أرشيف المقالات

شجاعة لا تهور

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
شجاعة لا تهور
من منَّا لا يحب أن يُوصَفَ بالشجاعة، يشار إليه بالبَنَان، يتقدم الركب في كل مضمار، ويكون بأفعاله وأقواله قدوة؟!
لكنها شعرةٌ تفصل بين الشجاعة والتهور، فالمطلوب أن تكون شجاعًا لا متهورًا، تعرف أين تضع قدمك، وماهي عاقبة قولك، ونتيجة فعلك، تزن الأمور بعقلك قبل أن تتحرك جوارحك، تعرف وتدرك حجم الخطر الذي تواجهه وتقدم عليه، فلا تُلقِ بنفسك في التهلكة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وقوله: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، فتعرف متى يجب عليك الإقدام، وإلى أي مدى، ومتى يجب عليك أن تتوقف!
يقول أبو الطيب المتنبي:






الرأي قبل شجاعة الشجعانِ
هو أولٌ وهي المحل الثَّاني


فإذا هما اجتمعا لنفْسٍ حرَّةٍ
بلغتْ من العلياء كل مكانِ






والتهور هو الإقدام على ما لا ينبغي، والخوض في ما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف.
والمتهور إنسان عديم النفع؛ فكل فعل أو قول يصدر منه يضرُّ ولا ينفع، حتى وإن حسنت النوايا.
والتهور يجعل الجسم يتحكَّم في الإنسان قبل عقله، فيجعل صاحبه أحمقَ، لا يستطيع السيطرة على نفسه؛ لأنه سريع الغضب والاندفاع بدون تفكير ولا حكمةٍ، يلقي بنفسه إلى المهالك معرضًا نفسه للمتاعب.
لذلك فالشجاع لا يضرب ولا يسب، عكس الطائش المتهور الذي يستخدم جسده وقوته فيبطش ويكون معولَ هدمٍ، يجلب لنفسه الضرر، ويوقعها في مواضع الندم، حيث لا ينفع الندم.
فمن الشجاعة أن تقاتل ببسالة معك سلاحك ودرعك، وتعلم ما تفعله واضعًا خطةً محكمة، لكن من التهور أن تلقي بنفسك وسط العدو وحدك دون سلاح ولا خطة ولا دعم.
ومن الشجاعة أن تقول كلمة الحق، لا تخاف في الله لومة لائمٍ، ومن الحكمة أن تختار من الكلام ما يعبِّر عن فكرتك دون أن يكون سببًا في أذاك، وبطش الظالم بك، لكن من التهور أن تطلق كلماتك كالسهام، دون تمييزٍ لما يصلح أن يقال، وما يمكن أن يكون سببًا في هلاكك.
من الشجاعة أن تقفز في الماء لتنقذ غريقًا، لكن من التهور أن تفعل ذلك وأنت لا تعرف السباحة والغوص.
إن من أهم الصفات التي تحتاجها الأمة من شبابها الشجاعة والإيجابية، لا الجبن والسلبية، فما ارتفع شأن أمة وعزت إلا بشجاعة أبنائها، وما ذلَّتْ إلا بهوانهم وجُبنهم.
والشجاعة صفة لا يتحلَّى بها إلا الأقوياء الذين لا يأبهون للخوف، ولا يجعلون الخور والضَّعف ديدنَهم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير)).
والشجاعة تكون في الأقوال والأفعال، وهي الجرأة والإقدام، وثبات القلب، وقدرة الفرد على التصرف بشكل صحيح تجاه أي موقف يواجهه دون خوفٍ أو تردد، فليس لها علاقة بقوة البدن، وإنما هي خُلق نبيل يتصف به كل إنسان يرفض في نفسه الجبن.
قال ابن القيم رحمه الله في (كتابه الروح): "الشَّجَاعَة من القلب: وهي ثباته واستقراره عند المخاوف، وهو خُلق يتولَّد من الصبر وحُسن الظن، فإنَّه متى ظن الظفر وساعده الصبر ثبَت، كما أنَّ الجبن يتولد من سوء الظن وعدم الصبر، فلا يظن الظفر ولا يساعده الصبر".
ولذلك تحتاج الأمة كي تتقدم وتسود إلى الفتى الشجاع المقدام الذي يستطيع أن يتصرف بجرأة وإقدام، يقول الحق ولا يبالي، يفعل الصواب ولا يتوانى، لا يكتفي بأن يكون صالحًا، بل يسعى لأن يكون مصلحًا إيجابيًّا، يدافع عن المظلوم، ويعين الملهوف، قلبه قلب أسد، لا يهاب الموت ولا يخشى العدو، ولا يرضى بالدَّنِيَّةِ، قوي الإيمان، يعلم علم اليقين أن النافع الضار هو الله سبحانه؛ كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الترمذي -: ((واعلَم أن الأمة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلَم أن الأمة لو اجتمعتْ على أن يضروك بشيءٍ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفت الصحف)).
 
يعلم أن كل نفس لن تموت حتى يأتي أجلُها؛ يقول تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].
ويقول أحمد شوقي:
وما في الشجاعة حتفُ الشجاعِ  *** ولا مدَّ عُمرَ الجبان الجبنُ
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة حسنة، ففي الصحيحين ما ثبَت عن أنس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزِع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلَق الناس قِبَل الصوت، فاستقبَلهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قد سبق الناسَ إلى الصوت وهو يقول: ((لن تُراعوا، لن تُراعوا، لقد وجَدناه بحرًا))، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ ما عليه سَرْجٌ، في عُنقه سيف.
ومن أعظم مواقف شجاعته صلى الله عليه وسلم: وقوفه في وجْه الشِّرك والمشركين يدعو إلى الحق، ولا يَحيد عنه، رغم شِدة العدو، وكثرة عدده وعَتاده.
 
وهكذا كان صحابته صلى الله عليه وسلم؛ يقول ابن القيم: "وقد كان الموروث صلوات الله وسلامه عليه أشجع النَّاس، فكذلك وارثه وخليفته من بعده أشجع الأمة بالقياس، ويكفي أنَّ عمر بن الخطاب سهم من كنانته، وخالد بن الوليد سلاح من أسلحته، والمهاجرون والأنصار أهل بيعته وشوكته، وما منهم إلا من اعترف أنَّه يستمد من ثباته وشجاعته".
وهذا ما يجب أن تكون عليه الأمة، لا ما نجده اليوم من جبن وخَوار من كثير من أبنائها، فكن شجاعًا مقدامًا لا متهورًا ولا جبانًا؛ فالقليل من الشجاعة جبنٌ، والكثير منها وقاحة لا فائدة منها.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