هذا الحبيب يا محب 31


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فقد انتهينا إلى مقطوعة [تدابير إلهية لظهور الإسلام] من هو المدبر؟ إنه الله؛ المدبر لظهور الإسلام وعلوه وسطوع شمسه ونصرته، فهيا نستمع إلى هذه التدابير ليزيد إيماننا وترتفع درجة يقيننا، ونصبح مؤمنين بحق إن شاء الله ربنا.

التدبير الأول: قدوم سويد بن الصامت إلى مكة

قال: [ما زال الحبيب صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته] كما سمعنا على القبائل في الأسواق، وفي المواسم، وفي الحج .. وهكذا، فهذا واجبه وقد أداه [ونصرته على كل ذي اسم وشرف] أي: على كل رجل ذي سمعة، وذي شهرة، وذي منصب في قريته وبلاده -اسمه مشهور وشرفه عالي ظاهر- وهذا من الحكمة، فلا يعرض نصرته على الصعاليك، فلا بد من أهل نصرة، كما رأينا ذلك في ثقيف، فثقيف الأمة الجبارة اختار منها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجال فقط، فلما خاب منهم عرف أن الكل لا ينفع ولا يضر.

قال: [وقدم مكة سويد بن الصامت الملقب بـالكامل ] أي: جاء زائراً أو معتمراً أو حاجاً أو تاجراً.. وسويد تصغير أسود، وكان يلقب بـالكامل [لقوته وجلده، وهو أوسي من أهل المدينة] أي: من بلاد الأوس، والأوس والخزرج كانوا يسكنون المدينة، وأصلهم يمنيون زحفوا من اليمن بعد خراب سد مأرب؛ بذنوب أهل البلاد [قدم حاجاً ومعتمراً، فتصدى له الرسول صلى الله عليه وسلم] أقبل عليه بوجهه، وهذا شأن الصادق في طلب الهدى ونشر الخير بين الناس [فدعاه إلى الإسلام وقرأ عليه القرآن] ويا ليتنا عرفنا الآيات التي قرأها عليه، لنطير بها فرحاً ولا نزال نقرأها أبداً؛ لأنها تعالج الأمراض النفسية [فقال: إن هذا لحسن] هذا الكامل لما سمع القرآن قال: إن هذا لحسن! يعني بذلك القرآن [ثم انصرف وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج في حرب بُعاث الدائرة بين قبيلتي الأوس والخزرج] من أربعين سنة، وهما قبيلتان أبوهما وأمهما واحدة، ولكن ثارت بينهما حرب بُعاث ودامت حتى أطفأ الله نارها بأبي القاسم صلى الله عليه وسلم [فكان قومه يقولون: قتل الكامل وهو مسلم] لأنه لما عاد من مكة كانت أنوار القرآن والإيمان في لسانه ووجهه، ومات وهو يذكر هذا، فقال قومه: مات فلان مسلماً، ولا يستبعد ذلك؛ لأنه استفاد من تلك النظرة المحمدية، والآيات النورانية التي سمعها، وقال: إن هذا لحسن! وهذه شهادة منه.

قال المؤلف: [وهذا تدبير] من دبر هذا؟ من أتى بـالكامل ؟ إنه الله.

التدبير الثاني: قدوم أبي الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل

[وآخر] أي تدبير آخر [هو قدوم أبي الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل] من المدينة أيضاً، هذا أبو الحيسر أنس بن رافع قدم مكة مع فتية شبان من بني عبد الأشهل [من بينهم إياس بن معاذ ، قدموا يلتمسون حلفاً من قريش على قومهم من الخزرج] أي: قدموا يطلبون النصرة من قريش، تمدهم بالرجال أو السلاح حتى ينتصروا على عدوهم في المدينة [فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم] لما بلغه أن فتية جاءوا من المدينة وغرضهم طلب النصرة على أعدائهم خف الحبيب صلى الله عليه وسلم وانطلق إليهم، وهنا تلاحظون قيامه -صلى الله عليه وسلم- الحق على دعوة الله! [وقال لهم: ( هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له؟ )] عرض عليهم دعوته في لطف، فقال: ( هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له؟ ) يعني: أنتم جئتم تطلبون الرجال والسلاح والنصرة، وهناك ما هو خير لكم من هذا [ودعاهم إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن] دعاهم إلى الإسلام وقال: أسلموا.

