أرشيف المقالات

غدا الذي لا يأتي أبدا - محمد علي يوسف

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .

- بكرة هاتغير...
- بكرة سأكون إنسانا رائعا..
- بكرة سأبدأ بداية جديدة ومختلفة تماما..
- غدا سأُقلع عن كل تلك العادات السيئة التي تلازمني..
-غدا سأحل كل مشكلاتي وسأصلح كل أخطائي وأعوض ما فاتني...
- غدا سأُنزِل من وزني الزائد وسأمارس الرياضة وأتبع حمية غذائية منضبطة..
غدا سأذاكر...
غدا سأصلي...
غدا سألتزم...
بكرة سأتوب وأهتدي ... 
بكرة… غدا… بكرة… غدا 
دائما غدا أو بكرة!! 
هذا هو الشرط
غدا وليس أبدا اليوم
وغدا هذا لا يأتي قط!!
وبكرة صارت أسلوب حياة.. 
فُوت علينا بُكرة!!
تلك العبارة التقليدية العتيدة التي تلخص بكلماتها الثلاثة نمط حياة ذلك الموظف البيروقراطي المقدِّس للروتين، والمتكاسل دوما عن إنجاز مصالح المواطنين في اليوم نفسه
فُوت علينا بُكرة!! 
بُكرة....
هي كلمة السر ومفتاح تلك الشخصية المتنطعة التي هي في حقيقة الأمر تقبع في أعماق كلٍ منا بنسب مختلفة
لقد صار (غدا) لدى البعض سجنا كبيرا؛
سجنا قضبانه التسويف وأسواره الشاهقة ينافس ارتفاعها فقط طول أمله وبعد مسافة أمانيه
والحقيقة أن التحرر من هذا السجن ليس ترفا اختياريا أو مسألة تحتمل الأخذ والرد
إنها قضية حياة...
{حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}

[المؤمنون:٩٩،١٠٠]
" {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [ الزمر:٥٨]
" {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [ اﻷنعام:٢٧]
" {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}  [ السجدة: ١٢]  
" {فيقول رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [ المنافقون:١٠]  
" {فيقول الذين ظلموا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [ إبراهيم:٤٤]  
" {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [ الأعراف:٥٣ ]
" {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [ الشورى:٤٤]  
" {وهم يصطرخون فيها رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [ فاطر:٣٧]
مجموعة كبيرة من الآيات تشترك كلها في ترسيخ هذا المعنى المحوري وتلك الحقيقة المتغافل عنها 
حقيقة ندم المسوِّفين وتحسرهم على تسويفهم
إنها آيات تبين بشكل قاطع أن ذلك السجن الذي اختار المسوفون المكث خلف جدرانه لم ينفعهم بشيء وأن غالب تحسرهم لما يأتي الغد الحقيقي سيكون على تضييعهم الفرصة حين كانت سانحة؛
فرصة التحرر من هذا السجن التسويفي البغيض
" {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}
هكذا كان دائما فحوى الرد على ندمهم وكذلك كانت الإجابة شبه الموحدة على تحسراتهم وطلبهم الفرصة بعد فوات الأوان
قد عمّرتم طويلا ومكثتم في الأرض سنين عددا وذُكّرتم وأُنذرتم وكان كل غدٍ يمر عليكم بمثابة فرصة جديدة أصررتم على تأجيلها كل مرة حتى لم يعد هناك غدٌ في الدنيا وجاءت الأخرى فلم يعد ينفعكم الندم ولم يعد هناك (سوف) وغدا المزعوم الذي طالما تحججتم به لم يعد له وجود
غدكم الذي لا يأتي أبدا
إنها مشكلة حقيقية نعاني منها جميعا بأقدار متفاوتة، وعلى جميع المستويات والمجالات 
مشكلة تظهر على صنوف متباينة من البشر ما بين عاصٍ مسوِّف يُرجيء أمر توبته لأجل غير مسمىً، وطالب متكاسل يعلق آمال عريضة على أوهام اجتهاد سيهبط عليه فجأة، وموظف مماطل يدمن تعطيل مصالح الناس لـ (بُكرة) المزعوم، وسياسي (ملاوع) يسرف في وعود وردية وأحلام مستقبلية موعدها دائما في ذلك الغد الذي لا يأتي أبدا
وعلى قدر تمكن أحدنا من تجاوز تلك القضبان التسويفية  على قدر نجاحه في تحقيق تلك الآمال والطموحات وقدرته على إثبات ذاته وإنجازه لشيء خلال تلك الحياة القصيرة
فقط إن كسّر تلك القضبان واعتلى تلك الأسوار
قضبان سوف وأسوار (غداً)
غدا الذي لا يأتي أبدا
من كتابي : أنماط

شارك الخبر

المرئيات-١