا ينوي، فإذا نوى السفر ونوى الفطر فلا إشكال، لكن لو نوى الصوم ونوى السفر، قال: إنه مسافر غداً إلى المدينة مثلاً، فلما نوى أصبح وفي نيته أن يصوم، قالوا: يلزمه أن يتم صومه، ففي هذه الحالة لو تلبس بالرخصة -وهي حال السفر- وخرج من مكة وجاوزها وأفطر، ثم أراد أن يجامع زوجته وهما في حال السفر فلا شيء عليه؛ لأنه معذور، وفي هذه الحالة لا يعتبر مفطراً بالجماع على وجه محرم، وإنما أفطر على وجهٍ يعذر فيه شرعاً.

لكن لو دخل المدينة -يستوي في ذلك أن يكون دخوله للمدينة آخر النهار أو وسط النهار- أو وصل إلى بلده فهل يُمسك ولا يجوز له أن يجامع أم يجوز له أن يجامع؟

جمهور العلماء على أنه يجب عليه الإمساك، وقد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا دليلها الصحيح من حديث صوم يوم عاشوراء، وبينا الوجه الذي استند العلماء رحمة الله عليهم فيه على تحريم الأكل والشرب في هذه الحالة، فإذا أكل أو شرب فإنه يأثم، ولو جامع زوجته في هذه الحالة بعد أن استقر أو وصل إلى مدينته أو نزل، فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، ولكنه يعتبر آثماً على القول بوجوب الإمساك. أما عند من لا يرى وجوب الإمساك بقية اليوم ويقول: قد أفطر وأصبح مفطراً فإنه لا يرى عليه إثماً، ولا يلزمه بالاستغفار والتوبة.

فتلخص من هذا: أن المسافر إذا قدم قبل نهاية اليوم وكان قد أفطر في سفره فإنه يلزمه الإمساك بقية اليوم، فإن وقع منه الجماع في هذه البقية من اليوم فللعلماء وجهان:

منهم من يقول: لا حرج عليه ولا إثم، بل لو شاء أن يجامع اختياراً لا حرج عليه.

ومنهم من يقول: إنه يجب عليه الإمساك، فإذا جامع أهله فإنه يعتبر آثماً شرعاً، وعليه التوبة والاستغفار، ولكن لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يفطر بجماع على الوجه المحظور.

كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان

قال رحمه الله: [وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان].

جامع امرأته متعمداً في اليوم الأول، وجامعها في اليوم الثاني، فهذا جماع تكرر في يومين وفي محلين مختلفين، قد أوجب الله عز وجل عليه صيام اليوم الأول وصيام اليوم الثاني، فانتهك الحرمة في اليوم الأول وانتهك الحرمة في اليوم الثاني فعليه كفارتان، سواء كفّر عن اليوم الأول أو لم يكفر، فعليه كفارتان.

وأما لو جامع في اليوم الواحد وتكرر منه الجماع في اليوم الواحد فإنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء كفر عن الجماع الأول أو لم يُكَفِّر.

مثال ذلك: لو جامع امرأته أول النهار، ثم جامعها وسط النهار، ثم جامعها آخر النهار قبل غروب الشمس، فهذه ثلاث مرات، فتجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه قد أفطر وحصل الإخلال بالجماع الأول، وتلزمه الكفارة من ثم، وأما بقية اليوم فإنه لا تلزمه فيه كفارة هذا بالنسبة للجماع.

من الصور التي ذكرها العلماء: لو جامع أربع زوجات في يوم واحد فإنه تلزمه كفارة واحدة بالنسبة لنفسه، أما بالنسبة للنساء فعلى التفصيل الذي ذكرناه في المرأة: أن المرأة إذا طاوعت واختارت فعليها كفارة غير كفارة زوجها، وأما إذا كانت دافعت ومانعت فمن العلماء من يقول: إنه يجب عليه أن يكفر عنها، ومنهم من يقول: لا تجب عليه الكفارة على ظاهر حديث الذي جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم.

[أو كرره في يوم ولم يكفر، فكفارة واحدة في الثانية، وفي الأولى اثنتان].