[فقال إياس -وكان غلاماً حدثاً- هذا والله خير مما جئنا له] كانت القلوب الطيبة تقبل بدون تردد [فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من البطحاء] وهذا شيطان! لأنه لم يعجبه كلام الشاب، فأخذ حفنة من البطحاء وضربها بوجهه. وهذه هي البشرية: إنسان مرفوع وآخر هابط [وقال: دعنا منك] أي: اتركنا [فلقد جئنا لغير هذا] هذا قاله للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم جاءوا -كما علمتم- يريدون السلاح والرجال [وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلبث أن هلك إياس ] مات [فسمعه قومه يهلل ويكبر حتى مات، فما يشكون أنه مات مسلماً ..] للكلمة التي قالها [وهذا تدبير] تدبير من؟ تدبير الله، يسوق أقداراً لأقدار.

التدبير الثالث: قدوم رهط من الخزرج إلى مكة (بيعة العقبة الأولى)

[وثالث] التدابير الإلهية [بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه طالباً النصرة على القبائل الوافدة إلى الحج والعمرة، وإذا برهط من الخزرج] والرهط هو مجموعة من ثلاثة إلى الثلاثين أو أربعين [عند العقبة] أية عقبة هذه؟ الحد بين منى ومكة [فدعاهم إلى الله تعالى وعرض عليهم الإسلام، وذكرهم هذا بما تقوله اليهود لهم بالمدينة، من أن نبياً يبعث الآن نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود] وقد جاء ذلك في سورة البقرة؛ إذ قال تعالى: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، كانوا يقولون للعرب في المدينة وغيرها: إن نبياً قد أظل زمانه، سوف نؤمن به ونقاتلكم معه ونقتلكم قتل عاد وثمود.

[فقال بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي توعدكم به اليهود، فأجابوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقوا به] هذا الرهط [وقالوا له: إن بين قومنا شراً وعسى الله أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعزّ منك، ثم انصرفوا عنه، وكانوا سبعة نفر.

فلما قدموا المدينة ذكروا لأهلها النبي صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم وانتشر خبره] خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام [حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً] جاءوا للحج [فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة فبايعوه بيعة النساء] والمراد من بيعة النساء هو ما جاء في قوله تعالى من سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12]، وفيها ست مواد تسمى بيعة النساء، وبايع عليها الرجال؛ إذ هي هي.

[وكانت هذه بيعة العقبة الأولى، وكان أهل هذه البيعة أسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ ابنا الحارث هما ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن عجلان ، وعبادة بن الصامت وغيرهم من الخزرج] هؤلاء من الخزرج [ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان ، وعويم بن ساعدة ، فانصرفوا بعد البيعة، وبعث معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام] ومصعب بن عمير كان شاباً أبواه ليس لهما إلا هو، فكان يمشي في الحرير وكان أعزّ شاب في مكة، فما إن أسلم ودخل في الإسلام حتى رئي يلبس جلد الغنم، وقد استشهد في أحد رضي الله عنه.

