فقه العبادات [10]


الحلقة مفرغة

المقدم: عرفنا في الحلقات الماضية الشيء الكثير والحمد لله عن التوحيد، وفي بداية لقائنا هذا نود أن نعرف ما هو دين الإسلام؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الإسلام بالمعنى العام: هو التعبد لله تعالى بما شرعه من العبادات التي جاءت بها رسله منذ أن تعبد الله تعالى عباده بشرعه إلى أن تقوم الساعة، فيشمل ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام من الهدى والحق، وما جاء به موسى، وما جاء به عيسى، ويشمل ما جاء به إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء، كما ذكر الله تعالى ذلك في آياتٍ كثيرة تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلامٌ لله عز وجل، ولكنه بالمعنى الخاص يختص بما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الأديان السابقة، فصار من اتبعه مسلماً، ومن خالفه ليس بمسلم؛ لأنه لم يستسلم لله بل استسلم لهواه، فاليهود مسلمون في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، والنصارى مسلمون في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وأما بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم فكفروا به فليسوا بمسلمين؛ ولهذا لا يجوز لأحد أن يعتقد أن دين اليهود والنصارى الذي يدينون به اليوم دينٌ صحيح مقبولٍ عند الله مساوٍ لدين الإسلام، بل من اعتقد ذلك فهو كافر خارجٌ عن دين الإسلام؛ لأن الله عز وجل يقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] ، ويقول عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

وهذا الإسلام الذي أرسله الله إليه هو الإسلام الذي أنزل الله به على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمته؛ لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وهذا نصٌ صريح في أن من سوى هذه الأمة بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا على الإسلام، وعلى هذا فما يدينون الله به لا يقبل منهم، ولا ينفعهم يوم القيامة، ولا يحل لنا أن نعتبره ديناً قائماً قويماً؛ ولهذا يخطئ خطأً كبيراً من يصف اليهود والنصارى بأنهم إخوة لنا، أو يقول: إن أديانهم اليوم قائمة؛ لما أثبتناه آنفاً، وإذا قلنا: إن الإسلام هو التعبد لله سبحانه وتعالى بما شرع شمل ذلك الاستسلام له ظاهراً وباطناً، فيشمل الدين كله: عقيدةً وعملاً وقولاً، أما إذا قرن الإسلام بالإيمان فإن الإسلام يكون بمعنى الأعمال الظاهرة من نطق اللسان وعمل الجوارح، والإيمان الأعمال الباطنة من العقيدة وأعمال القلوب، ويدل على هذا التفريق قوله تبارك وتعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] ، وقوله تعالى في قصة لوط: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] ، فإنه فرق هنا بين المؤمنين والمسلمين؛ لأن البيت الذي كان في القرية بيتٌ إسلاميٌ في ظاهره، إذ إنه يشمل امرأة لوط التي خانته وهي كافرة، وأما من أخرج منها ونجا فإنهم المؤمنون حقاً الذين دخل الإيمان في قلوبهم، ويدل لذلك -أي: للفرق بين الإيمان والإسلام عند اجتماعهما- حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه: (أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ، وقال في الإيمان: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) ، فالحاصل أن الإسلام عند الإطلاق يشمل الدين كله، ويدخل فيه الإيمان، وأنه إذا قرن مع الإيمان فُسِّر بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وأعمال الجوارح، وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات وقلوب وأعمالها.

المقدم: أيضاً نريد أن نعرف ما هو الطاغوت أي: ما معناه؟ وما اشتقاقه؟

الشيخ: الطاغوت: مشتق من الطغيان، والطغيان: مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11] ، يعني: لما زاد عن الحد المعتاد (حملناكم في الجارية) يعني: في السفينة، وأحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم رحمه الله: أن الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاع، فالأصنام التي تعبد من دون الله طواغيت، وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال وإلى البدع وإلى تحريم ما حرم الله، أو تحريم ما أحلّ الله، أو يزينون لولاة الأمور الخروج عن شريعة الإسلام بنظمٍ يستوردونها مخالفةٍ لنظام الدين الإسلامي هم من الطواغيت؛ لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم، فإن حد العالم أن يكون متبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلماء في الحقيقة هم ورثة الأنبياء، يرثون لأمتهم علماً وعملاً وأخلاقاً ودعوة وتعليماً، فإذا تجاوزوا هذا الحد وصاروا يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام بمثل هذه النظم فهم طواغيت؛ لأنهم تجاوزوا ما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه من متابعة الشريعة.