قال بعض العلماء: إن جامع أكثر من مرة في يوم واحد نظرنا: فإن كفر عن الجماع الأول لزمته الكفارة عن الجماع الثاني، وهذا مذهب مرجوح.

والصحيح: أنه إذا كرر الجماع في اليوم الواحد ولو عشر مرات فإنه تلزمه كفارة واحدة، ولكنه في إخلاله بحق الله عز وجل قد تكرر إخلاله عشر مرات، ولذلك عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الوجه، وأما بالنسبة للكفارة فلا تلزمه إلا كفارة واحدة، ولا يلزمه إلا القضاء والكفارة ليوم واحد.

والذين يقولون: إنه تتكرر الكفارة يقولون: إذا كفر عن الجماع الأول، وحصل الجماع الثاني بعده فعليه كفارة ثانية، كأن يجامع في أول النهار في الساعة الثامنة صباحاً، ثم يكفر في الساعة العاشرة، ثم يجامع في الثانية عشرة وفي الواحدة وفي الثانية وفي الثالثة، قالوا: لما كفر عن الجماع الأول في الساعة العاشرة فإنه يلزم بتكرار الكفارة، وحينئذٍ تلزمه كفارة عن الجماع الثاني الذي وقع منه في بقية اليوم.

والصحيح: ما ذكرناه أن اليوم الواحد له كفارة واحدة، سواء وقع الجماع مرة أو وقع مرات؛ وذلك لأنه إخلال واحد وقد أفطر ذلك اليوم بجماعه الأول، فكأنه بجماعه الثاني والثالث والرابع والجماع المتكرر قد وقع بعد جماعه الأول وهو مفطر ولم يقع وهو صائم، ولذلك لا تجب عليه الكفارة من هذا الوجه.

قال رحمه الله: [وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه فكفارة ثانية].

الصحيح: أنه ليس عليه كفارة ثانية، وأن الكفارة الأولى تغنيه؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، ووقع جماعه الثاني وهو مفطر، وشرطه: أن يقع جماعه وهو صائم.

حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم

قال رحمه الله: [وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع].

كما ذكرنا في من وصل إلى مدينته وقد بقي شيء من اليوم، قالوا: يعتبر في حكم الصائم، فلو وقع منه جماع في بقية اليوم تلزمه الكفارة، والصحيح ما ذكرناه وأشرنا إليه سابقاً أنه لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، وإنما تجب الكفارة على من صام لا على من أفطر.

حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر

قال رحمه الله: [ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط].

بعد أن بين لنا رحمه الله وجوب الكفارة بالجماع، يرد السؤال: لو تكرر الجماع ما الحكم؟

فقال لك: إما أن يتكرر في أيام متكررة أو يتكرر في يوم واحد، فإن تكرر في يوم واحد إما أن يكفر عن الجماع الأول أو لا يكفر، فبين حكم هذه الصور كلها.

ثم شرع رحمه الله في مسألة وهي: لو أن إنساناً جامع امرأته في رمضان من أول النهار وهو غير معذور بالفطر، فجامع ووقع منه الإخلال على وجه تلزم به الكفارة، وقبل أن تغيب الشمس طرأ عليه عذر يُعذر فيه بالفطر كما لو جنّ أو سافر أو مرض، فهل نقول: بأن العبرة باليوم كاملاً إلى تمامه؟

فإن قلنا: العبرة باليوم إلى تمامه وكماله فحينئذٍ هذا اليوم يباح له الفطر بالجنون وبالسفر وبالمرض، ولم يوجب الله عليه صيامه؛ لأن أمره إلى الرخصة؛ فتسقط عنه الكفارة من هذا الوجه.

وهذا وجه شاذ عند العلماء، يحكى في مذهب الشافعية رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم تفصيل أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة.

والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن من جامع في أول اليوم ثم طرأ عليه عذر يبيح له الفطر أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإخلال وقع في صورة هو مكلف فيها، وقد حصل الإخلال والانتهاك لحد الله عز وجل، وأنت ترى أن المجامع في نهار رمضان لما يعاقب هذه العقوبة إنما عوقب للزجر عما وقع منه من الجرأة على حدود الله، والجرأة قد وقعت في أول اليوم، ولا عبرة بطروء العذر بعد ذلك، ومن هنا طروء الأعذار لا يؤثر، وهذه من صور مسائل طروء الأعذار التي توجب زوال الحكم أو زوال الوصف، ولها نظائر كثيرة، منها: لو حكم القاضي ثم جن ولم ينفذ الحكم، ومنها لو أن الشهود شهدوا عند القاضي ثم ماتوا، أو شهدوا ثم جنّوا، أو شهدوا ثم فسقوا وطرأ عليهم فسق بعد الشهادة وثبوتها عند القاضي، هذه كلها مسائل تسمى مسألة طروء العذر، وهذه تقع في العبادات والمعاملات، فتارة يعتبر الطروء مؤثراً وتارة لا يعتبر مؤثراً، وسنذكر جملة من هذه المسألة إن شاء الله إذا جاء كتاب القضاء، وقد تتخلل هذه المسألة في بعض أبواب المعاملات المالية.

لكن الذي يعنينا هنا: أن الشرع قصد عقوبة هذا المخالف بانتهاكه لحدود الله عز وجل، وقد انتهك حد الله عز وجل وجاوز الحدود بجماعه لامرأته في حال تكليفه وحال مؤاخذته؛ فثبتت وتعلقت بذمته الكفارة.

أما كونه يطرأ له العذر آخر النهار أو يطرأ له العذر ولو بعد الإخلال بلحظة فهذا كله لا يؤثر؛ لأن العبرة بالحال والابتداء لا بالانتهاء في هذه الصورة، ومن هنا تلزمه الكفارة حتى ولو طرأ عليه العذر.

الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة

قال رحمه الله: [ ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان ].

فلا تجب بالاستمناء، ولا تجب بالمفاخذة وغير ذلك من صور الاستمتاع، فلا تجب إلا بالجماع، ولا تجب أيضاً إلا في صوم رمضان أداءً لا قضاءً، فلا يدخل في ذلك حكم الواجبات، وقد أشرنا إلى هذه المسألة والخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من وجه آخر، ولذلك يأخذها طالب العلم كقاعدة أو ضابط، يقولون: لا كفارة على الصائم إلا إذا وقع جماع في رمضان. فلا تلزمه الكفارة إذا كان في غير رمضان ولو كان صوم فرض، ولو كان قضاءً عن رمضان، ولا تلزمه في غير الجماع كما لو قلنا في الاستمناء ونحو ذلك، فهذا لا تجب فيه الكفارة؛ لأن المذهب عندهم متعلق بصورة معينة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل القياس في الكفارات، وهذه مسألة أصولية، فالشافعية والحنابلة لا يرون القياس في هذه المسألة، والمالكية والحنفية يرون القياس، والعلة عندهم انتهاك حرمة الشهر.

فكأن الذين قالوا بوجوب الكفارة في غير رمضان يرون أنه إذا صام قضاءً أو صام واجباً فإنه ينتهك الحرمة كما ينتهكها من جامع في نهار رمضان، ولا فرق، فهذا صوم فرضه الله وهذا صوم فرضه الله، فاستوى أن يكون من رمضان أو غير رمضان.

ثم قالوا أيضاً: لما كانت العبرة بالشهوة فيستوي أن يخرج منه المني، سواء كان ذلك بجماع أو مفاخذة أو غيرها كالاستمناء، وقالوا أيضاً: يستوي عندنا الجماع وغيره مما تحصل به اللذة أو يحصل به الإنزال، فنوجب عليه القضاء والكفارة من هذا الوجه.

والصحيح: ما ذكرناه من الاقتصار على مورد النص؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وإلزام الكفارة بها، وهنا قوي الدليل على البقاء على الصورة التي ورد السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم فيها المجامع بالكفارة، فنقتصر عليها دون غيرها.

فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر).

هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان.

أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها.

فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا.

فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة.

وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات:

أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه.

الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله.

فيكون هناك عدة إخلالات:

أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع.

وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام.

وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان].

الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان.

وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء.

وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك.

فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم.

قوله رحمه الله: [في نهار رمضان].

خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه.

قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر].

وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة.

والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع.

ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع