هذا الحبيب يا محب 20


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد انتهى بنا الدرس إلى المقطوعة الذهبية النورانية وهي: [الجهر بالدعوة بعد الإسرار بها] أي: الجهر والإعلان بالدعوة بعدما كانت سرية لا يعرفها إلا من ندر، وقد كانت سرية لأن المؤمنين كانوا أقلية، فقد درسنا أنهم بلغوا الثمانية، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجتمع في بيت الأرقم بن أبي الأرقم وحوله ذلك العدد من المؤمنين، فيتلو عليهم آيات الله ويزكيهم، فلما كثر العدد وظهر الإسلام أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهر، ونحن الآن مع هذه الحادثة: من السرية الكاملة إلى الجهر والإعلان.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [إنه بعد أن اكتمل عدد المسلمين نيفاً وأربعين رجلاً وكذا وامرأة ..] وصل عدد المؤمنين والمؤمنات أربعين رجلاً وبضعة نسوة [وأسلم حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم] وهو أحد الذين انفتح بهم الباب، عم الحبيب صلى الله عليه وسلم، سيد الشهداء ولا فخر [و عمر بن الخطاب ] بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة أسلم عمر ، ولما وُجد في الجماعة حمزة الأسد وعمر الفاروق أعلن صلى الله عليه وسلم عن دعوته [استجاب الله لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم] إسلام عمر كان نتيجة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ سأل الله تعالى أن يؤيد هذا الدين بأحد العمرين: إما عمر بن الخطاب وإما عمرو بن هشام أبا جهل عليه لعائن الله، واستجاب الله فأسلم عمر ، وسوف يأتي بيان إسلامه في موضوع خاص.

[حيث قال: ( اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين )] وأيده بمعنى: قوه وانصره [يعني عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام (أبو جهل )] وقوله صلى الله عليه وسلم: (بأحد العمرين) من باب التغليب، فيقال: العمران أبو بكر وعمر ولا حرج، أو القمران الشمس والقمر، سائغ هذا في لغة القرآن.

[وبإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما قويت شوكة المسلمين] والشوكة هي التي تؤذي وتدفع، هذه قويت بإسلام هذين الرجلين رضي الله عنهما وأرضاهما [وأنزل قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]] ومعنى قوله عز وجل: فَاصْدَعْ [الحجر:94] الصدع بالشيء إذا أعلنه وأظهره، بل وكسر الجدران والأسوار ليظهره، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] أي: لا تلتفت إليهم، دعهم يسبوا ويشتموا ويقولوا ما شاءوا، ولا تلتفت إليهم.

[وأنزل الله سبحانه وتعالى قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]] أي: ابدأ بـفاطمة ثم انتقل إلى بني هاشم، ومعنى أنذرهم: خوفهم عاقبة الشرك والكفر والإلحاد والخروج عن هداية الله عز وجل [فصعد صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا] وجبل الصفا هو الذي منه نبتدئ السعي وننتهي بالمروة، وفيه آية من الآيات في أشراط الساعة -وقد ظهر منها ما ظهر- إذ قال الله تعالى في سورة النمل: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82] ووصف النبي صلى الله عليه وسلم -بوصفه المبين لكلام الله الشارح له- أنها دابة ذات أربع قوائم تخرج من صدع في جبل الصفا، فالجبل يتصدع وتخرج منه دابة، والآن الجبل أصبح طريقاً لها، فجبل الصفا الآن فيه نفق عظيم تدخل فيه السيارات وغيرها، وسوف تأتي الدابة من ثَمَّ.

يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( تخرج من صدع من الصفا ) والصدع موجود الآن بفضل الله تعالى، وهذه آية من آيات الله أن جبال مكة الآن كلها أنفاق وطرق والحمد لله، وجزى الله القائمين على هذا الخير خيراً.

فالشاهد عندنا: أنه قد وُجد هذا الصدع، ولم يبق إلا أن تخرج الدابة، ووالله! إنها لخارجة، طال الزمان أم قصر فهذا كلام الله: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل:82] تكلمهم بأن فلاناً مؤمن وفلان كافر.

