الصفحة 14 من 50

ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه؛ فإن الحب يحملهم على تغطية

هناته، بل قد يعدونها محاسن.

وإنما العبرة بأهل الورع والتقوى من الطرفين، الذين يتكلمون بالقسط، ويقومون لله ولو على أنفسهم وآبائهم.

فهذا الرجل [1] لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني وعقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه، مغمورة في بحر علمه وجوده؛ فإن الله يغفر له، ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.

مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية، قد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور، بل قد يثيبه الله تعالى فيها على حسن قصده، وبذل وسعه، والله الموعد.

مع أنني قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه وأضداده؛ فحسبي الله.

وكان الشيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة.

يعتريه حدة، ثم يقهرها بحلم وصفح، وإليه المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، وقوة الذكاء.

ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه.

وقد تعبت بين الفريقين: فأنا عند محبه مُقصِّر، وعند عدوه مُسرف مُكثر، كلا والله!

توفي ابن تيمية إلى رحمة الله تعالى معتقلاً إلى قلعة دمشق بقاعة بها، بعد مرض حدَّ [2] أياماً، في ليلة الإثنين، العشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

(1) يعني: شيخه المترجم له ابن تيمية.

(2) هكذا في الأصل مهملة، ولعلها:"جدّ أياماً"؛ أي: اشتد المرض عليه، وكلاهما يصلح.

وذكر ابن رجب في آخر ترجمته له في"الذيل" (ص 405) : أنه مرض بضعة وعشرين يوماً.

وذكر في"العقود الدرية" (ص 240) : أنه بقي في سجن قلعة دمشق سنتين وثلاثة أشهر وأياماً، وهذا في سجنه الأخير.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام