أرشيف المقالات

من روائع الاحتساب، قصة صلة بن أشيم مع مجموعة من الشباب

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
إن ما يشعر به الشاب من القوة والفتوة، وأنه من مقتبل عمره قد يدفعه إلى اقتحام بعض المحرمات، وعدم قبول نصيحة الناصحين، بل قد يتجرأ على من يحتسب عليه من المحتسبين، فكان من المهم أن يُعلم أن الاحتساب على الشباب قد يتميز بعض الشيء عن الاحتساب على غيرهم، فلابد حينها على من أراد أن يحتسب على الشباب أن يراعي ما هم فيه من الفترة العمرية، ويتعامل معها بما يناسبها، وهذا ما فعله صلة بن أشيم رحمه الله مع مجموعة من الشباب كانوا في لهوهم وغيهم، وكانت النتيجة ما سنعلمها من خلال قراءتنا للقصة التي ذكرها ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتابه التوابين حيث روى بسنده إلى ثابت البناني أنه قال: "كان صلة بن أشيم يخرج إلى الجبان فيتعبد فيها، فكان يمر على شباب يلهون ويلعبون، قال: فيقول لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سفراً، فجازوا النهار عن الطريق، وناموا الليل! متى يقطعون سفرهم؟! قال: فكان كذلك يمر بهم ويعظهم، قال: فمر بهم ذات يوم، فقال لهم: هذه المقالة، فقال شاب منهم: يا قوم، إنه والله ما يعني بهذا غيرنا، نحن بالنهار نلهو، وبالليل ننام، ثم اتبع صلة، فلم يزل يختلف معه إلى الجبان، ويتعبد معه حتى مات رحمهما الله" [1].
انتهت القصة لكن الفوائد منها قد لا تنتهي حيث إنها قصة تحوي الكثير من الدروس والعبر، والتي منها:
- عدم انطواء المسلم على نفسه، واكتفائه بإصلاحها، بل لابد من المشاركة في الاحتساب، والسعي إلى تخفيف المنكرات، والدعوة الدائمة للعمل بالمعروف، فالانطواء على النفس مع ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يجعل صاحب الكبائر أفضل ممن ترك الاحتساب، وإن تَرَك المنكرات، وفَعَلَ المعروف، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الديانين لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله، ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلا عن أن يفعلوها، وأقل الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها، وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه، ويمعره لله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء، وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله تعالى أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب إن فيهم فلاناً العابد الزاهد، قال: به فابدأ، وأسمعني صوته؛ إنه لم يتمعر وجهه في يوم قط" [2]، فنعلم من هذا خطورة ترك الاحتساب خاصة على من ظن أن الدين عبارة عن ركعات يؤديها، أو تسبيحات يتلفظ بها، وغفل عن أن الاحتساب، والأمر بالمعروف عن المنكر قدمه الله تعالى في الذكر قبل أمور عظيمة، يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [ التوبة :71]، فقبل أن يذكر الصلاة والزكاة، وطاعة الله ورسوله ذكر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وليس أمر الحسبة خاصة بالصالحين، وأهل العبادة، بل قد يقوم به العاصي وصاحب المنكرات، يقول النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء : ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهى وإن كان متلبساً بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر" [3]، ويؤيد هذا الكلام حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» [4].
- ومما نستفيده من هذه القصة تجديد أساليب الاحتساب، فقد يظن ظان أن الاحتساب لا يكون إلا بالقوة، وبالتهديد والوعيد، وليس هذا بصحيح بل لكل مقام مقال، فالأسلوب الذي سار عليه صلة بن أشيم في نصيحة هؤلاء الشباب كان بالكلمة الطيبة الغير مباشرة، وفيها الموعظة الحسنة، والتذكير الراقي، وضرب الأمثال، وهذا ما نحتاجه خاصة في هذه الأزمنة التي كثرت فيه المغريات، وكثرت فيه سبل الشر، وطرائق الخطيئة، بل وتعدد أساليب ترويج المنكرات، فمن قنوات فضائية إلى مواقع إلكترونية إلى مجلات هابطة منمقة إلى أقراص مشبوهة، وكل هذه التقنيات تحتاج في مقابلتها تجديد في أساليب الاحتساب، وتنويع في طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- ومما نستفيده من قصتنا أهمية الاستمرار وبذل الجهد الدائم في الاحتساب، وعدم اليأس والقنوط، فقد كان صلة بن أشيم لا يبرح يمر على هؤلاء الشباب إلا ويذكرهم بالله، ويعظهم؛ فقد يكتب الله الخير على يد المحتسب بعد فترة من الزمن، ففي قصة الغلام