سلسلة منهاج المسلم - (10)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم.

وها نحن في العقيدة، وألفت النظر وأذكر الناسين وأعلم غير العالمِين: أن العقيدة الإسلامية الصحيحة التي مصدرها الكتاب والسنة متى عرضت عليهما وقعا عليها وأثبتاها.

هذه العقيدة بمنزلة الروح للجسد، صاحبها حي، يسمع ويبصر، يعقل ويفهم، يأخذ ويعطي، يذهب ويجيء، يقوم ويقعد؛ لكمال حياته.

وفاقدها بالمرة ميت، كالجسم الذي فارقته الروح، فلا يسمع نداء الحق ولا يجيب، ولا يعطي في الله ولا يمنع في الله، ولا يذهب ولا يجيء من أجل الله؛ لأنه ميت، والكافرون كلهم أموات؛ لأن روح الحق لا وجود لها عندهم، فهم أحياء لكن حياة الحيوان، بل هم أضل من الحيوان.

ثم العقيدة الإسلامية إذا داخلها زيغ أو نقص وحصل فيها بعض الانحراف فصاحبها غير ميت، ولكنه مريض، يقوى على أن يقول يوماً ويعجز آخر، ويقدر على أن يعطي الآن وغداً يعجز فلا يعطي؛ وذلك لمرضه، فهو مريض، فليعالج نفسه بتصحيح عقيدته بالكتاب والسنة.

هذه العقيدة السليمة الصحيحة مبناها الذي تقوم عليه ستة أركان، ويجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذه الأركان الستة، وهي: أولاً: الإيمان بالله. ثانياً: الإيمان بملائكته. ثالثاً: الإيمان بكتبه. رابعاً: الإيمان برسله. خامساً: الإيمان بلقائه. أي: بالبعث الآخر. سادساً: الإيمان بالقضاء والقدر.

وقد درسنا الركن الأول والثاني والثالث والآن الإيمان بالرسل، وهو الركن الرابع.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال المؤلف: [ الفصل الثامن: الإيمان بالرسل عليهم السلام] الرسل: جمع رسول، والسلام عليهم أحياءً وأمواتاً.

يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين والمؤمنات: [ يؤمن المسلم ] المسلم الصحيح الإسلام، الحسنه، الذي توفرت فيه آيات الإسلام وعلاماته، أي: المسلم الحق يؤمن [ بأن الله تعالى قد اصطفى من الناس ] ومعنى اصطفى: اختار واجتبى من الناس ومن بني آدم، فقد اجتبى واختار [ رسلاً ] جمع رسول، وهذا اختيار خاص، يصطفيهم اصطفاءً خاصاً من بين الناس [ وأوحى إليهم بشرعه ] الذي شرعه لعباده؛ ليمشوا في ظلاله وأنواره حتى ينتهوا إلى رضوان الله وجواره، ألا وهو الصراط المستقيم [ وعهد إليهم بإبلاغه ] فعهد الله تعالى إلى رسله بأن يبلغوا شرعه إلى الناس [ لقطع حجة الناس عليه يوم القيامة ] أي: من أجل أن لا يحتج الناس على الله يوم القيامة، ويقولون: ما عرفناك، وما عرفنا ما تحب حتى نفعله، ولا ما تكرهه حتى نتركه، فلا تعذبنا، فقطعاً لهذه الحجة يرسل الله الرسل، وينزل الكتب، قطعاً لحجة الناس عليه يوم القيامة [ وأرسلهم بالبينات ] جمع بينة، أي: بالعلامات الدالة على أنهم رسل الله وأنبيائه [ وبالمعجزات ] وهي الخوارق للعادات، كإحياء الميت وإحضار الغيب، وما إلى ذلك [ ابتدأهم بنبيه نوح، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ] فاعلم عبد الله! واعلمي أمة الله! أن أول الرسل الذين أرسلوا يحملون الرسالات للخلق أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يأت بعد محمد رسول إلى اليوم منذ ألف وأربعمائة وسبعة عشرة سنة، فأول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم وختامهم - وهو المسك- محمد صلى الله عليه وسلم [ وأنهم وإن كانوا بشراً يجري عليهم الكثير من الأعراض البشرية، فيأكلون ويشربون، ويمرضون ويصحون، وينسون ويذكرون، ويموتون ويحيون] ومع هذا الاتفاق مع سائر البشر [ فهم أكمل خلق الله تعالى على الإطلاق، وأفضلهم بلا استثناء. وأنه لا يتم إيمان عبد إلا بالإيمان بهم جميعاً، جملة وتفصيلاً ] فلا يبلغ العبد إيماناً سليماً صحيحاً حتى يؤمن بهم جميعاً، ولا يفرق بينهم، وهذا الذي قلناه من أنه واجب الإيمان بهم جميعاً بدون تفرقة أدلته ما يلي:

[ الأدلة النقلية ] أي: المنقولة عن الكتاب والسنة.

أولاً: إخباره تعالى عن رسله وعن بعثتهم ورسالاتهم

[ أولاً: إخباره تعالى عن رسله، وعن بعثتهم ورسالاتهم ] وذلك [ في قوله ] من القرآن: [ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] ] وليس هناك استثناء بأن هناك أمة ما بعث الله لها رسولاً، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36]، مهمته ورسالته أن يقول لهم: [ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ] أي: عبادة الشيطان، وما من أمة أبداً إلا وبعث الله فيها رسولاً، ورسالته هي أن يقول لهم: اعبدوا الله واحذروا؛ لتكملوا وتسعدوا، واجتنبوا عبادة الطواغيت من الشرك وأنواع الشرك. وهذه الآية من سورة النحل [ وفي قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] ] أيضاً، فالله جل جلاله يصطفي بمعنى: يختار ويجتبي ويأخذ الصفوة، وليس عامة الناس، فيجتبي أي: يصطفي من الملائكة رسلاً؛ ليرسلهم إلى الأنبياء، ومن الناس أيضاً يصطفي رسلاً [ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]. وفي قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:163-165] ]. وهذه الآية من سورة الأنعام، وقد ذكر الله تعالى فيها ثمانية عشر رسولاً، في قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا [الأنعام:83]، والآيات التي بعدها [ وفي قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد:25] ] أي: بالحجج [ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] ] أي: بالعدل في حياتهم كلها [ وفي قوله: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] ] وأيوب هذا أحد أنبياء الله ورسله عليهم السلام [ وفي قوله: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20] ] كسائر الناس كما قدمنا، فهم يمرضون ويصحون، ويجوعون ويأكلون ويشربون [ وفي قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ [الإسراء:101] ]. يخبرونك. فموسى رسول الله، أيده بتسع آيات ذكرت في سورة الأعراف [ وفي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:7-8] ] وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ [الأحزاب:7] يا محمد صلى الله عليه وسلم! وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7]. وهو أول رسول وأنت آخرهم. وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]. ليعلموا الناس ويهدوهم ويبلغوهم دين الله، من أجل أن يسأل الله الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:8] ] فهذه آيات القرآن الكريم كلها شاهد على أن الله أرسل الرسل، وقد ذكرت أسماء الكثيرين من الرسل، وبينت مهمتهم ورسالتهم لماذا، فكيف لا يؤمن العبد برسل الله؟

هذه الأدلة النقلية الأولى من الكتاب، والثانية من الرسالة والسنة المحمدية.

ثانياً: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن إخوانه من الأنبياء والمرسلين

[ ثانياً: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن إخوانه من الأنبياء والمرسلين في قوله ] هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر في هذا الحديث الصحيح عن نفسه وعن إخوانه من الأنبياء والمرسلين، فيقول: [ ( ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب ) ] وإذا أطلق النبي شمل الرسول أيضاً. ( ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب ). المسيح الدجال . حديث صحيح [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تفاضلوا بين الأنبياء ) ] فلا تقولوا: موسى أفضل من هارون، ولا يونس أفضل من يعقوب، ولا إسحاق أفضل من كذا، ولا محمد أفضل من نوح ولا إبراهيم، فقد نهانا عن أن نفاضل بين الأنبياء، فنقول: هذا أفضل وهذا مفضول، لا تفاضلوا أيها المؤمنون! بين الأنبياء [ وفي قوله ] صلى الله عليه وسلم [ لما سأله أبو ذر عن عدد الأنبياء والمرسلين منهم فقال: ( مائة وعشرون ألفاً، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر) ] فـأبو ذر الغفاري صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الحبيب صلى الله عليه وسلم فيقول: ما عدد الأنبياء والمرسلين؟ فيجيبه: مائة وعشرون ألفاً الأنبياء، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً. ولا يوجد حديث غير هذا، ولهذا قبله أهل العلم كافة، فعدد الأنبياء مائة وعشرون ألفاً، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده ) ] هذه يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسه بيده الله جل جلاله وعظم سلطانه، وأم المؤمنين عائشة تقول: هذه يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحبوها واحلفوا بها [ ( لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ) ] وهو كذلك، لو كان موسى لما بعث الرسول ما وسع موسى إلا أن يتبعه، صلى الله وسلم عليه [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ذاك إبراهيم، لما قيل له: يا خير البرية! ) ] قال: ( ذاك إبراهيم) [ تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم ] قال له أحد الأصحاب: ( يا خير البرية! - يا خير الخليقة!- فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم ). وقد دفع هذه من باب التواضع، وخير البرية - أي: الخليقة- محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه ما قبل أن يقال له هذا، فقال: ( ذاك إبراهيم ). وهذا هو التواضع، فهيا نتواضع كما تواضع نبينا صلى الله عليه وسلم [ وفي قوله: ( ما كان لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى ) ] ( ما كان): ما ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم خير من يونس بن متى؛ لأن يونس عليه السلام حصل له ما حصل، فهو لم يثبت في الدعوة وهرب منها، ولكن الله عز وجل احتضنه ونصره ورده إلى قومه، ووجدهم مسلمين مؤمنين. فيونس بن متى حصل له ما حصل، حتى فر من مدينته نينوى، وذهب إلى البحر ليركب البحر ويخرج من المنطقة، فلما ركب السفينة قال ربان السفينة: يا معشر الركاب! الحمولة كثيرة، لا بد وأن نخفف أو نغرق أجمعون، فمن يتطوع ويتبرع لينجي هذه الجماعة على ظهر السفينة؟ فشحوا بأنفسهم، فقالوا: إذاً: القرعة، أي: الاقتراع والمساهمة، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فأخذوه من رجليه ورموه في البحر، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ [الصافات:142]. واقرءوا قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]. فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:145-147]، بل يزيدون. فلما علم المسلمون حال يونس وضعفه خاف الرسول أن يفضلوه عليه، قال: ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) [ وفي إخباره صلى الله عليه وسلم عنهم ] أي: عن الأنبياء والرسل [ ليلة الإسراء ] والمعراج [ إذ جمعوا له هناك ببيت المقدس وصلى بهم إماماً لهم. كما أنه وجد في السماوات يحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام، وأخبر عنهم وعما شاهده من حالهم ] في أحاديث صحاح [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) ] داود أبو سليمان، الرسول أبو الرسول، والنبي أبو النبي، كان يأكل من عمل يده، والرسول ما عاصره ولا عايشه، وإنما عرف هذا وتلقاه من الوحي الإلهي، وقد كان داود يصنع الدروع بيديه، ويبيعها ويأكل من ثمنها، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يعجزه ذلك عن الجهاد أيضاً. هذا اعتراف الرسول بنبي الله داود.

