وهذا إن دلَّ على شيء؛ فإنما يدل على أن كتب أبي حامد الغزالي من موارد الشيخ المهمة، خصوصاً في النقول عن الفلاسفة والمتكلمين والصوفية ونقدهم الباطنية.
وأهم كتب الغزالي وأمثلها"إحياء علوم الدين"، والكلام عليه في البحث القادم إن شاء الله.
ووضَّع الشيخ ابن تيمية قاعدة لا بد من اعتبارها في كتب الغزالي مستصحبين لحاله حتى ما ختم له به، فقال في"مجموع الفتاوى"- في"نقض المنطق" [1] - (4/ 63 - 66) :
(( وَتَجِدُ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ - مَعَ أَنَّ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ، وَتَبَحُّرِهِ فِي الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ أُولَئِكَ - يَذْكُرُ فِي كِتَابِ"الْأَرْبَعِينَ"وَنَحْوِهِ كِتَابَهُ:"الْمَضْنُونُ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ"، فَإِذَا طَلَبْت ذَلِكَ الْكِتَابَ وَاعْتَقَدْت فِيهِ أَسْرَارَ الْحَقَائِقِ وَغَايَةَ الْمَطَالِبِ، وَجَدْته قَوْلَ الصَّابِئَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ بِعَيْنِهِ، قَدْ غُيِّرَتْ عِبَارَاتُهُمْ وَتَرْتِيبَاتُهُمْ.
وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقَائِقَ مَقَالَاتِ الْعِبَادِ، وَمَقَالَاتِ أَهْلِ الْمِلَلِ، يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَاكَ هُوَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمُكَاشِفُونَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْحَقَائِقَ بِنُورِ إلَهِيٍّ.
فَإِنَّ أَبَا حَامِدٍ كَثِيرًا مَا يُحِيلُ فِي كُتُبِهِ عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الْإِلَهِيِّ، وَعَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُوجَدُ لِلصُّوفِيَّةِ وَالْعُبَّادِ بِرِيَاضَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ مِنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَكَشْفِهَا لَهُمْ حَتَّى يَزِنُوا بِذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِذَكَائِهِ وَصِدْقِ طَلَبِهِ مَا فِي طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة مِنْ الِاضْطِرَابِ، وَآتَاهُ اللَّهُ إيمَانًا مُجْمَلًا - كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ -، وَصَارَ يَتَشَوَّفُ إلَى تَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ، فَيَجِدُ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ وَالصُّوفِيَّةِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ، وَأَوْلَى بِالتَّحْقِيقِ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين، وَالْأَمْرُ كَمَا وَجَدَهُ، لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْمِيرَاثِ النَّبَوِيِّ الَّذِي عِنْدَ خَاصَّةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ، وَمَا وَصَلَ إلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، حَتَّى نَالُوا مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْعِبَادِيَّةِ مَا لَمْ يَنَلْهُ أُولَئِكَ.
(1) وفي طبعة"النقض"المستقلة (53 - 56) .