فتاوى نور على الدرب [407]


الحلقة مفرغة

السؤال: ما حكم الشرع في نظركم في استخدام المواد الكحولية في كل من البويات والأدوية والروائح وغيرها؟

الجواب: المواد الكحولية من المواد المسكرة، (وكل مسكر خمر)، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل خمر فإنه حرام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا يجوز شرب الخمر بأي حال من الأحوال، إلا عند الضرورة إذا كانت الضرورة تندفع به، وذلك فيما لو غص بلقمة وليس عنده ما يدفع به هذا الغص إلا خمر يشربه ليدفع هذه اللقمة فإن ذلك جائز؛ لأن هذه ضرورة تندفع بتناول الخمر، والضرورة التي تندفع بتناول الحرام تحل الحرام، وعلى هذا تتنزل القاعدة المشهورة عند أهل العلم، أن الضرورات تبيح المحظورات، وهذه القاعدة مبنية على قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [المائدة:3] إلى قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].

ولكن هل الخمر نجسة أو ليست بنجسة؟

أكثر أهل العلم على أن الخمر نجسة، مستدلين بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن الخمر طاهرة من حيث الطهارة الحسية، محتجاً بأن الخمر حين حرمت في المدينة استقبلَ الناسُ بها السككَ والأسواق فأراقوها فيها، ولو كانت نجسة لحرمت إراقتها في الأسواق والسكك؛ لأنها طرقات المسلمين، وطرقات المسلمين لا يجوز أن يلقى فيها أو يراق فيها شيء من النجاسات، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الملاعن الثلاث: البرازة في الموارد، وقارعة الطريق، والظل )، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بغسل الأواني حين حرمت الخمر كما أمرهم بغسل الأواني حينما حرمت الحمير، وأقوى من ذلك: (أن رجلاً أتى براوية خمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهداها إليه، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنها حرمت، فسارَّه رجل يقول له: بعها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ساررته؟ قال: قلت: بعها يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، ففتح الرجل فم الراوية وأراق الخمر الذي فيها، في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم جالس حوله )، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل هذه الراوية، ولو كان الخمر نجساً لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الراوية منه؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك في هذا الموقف، فإن الرجل سوف ينطلق وينتفع براويته وفيها أثر الخمر.

وأما ما استدل به القائلون بالنجاسة فالجواب عنه سهل، فإن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، يراد بها الرجس المعنوي العملي، ولهذا قال: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، ويدل على أن هذا هو المراد، أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجاستها حسية بالاتفاق، فما بالنا نقول: إن كلمة (رجس) التي أُخبر بها عن الأربعة وهي: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام تكون رجساً حسياً باعتبار الخمر ورجساً معنوياً باعتبار قريناتها الثلاثة، هذا لا يمكن أن يقال به إلا بدليل صريح على أن الخمر نجس دليل منفصل عن هذه الآية، حتى يمكن أن نقول: إن كلمة رجس مشترك مستعمل في معنييه، فباعتبار الخمر يكون المراد به النجس نجاسة حسية وباعتبار قريناته الثلاثة يكون المراد به النجس نجاسة معنوية.

ويدل على أن الرجس يمكن أن يطلق على الرجس المعنوي قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، فإن المراد بالرجس هنا بلا شك الرجس المعنوي؛ لأن الرجس الحسي يكون منهم كما يكون من غيرهم، فكل واحد يبول وكل واحد يتغوط.

وبناء على ذلك نقول: هل يجوز أن نستعمل هذه الكحول في أمر لا يحصل به ما يحصل بشربها من الفساد كاستعمالها في البوية، أو في تطهير الجروح ونحو ذلك؟ والذي أرى في هذا أنه لا بأس باستعمالها في هذه الأشياء؛ لأن الناس في حاجة إلى ذلك، وليس في النصوص ما يدل دلالة صريحة على وجوب اجتناب المسكر بكل حال، وإنما فيها دلالة على وجوب اجتناب المسكر في استعماله في الشرب وفي الأكل، ولنقرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، فعلل الله الأمر باجتنابه بهذه العلة التي لا تكون إلا إذا تناوله الإنسان أكلاً أو شرباً، وهي أن الشيطان يريد أن يوقع بيننا العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه العلة لا تحصل فيما إذا استعمل في التدهين وشبهه.

