أم كلثوم تلقي درسا
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
للأستاذ عبد المنعم خلاف
منذ أن غردت أم كلثوم. تلك القصيدة الفذة (سلو قلبي غداة سلا وتابا) لأول مرة وأنا أشعر أن القلم يريد أن يسجل شيئاً لا يد من تسجيله إزاء ما تجلى في هذه الأغنية من البيان الرفيع والموضوع الكريم والتلحين الشرقي الخالص. غير أن الأيام قد ذهب مطلها بالقلم مذاهب النسيان والإبطاء، ولكن ما تتأذى به الآذان كل يوم من الأغاني التافهة المسمومة يلح علي بذكرى هذه الأغنية والتنويه بها، ولفت أنظار وزارة الشؤون ومحطة الإذاعة بما يحب قوله تعليقاً على هذا الحادث الأول من نوعه في أغاني أم كلثوم، بل ربما في أغاني هذا الجيل الذي احتملت أعصابه من سموم الأغاني التافهة المسمومة الساقطة ما سمم المنابع وأسقط الهمم وأفسد الذوق وأطفأ الأشواق الرفيعة التي تضطرم في الأفئدة حين تهب عليها الأصداء والهتافات وأنسام الشجو من حنجرة تغرد على طبيعتها السليمة القوية، أو وتر يرتعش في يد ينضب إليها النغم الذائب الحادر في أعصاب العازف المترجم عن تلك الخفايا والأسرار والكلمات المكنونة في الكون ولا يخرج خبأها ويكشف سرها إلا أنامل عازف يعرف كيف يخنق الوتر الدقيق فيخرج حنينة، أو فم ساحر ينفخ في الناي فيخرج أنينه، أو لامس ماهر يلمس الطبل أو الدف فيهيج شجونه، ويرسلها في دبيب ودوي رهيب إلى الأسماع والأوصال فيدخل عليها من هواتف ما وراء المادة والكثافة والجمود ما يدخل! ولقد هب على قلوب سامعي هذه الأغنية من أم كلثوم نسمات رفيعة من الطرب الحق الذي يثير أعظم ما في النفس الإنسانية من أحاسيس الحب والجمال والقوة والدين والوطنية والبر والتبتل والألم اللذيذ الوديع والرحمة القلقة الملهوفة، والثورة العازمة الواثقة، ما أجرى فيها طهارة ونقاء يطردان الدم الأسود المسموم، ويجريان بدله الدم النقي المطهر للنفوس من عوامل الضعف والفسولة والتخدير والحب الوضيع. ولقد تقبل الجمهور المصري هذه الأغنية بكل حواسه الموسيقية والمعنوية في الحب والدين والوطنية بما يشجع على أن تتجه الأغاني إلى خدمة الأهداف القومية والأمجاد الرفيعة خدمة لا تتأتى إلا عن طريق الأناشيد السائرة على الحناجر الساحرة التي لها من السلطان على نفوس جماهير الرجال والنساء والأطفال ما ليس لقواد الاجتماع والسياسة والدين، وخاصة في هذا العصر الذي تلاحق فيه الإذاعة الفرد في كل مكان وتقتحم عليه حتى مخادع نومه. وقديماً كانت (الأصوات) التي يغنيها المغنون العرب للخلفاء والسلاطين والجماهير من منتقي الشعر الرفيع، وكان الغناء بها من أسباب رواج الأدب الكريم. وكان للبيت الواحد أو للأبيات التي يتغنى بها التأثير اللازم لمعانيها والنتائج الحتمية لدى سامعيها، حتى إن غناء أحد المغنين ببيتين في مجلس الرشيد كان الحافز المثير والنقطة المطففة التي طفحت بها كأس الرشيد فأنزل نكبته بالبرامكة. ولو علمت أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم بمدى سلطانهم على تربية الناشئين لخافوا الله في تلك النفوس الغضة التي تلاحقها أغانيهم من المهد. وفي الموسيقى تستعرض قلوب الأمم، وقد استطاعت كل أمة أن تلقط توقيعات من طبيعة بيئتها التي تعيش فيها تطرب لها وترقص بها في ساعات الطفور والمرح والهيام في عالم الرؤى والأحلام، وتعرض فيها أفانين حياتها وأصداء الهواتف الطبيعية في آذانها وصور الدنيا الباطنة كما تراها في مرآتها الخفية. فالقلب العربي أو المكسيكي أو الهندي أو الألماني أو الزنجي أو غيرهما يمكنك أن تعرف خلاصة اتجاهاته في الحياة حين تسمع ألحانه وأشواقه فيها. وبودي أن يجتمع جوق عالمي عظيم من فنانين عالميين ليضع ألحاناً آخذة من جميع الأصداء والهواتف لتوجيه قلوب البشر ليدركوا السر الواحد الذي في قلوبهم جميعاً بدون ألفاظ. وبودي كذلك أن أجمع الوجوه الإنسانية الكريمة من الأجناس المختلفة وتؤلف منها (هرموني) وتناسقاً بصرياً يرى عشاق التحف والطرف ما في العقد البشري المنظوم من جمال وثراء.
