فتاوى نور على الدرب [271]


الحلقة مفرغة

السؤال: أنا شاب في العشرين من عمري، محافظ على أداء الصلوات المكتوبة وعلى تلاوة القرآن الكريم، وأوامر ربي عز وجل، إلا أنني أعاني من أمر هو أن ثيابي التي ألبسها عادة ما تكون طويلة، وأنا لا أقصد بذلك الكبر والخيلاء أو أي شيء يغضب الله عز وجل، وحاولت مراراً أن أقصر من ثيابي لكنني أقول في نفسي: ما دام أنني لم أقصد الكبر أو غير هذا، فهذا إن شاء الله ليس فيه ذنب؟

الجواب: تضمن هذا السؤال مسألتين:

المسألة الأولى: أن الرجل أثنى على نفسه بكونه قائماً بطاعة الله، محباً لما يرضي الله عز وجل، وأرجو أن يكون هذا الثناء على نفسه من باب التحدث بنعم الله عز وجل، لا من باب تزكية النفس، وذلك أن الذي يتحدث عن نفسه بفعل الطاعات لا يخلو من حالين: الحال الأولى: أن يكون الحامل له على ذلك تزكية نفسه وإدلاله بعمله على ربه، وهذا أمر خطير قد يؤدي إلى بطلان عمله وحبوطه، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده عن تزكية نفوسهم، فقال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، الحال الثانية: أن يكون الحامل له على ذلك التحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى، وأن يتخذ من هذا الإخبار عن نفسه سبيلاً إلى أن يقتدي به نظراؤه وأشكاله من بني جنسه، وهذا قصد محمود، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ).

أما المسألة الثانية مما تضمنه السؤال: فهو كونه يرخي ثوبه وينزله إلى أسفل من الكعبين، وكان يمني نفسه بأنه لم يفعل ذلك من باب الكبر ولا من باب الخيلاء، فيكون هذا مباحاً، والجواب على ذلك: أن عمله هذا محرم، بل إن ظاهر النصوص أنه من كبائر الذنوب، وذلك لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، وهذا الحديث مطلق لم يقيده النبي صلى الله عليه وسلم بكونه خيلاء أو بطراً، ولا يمكن أن يحمل على المقيد بذلك، لأن الحكم فيهما مختلف، وقد ذكر أهل العلم أنه لا يحمل المطلق على المقيد إلا إذا كان الحكم فيهما واحداً، ولتستمع إلى فرق الحكم بينهما، فإن من جر ثوبه خيلاء عقوبته أن الله عز وجل لا يكلمه يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.

كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قالها ثلاثاً، فقال أبو ذر رضي الله عنه: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ فقال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن عقوبة المسبل أن الله تعالى لا يكلمه يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، وهذا الحديث مطلق، لكنه مقيد بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه )، فقيده النبي صلى الله عليه وسلم بكونه خيلاء، وقال: ( لم ينظر الله إليه )، وهذه بعض العقوبة التي دل عليها حديث أبي ذر ، فيحمل حديث أبي ذر المطلق على هذا الحديث المقيد.

إذاً: عقوبة من جر ثوبه خيلاء أعظم من عقوبة من نزل إزاره عن كعبيه، لأن من نزل إزاره عن كعبيه عقوبته أن يعذب بالنار، ما قابل النازل من الإزار عن الكعبين، وأما عقوبة من جر ثوبه خيلاء فهي أعظم وأكبر، فإنها أن لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه ولا يزكيه، وله عذاب أليم، وبهذا الفرق علمنا أنه لا يمكن حمل المطلق على المقيد، اتباعاً للقاعدة التي ذكرها الأصوليون، والتي دل عليها كتاب الله عز وجل، وإيضاح ذلك أن الله سبحانه وتعالى ذكر في آية الطهارة في الوضوء، أن غسل اليدين يكون إلى المرافق، فقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فقيد غسل اليدين ببلوغ الغسل إلى المرافق، وقال في التيمم: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، ولم يقيد الأيدي ببلوغ التيمم إلى المرافق، ولا يحمل حكم التيمم على حكم الوضوء، وذلك لاختلافهما في الحكم، ففي الوضوء تتعلق الطهارة بأربعة أعضاء، وفي التيمم بعضوين، وفي الوضوء تكون الأعضاء بعضها مغسولاً وبعضها ممسوحاً، وفي التيمم تكون ممسوحة، وكذلك في طهارة التيمم تتفق الطهارتان الصغرى والكبرى، وفي طهارة الماء تختلف الطهارتان الصغرى والكبرى، وعليه فلا يحمل المطلق في حكم التيمم على المقيد في الوضوء، وحينئذ فلا يحمل المطلق في التيمم على المقيد في الوضوء.

ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم عمار بن ياسر كيفية التيمم ضرب الأرض بيديه ضربة واحدة ومسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه، ولم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بالتيمم إلى المرافق، فدل هذا أن القاعدة التي قررها الأصوليون قاعدة مستقرة، دل عليها الكتاب والسنة، فليتق الله تعالى المرء، وليجتنب ما حرم الله عليه في لباسه، فإن فعل ما حرم الله على المرء في لباسه من كفران النعم، وقد أشار الله تبارك وتعالى حين ذكر أنه أنزل على عباده لباساً يواري سوآتهم وريشا، أشار الله تبارك وتعالى إلى أنه يجب على الإنسان أن يراعي جانب التقوى في ذلك، حيث قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، وتقوى الله عز وجل واجبة على كل مسلم، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن عاده شاب من الأنصار، وكان عليه ثوب يضرب على الأرض، فلما ولى دعاه عمر رضي الله عنه، فقال له: يا ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأبقى لثوبك، وفي لفظ: وأنقى لثوبك، فذكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن في رفع الثوب فائدتين عظيمتين:

إحداهما: تقوى الله عز وجل، التي أعد الله سبحانه وتعالى للمتصفين بها جنة عرضها السموات والأرض، كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

والفائدة الثانية: أن ذلك أبقى للثوب، فإن الثوب إذا انجر على الأرض أكلته وقطعت أسفله، وأنقى له أيضاً، فإن الثوب إذا انجر على التراب تلوث به، فإن قلت: هل يمكن أن تكون العقوبة على جزء من البدن دون جميعه؟

فالجواب: نعم، يمكن ذلك، ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى تقصيراً من بعض الصحابة رضي الله عنهم في غسل أرجلهم نادى بأعلى صوته: ( ويل للأعقاب من النار )، فجعل العقوبة في العضو الذي حصل فيه الخلل، وهكذا نقول فيمن نزل ثوبه عن كعبيه، إن عقوبته تكون في مقدار ما حصلت به المخالفة، فيعذب بالنار ما كان أسفل من الكعبين، وإني أوجه إلى السائل بارك الله فيه، وإلى غيره ممن ابتلوا بمسألة الإسبال، أوجه إليهم نصيحة بأن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم وفي مجتمعهم، وأن يذكروا بقلوبهم وعلى ألسنتهم أناساً لا يجدون ما يسترون به عوراتهم، أو يتقون به الحر والبرد من الثياب، حتى يكون ذلك داعياً إلى شكرهم نعمة الله سبحانه وتعالى، والتزامهم بأحكام الله في هذه الثياب التي أنعم الله عليهم بوفرتها وكثرتها. والله المستعان.

السؤال: ما حكم الشرع في نظركم في رجل سب الدين في حالة غضب، هل عليه كفارة؟ وما شرط التوبة من هذا العمل، حيث أنني سمعت من أهل العلم يقولون بأنك خرجت عن الإسلام بقولك هذا، وأيضاً يقولون: بأن زوجتك حرمت عليك؟

الجواب: الحكم فيمن سب الدين الإسلامي أنه يكفر، فإن سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله عز وجل وبدينه، وقد حكى الله تعالى عن قوم استهزءوا بدين الإسلام، حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65]، فبين الله عز وجل أن خوضهم هذا ولعبهم استهزاء بالله وآياته ورسوله، وأنهم كفروا به، فقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]، فالاستهزاء بدين الله، أو سب دين الله، أو سب الله ورسوله، أو الاستهزاء بهما كفر مخرج عن الملة، ومع ذلك فإن هناك مجالاً للتوبة منه، لقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فإذا تاب الإنسان من أي ردة كانت توبة نصوحاً استوفت شروط التوبة الخمسة، فإن الله تعالى يقبل توبته، وشروط التوبة الخمسة هي:

الشرط الأول: الإخلاص لله بتوبته، بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة أو خوفاً من المخلوق أو رجاء لأمر يناله من الدنيا، فإذا أخلص توبته لله، وصار الحامل له عليها تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، فقد أخلص لله تعالى فيها.

الشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنب، بحيث يجد في نفسه حسرة وحزناً على ما مضى، ويراه أمراً كبيراً يوجب عليه أن يتخلص منه.

الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب، وعن الإصرار عليه، فإن كان ذنبه ترك واجب قام بفعله وتداركه إن أمكن، وإن كان ذنبه بفعل محرم أقلع عنه، وابتعد عنه، ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بمخلوقين، فإنه يؤدي إليهم حقوقهم، أو يستحلهم منها.

الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل، بأن يكون في قلبه عزم مؤكد أن لا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها.

الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل، وفوات وقت القبول عام وخاص، أما العام: فإنه طلوع الشمس من مغربها، فالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل، لقول الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].

وأما الخاص: فهو حضور الأجل، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع، لقول الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18].

