شرح ألفية ابن مالك[57]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ما للمنادي اجعل لمندوب وما نكر لم يندب ولا ما أبهما

ويندب الموصول بالذي اشتهر كبئر زمزم يلي وامن حفر]

الندبة في اللغة: الدعاء.

وفي الاصطلاح: النداء للتفجع على الشيء أو للتوجع منه.

وقد مر معنا في الفقه أن الندبة هي تعداد محاسن الميت، لكنها في النحو ليست هذا؛ لأنك لو قلت في الفقه: هذا فلان الذي يفعل كذا ويفعل كذا، سمي ندبة، لكن نقول: في اصطلاح النحو لا يسمى ندبة، فالندبة في الاصطلاح: المنادى المتفجع عليه أو المتوجع منه.

والحرف المختص بالندبة في باب النداء هو (وا)، كما قال ابن مالك فيما سبق: (ووا لمن ندب).

قوله: (ما للمنادى اجعل لمندوب)، أي: أن حكم المندوب حكم المنادى تماماً، فيبنى على الضم حيث يبنى ذاك على الضم، وينصب حيث ينصب ذاك، إلا أنه استثنى المؤلف فقال: (وما نُكر لم يندب ولا ما أبهما)، فلا تقل مثلاً: وارجلُ؛ لأن (رجل) نكرة، والنكرة غير معلوم حتى يتفجع عليه أو يتوجع منه، أما نداؤه فيجوز.

وكذلك لا يندب المبهم، مثل: أي، والذي، ومن، وما أشبه ذلك، فكل مبهم لا يندب، واستثنى المؤلف من المبهم فقال: (ويندب الموصول بالذي اشتهر) أي: بالذي اشتهر بصلته، فيستثنى من المبهم: الموصول الذي اشتهر بصلته، لأنه إذا كان مشتهراً بصلته فإنه يزول إبهامه، مثال ذلك: إذا قلت: أكرم من حفظ الألفية، وكلكم تحفظونها، فهذا مبهم، ولكن إذا قلت: أكرم من حفظ الألفية، ولم يحفظها إلا واحد فقط، فهنا تعين وإن كانت الصيغة صيغة إبهام، لكنه معلوم أنه لا يحفظها إلا واحد.

وتقول: جزى الله من أضاء لنا الطريق خيراً، ونحن نعرف أن الذي أضاء الطريق هو فلان فقط، فيصير معيناً.

فإذا كان الموصول مشهوراً بصلته جاز أن يندب؛ لأنه معين يزول فيه الإبهام، ولهذا قال:

(ويندب الموصول بالذي اشتهر كبئر زمزمٍ يلي وامن حفر)

(بئر زمزم) مقدم لكن نضعه مؤخراً، ولهذا قال: (يلي وامن حفر) فتقول: وامن حفر بئر زمزماه، فهذا موصول، والذي حفر بئر زمزم غير معين لمن لا يعلمه، لكننا نعلم أن الذي حفر بئر زمزم هو عبد المطلب ، فيكون قولنا: وامن حفر بئر زمزم، كقولنا: واعبد المطلب، والسبب: أنه معلوم مشتهر.

ومثله ما إذا قلنا: وامن عبر نهر دجلة لقتال الفرس، فهذا مشهور، وهو سعد بن أبي وقاص ، فيصح أن أندبه؛ لأنه مشهور.

ونحن الآن نتكلم عن صيغة الندب فقط، أما عن التحليل والتحريم فمعلوم أنه لا يجوز أن نندب الأموات.

إذاً: كل مبهم يصح نداؤه ولا يصح ندبته، وكل منكَّر يصح نداؤه ولا تصح ندبته.

لحوق الألف آخر المندوب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ومنتهى المندوب صله بالألـف متلوها إن كان مثلها حذف]

سبق أن المندوب خالف المنادى في أنه لا يندب المنكر، ولا المبهم، إلا ما استثني من المبهم، كذلك يخالف المنادى في قوله: (ومنتهى المندوب صله بالألف)، أي: أن المندوب منتهاه يوصل بالألف، فإذا قلت: يا زيدُ، فهذا منادى، بدون ألف، وتقول في الندبة: وازيدا، بألف في آخره.

وقول المؤلف: (صله بالألف). هذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، لكن له قرينة صارفة، فالأمر ليس للوجوب.

فقوله: (صله) ليس واجباً إلا إذا التبس بالمنادى بحيث تكون أداة الندبة (يا) وإذا لم يصله بالألف التبس، فحينئذ تتعين الألف، وإلا فلا تجب، ولماذا لا تجب؟ لأن الندبة معلومة بالحرف المختص بها وهو (وا)، لكن إذا جاءت (يا) وصار لو لم نصله بالألف التبس بالمنادى؛ وجب علينا حينئذ أن نوصله، تقول: وازيدا، وإذا وقفت فزد هاء السكت، كما سيأتي، فتقول: وازيداه، وهذا متفجع عليه، وتقول: وارأساه، واظهراه، وهذا متوجع منه، وما أشبه ذلك.