[ونادى بأعلى صوته قائلاً: واصباحاه!! واصباحاه!!] فلم يكن عندهم أبواق ولا صفارات إنذار، ولكن من أراد أن ينذر علا جبلاً ونزع ثوبك وجعله في يده ولوح به منادياً: واصباحاه! واصباحاه! هذا هو المنذر العريان، فإذا شاهد أهل القرية أو البلد رجل على الجبل عالٍ يلوح بثوبه وينادي: واصباحاه! اجتمعوا كلهم؛ لعلمهم بأن هناك خطر داهم، وهذا تدبير الله عز وجل للبشرية، ففي كل زمان وفي كل عصر ما يلائمه، والآن وُجدت صفارات الإنذار.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقال له: النذير العريان، ولكنه لا يكشف عورته فهو المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنما حسبه أن ينادي بأعلى صوته: واصباحاه! واصباحاه! وما هي إلا لحظات حتى امتلأ الوادي وجاء الناس من كل حدب وصوب.

[فهز صوته حثيات وادي مكة] لأن مكة واد والجبال حواليه [وأقبل الناس نحو النداء زرافات ووحداناً] أي: جماعات وأفراداً [حتى امتلأت ساحة الصفا، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كالبدر ليلة هالته] أي كأنه القمر قد طلع بأنواره في ليلة الرابع عشر والخامس عشر [فقال: (يا معشر قريش!)] بمعنى: أخبروني [(أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل)] والمراد من الخيل: خيل الغزاة، خيل المغيرين، فهم يأتون بخيولهم، فليس هناك دبابات ولا مصفحات ولكن الخيول [( تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم )] لأنهم ما جربوا عليه الكذب قط، ووالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، من طفولته إلى بلوغه إلى حمله رسالة الدعوة، حتى كان يعرف بينهم بالصادق الأمين [( فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )] أكثر من الغارة ومن عدو من الأعداء هو: أني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، أي: مقدمة العذاب، فإما أن تدخلوا في رحمة الله، وإما أن يجتاحكم البلاء وينزل بكم العذاب [( أنقذوا أنفسكم من النار )] هذا هو العذاب الشديد، وبم ينقذون أنفسهم من النار؟ بالإسلام، بأن يسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فتنجو من عذاب الله؛ لأنهم إن ماتوا على ظلمة نفوسهم وخبث أرواحهم من جراء الشرك والمعاصي فلن يسلموا من عذاب الله.

إذاً: نجاتهم بأن يسلموا القلوب والوجوه لله، وأن يطيعوا الله فيما يأمر به ينهى، والمأمور به أدوات تزكية للنفس البشرية، والمنهي عنه أدوات تخبيث وتلويث، فمن زكى نفسه وباعدها عن الخبث والتلويث نجا، سواء كان أبيض أم أسود عربي أم عجمي.

[فقام أبو لهب بن عبد المطلب ] عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في جهنم، والسيدة أم جميل العوراء امرأته كذلك -والله- معه؛ لتعلموا أنه لا قيمة للنسب -كنت أبيضاً أو أسوداً- فالعبرة بزكاة النفس، هل هي طاهرة كأرواح الملائكة أو خبيثة كأرواح الشياطين، لا أقل ولا أكثر.

والحمد لله! الصيدلية الفخمة العظيمة موجودة، فمن أراد أن يزكي نفسه فليذهب وليشتري أدوات التزكية ويعمل على تزكية نفسه، ولكن أنصح بأن يكون تحت إشراف طبيب. وما هي هذه الصيدلية؟ إنها القرآن والسنة النبوية، والله إن لفيها من أدوات التزكية والتطهير العجب العجاب، ولكن الأحسن أن تتعلم كيف تستعمل تلك الأدوات، وكونك تحت إشراف عالم رباني هو أفضل وأكمل.

قال: [فقام أبو لهب فقال: تباً لك سائر اليوم] والتب هو الخسران والهلاك. فدعا على نبينا صلى الله عليه وسلم بالخسران والهلاك، وقال: تباً لك سائر النهار [ألهذا دعوتنا؟] أي: أما تدعونا إلا لهذا؟ وما هو الذي دعاهم إليه؟ إنقاذ أنفسهم من النار. بماذا؟ بالإسلام، قال: أسلموا وجوهكم وقلوبكم لله.