[فنزل مصعب بالمدينة على أسعد بن زرارة ] لأنه ليس هناك فنادق [وأنزله أسعد في دار بني ظفر، واجتمع عليه رجال ممن أسلموا، فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا بني الأشهل -وكانا مشركين- فقال سعد لـأسيد : انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما -يعني بالرجلين مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة- فإنه لولا أسعد بن زرارة وهو ابن خالتي لكفيتك ذلك، فأخذ أسيد حربته، ثم أقبل عليهما فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعافنا؟ اعتزلا عنا، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ فقال: أنصفت] أي أنصفت فيما قلت [ثم جلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجله، كيف تصنعون إذا دخلتم هذا الدين؟ قال: تغتسل وتطهر ثيابك، ثم تشهد شهادة الحق -لا إله إلا لله محمد رسول الله- ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك وأسلم. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنكما أحد من قومه، وسأرسله إليكم وهو سعد بن معاذ ] رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي اهتز عرش الرحمن لموته.

قال: [وانصرف أسيد إلى سعد وقومه، فلما نظر إليه سعد قال: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم] فراسة كاملة [ثم قال لـأسيد : ما فعلت؟ قال: كلمتُ الرجلين، ووالله ما رأيت بهما بأساً، وذهب سعد بن معاذ إلى أسعد ومصعب ، فدعاه] مصعب وأسعد [إلى الإسلام فأسلم على نحو ما أسلم أسيد ، ثم ذهب إلى دار بني عبد الأشهل فسألهم قائلاً: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا! قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة] تدبير من هذا؟ تدبير العليم الحكيم[ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، وما زال يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من بني أمية بن زيد ووائل وواقف فإنهم أطاعوا أبا قيس بن الأسلت ، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل بالمدينة، وحتى مضت بدر وأحد والخندق ثم دخلوا في الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم] تأخر إسلامهم.

التدبير الرابع: إتيان جماعة من أهل المدينة النبي ومبايعتهم له (بيعة العقبة الثانية)