ومن المتفجع عليه قول فاطمة رضي الله عنها حين توفي الرسول عليه الصلاة والسلام: (وا أبتاه).

إذاً: استفدنا من كلام المؤلف أن المندوب يخالف المنادى أيضاً في أمر ثالث وهو وصل آخره بالألف.

قوله: (متلوها إن كان مثلها حذف)، (متلوها) أي: التي كانت تالية له، فهي تالية والسابق متلو، أي: أن ألف الندبة إذا سبقها ألف وكان مثلها فإنه يحذف؛ وذلك لأنه التقى ساكنان: الألف التي في أصل الكلمة، وألف الندبة، وإذا التقى ساكنان وهما حرفا لين حذف أحدهما، قال ابن مالك :

إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحق

ولو قال قائل: لماذا لا نحذف ألف الندبة ونترك الألف التي في الأصل لأنها أصلية؟ فنقول: لا، بل نحذف الأولى؛ لأن هذا هو الأصل.

ولأن ألف الندبة جيء بها لمعنى، فلو حذفناها فات هذا المعنى.

مثال ذلك: واحد عنده موسى للحلاقة، فانكسر عليه، فقال: واموساه، فالألف هذه هي ألف الندبة، وألف موسى حُذفت؛ لأن ابن مالك يقول: (متلوها إن كان مثلها حذف).

إذاً: متلوها هو الذي يأتي قبلها، فهي تالية له (اسم فاعل)، والذي قبلها متلو (اسم مفعول)، فإن كان مثلها حذف.

حذف التنوين من المنادى المندوب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[كذاك تنوين الذي به كمل من صلة أو غيرها نلت الأمل]

هذا هو الموضع الخامس الذي تخالف فيه الندبة المنادى، وهو أنه يحذف التنوين -مع أن المندوب لا يكون مبنياً على الضم- فيحذف التنوين من الصلة أو غيرها.

مثلاً: وامن حفر بئر زمزماه، فتحذف التنوين من (زمزماه).

وكذلك أيضاً من غير الصلة كالإضافة، كما لو أضفت، فتقول: وا غلام زيداه.

قلب ألف المندوب إلى حرف مجانس للحركة قبله إذا كان الفتح يوهم لبساً

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ والشكل حتماً أوله مجانساً إن يكن الفتح بوهم لابسا ]

هذه من مسائل النحويين التي تشبه مسائل الفرضيين البعيدة التي لم تحدث، كقولهم: إذا مات الإنسان عن عشرين جدة، فهذا أمر بعيد، والذي قاله ابن مالك الآن من الأشياء البعيدة.

عرفنا أن آخر المندوب يلحق به الألف، ومن ضرورة إلحاق الألف أن يكون الذي قبلها مفتوحاً، وإذا كان الشكل الذي قبل الألف إذا فتحناه أوجب لبساً فإننا نبقيه على ما هو عليه ونحول الألف إلى حرفٍ يجانس تلك الحركة، وهذا صعب التصور قليل الوضوح.

يقول: (والشكل حتماً أوله مجانساً).

الشكل: مفعول لفعل محذوف يفسره ما بعده، وهذا من باب الاشتغال.

وأوله: فعل أمر.

والضمير مفعول به.

حتماً: متعلق بأول، أي: الشكل أوله حتماً، والمفعول الثاني لأوله هو: مجانساً، أي: أول الشكل مجانساً حتماً، ومتى يكون ذلك؟

قال: (إن يكن الفتح بوهم لابساً) أي: إذا كان الإبقاء على الفتحة يوهم اللبس فيجب أن تجعل الألف التي في الندبة حرفاً مجانساً للحركة التي قبلها، فإذا أردت أن تندب غلام غائبٍ تقول: واغلامهو هذا هو المندوب، وآخره هاء مضمومة، وعندما نصل بها ألف الندبة يجب أن تُفتح فنقول: واغلامها لكن إذا قلنا: واغلامها، التبس علينا الأمر، فلم ندر هل ندب غلام امرأة أم ندب غلام رجل، إذاً: ماذا نصنع؟

نقول: آخر المندوب مضموم وهو الهاء، والذي يجانس الضمة هو الواو، فاجعل ألف الندبة واواً وقل: واغلامهوه؛ لأنك إذا قلت: واغلامهاه؛ التبس علينا الأمر: هل أنت تندب غلام امرأة أو تندب غلام رجل، ولذلك قل: واغلامهوه، واجعل الألف واواً، وهذا معنى قوله: (أوله مجانساً).

لكن متى نوليه؟

قال: (إن يكن الفتح بوهم لابساً).