[فأنزل الله تعالى سورة المسد] هناك سورة في القرآن تسمى سورة المسد، هذه السورة نزلت بكاملها فوراً من الملكوت الأعلى يحملها جبريل رسول رب العالمين إلى سيد المرسلين، قال الله عز وجل: [ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5]].

ومن العجائب التي نعيشها أنه كم من إنسان يسمع هذه السورة في صلاة المغرب أو في صلاة العشاء مدة عشرين سنة أو أربعين -وهو من عوام المسلمين- ولا يحفظها، وهذه ظاهرة من خمسين أو أربعين سنة، أما الآن فقد أصبح الأولاد يقرءون القرآن مجوداً، ومن قبل كان طلاب الكُتَّاب يقرءون القرآن ملحوناً، أو على الأقل غير مجود ولا مرتل، ولكن بفضل الله تعالى ثم بواسطة الجماعة الباكستانية التي أوجدت مدارس قرآنية -كتاتيب- في بيوت الله، وأصبحوا يعلمون القرآن من الصبا مرتلاً، بالغنة والمدود إلى غير ذلك من أحكام التجويد كالإظهار والإخفاء، وشاء الله عز وجل أن تنصر هذه الدعوة حكومة القرآن في هذه الديار، وأصبح يعقد كل سنة مؤتمر لتحفيظ القرآن تقام له الامتحانات وتوزع عليها الجوائز، وأصبح القرآن يرتل في كل أنحاء العالم، والأسباب ما بينت لكم، فالحمد لله.

لقد كنا نصلي وراء رجال كبار ونحن أطفال فيقرأ (ليلة في قريش لإيلافهم)! ويقرأ: (تبت يداه أبي لهب)، ويقول في الفاتحة: (وكان نعبد وكان نستعين)، وإلى الآن ما زال الناس في البادية هكذا.

وقد دخلت امرأة أبي لهب معه؛ لأنها كانت متعاونة معه، تكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتمكر به مع زوجها، ومن هذا أنها كانت تأتي بالحطب الذي فيه شوك -كالسدر وغيره- وتضعه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يشاك بالشوك فتشفي غيظها في صدرها، وتعرفون أنه فيما سبق كان الظلام في الليل فليس كهرباء ولا مصابيح والأزقة ضيقة، فكانت تضع حزمة الشوك حتى يعثر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وتتلذذ بذلك. هذه هي أم جميل العوراء ، وقد نزلت سورة المسد فيها وفي بعلها.

[وكانت المدة التي دعا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه سراً ثلاث سنوات] لما بلغوا ثمانية أشخاص فتح الله عليهم بدار الأرقم بن أبي الأرقم ودعوا فيها ثلاث سنوات سراً لا علانية [ثم أمر بالجهر فجهر امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94]].

قال: [نتائج وعبر] هذه المقطوعة لها نتائج وعبر، فهل فينا من يريد أن يستنتج وإلا ليس هناك حاجة؟ كعهدنا القديم، تجد من يقرأ ويسمع ولا يبالي، ولا يريد أن يحفظ شيئاً، ولكن فقط يجلس، وهذا -إن شئت فقل-: حال خمسة وسبعين في المائة من العالم الإسلامي، فليس هناك رغبة ولا تطلع إلى أن يفهم عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يبلغ عنهما.

قال: [إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نذكرها فيما يلي:

أولاً: بيان المدة التي كانت فيها الدعوة سراً وهي ثلاث سنوات] ثلاث سنوات كانت سراً في الظلام؛ خوفاً من سلطان الكفر والكافرين [ثانياً: بيان مقتضى سرية الدعوة وهو قلة المؤمنين وكثرة المشركين] المقتضي لذلك هو قلة عدد المؤمنين، فهم لا يستطيعون مواجهة أمة كاملة أو ودولة بأكملها [ثالثاً: الجهر بالدعوة كان بأمر الله تعالى لآية الحجر] وهي: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94-95] . والحجر هو حجر الجبل، وأصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح، والسورة تسمى سورة الحجر وهي: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر:1].