قال: [ورابع: هو أنه لما فشا الإسلام] أي انتشر [في المدينة بين الأنصار، اجتمع جماعة من أهل المدينة وقرروا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في الحج ويجتمعوا معه سراً ويدرسوا معه -على كثب- موضوع هجرته إليهم، وانتهوا إلى مكة، واتصلوا بالحبيب صلى الله عليه وسلم سراً وواعدوه وسط ليالي التشريق] الثلاثة، الليلة الوسطى منها [فوافوه بالعقبة ليلاً، وكانوا سبعين رجلاً] هذه البيعة الثانية العظيمة [ومعهم امرأتان هما: نسيبة بنت كعب أم عمارة ، وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه، وهو يومئذ كافر لم يؤمن] إذ ما آمن إلا بعد وقعة بدر [وإنما حضر] العباس [ليستوثق لابن أخيه من كل ما يعده به الأنصار ويعطونه له من أنفسهم] يستوثق منهم: يعني يأخذ مواثيق وعهوداً، فلا يأخذون الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يهملونه ويعرضونه للأذى والبلاء، فلا بد وأن يعدوا وعد الصدق بأن يحفظوه كما يحفظون أنفسهم وأهليهم، والعباس ذكي مع أنه كافر ولكن وقف إلى جنب ابن أخيه، وعرف ما يئول إليه المستقبل [فكان أول من تكلم العباس ، فقال: يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث علمتم في عز ومنعة] وإن كان الواقع غير ذلك، ولكن هذه السياسة الرشيدة [وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، فمن الآن فدعوه؛ فإنه في عز ومنعة] هذه كلمة العباس ، فهل عرف السياسيون هذه؟ آه! بينهم وبينها كما بين السماء والأرض [فقال الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله! وخذ لنفسك ولربك ما أحببت] الباب مفتوح [فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام، ثم قال: ( تمنعونني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ) فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم. والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أُزرنا. فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحدقة ورثناها كابراً عن كابر، وهنا اعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان ، فقال: يا رسول الله! إنا بيننا وبين الرجال حبالاً] صلات يعني [وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله ونصرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ( بل الدم الدم، والهدم الهدم )] وهذه كلمة شائعة عند العرب، يعني دمي دمكم وهدمي هدمكم، فليس هناك فرق، يعني: لا يمكن أن أترككم [( أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربكم وأسالم من سالمكم )] صلى الله عليه وسلم [وهنا التفت إليهم العباس بن عبادة الأنصاري وقال: يا معشر الخزرج! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود] وهو كذلك [فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو -والله- خزي الدنيا والآخرة] أي: من الآن اتركوه ولا تأخذوه [وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه، فهو -والله- خير الدنيا والآخرة، فأجابوه قائلين: إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، والتفتوا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم وقالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله؟] يعني: ما الجزاء؟ ماذا سنعطى؟ [قال -فداه أبي وأمي والناس أجمعون-: (الجنة!!)] وزيادة (والناس أجمعون) هذه من فتوحات الله علينا، فما عرفناها ولا سمعناها من السلف، فإن كانت مقبولة مقبولة، وإن كانت مردودة نستغفر الله من ذلك، ولكن ليس فداه أبي وأمي فقط بل -والله- والعالم أجمع [فقالوا: ابسط يدك نبايعك، فبسط يده فبايعوه على خلاف البيعة الأولى؛ إذ بايعوه على حرب الأحمر والأسود] البيعة الأولى كانت تتعلق بالإيمان والعبادة، أما هذه فعلى الحرب والجهاد (على حرب الأحمر والأسود) والأحمر بمعنى الأبيض؛ لأن العرب ليسوا كالأوروبيين [وعين منهم صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيباً] والنقيب معروف [تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فالخزرجيون هم: أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو بن خنيس والبراء بن معرور ، والأوسيون- الثلاثة- هم: أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر ، وبهذا كانت بيعة العقبة الثانية، وصرخ الشيطان من أعلى العقبة] أصابه كرب وهم وحزن [قائلاً: يا أهل الجباجب! هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم] وأهل الجباجب هم: أهل المنازل، والصباة جمع صابٍ، أي: المائل عن دينه، ويقصد بمذمم محمد صلى الله عليه وسلم، حاكياً ما قالته المجرمة أم جميل العوراء [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذا أزب العقبة )] وأزب العقبة: شيطانها، والأزب هو القصير الماكر والبخيل الخبيث [( أتسمع أي عدو الله! أما والله لأتفرغن لك )، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا إلى رحالكم )، فقال العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق نبياً لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لم نؤمر بذلك )] أي: لم يأمرنا ربنا بقتلهم[وسمعت قريش بهذه البيعة المباركة، فلاحقت أهلها فلم تظفر إلا بـسعد بن عبادة فعذبته] والباقون نجوا [ثم نجاه الله تعالى فلحق بالمدينة، واشتد لذلك غضب قريش وعظم أذاها للمؤمنين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة إلى المدينة، فكان أول من قدم المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد ، ثم هاجر عامر بن ربيعة مع امرأته ليلى ، ثم عبد الله بن جحش وتتابع الأصحاب، فهاجر عمر بن الخطاب وعياش بن ربيعة وغيرهم]. وهذا كله تدبير الله عز وجل؛ حتى نجلس مثل هذه الجلسة ونحمد الله ونثني عليه، ونصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، وندعو الله فيرضى عنا، ولولا ذاك ما حصل هذا أبداً، ولا اجتمعنا.

قال: [ما زال الحبيب صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته] كما سمعنا على القبائل في الأسواق، وفي المواسم، وفي الحج .. وهكذا، فهذا واجبه وقد أداه [ونصرته على كل ذي اسم وشرف] أي: على كل رجل ذي سمعة، وذي شهرة، وذي منصب في قريته وبلاده -اسمه مشهور وشرفه عالي ظاهر- وهذا من الحكمة، فلا يعرض نصرته على الصعاليك، فلا بد من أهل نصرة، كما رأينا ذلك في ثقيف، فثقيف الأمة الجبارة اختار منها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجال فقط، فلما خاب منهم عرف أن الكل لا ينفع ولا يضر.