والملك والراهب الساحر التي رواها مسلم في صحيحه أسلم الناس بعد موت الغلام، وقالوا جميعاً: "آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام" [5]، فلا يأس ولا قنوط، فنوح عليه السلام استمر في قومه يدعوهم، ويحتسب عليهم تسعمائة وخمسين عاماً، كما قال الله تعالى في كتابه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14]، فما على المحتسب إلا البلاغ: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [المائدة:99]، وأما النتائج فعلى الله سبحانه وتعالى هو الذي يكتب الهداية لمن يشاء، ويضل من يشاء، فقد يبعث النبي يوم القيامة وليس معه أحد، معه أنه نبي، ومع أنه لم يترك الاحتساب إلا أنه لم يؤمن به أحد، جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي الأمم؛ فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد» [6]، فعلى المحتسب أن يعلم أنه لا انتهاء لزمن الحسبة، بل يسعى دائماً محتسباً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حتى يكتب الله الخير على يديه أو على يد غيره ممن يحتسب على أمر قد تم تمهيده، وقد تكرر الاحتساب عليه فيسهل بإذن الله سبحانه وتعالى.
- إن ما صار إليه حال ذلك الشاب الذي تاب بعد النصيحة المستمرة من صلة بن أشيم لباعث لكل محتسب على رحمة الناس، وترك الحكم المسبق على عدم استجابتهم، وعدم قبولهم للحق، فكم أصلح الله من أناس قال الناس فيهم: لا يمكن لهذا أن يتوب، لكن أمر الله فوق كل شيء، وقد قيل مثل هذا في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا عنه أنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب [7]، فقد أحيا الله تعالى بصلة بن أشيم ذلك الشاب، فهداه الله، وأبعده عما كان فيه من المنكرات، والرفقة السيئة، وهنا لابد أن يعلم كل محتسب أنه لابد أن يوجد في كل مجموعة من الذين يجتمعون على المنكرات من يحب الخير، ومن له قلب حي يسمع الموعظة، ويستجيب للنصيحة، فلا نخشى تلك الشلة، أو تلك العصابة، أو أولئك النفر؛ ففيهم بإذن الله من سيستجيب ويعمل بما يرضي الله، بل وقد يصبح من أعوان الخير، والداعين إليه، والمحتسبين على الأمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فمع الحذر من شر تلك التجمعات المشبوهة لابد أن نجدد الاحتساب على أصحابها، ونأتيهم من كل طريق نستطيعه، فكما أنهم قد يفرون من المحتسبين لكنهم في قرارة أنفسهم يقولون: تعالوا أنقذونا من النار .
- إن ما فعله صلة بن أشيم رحمه الله لم يقصر في الاحتساب على أولئك النفر من الشباب، بل إنه بعد توبة الشاب قام بمتابعة هذا الشاب، فما تركه حتى الموت ، وهذا أمر مهم، فلا يكفي أن يحتسب أحدنا على فلان من الناس حتى إذا انتهى عن المنكر تركه، ولم يدر في أي واد يسير، بل لابد من المتابعة، ولابد من الاهتمام بالمحتسب عليه بقدر المستطاع؛ لأنك عندما تهتم به، فإنك تحسب عليه في حياته كلها، فيترك ذلك المنكر الذي كان عليه، وغيره من المنكرات، ويكون في ذلك خير كبير بإذن الله - تعالى -، وكم علمنا ممن كان الاحتساب عليه في منكر معين سبباً في صلاحه واستقامته، وهو مع هذه الاستقامة يحتاج إلى ربط بالصالحين، وتواصل مع العلماء والدعاة والمصلحين ممن يحملون هم هذا الدين، وقد يحتاج -وهو أمر مهم جداً- إلى رفقة صالحة تدعوه إلى الخير وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وتغطي عنده الفراغ الذي قد يجده من ترك الرفقة السيئة، فهذا سبب عظيم من أسباب الثبات على الدين، وعدم العودة إلى المنكرات، يقول الله جل في علاه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فلا ينسى من يقوم بالاحتساب أن يكون عنده أرقام المشايخ والدعاة، ومعرفة المراكز الدعوية والمخيمات الاحتسابية، ومراكز الدعوة والإرشاد، وأن يصحب معه مجموعة من الأشرطة النافعة والكتيبات المفيدة، فيوطن نفسه أنه مع الاحتساب يدعو المحتسب عليه إلى الله علَّ الله أن يكتب حياة جديدة للمحتسب عليه تتغير فيها سلوكه، وتتهذب فيها أخلاقه، ويزداد فيها إيمانه، ويحيا بها قلبه، ويصلح بها حاله، فيتواصل معه، ويتابعه، والله لا يضيع أجر المحسنين.
[1] التوابين لابن قدامة (1/244-245).
[2] عدة الصابرين (1/121).
[3] شرح النووي على صحيح مسلم (2/23).
[4] رواه البخاري برقم (6606)، واللفظ له، ومسلم (111).
[5] رواه مسلم برقم (3005).
[6] رواه مسلم برقم (220).
[7] السيرة النبوية لابن هشام (2/187).


عادل محمد هزاع الشميري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١