شرح ألفية ابن مالك [41]


الحلقة مفرغة

معاني اللام غير الانتهاء

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ واللام للملك وشبهه وفي تعدية أيضاً وتعليل قفي

وزيد والظرفية استبن ببا وفي وقد يبينان السببا]

قوله: (واللام للملك وشبهه) أي: أن اللام تفيد التمليك وشبه التمليك، فالتمليك أن يكون مدخولها مالكاً لما سبق، أو إن شئت فقل: أن تقع بين شيئين الثاني منهما مالك للأول.

مثاله: الكتاب للطالب، أي: ملك للطالب، فالثاني مالك للأول، أي: أن مدخولها مالك لما قبله، وقد يتأخر عنه مثل: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ [آل عمران:189]، فهنا تأخر الأول عنها وعن الثاني؛ لكن الحكم لا يتغير، فاللام هنا للملك.

قوله: (وشبهه) وهو ما يسمى بالاختصاص، وهو: أن يكون مدخولها مختصاً بالأول لا مالكاً، مثاله: العلف للدابة، أو الزمام للجمل، فليس هو ملكه، لكنه اختصاص، وقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ[التوبة:60] اللام هنا للملك.

قال: (وفي تعدية أيضاً) يعني: أن اللام تأتي للتعدية.

ومعنى التعدية: أن تدخل على مفعول عامله ضعيف ليتعدى إلى المفعول، مثل اسم الفاعل إذا تأخر فضعف عمله، تقول مثلاً: أنا ضاربٌ لزيد، أصلها: أنا ضاربٌ زيداً، وكذلك: أنا لزيد ضارب، فاللام هنا لا تصلح للملك ولا لشبه الملك، لكنها للتعدية.

قال: (وتعليل قفي) أي: وتأتي اللام للتعليل كثيراً: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]، وكأني بكم تقولون: إن (يعبدون) فعل وليست اسماً، لكنني أقول: إنه فعل مؤول بمصدر، والتقدير: إلا لعبادتي، فاللام للتعليل.

وكذلك أيضاً قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، أي: لأجلكم.

وتقول: (جئت لأقرأ) أي لأجل القراءة.

وكذلك كل أفعال الله تعالى التي تتعدى باللام هي للتعليل : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا[الإسراء:1]، فاللام للتعليل.

قال المؤلف:

[وزيد والظرفية استبن ببا

وفي وقد يبينان السببا]

(وزيد): أي: أن اللام تأتي زائدة، أي أنها تأتي لا لمعنى كقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ[يوسف:43].

وهذا المثال فيه نظر، ووجه النظر: أن اللام في قوله: (للرؤيا تعبرون) يظهر أنها للتعدية؛ لأنها دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخره.

ومثلوا في الزائدة بما يقال كثيراً: لا أبا لك، ومنه:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

قالوا: إن اللام هنا زائدة، والدليل على زيادتها: أن (أبا) أعربت بالألف، ومن شرط إعرابها بالألف أن تضاف، ولو قلنا: إن اللام غير زائدة لكان يقول: لا أباً لك، أو: لا أب لك، بدون ألف، فلما أعربت بالألف دل هذا على أن اللام زائدة، وأصلها: لا أباك، وهذا أحد الوجوه في قوله: لا أبا لك.

وفي وجه آخر: أنها على لغة من يلزم الأسماء الخمسة الألف مطلقاً، وعلى هذا فلا يكون فيها شاهد.

مجيء الباء وفي للظرفية والسببية

قوله: (والظرفية استبن ببا وفي).

الظرفية: مفعول مقدم لقوله: (واستبن) يعني: استظهر، أي: أنه تأتي الباء وفي للظرفية، أما الباء فمثالها قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137] يعني: وفي الليل، وهي كثيرة في الكلام العربي، تقول مثلاً: سكنت بعنيزة.. سكنت ببريدة.. سكنت بالبدائع.. سكنت بمكة.. سكنت بالرياض.. وهكذا.

أما (في) فمثالها: دخلت في المسجد، سكنت في البلد الفلاني، وهي في القرآن أيضاً كثيرة: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات:20-22]، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهاهمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ [آل عمران:107]، وهكذا تكون للظرفية كثيرة جداً.

قوله: (قد يبينان السببا) يعني: أن الباء وفي قد تأتيان للسببية بأن يدخلا على السبب.

مجيء الباء للاستعانة والإلصاق

قال المؤلف:

[بالبا استعن وعد عوض ألصق ومثل مع ومن وعن بها انطق]

أي: أن الباء تأتي للاستعانة.

والاستعانة طلب العون، فمعنى الاستعانة: أن الباء تدخل على ما تطلب الإعانة منه مثل: أستعين بالله.