وبودي كذلك أن أقيم معرضا للطفولة الإنسانية البريئة الموحدة اللغة والإشارة والإدراك قبل أن تأخذها سبل أممها المتفرقة فتجعلها أباديد متناكرة كأنها فصائل أجناس متعادية متناقضة.
وبودي كذلك أن أقيم معرضاً للقمم الإنسانية العالية العاملة المجاهدة القريبة من عرش الله بالنسك والفكر والعلم والعمل، حتى يراها الفاجرون القاعدون في السفح.
بودي كل أولئك! ولكن ما مبلغ جهدي غير الآمال والأحلام السعيدة.
وإني لأتساءل: من أين أتى الإنسان بهذه الأنغام العالية المعقدة التي يخرجها من المزامير والصنوج والأوتار؟ إن كل أصوات الطبيعة ساذجة محدودة المقاطع ليس فيها إلا توقيع بسيط، فكيف أتى الإنسان بهذه الألحان التي تهيج أعصابه وتثير أشواقه نحو الجمال والحياة وتأخذ بأنفاسه وحواسه نحو المجهول؟ ولماذا تثير الألحان العظيمة قوة الإيمان وانفساح مدى الحياة في أعماق القلوب؟ أيكون ذلك ناشئا من أن روح هذا الإنسان ذات ذخيرة كامنة من أيام حياة في عالم ذي طرب دائم، فلما أخرج منه وأنسى ما فيه صار يبحث في ذهول ولهفة إلى إيجاد أصداء وصور منها في هذه الدار الفانية؟ فجعل ينبش في ذبذبات الأوتار والصنوج عن ذلك النغم الذي كان يعمر جو الجنة ويختلط بأنفاس رياحها ويهب على النفس مع هبوب نسماتها وخفوق خافقاتها؟ إني أشعر أن لتلك الأصداء الموسيقية تأثير الحياة أو الموت على الأعصاب.
إن لها في الأعصاب وحياً كوحي النسمات وقطرات الندى ودفقات المزن ونضحات الأشعة وانعكاسات الألوان.
.
إنها أفواه نافخة من شذى الجنة أو لافحة من زفرات جنهم أحياناً.
وإني أتلقاها بحاسة خاصة.
والألفاظ هنا تضيق والشرح يترك للوجدان المشترك لدى كل حساس.
إنها من أعجب ما أودع الله في طبيعة الأشياء!. وإذا قيل إن الألفاظ والمعلومات (أشياء) أفادها الإنسان من محيطه وتسلسلت حتى تركبت في عقله وصارت هكذا كما نراها معقدة؛ فماذا يقال في النغمات؟ إنها لا تكون أكثر من فيض نفسي، ولا تكون نقلا عن (معلوم) في الطبيعة، وإنما هي تعبير خفي يفيض به همس المجهول في أعماق النفس.
ولذلك قال القدماء عنها إنها فضل كلام نفسي ضاق عنه النطق.
. وإن الآلات الموسيقية تظل صامتة خرساء حتى تمسكها يد الإنسان فتنطقها بالأغاريد الغريبة التي في قلبه هو لا في قلبها هي.
والشخصية الموسيقية شخصية خفية ليس لها مدد تستعلن به إلا من داخلها، وإني لأسمع إلى الموسيقى الألمانية في ألحان عباقرتها فأدرك ما في نفس الألمان من كبت وتمزيق وهيام وحيرة وصوفية عاجزة عن رؤية الطريق، وصرخات الإنسان الفريد المحس بضياعه في رحاب الكون.
. وأسمع إلى موسيقى الزنوج فأحس فيها طمأنينة الجهل وصخب الغرائز ومجابهة المجهول بدون إحساس به وحيرة فيه. وهكذا أغلب ألحان الأمم. ولكني حين أسمع أكثر ألحان الموسيقيين المصريين المحدثين أشعر بشيء مخدر كئيب لا فلسفة فيه ولا أصالة طبع معه، وإنما يختبئ وراءه (دعاء جنسي) مريض غير صحيح الذكورة ولا صحيح الأنوثة. فهل تدرك (وزارة الشؤون الاجتماعية) ذلك أو لا تدركه؟ إن كانت تدركه فما أحراها وهي المشرفة على الإذاعة الموسيقية أن تحمي الجيل الناشئ من هذه السموم المخدرة التي تنفثها تلك الموسيقى التافهة وأن تجرب وضع برنامج من الموسيقى القوية تستعين في وضعه باللفظ القوي واللحن القوي والذوق الناقد الذي يدرك خطورة الأمر. وإن كانت لا تدركه فما أضيع هذه الأمة التي تتخذ على شؤونها رعاة يسيرهم القطيع! عبد المنعم خلاف