رابعاً: بيان سبب نزول سورة المسد، وهو قول أبي لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (تباً لك سائر اليوم)] من منكم يعرف سبب نزول هذه السورة، ويحدث بها أهله، فيقول: أنا الليلة علمت شيئاً، وهو سبب نزول سورة المسد، ويفرح بذلك كأنه اكتسب ألف ريال. هل يوجد هذا بيننا أم ما زلنا نائمين؟ ومتى نصحو؟ الله أعلم.

إن سبب نزول سورة المسد يا عالمون! هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُمر بأن يعلن عن دعوته، فطلع جبل الصفا ونادى: واصباحاه! واصباحاه! فاجتمع الناس عليه، فقال لهم: (أرأيتكم)! أي: أخبروني (إذا أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الجبل أتصدقوني؟ فقالوا: نعم ما جربنا عليك الكذب، فقال: إذاً أنقذوا أنفسكم من النار) أي: أسلموا، وآمنوا. فقام يتعتنر أبو لهب ويقول: ألهذا جمعتنا؟ تباً لك سائر اليوم! ومن يرد على أبي لهب ؟ إنه الله! وما هذا الرد الذي كان؟ قال الله عز وجل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].

هل من ممكن أن نحفظ هذا، أم أنه ما دام ليس هناك ريال ولا قرش ولا بطيخة، فليس هناك حاجة؟! من أكثر من سبعمائة سنة ونحن هابطون؛ لأننا لا نعلم، وإذا لم نعلم فلا نعمل -قطعاً-، فلا عمل إلا بعلم، ولا علم إلا بعلم يقيني.

[خامساً: بيان أنه لا دليل] هذه سياسية، وأنتم لا تعرفون السياسة إلا في الصحف والإذاعات والكلام الفارغ، فمن أدلة هذه المقطوعة وبراهينها: [بيان أنه لا دليل لمن يرى سرية الدعوة في بلاد المسلمين اليوم في سرية الرسول صلى الله عليه وسلم لها ثلاث سنوات] لأنه توجد منظمات وجمعيات وأحزاب تعمل في الخفاء في البلاد الإسلامية خوفاً من الدولة، ووالله لا حق لهم ولا يجوز ذلك، لأنهم يستطيعون أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم، ويستطيعون أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر مبتدئين ذلك من بيوتهم، حتى ولو كانت الحكومة شيوعية.

إذاً: العالم الإسلامي يستطيع كل مؤمن فيه أن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يعلن عن إسلامه، ويصلي، ويقوم الليل، ويصوم، ويتصدق، ويقول الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا أستثني من ذلك مكاناً، ومن ثَمَّ تنتصر دعوة الله، لكن عندما نتحزب ونتجمع ونعمل في الخفاء ونحدث حدثاً؛ نتلقى الضرب على رءوسنا ونخرق الدعوة ونجلب لها الكراهية.

[لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان لا يسمح لهم أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله] لو قالها أحد لمزق، وسيأتي ماذا فعلوا بـأبي ذر حين وقف أمامهم وقال: لا إله إلا الله، وكيف أنهم انهالوا عليه بالضرب ومزقوه [ولا أن يؤذنوا ولا أن يصلوا، ولما قويت شوكتهم أمروا بالجهر بالدعوة، فجهروا ولاقوا من الأذى ما هو معروف بين المسلمين] ماذا كانوا يفعلون بـبلال بن رباح ؟ كانوا يسحبونه على الأرض ويضعون الصخرة على صدره. ماذا فعلوا بـسمية ؟ أدخلوا الحربة من فرجها إلى فمها ومزقوها. ماذا فعلوا بـعمار ؟ ماذا فعلوا برسول الله؟ وضعوا السلى على ظهره وهو يصلي، في سبيل ماذا؟ من أجل إقامة الدولة الإسلامية؟ لا والله، من أجل أن يعبد الله فقط.

[سادساً: ذكر إسلام حمزة ، ولم تذكر قصة إسلامه، فلنذكرها لما فيها من العبرة، وكذا الحال بالنسبة لإسلام عمر فإنا لم نذكر قصته في سبب إسلامه رضي الله عنه، وسنذكرها إن شاء الله إزاء رقم سبعة بعد قصة إسلام حمزة رضي الله عنه] وإليكم القصة ..