وأما المطاع في قوله رحمه الله: (أو مطاع) فيريد به الأمراء الذين يطاعون شرعاً أو قدراً، فالأمراء يطاعون شرعاً إذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله، فهم يطاعون هنا شرعاً كما يطاعون قدراً؛ لأن الواجب على الرعية إذا أمر ولي الأمر بأمرٍ لا يخالف أمر الله السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمور في هذه الحال وبهذا القيد طاعةٌ لله عز وجل.

ولهذا ينبغي أن نلاحظ حين ننفذ ما أمرته الدولة مما تجب طاعتها فيه أننا بذلك نتعبد لله تعالى ونتقرب إليه حتى يكون تنفيذنا لهذا الأمر قربةً لله عز وجل، وإنما ينبغي لنا أن نلاحظ ذلك؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].

وأما طاعة الأمراء قدراً، فإن الأمراء إذا كانوا أقوياء في سلطتهم فإن الناس يطيعونهم بقوة السلطان، وإن لم يكن بوازع الإيمان؛ لأن طاعة ولي الأمر قد تكون بوازع الإيمان وهذه هي الطاعة النافعة لولاة الأمور، والنافعة للناس أيضاً، وقد تكون طاعة ولاة الأمور بردع السلطان، بحيث يكون السلطان قوياً يخشى الناس منه ويهابونه؛ لأنه ينكل بمن خالف أمره.

ولهذا نقول: إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة ينقسمون إلى أقسام:

فتارةً يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني، وهذه أكمل المراتب وأعلاها.

وتارةً يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني، وهذه أدنى المراتب وأخطرها على المجتمع، على حكامه وعلى المحكومين؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني صارت الفوضى الفكرية والخلقية والعملية.

وتارة يقوى الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني، وهذه مرتبةٌ وسطى ينظر فيها أيها أكمل مما إذا قوي الرادع السلطاني وضعف الوازع الإيماني، فإنه في المظهر إذا قوي الرادع السلطاني يكون أصلح للأمة، لكن الأمة إذا اختفت قوة السلطان فلا تسأل عن حالها وسوء عملها؛ لأن الوازع الإيماني ضعيف، أما إذا قوي الوازع الإيماني والرادع السلطاني فقد يكون المظهر أدنى من المظهر في المرتبة الأخرى، لكنه فيما بين الإنسان وبين ربه إذا اختفى الرادع السلطاني يكون أصلح.

على كل حال هذه أربعة مراتب: قوة الإيمان والسلطان، وضعف الإيمان والسلطان، وقوة الإيمان وضعف السلطان، وقوة السلطان وضعف الإيمان.

فينبغي لنا عند تنفيذ أوامر السلطان أن نعتقد أننا بذلك نتقرب به إلى الله عز وجل، وإنما قال ابن القيم: إن الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاع؛ لأن الأمير أو ولي الأمر الذي يطاع قد يأمر بما يخالف أمر الله ورسوله، فإذا أمر بما يخالف أمر الله ورسوله فإنه لا سمع له ولا طاعة، ولا يجوز لنا أن نطيعه في معصية الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى جعل طاعتهم تابعةً لطاعة الله ورسوله، كما يفهم من سياق الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، فدلّ هذا على أن طاعتهم غير مستقلة، بل هي تابعةٌ لطاعة الله ورسوله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إنما الطاعة بالمعروف أو في المعروف ) أي: فيما أقره الشرع، وأما ما أنكره فلا يجوز أن يطاع فيه أي مخلوق، حتى لو كان الوالد أو الوالدة يأمرانك بمعصية الله، فإنه لا يحل لك أن تطيعهما؛ لأن طاعة الله تعالى مقدمةٌ على كل طاعة، فإذا أطاع الإنسان أميره أو ولي أمره في معصية الله فقد تجاوز به حده.