المسند [1] ، أو إلى السنن ـ منه؛ كأن الكتاب والسنة نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف.
وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، لعله يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين.
وأما أصول الديانة، ومعرفتها، ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة؛ فكان لا يُشق فيه غباره، ولا يلحق شأوه.
هذا مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذِّ النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية.
ولقد سارت بتصانيفه الركبان في فنون من العلم وألوان، لعلَّ تواليفه وفتاواه [2] في الأصول، والفروع، والزهد، والتفسير، والتوكل، والإخلاص، وغير ذلك ـ تبلغ ثلاثمائة مجلد، لا بل أكثر [3] .
(1) بل ذكروا أنه يستظهر"مسند الإمام أحمد بن حنبل"الذي يحوي قريباً من ثلاثين ألف حديث، وهذا ليس كثيراً عليه؛ فقد قال ابن سيد الناس في وصف علمه:"... وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً ..." (العقود الدرية، ص 9) .
ومن طالع تراجمه المنثورة في كتب أصحابه وتلاميذه؛ رأى ما قلت قليلاً.
(2) وردت في أصل المخطوط (فتاويه) وأثبتنا الصحيح لغة.
(3) مؤلفات شيخ الإسلام هي من الكثرة والانتشار، حتى قال تلميذه الملازم له الإمام ابن القيم:"... إني عجزت عن حصرها وتعدادها ..." (رسالة في أسماء مؤلفات ابن تيمية، ص 9) .
وكل من حاول جمع ما يجد لا يستطيع الاستيعاب؛ فهذا ابن القيم، وابن عبد الهادي، والصلاح الصفدي، وابن رجب، وكل من جمع شيئاً منها؛ فإنه قد فاته أشياء ذكرها غيره. والسبب في ذلك:
1 -كثرة فتاوى الشيخ، فكل من جاءه باستفتاء أفتى له، فذهب بهذه الفتاوى؛ فلم تحصر!
2 -تفرق طلاب الشيخ، بما معهم من رسائله وفتاواه، ولا سيما مع المناوأة والمطاردة وتباعد ديارهم!
3 -أن الشيخ لا يحتفظ بأصول فتاواه، بل يكتب لكل من طلب منه ثم تذهب.
4 -المحن والفتن التي جرت عليه وعلى محبيه من بعده فوصلت إلى تراثه ومؤلفاته.
5 -ما لقيته كتبه من المصادرة، ومنع مطالعتها وتداولها، وفي ذا ما نقله ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة (728 ه) فقال في صدد كلامه على سجن الشيخ في القلعة وقرب موته: وفي يوم الإثنين تاسع جمادى الآخرة أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتب والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة (والشيخ توفي ليلة 22 من ذي القعدة) قال البرزالي:
"وكانت نحو ستين مجلداً وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها، وتفرقوها بينهم"؛ وذلك بسبب رده على الأخنائي في مسألة الزيارة، وأقول لو جمعنا كل ما طبع للشيخ الآن لم يبلغ ستين مجلداً خطياً في هذه المدة القليلة، فكيف إذاً بما كتبه في سائر حياته العلمية؟!
ولابن القيم نظم في صدد تعداده مؤلفات شيخه ابن تيمية ووصفها، قال في آخر ذلك: ==
== ... و كذا قواعده الكبار وإنها ... أوفى من المائتين في الحسبان
لم يتسع نظمي لها فأسوقها ... فأشرت بعض إشارة لبيان
وكذا رسائله إلى البلدان وال ... أطراف والأصحاب والإخوان
هي في الورى مبثوثةً معلومة ... تُبتاع بالغالي من الأثمان
وكذا فتاواه فأخبرني الذي ... أضحى عليها دائم الطوفان
بلغ الذي ألفاه منها عدة ال ... أيام من شهر بلا نقصان
سفر يقابل كل يوم والذي ... قد فاتني منها بلا حسبان
هذا وليس يقصر التفسيرُ عن ... عشر كبار ليس ذا نقصان
وكذا المفاريد التي في كل مس ... ألة فسفر واضح التبيان
ما بين عشر أو تزيد بضعفها ... هي كالنجوم لسالكٍ حيران
6 -سرعة كتابة الشيخ، وكثير منها من حفظه، أدت إلى كثرتها فيكتب لكل محتاج إلى كتابه في العلم، قال ابن عبد الهادي في العقود الدرية 47 - 48:"... لو أراد الشيخ تقي الدين أو غيره حصرها لما قدروا لأنه ما زال يكتب، وقد من الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقل."
وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلداً لطيفاً في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر، وأحصيت ما كتبه وبيَّضه في يوم فكان ثماني كراريس في مسألة من أشكل المسائل، وكان يكتب على السؤال الواحد مجلداً، أما جواب يكتب فيه خمسين ورقة وستين وأربعين وعشرين فكثير، وكان يكتب الجواب، فإن حضر من يبيضه، وإلا أخذ السائل خطه وذهب ... ويسأل عن الشيء فيقول: قد كتب في هذا، فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه؛ فلهذه الأسباب وغيرها تعذر إحصاء ما كتبه وما صنفه ...
لولا أن الله لطف وأعان ومنَّ وأنعم، وجرت العادة في حفظ أعيان كتبه وتصانيفه لما أمكن لأحد أن يجمعها.
لقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه وجمعها وإصلاح ما فسد منها وردِّ ما ذهب منها، ما لو ذكرته لكان عجباً، يعلم به كل منصف أن لله عناية به وبكلامه، لأنه يذبّ عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تحريف الغالية وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ..."."
قال ابن الوردي في تاريخه 2/ 409:"... ويكتب على الفتوى في الحال عدة أوصال بخط سريع في غاية التعليق والإغلاق".
7 -دروج فتاوى ومسائل كثيرة للشيخ ليس عليها اسمه، وربما انتحلت عليه. انظر (العقود الدرية، ص 48) .