كذلك أيضاً إذا كان مكسوراً وأوهم الفتح فإننا نقلب الألف ياء، مثاله: تقول: واغلامك، تخاطب امرأة تندب غلاماً لها تفجعاً عليه، فنلحق آخر المندوب ألفاً، وعندما نلحق واغلامك ألفاً فإنه يُفتَح ما قبله، فتقول: واغلامكاه، وعندما نقول: واغلامكاه لا ندري هل نحن نندب غلام رجل أم غلام امرأة، إذاً: نبقي الكسرة التي تدل على خطاب المرأة على حالها، ونأتي بحرف يجانس الكسرة فتكون ياءً، فنقول: واغلامكيه.

إذاً: منتهى المندوب صله بالألف، إلا إذا كان وصله بالألف يوجب اللبس؛ فإنه يجب أن تقلب الألف إلى حرف مجانس للحركة؛ فإن كانت الحركة كسرة تجعل الألف ياءً، وإن كانت الحركة ضمة تقلب الألف واواً.

زيادة هاء السكت في آخر المندوب عند الوقف عليه

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[وواقفاً زد هاء سكت إن ترد وإن تشأ فالمد والها لا تزد]

قوله (واقفاً): حال من فاعل زد.

زد: فعل أمر.

هاء: مفعول به.

أي: زد هاء سكت حال كونك واقفاً، أي: إذا وقفت على المندوب فإنه يختم بالألف كما سبق؛ فإن شئت أن تزيد هاء سكت فافعل، (وإن تشأ فالمد) أي: تزيد المد، (والها لا تزد):

مثال ذلك: تقول: واغلاماه؛ فتزيد الهاء جوازاً، ويجوز أن تقول: واغلاما.

وقوله: وإن (تشأ فالمد) ظاهره أن المد ليس بلازم وأنك لو قلت: واغلام فهو جائز، وهذا هو ما مشى عليه بعض المحشيين، فيقولون: إن قوله: (منتهى المندوب صله بالألف) الأمر هنا للاستحباب وليس للوجوب، قالوا: وإنما حملناه على الاستحباب جمعاً بينه وبين النقيض الآخر وهو قوله: (وإن تشأ فالمد) أي: تزيد المد، ولكني أنا ربما أعارضها وأن قول ابن مالك : (وإن تشأ فالمد والها لا تزد)، أي: وإن تشأ فاقتصر على المد دون الهاء، وتكون الجملة جملة واحدة.

وهذا الذي ذكرناه قد يعارض بأنه قال: (واوقفاً زد هاء سكتٍ إن ترد)، فلو قلنا: (وإن تشأ فالمد والها لا تزد) صار مكرراً مع الشطر الأول، لأنه لا يخرج عما دل عليه إذا حملناه على ما قلت أنا، وعليه فيكون حمل قوله: (ومنتهى المندوب صله بالألف) على الاستحباب وجيهاً.

إذاً: لنا ثلاث صور في المندوب: واغلامَ، بالفتح فقط، واغلاماهْ، بالألف وهاء السكت، واغلاما، بالألف فقط.

نداء المضاف إلى ياء المتكلم بالندبة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[وقائل واعبديا واعبدا من في الندا اليا ذا سكون أبدى]

تقدم لنا أن المضاف إلى ياء المتكلم إذا كان صحيح الآخر، ففيه خمس لغات، وإذا ناديته بالندبة ففيه لغتان -على لغة من يقول (عبديْ) بالسكون: تقول: واعبدا، واعبديا.

إذاً: عبديْ، بالياء الساكنة، يجوز في الندبة أن آتي بألف الندبة وأحذف الياء لأنها ساكنة، فأقول: واعبدا، ويجوز أن آتي بألف الندبة وأبقي الياء، وإذا أبقيتها فلابد أن أحركها بما يناسب الألف وهو الفتحة، فأقول: واعبديا.

أما على اللغات الأخرى: فعلى لغة من يفتح الياء (عبديَ) نقول: واعبديا، فنأتي بألف الندبة ونترك الياء مفتوحة على ما هي عليه، وعلى لغة حذف الياء (عبدِ) نأتي بالألف فقط: واعبدا.

فالذي يجوز فيه وجهان هو (عبديْ) بالياء الساكنة، ووجه ذلك ما ذكرنا: أننا إذا قلنا: واعبديا، فمعناها أننا أبقينا الياء وأتينا بألف الندبة، وحركنا الياء بالفتح لمناسبة الألف، وإذا قلنا: واعبدا فإننا أبقينا الياء الساكنة، فجاءت الألف فالتقى ساكنان أولهما حرف لين فحذف.

فإذا قال قائل: لماذا تحذف الياء وهي دالة على ياء المتكلم ودالة على الإضافة؟ نقول: ألف الندبة دالة على الندبة، فلو حذفناها لما وجدت ندبة، ولهذا نحذف الياء لالتقاء الساكنين.