فالباء للاستعانة، أي: أنه سبحانه وتعالى يطلب العون منه.

قوله: (وعدِّ) يعني: أنه يعدى بها الفعل اللازم، مثال ذلك قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، أصل (ذهب) فعل لازم، يقال: ذهب الرجل، فإذا أردنا أن تتعدى إلى مفعول فإما أن ندخل عليها الهمزة أو نأتي بالباء، ولذا قال تعالى: ذََهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، ويصح في غير القرآن أن يقال: أذهب الله نورهم.

قوله: (عوض) معناها: أن الباء تأتي للتعويض؛ بأن يكون مدخولها عوضاً عن غيره، وهذا كثير جداً، فالباء التي تدخل في البيع والشراء تكون للتعويض، تقول: اشتريت كتاباً بدرهم، الباء للتعويض، وهل مدخولها هو العوض، أو ما سبقها هو العوض؟

الحقيقة أن كل واحد منهما عوض عن الثاني، لكنها دائماً تدخل على الثمن، ولهذا قال الفقهاء: يتميز الثمن عن المثمن بالباء، فما دخلت عليه الباء فهو الثمن، فإذا قلت: بعت الثوب بدرهم، فالثمن هو الدرهم.

وإذا قلت: بعت الدرهم بثوب. فالثمن الثوب.

وقول المؤلف: (ألصق).

الإلصاق هو مباشرة الشيء بشيء، وقد يراد بالإلصاق مجاورة الشيء للشيء.

مثال الإلصاق المباشر: مسحت رأسي بيدي، أمسكت ثوبي بيدي، امسحوا برءوسكم.

ومثال غير المباشر: مررت بزيد.

وقد زعم بعض النحويين أن جميع معانيها تعود إلى الإلصاق، ولكن لو سلكنا هذا المسلك لوجدنا أنها لا تكون للإلصاق في بعض المواضع إلا بتكلف شديد، ولا حاجة إلى هذا التكلف، فالأولى أن نقول كما قال ابن مالك : إن الإلصاق من بعض معانيها.

مجيء الباء بمعنى مع ومن وعن

قوله: (ومثل مع ومن وعن بها انطق).

يعني: أن الباء تأتي بمعنى: مع، وتأتي بمعنى: من، وتأتي بمعنى: عن.

تأتي بمعنى (مع) كما لو قلت: بعتك الفرس بلجامه، أي: مع لجامه.

وتقول: بعتك السيارة بمفاتيحها. أي: مع المفاتيح.

وتأتي أيضاً بمعنى (من)، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6]، أي: يشرب منها؛ لأن العين يشرب منها لا بها، وقد سبق لنا أن الصحيح في هذه الآية أن الباء للسببية لا بمعنى (من)، وأن (يشرب) مضمنة معنى (يروى).

وذكرنا: أن الأصح أن يضمن الفعل لا أن يجعل الحرف بمعنى حرف آخر، وأن تضمين الفعل يستلزم معنى أصل الفعل وزيادة، فقولك: (يشرب بها عباد الله) قلنا: إن (يشرب) مضمن معنى: (يروى)، فتضمن الشرب والري.

كذلك تأتي الباء بمعنى (عن)، كما لو قلت مثلاً: سألتك بعلمك، أي: عن علمك.

وتقول: رضيت بالله رباً، أي: رضيت عن الله رباً.

وقال تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]، أي: عن عذاب.

وقال بعض أهل العلم: إن الباء هنا على بابه، وإن المعنى: سأل سائل وأجيب بعذاب واقع للكافرين، وإن السؤال هنا ضمن معنى الجواب، فيكون هذا أبلغ؛ لأنه لو قرأنا: (سأل سائل عن عذاب واقع لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج:2-3] فأين الجواب؟

والواقع أن الآيات تجيب عن هذا السؤال، ولهذا قال بعض العلماء: إن الباء هنا على أصلها، وإن السؤال هنا ضمن معنى الجواب، كأنه قال: سأل سائل فأجيب بعذاب واقع للكافرين.. إلى آخره.

وبهذا تبين أن للباء تسع معان: الظرفية، والسببية، والاستعانة، والتعدية، والتعويض، والإلصاق، ومثل مع، ومن، وعن.

ويذكر بعضهم من معانيها المصاحبة، وهي لا تخرج عن الإلصاق، ولكنها إما أن تكون حسياً أو معنوياً.

وقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) الباء هنا للإلصاق، وقيل: إن الباء للاستعانة، أي: سبحتك بحمدك، فعلى المعنى الأول تكون جملة جامعة بين التنزيه والثناء، أي: تسبيح ثم حمد.