ثالثاً: إيمان البلايين من البشر برسل الله وتصديقهم برسالاتهم

[ ثالثاً ] أي: من الأدلة النقلية: [ إيمان البلايين من البشر من المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب من يهود ونصارى برسل الله، وتصديقهم الجازم برسالاتهم، واعتقادهم كمالهم واصطفاء الله لهم ] وهذا دليل من أقوى الأدلة بعد الكتاب والسنة، وهو أن البلايين والملايين - والمليون ألف ألف ألف- من البشر من المسلمين وغير المسلمين ومن أهل الكتاب من يهود ونصارى يؤمنون كلهم برسل الله وتصديقهم الجازم برسالاتهم، واعتقادهم كمالهم واصطفاء الله لهم. وإن لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد آمنوا بكل الرسل. والخبر إذا وردنا وانتهى إلينا ننظر، فإذا كان المخبر واحد قد نشك، وكذلك إذا كانوا ثلاثة أو خمسة أو عشرة، وأما إذا كانوا مليون فلا نقدر على تكذيبهم، فهذه البلايين من البشر كلها آمنت برسل الله وأنبيائه.

[ أولاً: إخباره تعالى عن رسله، وعن بعثتهم ورسالاتهم ] وذلك [ في قوله ] من القرآن: [ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] ] وليس هناك استثناء بأن هناك أمة ما بعث الله لها رسولاً، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36]، مهمته ورسالته أن يقول لهم: [ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ] أي: عبادة الشيطان، وما من أمة أبداً إلا وبعث الله فيها رسولاً، ورسالته هي أن يقول لهم: اعبدوا الله واحذروا؛ لتكملوا وتسعدوا، واجتنبوا عبادة الطواغيت من الشرك وأنواع الشرك. وهذه الآية من سورة النحل [ وفي قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] ] أيضاً، فالله جل جلاله يصطفي بمعنى: يختار ويجتبي ويأخذ الصفوة، وليس عامة الناس، فيجتبي أي: يصطفي من الملائكة رسلاً؛ ليرسلهم إلى الأنبياء، ومن الناس أيضاً يصطفي رسلاً [ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]. وفي قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:163-165] ]. وهذه الآية من سورة الأنعام، وقد ذكر الله تعالى فيها ثمانية عشر رسولاً، في قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا [الأنعام:83]، والآيات التي بعدها [ وفي قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد:25] ] أي: بالحجج [ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] ] أي: بالعدل في حياتهم كلها [ وفي قوله: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] ] وأيوب هذا أحد أنبياء الله ورسله عليهم السلام [ وفي قوله: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20] ] كسائر الناس كما قدمنا، فهم يمرضون ويصحون، ويجوعون ويأكلون ويشربون [ وفي قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ [الإسراء:101] ]. يخبرونك. فموسى رسول الله، أيده بتسع آيات ذكرت في سورة الأعراف [ وفي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:7-8] ] وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ [الأحزاب:7] يا محمد صلى الله عليه وسلم! وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7]. وهو أول رسول وأنت آخرهم. وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]. ليعلموا الناس ويهدوهم ويبلغوهم دين الله، من أجل أن يسأل الله الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:8] ] فهذه آيات القرآن الكريم كلها شاهد على أن الله أرسل الرسل، وقد ذكرت أسماء الكثيرين من الرسل، وبينت مهمتهم ورسالتهم لماذا، فكيف لا يؤمن العبد برسل الله؟

هذه الأدلة النقلية الأولى من الكتاب، والثانية من الرسالة والسنة المحمدية.

[ ثانياً: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن إخوانه من الأنبياء والمرسلين في قوله ] هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر في هذا الحديث الصحيح عن نفسه وعن إخوانه من الأنبياء والمرسلين، فيقول: [ ( ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب ) ] وإذا أطلق النبي شمل الرسول أيضاً. ( ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب ). المسيح الدجال . حديث صحيح [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تفاضلوا بين الأنبياء ) ] فلا تقولوا: موسى أفضل من هارون، ولا يونس أفضل من يعقوب، ولا إسحاق أفضل من كذا، ولا محمد أفضل من نوح ولا إبراهيم، فقد نهانا عن أن نفاضل بين الأنبياء، فنقول: هذا أفضل وهذا مفضول، لا تفاضلوا أيها المؤمنون! بين الأنبياء [ وفي قوله ] صلى الله عليه وسلم [ لما سأله أبو ذر عن عدد الأنبياء والمرسلين منهم فقال: ( مائة وعشرون ألفاً، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر) ] فـأبو ذر الغفاري صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الحبيب صلى الله عليه وسلم فيقول: ما عدد الأنبياء والمرسلين؟ فيجيبه: مائة وعشرون ألفاً الأنبياء، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً. ولا يوجد حديث غير هذا، ولهذا قبله أهل العلم كافة، فعدد الأنبياء مائة وعشرون ألفاً، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده ) ] هذه يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسه بيده الله جل جلاله وعظم سلطانه، وأم المؤمنين عائشة تقول: هذه يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحبوها واحلفوا بها [ ( لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ) ] وهو كذلك، لو كان موسى لما بعث الرسول ما وسع موسى إلا أن يتبعه، صلى الله وسلم عليه [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ذاك إبراهيم، لما قيل له: يا خير البرية! ) ] قال: ( ذاك إبراهيم) [ تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم ] قال له أحد الأصحاب: ( يا خير البرية! - يا خير الخليقة!- فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم ). وقد دفع هذه من باب التواضع، وخير البرية - أي: الخليقة- محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه ما قبل أن يقال له هذا، فقال: ( ذاك إبراهيم ). وهذا هو التواضع، فهيا نتواضع كما تواضع نبينا صلى الله عليه وسلم [ وفي قوله: ( ما كان لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى ) ] ( ما كان): ما ينبغي لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم خير من يونس بن متى؛ لأن يونس عليه السلام حصل له ما حصل، فهو لم يثبت في الدعوة وهرب منها، ولكن الله عز وجل احتضنه ونصره ورده إلى قومه، ووجدهم مسلمين مؤمنين. فيونس بن متى حصل له ما حصل، حتى فر من مدينته نينوى، وذهب إلى البحر ليركب البحر ويخرج من المنطقة، فلما ركب السفينة قال ربان السفينة: يا معشر الركاب! الحمولة كثيرة، لا بد وأن نخفف أو نغرق أجمعون، فمن يتطوع ويتبرع لينجي هذه الجماعة على ظهر السفينة؟ فشحوا بأنفسهم، فقالوا: إذاً: القرعة، أي: الاقتراع والمساهمة، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فأخذوه من رجليه ورموه في البحر، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ [الصافات:142]. واقرءوا قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]. فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:145-147]، بل يزيدون. فلما علم المسلمون حال يونس وضعفه خاف الرسول أن يفضلوه عليه، قال: ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) [ وفي إخباره صلى الله عليه وسلم عنهم ] أي: عن الأنبياء والرسل [ ليلة الإسراء ] والمعراج [ إذ جمعوا له هناك ببيت المقدس وصلى بهم إماماً لهم. كما أنه وجد في السماوات يحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام، وأخبر عنهم وعما شاهده من حالهم ] في أحاديث صحاح [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) ] داود أبو سليمان، الرسول أبو الرسول، والنبي أبو النبي، كان يأكل من عمل يده، والرسول ما عاصره ولا عايشه، وإنما عرف هذا وتلقاه من الوحي الإلهي، وقد كان داود يصنع الدروع بيديه، ويبيعها ويأكل من ثمنها، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يعجزه ذلك عن الجهاد أيضاً. هذا اعتراف الرسول بنبي الله داود.


استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة منهاج المسلم - (51) 4156 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (95) 4083 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (63) 3869 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (139) 3863 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (66) 3835 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (158) 3823 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (84) 3748 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (144) 3647 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (71) 3633 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (101) 3607 استماع