ولكن نقول: اجتنابه أولى حتى في التدهين وشبهه تورعاً، إذ قد يكون الأمر بالاجتناب على سبيل الإطلاق شاملاً لهذه الصورة، أي: لصورة ما لا يؤكل ويشرب، ولكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس باستعماله ولا حرج فيه؛ لأن الشيء المشتبه يزول حكم الاشتباه فيه عند الحاجة إليه.

وخلاصة القول: إن استعمال الكحول في الدهونات وشبهها ليس بحرام، ولكن اجتنابه أولى إلا إذا دعت الحاجة إليه.

السؤال: رجل يريد أن يحج ولم يتزوج فأيهما يقدم؟

الجواب: يقدم النكاح إذا كان يخشى المشقة في تأخيره، مثل: أن يكون شاباً شديد الشهوة ويخشى على نفسه المشقة فيما لو تأخر زواجه فهنا يقدم النكاح على الحج، أما إذا كان عادياً ولا يشق عليه الصبر فإنه يقدم الحج، هذا إذا كان حج الفريضة، أما إذا كان الحج تطوعاً فإنه يقدم النكاح بكل حال ما دام عنده شهوة وإن كان لا يشق عليه تأجيله؛ وذلك لأن النكاح مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة كما صرح بذلك أهل العلم.

السؤال: ما هي شروط التوبة النصوح؟

الجواب: التوبة النصوح من الذنوب واجبة، فإن كان الذنب فعل محرم وجب الإقلاع عنه، وإن كان ترك واجب وجب تداركه بفعله إن كان مما يمكن فعله، أو بفعل بدله إن كان له بدل، وإن لم يكن له بدل ولم يمكن فعله كفت التوبة.

وللتوبة شروط خمسة:

الشرط الأول: أن يكون الحامل لها الإخلاص لله عز وجل، لا يقصد بها رياءً ولا سمعة ولا جاهاً ولا تزلفاً لمخلوق ولا غير ذلك من أمور الدنيا، بل لا يريد بها إلا وجه الله والدار الآخرة.

الشرط الثاني: أن يكون عنده شيء من الندم على ما فعل، بحيث لا يكون الفعل وعدمه سواء عنده، بل يشعر بنفسه أنه متألم ونادم على ما وقع منه من الذنب؛ لأن هذا الندم والألم هو الذي يحمله على أن يتوب إلى الله ويرجع إليه وهو الذي يدل على صدق توبته.

الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب في الحال بقدر استطاعته، فإن كان الذنب ترك واجب وجب عليه فعله إن كان مما يمكن فعله، أو فعل بدله إن كان له بدل، وإلا يكفي الندم على ما أهمل من الواجب، وإن كان فعل محرم وهو لا يزال متلبساً به وجب عليه الإقلاع عنه فوراً، ومن ذلك إذا كان الذنب اعتداءً على غيره، فإنه يجب عليه إن كان الاعتداء بأخذ مال أن يرد المال إلى صاحبه، وإن كان بمظلمة أن يتحلله منها، إلا أن بعض أهل العلم قال: إذا كان العدوان بالغيبة وصاحبه لم يعلم أنه اغتابه فإنه يكفي أن يستغفر له، وأن يثنى عليه ثناءً يقابل ما حصل منه من غيبة، ولكن لابد أن يكون هذا الثناء مطابقاً للواقع.

الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى هذا الذنب الذي تاب منه، فأما إن تاب من الذنب ولكنه في نيته إذا سنحت له فرصة أن يعود إليه فهذه توبة عاجز وليست توبة نصوحة، بل لا بد أن يعقد العزم على ألا يعود إلى الذنب الذي تاب منه.

الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت قبولها، فإن كانت بعد وقت قبولها لم تنفع صاحبها، ووقت القبول هو أن تكون التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل حضور أجل التائب، فإن طلعت الشمس من مغربها قبل التوبة فإن التوبة لا تنفع.

لقول الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها )، وإذا حضر الأجل فإنها لا تنفع التوبة ولا تقبل؛ لقول الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18].

وعلى هذا فيجب على المؤمن أن يبادر بالتوبة؛ لأنه لا يدري متى يفجأه الأجل، وكم من إنسان خرج من بيته ولم يرجع إليه، وكم من إنسان نام على فراشه ولم يقم منه، وكم من إنسان جلس على الأكل ولم يتمه، فالموت ليس له وقت معلوم للبشر حتى يُمْهِلَ في التوبة، فالواجب على كل مؤمن أن يبادر بالتوبة قبل أن يفوت وقت قبولها، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

السؤال: يقول: بأنه ذهب ليطلب الزواج من ابنة خاله، فأجابه الخال بأنه لا يحق له الزواج منها؛ لأنه راضع مع إحدى أخواتها، وبعد سؤال أم البنت أفادت بأنه رضع منها رضعتين؟

الجواب: إذا لم يثبت أنه رضع من أم مخطوبته إلا مرتين، فإن المخطوبة تحل له؛ وذلك لأن الرضاع إذا كان دون خمس رضعات لم يؤثر شيئاً، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي فيما يُتلى من القرآن )، فإذا كانت الرضعات أدنى من الخمس فلا عبرة بها، وعليه فإن ابنة خالك تكون حلالاً لك؛ لأنه لم يثبت أنها أختك.

السؤال: هل يجوز الرسم بالريشة لمناظر طبيعية مثل الجبال والأنهار والأشجار؟ وهل يمكن تعليق صور النباتات أو المناظر الطبيعية في البيت أو الاحتفاظ بها؟

الجواب: نعم يجوز للإنسان أن يرسم صور الشجر والبحار والأنهار والشمس والقمر والنجوم والجبال وغيرها مما خلق الله عز وجل، ويجوز أن يحرص على دقة تصويرها حتى تكون كأنها منظر طبيعي، لكن بشرط أن لا يكون فيها صور من ذوات الأرواح كالإنسان والبهائم؛ وذلك لأن تصوير الإنسان والبهائم محرم بل من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين، وأخبر أن من صور صورة فإنه يُجعل له بها نفس يعذب بها في جهنم، وقال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون الذين يضاهئون بخلق الله)، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يقال لهم تحدياً وتعجيزاً: (أحيوا ما خلقتم).

فلا يجوز للإنسان أن يصور ما فيه روح من بشر أو غيره، سواء صورها مستقلة أو صورها داخل هذه المناظر التي ذكرها السائل، وهي من كبائر الذنوب؛ أعني: التصوير لذوات الأرواح من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب عليه اللعنة، ومن فعل من ذلك شيئاً فعليه أن يتوب إلى الله، وأن يمزق أو يحرق ما صوره حتى لا يبوء بإثمه.

وأما ما ليس فيه روح فلا بأس به؛ لأن الأحاديث تومئ إلى هذا، فإن فيها أنه مكلف أن ينفخ فيه الروح وليس بنافخ، وهذا إشارة وإيماء إلى أن المحرم ما كان فيه روح، وإذا جاز أن يصور ما ليس فيه روح من الأشجار والأنهار والبحار والشمس والقمر والجبال والبيوت وما أشبهها، جاز أن يعلقها على بيته وينظر إليها ويهديها إلى غيره، لكن ينبغي أن لا يسرف في هذا، فيصرف الأموال الكثيرة في شراء مثل هذه المناظر وتعليقها على الجدر أو إهدائها إلى غيره، فإن الإسراف حرام؛ لقول الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141].