وعلى قول الذي يقولون: إن الباء للاستعانة، تكون الجملة مشتملة على التسبيح لكنه بمعونتك التي تحمد عليها، وعلى هذا فكونها للمصاحبة أولى، لكن بعضهم لم يعدها، قال: لأن المصاحبة داخلة في الإلصاق.

إعراب: ذهب الله بنورهم:

ذهب: فعل ماض مبني على الفتحة.

لفظ الجلالة فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.

بنورهم: جار ومجرور ومضاف إليه.

مجيء على للاستعلاء ومعنى في وعن

قال المؤلف: [على للاستعلاء ومعنى في وعن بعن تجاوزاً عنى من قد فطن]

على: مبتدأ. لأن المقصود ولفظها، بخلاف ما إذا قلت: الماء على السطح، فلا تقول: على: مبتدأ.

للاستعلاء: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ.

وبعضهم يقول: إن الجار والمجرور نفسه هو الخبر.

قوله: (على للاستعلاء) الاستعلاء هو: علو شيء على شيء، ولهذا كانت حروف (على) نفسها هي حروف العلو، ففيها العين واللام والألف.

مثال ذلك قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .. فعلى هنا للعلو.

وتقول مثلاً: الماء على السطح، وتقول: السماء على الأرض.

والعلو لا تلزم منه المباشرة، بل قد تكون معه مباشرة، وقد لا تكون معه مباشرة.

ثم العلو قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، تقول مثلاً: من على هؤلاء الجماعة؟ يعني: من هو الوالي عليهم، فهذا العلو معنوي.

وتقول: ركبت على البهيمة أو على السيارة، وهذا علو حسي.

قال: (ومعنى في وعن)

قوله: (ومعنى) معطوفة على قوله: (للاستعلاء) يعني: و(على) تأتي لمعنى (في)، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا [القصص:15]، أي: في حين غفلة من أهلها.

قوله: (وعن) يعني: أن (على) تأتي لمعنى (عن)، ومنه قول الشاعر:

إذا رضيت علي بنو قشير

المعنى: إذا رضيت عني بنو قشير.

معاني عن

ثم قال: (بعن تجاوزاً عنى من قد فطن).

إعراب الشطر:

بعن: جار ومجرور متعلق بعنى.

تجاوزاً: مفعول مقدم بعنى.

عنى: فعل ماض.

من: اسم موصول فاعل.

قد فطن: جملة فعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، وترتيب البيت: عنى من قد فطن تجاوزاً بعن..

ومعنى (عنى) قصد وأراد، يعني: أن (عن) من معانيها المجاوزة، والمجاوزة معناها: مرور شيء بشيء وانفصاله عنه، مثاله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ [الكهف:82]، ويقولون: رميت السهم عن القوس، يعني: مجاوزاً القوس.

قال المؤلف:

[وقد تجي موضع بعد وعلـى كما على موضع عن قد جعلا]

قوله: (قد تجي موضع بعد) يعني: قد تأتي (عن) بمعنى (بعد)، فتكون للترتيب، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19]، أي: طبقاً بعد طبق.

ويمكن أن نقول: إن هذا المعنى يرجع إلى المجاوزة؛ لأن معناه: تنتقلون من حال إلى حال، وتجاوزون الحال الأولى إلى الحال الثانية، ولهذا فالأصل في (عن) أن تأتي للمجاوزة؛ لكن في بعض الأحيان تكون واضحة، وفي بعض الأحيان تحتاج إلى تأمل.

قوله: (وعلى) يعني: تأتي عن بمعنى (على)، ومثلوا له بقول الشاعر:

لاه ابن عمك ما أفضلت في حسب عني

أي: ما أفضلت عليَّ.

أفضل: فعل ماض، والتاء ضمير مخاطب فاعل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

(وقد تجي موضع بعد وعلـى كما على موضع عن قد جعلا)

يعني: كما أن (على) تأتي بمعنى (عن)، فإذا قال قائل: أليس هذا تكراراً؛ لأنه قد تقدم قوله:

(على للاستعلاء ومعنى في وعن)؟

والجواب: هو في الحقيقة من حيث المعنى تكرار، لكنه تكرار لفائدة، وفائدته: أن هذين الحرفين وهما (عن وعلى) يتناوبان المعنى، فكأن ابن مالك في الشطر الأخير يقول: إن هذا من باب تناوب الحروف.

معاني الكاف

ثم قال المؤلف:

[شبه بكاف وبها التعليل قـد يعنى وزائداً لتوكيد ود]

شبه بكاف: يعني: ائت بها للتشبيه، وعلى هذا فيكون المعنى أن الكاف للتشبيه، مثاله: زيد كالبدر في الجمال وكالبحر في العلم.

وأمثلتها كثيرة في القرآن وفي غير القرآن: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40] .. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] .. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17].

قوله: (وبها التعليل قد يعنى).