قال: [قصة إسلام حمزة رضي الله عنه] كيف أسلم حمزة؟

[لقد مر يوماً] أي: مشى [أبو جهل -عليه لعائن الله-] بمن؟ [برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الصفا] الرسول صلى الله عليه وسلم كان واقفاً أو جالساً عند الصفا حيث نسعى [فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره: من العيب لدينه والتضعيف لأمره] أبو جهل يريد يشفي صدره فماذا يصنع؟ يسب الرسول ويعيره، وينال منه ومن دعوته بالكلام البذيء الذي لا يذكر [فلم يرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم] وهل نستطيع نحن هذا الأمر؟! أيما مؤمن -من إندونيسيا إلى موريتانيا- داعٍ إلى الله بالهدوء والصمت والأدب يقف على شرطي أو صعلوك أو ذو مال فيعيره ويسبه ويشتمه، ويقول له: أنت كذا، أو أنت رجعي متخلف، أو ما هذا التزمت، هل يستطيع أن يصبر ويسكت؟ لا بد من مضاربة بالحجارة والعصي حتى تُخمد الدعوة. أين الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم؟!

ويروى عن عيسى أنه كان يقول للحواريين أصحابه: (من صفعك عن خدك الأيمن فأدر له الأيسر)؛ لأنك حامل للهدى، حامل الطيب والنور، فلا تغضب من أجل كلمة أو دفعة، ولكن ابتسم وقل: جزاك الله خيراً.

ولقد شاهدنا -منذ ثلاثين سنة في هذا المسجد- دعاة من رجال الهيئة يؤذيه الحاج أو المدني أو المقيم فيقول له: جزاك الله خيراً، وتعجبت من هذا! كيف أنه يؤذيه وينتهره بصوته فيقول له: جزاك الله خيراً! أتظن أن هذه الكلمة لا قيمتها لها؟ إنها تحول القلب وتقلبه. ولكن قولوا لي: من علمنا؟ من أدبنا؟ في حجر من تربينا؟ لا شيء. فلا لوم إذاً ولا عتاب.

قال: [ولم يكلمه، وكانت مولاة لـعبد الله بن جدعان ] وعبد الله بن جدعان هذا كان يفعل ما لا تفعله أمريكا اليوم، كان يذبح كل سنة ألف بعير في الحج للحجاج، ولو يجتمع العرب والمسلمون اليوم لا يستطيعون هذا، كان يذبح ألف بعير للوافدين على بيت الله وهو -والله- كافر مشرك، ويكسو ألف حلة، والحلة هي البدلة، ثوبين من نوع واحد، يكسوها الفقراء والمساكين، وهذا تدبير ذو العرش، فليس عندهم مال ولا دولة ولا سلطان، يعيشون في فوضى ولكن الله الحكيم العليم دبر لهم تلك الحياة التي لم تحلم بها الدنيا، وقد عرفنا الهدنة التي تتم في خلال أربعة أشهر (الأشهر الحرم)، كان يمر الرجل فيها من أقصى البلاد إلى أقصاها لا يخاف إلا الله، فلا سلاح ولا أمريكا ولا أمم متحدة، ولكنها هدنة ربانية، فلا إله إلا الله. جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]. لو أخذت قشرة من شجر الحرم وعقلتها في عنقك وأنت ماش فكل من يراك يقول: هذا كان في الحرم، فلا يؤذيك أبداً.

وهناك حديث عن عبد الله بن جدعان هذا، وهو أن أمنا عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وأرضاها قالت: ( يا رسول الله! أرأيت عبد الله بن جدعان كيف هو الآن؟ قال: في النار. قالت: يا رسول الله! لقد كان يفعل كذا وكذا؟ قال: لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ). من مات على الكفر والشرك هل ينفعه ما كان يفعل من الخيرات؟ والله لا ينفع. فجمعيات التنصير -الآن- التي تنفق الأموال على الفقراء والمساكين لتكفرهم لا يستفيدون أي حسنة، ولن يدخلوا الجنة بها، ولو أنفقوا ما في الأرض جميعاً؛ لأنهم كفار مشركون.

