خطب ومحاضرات
سلسلة منهاج المسلم - (34)
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة.. ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس منهاج المسلم، وقد فرغنا من العقيدة، ونحن في [ الفصل الخامس: في الأدب مع النفس] وعرفنا من الآداب التي ينبغي أن نؤدب بها أنفسنا:
أولاً: التوبة
ثانياً: المراقبة
ثالثاً: المحاسبة
قال: [ المحاسبة: وهي أنه لما كان المسلم عاملاً في هذه الحياة ليل نهار ] قطعاً لا نفرغ من العمل أبداً [على ما يسعده في الدار الآخرة، ويؤهله لكرامتها ورضوان الله فيها، وكانت الدنيا هي موسم عمله ] وفصل العمل [ كان عليه -إذاً- أن ينظر إلى الفرائض الواجبة عليه كنظر التاجر إلى رأس ماله ] ينظر إلى الفرائض الواجب القيام بها كما ينظر التاجر إلى رأس ماله [ وينظر إلى النوافل نظر التاجر إلى الأرباح ] والمكاسب التي يكسبها [ الزائدة ] قطعاً [ على رأس المال، وينظر إلى المعاصي والذنوب كالخسارة في التجارة ] في عمله وتجارته [ ثم يخلو بنفسه ساعة من آخر كل يوم يحاسب نفسه فيها على عمل يومه، فإن رأى نقصاً في الفرائض لامها ووبخها ] لأنها نقصت [ وقام إلى جبره في الحال، فإن كان مما يقضى قضاه، وإن كان مما لا يقضى جبره بالإكثار من النوافل ] وعوضه [ وإن رأى نقصاً في النوافل عوض الناقص وجبره، وإن رأى خسارة بارتكاب المنهي استغفر وندم وأناب وعمل من الخير ما يراه مصلحاً لما أفسد. هذا هو المراد من المحاسبة للنفس، وهي إحدى طرق إصلاحها وتأديبها وتزكيتها وتطهيرها].
[ وأدلتها ما يلي: ] أي: أدلة المحاسبة [ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، فقوله تعالى: (ولتنظر نفس) هو أمر بالمحاسبة للنفس على ما قدمت لغدها المنتظر ] (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) معناها: فلتحاسب نفسك وتنظر ماذا قدمت ليوم القيامة[ وقال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] ] وكيف تتم التوبة إذا لم تحاسب نفسك وتعرف نقصها أو زيادتها؟![ وقال صلى الله عليه وسلم: ( إني لأتوب إلى الله وأستغفره في اليوم مائة مرة). وقال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ] يعني: يوم القيامة، حاسبوها في الدنيا قبل أن تُحاسب في الآخرة ولا ينفعها الحساب[ وكان رضي الله عنه إذا جنَّ عليه الليل ] أي: أظلم [ يضرب قدميه بالدرة ] عصاً رقيقة [ ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم؟ ] هذا عمر المبشر بالجنة، إذا خلا في الليل بنفسه ضرب رجليه بالعصا وقال لنفسه: ماذا عملت اليوم؟ يحاسبها [ وأبو طلحة رضي الله عنه لما شغلته حديقته عن صلاته ] وهو يصلي فيها وينظر إلى الثمار والغلال والزهور، فشغلته عن الخشوع فقط لا عن ترك الصلاة [ خرج منها صدقة لله تعالى ] حديقة كاملة قريبة من المسجد النبوي الآن دخلت المسجد من الجهة الشمالية، وكان البئر موجوداً في الحديقة [ فلم يكن هذا منه إلا محاسبة لنفسه، وعتاباً لها وتأديباً ] يخرج من حديقة بكاملها لله مقابل أنها شغلته عن الخشوع في صلاته [ وحكي عن الأحنف بن قيس -رحمه الله تعالى- أنه كان يجيء إلى المصباح ] أيام كانت المصابيح بالزيت [فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ] والاحتراق [ ثم يقول لنفسه: يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ] عجباً هذه المحاسبة! يأتي إلى المصباح ويضع أصبعه فيه حتى يحترق ثم يقول لنفسه: يا نفس حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا؟ هذه المحاسبة هل لنا منها نصيب؟ [ وحكي أن أحد الصالحين كان غازياً ] يغزو مجاهداً في سبيل الله [ فتكشفت له امرأة فنظر إليها، فرفع يده ولطم عينه ففقأها، وقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك ] إنك يا عين للحاظة إلى ما يضرك. أية محاسبة أعظم من هذه المحاسبة؟! أين الذين يحاسبون أنفسهم؟! اللهم اجعلنا منهم [ ومر بعضهم بغرفة ] من الغرف جميلة قبل العمارات هذه ذات السبع طبقات، غرفة جميلة [ فقال: متى بنيت هذه الغرفة؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسأليني عما لا يعنيك؟! لأعاقبنك بصوم سنة فصامها ] تسأليني عما لا يعنيك؟! ما معنى: من بنى هذه الغرفة أو متى بنيت؟ هذا يعنيني أنا؟ لم تسألينني عما لا يعنيني؟ إذاً: لأعاقبنك بصوم سنة، فصام السنة.