وأقول: إن الإنسان إذا تاب من أي ذنب، ولو كان ذلك سب الدين، فإن توبته تقبل إذا استوفت الشروط التي ذكرناها، ولكن ليعلم أن الكلمة قد تكون كفراً وردة، ولكن المتكلم بها قد لا يكفر بها لوجود مانع يمنع من الحكم بكفره، فهذا الرجل الذي ذكر عن نفسه أنه سب الدين في حال غضب، نقول له: إن كان غضبك شديداً، بحيث لا تدري ما تقول ولا تدري حينئذ أنت في سماء أم في أرض، وتكلمت بكلام لا تستحضره ولا تعرفه، فإن هذا الكلام لا حكم له ولا يحكم عليك بالردة، لأنه كلام حصل عن غير إرادة وقصد، وكل كلام حصل عن غير إرادة وقصد فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ به، يقول الله تعالى في الأيمان: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225]، ويقول تعالى في آية أخرى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89]، فإذا كان هذا المتكلم بكلمة الكفر في غضب شديد لا يدري ما يقول، ولا يعلم ماذا خرج منه، فإنه لا حكم لكلامه ولا يحكم بردته حينئذ، وإذا لم يحكم بالردة، فإن الزوجة لا ينفسخ نكاحها منه، بل هي باقية في عصمته، ولكن ينبغي للإنسان إذا أحس بالغضب أن يحرص على مداواة هذا الغضب بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، حين سأله رجل فقال: ( يا رسول الله! أوصني؟ فقال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب )، فليحكم الضبط على نفسه، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطجع، وإذا اشتد به الغضب فليتوضأ، فإن هذه الأمور تذهب عنه غضبه، وما أكثر الذين ندموا ندماً عظيماً على تنفيذ ما اقتضاه غضبهم، ولكن بعد فوات الأوان.

السؤال: لدينا أشخاص يحلفون بالطلاق في كثير من مناقشاتهم، ويرددون عليّ الطلاق أن تعمل كذا، أو أن تخرج إلى كذا، مع العلم أن كلاً منهم متزوج، فهل يقع الطلاق في مثل هذه الحالة أم لا؟

الجواب: الجواب عن هذا السؤال تضمن سؤالين؛ السؤال الأول: حال هؤلاء السفهاء الذين يطلقون ألسنتهم بالطلاق في كل هين وعظيم، وهؤلاء مخالفون لما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، فإذا أراد المؤمن أن يحلف فليحلف بالله عز وجل، ولا ينبغي أيضاً أن يكثر من الحلف ولا بالله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]، ومن جملة ما فسرت به أن المعنى لا تكثروا الحلف بالله، أما أن يحلفوا بالطلاق، مثل: عليّ الطلاق أن تفعل كذا أو عليّ الطلاق أن لا تفعل، أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن لم تفعل فامرأتي طالق، وما أشبه ذلك من الصيغ، فإن هذا خلاف ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال أكثر أهل العلم: إنه إذا حنث في ذلك فإن الطلاق يلزمه، وتطلق منه امرأته، وإن كان القول الراجح أن الطلاق إذا استعمل استعمال اليمين بأن كان القصد منه الحث على الشيء أو المنع منه أو التصديق أو التكذيب أو التوكيد، فإن حكمه حكم اليمين، لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1-2]، فجعل الله تعالى التحريم يميناً، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وهذا لم ينو الطلاق، وإنما نوى اليمين أو نوى معنى اليمين، فإذا حنث فإنه يجزئه كفارة يمين، هذا هو القول الراجح.

وأما المسألة الثانية: فهي الحلف على غيرهم، سواء كان ذلك الطلاق أو بالله عز وجل أو بصفة من صفاته، فإن الحلف على غيرك فيه إحراج له، وربما يكون فيه ضرر عليه، وهو بلا شك لا يخلو من إحراج، إما على المحلوف عليه وإما على الحالف، فالمحلوف عليه قد يفعل ما حلف عليه فيه مع تحمله المشقة، فيكون في ذلك إحراج عليه، وربما لا يفعل لما يجد من المشقة، ويكون في ذلك إلزام للحالف بالكفارة -أعني: إلزام له بكفارة اليمين- وكفارة اليمين هي كما قال الله تعالى في سورة المائدة: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ [المائدة:89]، فذكر الله تعالى في كفارة اليمين أربعة أشياء، ثلاثة منها على التخيير وهي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وواحد على الترتيب إذا لم يجد هذه الثلاثة، فإنه يصوم ثلاثة أيام متتابعة، وقد حذف المفعول في قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [المائدة:89]، ليكون ذلك شاملاً لمن لم يجد ما يطعمهم به أو يكسوهم، أو يحرر به رقبة، ومن لم يجد المساكين الذين يطعمهم أو يكسوهم أو لم يجد رقبة، وعلى هذا فإذا كنت في بلد ليس فيه فقراء فإنه يجوز لك أن تصوم عن كفارة اليمين ثلاثة أيام، لأنه يصدق عليك أنك لم تجد.