قال: [وقدم مكة سويد بن الصامت الملقب بـالكامل ] أي: جاء زائراً أو معتمراً أو حاجاً أو تاجراً.. وسويد تصغير أسود، وكان يلقب بـالكامل [لقوته وجلده، وهو أوسي من أهل المدينة] أي: من بلاد الأوس، والأوس والخزرج كانوا يسكنون المدينة، وأصلهم يمنيون زحفوا من اليمن بعد خراب سد مأرب؛ بذنوب أهل البلاد [قدم حاجاً ومعتمراً، فتصدى له الرسول صلى الله عليه وسلم] أقبل عليه بوجهه، وهذا شأن الصادق في طلب الهدى ونشر الخير بين الناس [فدعاه إلى الإسلام وقرأ عليه القرآن] ويا ليتنا عرفنا الآيات التي قرأها عليه، لنطير بها فرحاً ولا نزال نقرأها أبداً؛ لأنها تعالج الأمراض النفسية [فقال: إن هذا لحسن] هذا الكامل لما سمع القرآن قال: إن هذا لحسن! يعني بذلك القرآن [ثم انصرف وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج في حرب بُعاث الدائرة بين قبيلتي الأوس والخزرج] من أربعين سنة، وهما قبيلتان أبوهما وأمهما واحدة، ولكن ثارت بينهما حرب بُعاث ودامت حتى أطفأ الله نارها بأبي القاسم صلى الله عليه وسلم [فكان قومه يقولون: قتل الكامل وهو مسلم] لأنه لما عاد من مكة كانت أنوار القرآن والإيمان في لسانه ووجهه، ومات وهو يذكر هذا، فقال قومه: مات فلان مسلماً، ولا يستبعد ذلك؛ لأنه استفاد من تلك النظرة المحمدية، والآيات النورانية التي سمعها، وقال: إن هذا لحسن! وهذه شهادة منه.

قال المؤلف: [وهذا تدبير] من دبر هذا؟ من أتى بـالكامل ؟ إنه الله.

[وآخر] أي تدبير آخر [هو قدوم أبي الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل] من المدينة أيضاً، هذا أبو الحيسر أنس بن رافع قدم مكة مع فتية شبان من بني عبد الأشهل [من بينهم إياس بن معاذ ، قدموا يلتمسون حلفاً من قريش على قومهم من الخزرج] أي: قدموا يطلبون النصرة من قريش، تمدهم بالرجال أو السلاح حتى ينتصروا على عدوهم في المدينة [فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم] لما بلغه أن فتية جاءوا من المدينة وغرضهم طلب النصرة على أعدائهم خف الحبيب صلى الله عليه وسلم وانطلق إليهم، وهنا تلاحظون قيامه -صلى الله عليه وسلم- الحق على دعوة الله! [وقال لهم: ( هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له؟ )] عرض عليهم دعوته في لطف، فقال: ( هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له؟ ) يعني: أنتم جئتم تطلبون الرجال والسلاح والنصرة، وهناك ما هو خير لكم من هذا [ودعاهم إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن] دعاهم إلى الإسلام وقال: أسلموا.

[فقال إياس -وكان غلاماً حدثاً- هذا والله خير مما جئنا له] كانت القلوب الطيبة تقبل بدون تردد [فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من البطحاء] وهذا شيطان! لأنه لم يعجبه كلام الشاب، فأخذ حفنة من البطحاء وضربها بوجهه. وهذه هي البشرية: إنسان مرفوع وآخر هابط [وقال: دعنا منك] أي: اتركنا [فلقد جئنا لغير هذا] هذا قاله للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم جاءوا -كما علمتم- يريدون السلاح والرجال [وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلبث أن هلك إياس ] مات [فسمعه قومه يهلل ويكبر حتى مات، فما يشكون أنه مات مسلماً ..] للكلمة التي قالها [وهذا تدبير] تدبير من؟ تدبير الله، يسوق أقداراً لأقدار.