أين هؤلاء الرجال؟! لقد مضى بهم الزمان، هل لهم من بقايا؟ هل لهم من خلف يخلفهم؟ لو تربينا على مثل هذا لوجد بيننا من يخلفهم، ولكن ما سمعنا بهذا قط ولا علمنا به![ وروي: أن أحد الصالحين كان ينطلق إلى الرمضاء ] الأرض الحارة بالرمال في الصيف [ فيتمرغ فيها ] كما يتمرغ الحمار [ ويقول لنفسه: ذوقي، ونار جهنم أشد حراً ]. هذه آداب، يخلو بنفسه ويأتي إلى الأرض الحارة في الصيف في الرمال فيتمرغ فيها، ثم يقول لنفسه: ذوقي، ونار جهنم أشد حراً [ أجيفة بالليل بطالة بالنهار؟ ] هكذا يخاطب نفسه، أجيفة بالليل لا تقومين الليل ولا تصلين، وبالنهار بطالة لا تعملين [ وإن أحدهم رفع يوماً رأسه إلى سطح فرأى امرأة فنظر إليها، فأخذ على نفسه أن لا ينظر إلى السماء ما دام حياً ] محاسبة شديدة للنفس هذه! رفع رأسه، لم رفعت رأسك حتى تشاهد المرأة، أنت مأمور بالنظر إلى السماء؟ إذاً فقال لها: لا أنظر بعد إلى السماء، عقوبة لك يا نفس ما دمت قد ورطتني ونظرت إلى امرأة لا تحل لي [ هكذا كان الصالحون من هذه الأمة يحاسبون أنفسهم عن تفريطها، ويلومونها على تقصيرها، يلزمونها التقوى، وينهونها عن الهوى؛ عملاً بقول الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ] المنزل والمستقر، نهى النفس عن الهوى: لم تنظر فوق أنت حتى تشاهد المرأة؟ لم تنظر في عمارة الناس؟ أنت مسئول عنها؟ لا تنظر إليها.
لا إله إلا الله! والله إنهم كانوا علماء بصراء فالعلم هو الذي وصل بهم إلى هذا المستوى فحاسبوا أنفسهم بهذا الحساب، وعمر على جلالته يضرب رجليه بالدرة ويقول: يا عمر !
رابعاً: المجاهدة
وعلي رضي الله عنه يتحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما أرى شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً قد باتوا سجداً وقياماً يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، وكانوا إذا ذكر الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً ] أي: لولا ثلاث والله ما أحببت الحياة مرة واحدة. هذه الثلاث هي [ الظمأ لله بالهواجر ] الصيام أيام القيض والحر [ والسجود له في جوف الليل] الثانية [ ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر ] وهذه هي الثالثة، أي: هذه المجالس، ما عندنا إلا هذا المجلس ونحن راغبون عنه، مللنا، لا نريده. أين مجالس هؤلاء؟ أين هم؟ [ وعاتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه على تفويت صلاة عصر في جماعة، وتصدق بأرض من أجل ذلك تقدر قيمتها بمائتي ألف درهم ] هذا عمر فاتته صلاة العصر فقط ما صلاها مع الجماعة، ما فاتته حتى دخل الليل، فتصدق بأرض قيمتها مائتا ألف درهم [ وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة بكاملها، وأخر يوماً صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين مقابل تأخير المغرب. وكان علي رضي الله عنه يقول: رحم الله أقواماً يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى. وذلك من آثار مجاهدة النفس. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله ). وكان أويس القرني رحمه الله تعالى يقول: هذه ليلة الركوع، فيحيي الليل كله في ركعة، وإذا كانت الليلة الآتية قال: هذه ليلة السجود، فيحيي الليل كله في سجدة. وقال ثابت البناني رحمه الله: أدركت رجالاً كان أحدهم يصلي فيعجز أن يأتي فراشه إلا حبواً. وكان أحدهم يقوم حتى تتورم قدماه من طول القيام، ويبلغ من الاجتهاد في العبادة مبلغاً ما لو قيل له: القيامة غداً ما وجد مزيداً ] الطاقة قد استنفذها [ وكان إذا جاء الشتاء يقوم في السطح ليضربه الهواء البارد فلا ينام، وإذا جاء الصيف قام تحت السقف ليمنعه الحر من النوم ] فأين هؤلاء؟[ وكان بعضهم يموت وهو ساجد ] وكم وكم ممن مات وهو ساجد؟ [ وقالت امرأة مسروق رحمه الله تعالى: كان مسروق لا يوجد إلا وساقاه منتفختان من طول القيام، ووالله إن كنت لأجلس خلفه وهو قائم يصلي فأبكي رحمة له ] هذه زوجته [ وكان منهم إذا بلغ الأربعين من عمره طوى فراشه فلا ينام عليه قط ] بلغ الأربعين ما بقي شيء يطوي فراشه فلا ينام عليه قط [ ويروى: أن امرأة صالحة من صالحي السلف يقال لها: عجرة مكفوفة البصر، كانت إذا جاء السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي أسالك لا بغيرك أن تجعلني من أول زمرة السابقين، وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الراحمين وأعظم العظماء وأكرم الكرماء يا كريم! ثم تخر ساجدة ولا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر ] أين هؤلاء؟ ما سمعنا بهم ولا عرفنا عنهم، والله تعالى أسأل أن يرزقنا ما رزقهم، وأن يهبنا ما وهبهم وأعطاهم، إنه جواد كريم.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أولاً: التوبة من كل ذنب صغر أو كبر، قل أو كثر. إذا أذنب عبد الله أو أمته ذنباً من الذنوب وجب أن يتوب على الفور، بأن يستغفر الله بعد ترك ذلك الفعل أو القول الذي فعله، ثم الندم الممض في النفس، والاستغفار، فالتوبة مما نؤدب به أنفسنا.
استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة منهاج المسلم - (51) | 4156 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (95) | 4082 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (63) | 3869 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (139) | 3863 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (66) | 3834 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (158) | 3823 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (84) | 3748 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (144) | 3646 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (71) | 3633 استماع |
سلسلة منهاج المسلم - (101) | 3607 استماع |