ولقد كانت خادمة هذا الرجل الفاضل الكريم عبد الله بن جدعان [في مسكن لها تسمع ما قاله أبو جهل ، وشاء الله تعالى أن يمر حمزة ] في الطريق [راجعاً من قنص له متوشحاً قوسه] أي: كان يصيد، والقنص حيث يصاد الغزال والضباء، ومتوشحاً قوسه: أي: في صدره أو في جسمه [فقالت له المرأة: يا أبا عمارة ! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم عمرو بن هشام ] كان يكنى بـأبي عمارة ، وعمارة هي بنته، قالت: [وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم، فاحتمل حمزة الغضب، فخرج يسعى ولم يلتفت إلى أحد حتى أتى أبا جهل وهو جالس في نادي القوم] والنادي مكان يجتمعون فيه [حول المسجد، فضربه بالقوس فشج رأسه شجة منكرة] حمله ذلك الغضب ودفعه حتى وصل إلى النادي وهم جالسون فضرب أبا جهل بقوسه فشج رأسه وسال منه الدم. هذا وهو كافر يومئذ، كان مشركاً ساعتها [ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول] أراد أن يغيظه فدخل في الإسلام؛ لأن أبا جهل ما شتم الرسول إلا من أجل مفارقة النبي صلى الله عليه وسلم لدين آبائه وأجداده، فلما أراد حمزة أن يغيظ أبا جهل ضربه فشج رأسه ثم قال له: أنا على دين محمد ..

[فرُد ذلك علي إن استطعت] يعني هيا يا أبا جهل رد علي هذا إذا استطعت [فقام رجال من بني مخزوم] من بني عم أبي جهل [لينصروا أبا جهل ] أخذتهم الحمية فهذا ابن عمهم أو سيدهم، فقاموا لينصروا أبا جهل لما شاهدوا الضرب والدماء وسمعوا كلمة حمزة : (أتشتمه وأنا على دينه).

[فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة ؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً] عجب هذا! ولهذا حفظنا كلمة -من سنين- من أحد الصالحين قال: كفار قريش أشراف الكفار. أي: لهم مزايا وفضائل! أما كفار اليوم فلا يساوون قرشاً بالنسبة إليهم، والله العظيم. أما كنا نتكلم عن عبد الله بن جدعان أنه يكسو ألف حلة كل عام ويذبح ألف بعير؟! فهل كفار اليوم يفعلون هذا؟

استمع إلى أبي جهل ماذا يقول بعد أن ضرب وسال الدم منه وقام بنو عمه لينصروه: (دعوا أبا عمارة !!) هل يفعل هذا كفار اليوم؟ ولا مسلمو اليوم!! حتى المسلمون لا يفعلونه. فلا إله إلا الله! وكناه بـأبي عمارة تعظيماً له وتبجيلاً.

[وثبت حمزة من ساعتئذ على ما قاله] هو قاله ليغيظ أبا جهل فقط، لكن من ثَمَّ ثبت واستقر ذلك في قلبه [فأسلم وحسن إسلامه، ويومها عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع بإسلام عمه حمزة ] من يوم أن أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله قد عز، ومن عز بز، فلا يستطيع أحد أن يضره [المعروف بينهم بأنه أعز فتى في فريش] كان معروفاً في قريش بأنه أعز فتى من فتيانهم، فقد كان شاباً ورجلاً من رجالاتهم.

يا معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن خلاصة ما سمعتم أن تحمدوا الله على إسلامكم وإيمانكم، وأن تحققوا ذلك بسلوككم وآدابكم، وأن تطلبوا الهدى من مصادره؛ لتعلموا كيف تطهرون أنفسكم وتزكون أرواحكم؛ لأن حكم الله قد صدر فيكم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] فلا نسب ولا قرابة ولا بُعد، وإنما أنت ونفسك، فإن كانت طاهرة نقية كأرواح المؤمنين الصالحين فأنت ولي الله، وأنت الذي يجاوره في الملكوت الأعلى، وإن اشتغلت عنها بمالك ودنياك وأعرضت عن تطهيرها خبثت وتلوثت وتدست والمصير يا بني! معروف، فقد قضى الله والله يحكم ولا معقب لحكمه.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.