بها: جار ومجرور متعلق بيعنى.

التعليل: مبتدأ، وجملة (قد يعنى) خبره، ومعنى يعنى: يقصد، أي: وقد يقصد بها التعليل، و(قد) هنا تفيد التقليل، وهو كذلك بالنسبة للتشبيه، أعني أن معنى التعليل في الكاف قليل بالنسبة لمعنى التشبيه، مثاله قوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198]، ليس المراد تشبيه الذكر بالهداية، بل المراد تعليل الأمر بالذكر بالهداية، أي: اذكروه لهدايته إياكم.

ومنه على القول الصحيح: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، يعني: أنت صاحب الكرم أولاً وآخراً، ومن أجل أنك صليت على هذا فصل على هذا، وبهذا المعنى يزول الإشكال الذي أورده كثير من أهل العلم على هذا الحديث، وقال: المعروف أن المشبه به أقوى من المشبه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، فكيف يشبه الأفضل بالمفضول؟

ولكن إذا قلنا: إن الكاف هنا للتعليل، وإن ذكرها من باب التوسل بنعم الله السابقة على نعمه اللاحقة، فإنه يزول الإشكال نهائياً.

قوله: (وزائداً لتوكيد ورد) يعني: وورد زائداً للتوكيد.

ولما كان يخشى أن يقال: إن الزائد لا فائدة له، قال: (لتوكيد).

فإذا قيل: لماذا لم يقلها فيما سبق؛ لأنه قال: فيما سبق: وزيد؟

قلنا: لأنه يشير إلى آية من القرآن اشتهرت بين الناس، وهي قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فلهذا نص على أنه للتوكيد؛ لأن الآية تدل على امتناع مشابهة المخلوقين للخالق.

فمن أجل هذا اختلفت أقوال الناس فيها كيف يخرجونها:

فقال بعضهم: بأن الكاف زائدة، وهذا الذي مشى عليه ابن مالك ، وهو مشهور، وعلى هذا فيكون تقدير الكلام: ليس مثله شيئاً، يعني: ليس شيء يماثل الله، وهذا معنى واضح وبسيط، وتكون الكاف للتوكيد فكأن المثل نفي مرتين؛ لأن الكاف للتشبيه ومثل للتمثيل، أو كأنه نفي المماثل والمشابه معاً.

وهناك فرق بين التشبيه والتمثيل:

فالتمثيل: المطابقة من كل وجه.

والتشبيه: المقاربة، يعني: المماثلة بأكثر الصفات، ولهذا يقال: فلان شبيه بفلان، أي: مقارب له في أكثر الصفات، لكن: فلان مثل فلان، أي: مطابق له. هذا وجه.

الوجه الثاني: إن الزائد كلمة (مثل) يعني: ليس كهو شيء، وهذا كما قلت لكم قبل قليل عند قوله: بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، خلاف الأولى؛ لأن زيادة الحروف أهون من زيادة الأسماء.

والقول الثالث: أن مثل بمعنى صفة، أي: ليس كصفته شيء من الصفات.

والقول الرابع: أن مثل بمعنى ذات، أي: ليس كذاته شيء.

وهذان القولان الأخيران إنما لجأ إليهما القائل فراراً من إثبات الزيادة، وإلا فهما بعيدان من ظاهر اللفظ، لكن قال: بدل ما أقول: الكاف زائدة ومثل زائدة أقول: ليس كذاته شيء، أو ليس كصفته شيء.

ولكننا نقول: ما دامت اللغة العربية فيها مثل هذا الأسلوب وتزاد فيها الكاف تأكيداً، فلا مانع، والله تعالى نزَّل القرآن بلسان عربي مبين، والعرب إذا قالوا: ليس كمثل فلان، فمعناه: أنه لا يمكن أن يكون أحد يماثله أو يقاربه، وأنشدوا على ذلك:

"ليس كمثل الفتى زهير".

والخلاصة: أن الكاف تأتي زائدة لكن للتوكيد، وأن ابن مالك رحمه الله إنما قال (لتوكيد) في هذه المسألة ولم يقلها فيما سبق؛ لأنها اشتهر فيها هذا المثال الذي يتعلق بصفات الله تبارك وتعالى.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ واللام للملك وشبهه وفي تعدية أيضاً وتعليل قفي

وزيد والظرفية استبن ببا وفي وقد يبينان السببا]

قوله: (واللام للملك وشبهه) أي: أن اللام تفيد التمليك وشبه التمليك، فالتمليك أن يكون مدخولها مالكاً لما سبق، أو إن شئت فقل: أن تقع بين شيئين الثاني منهما مالك للأول.

مثاله: الكتاب للطالب، أي: ملك للطالب، فالثاني مالك للأول، أي: أن مدخولها مالك لما قبله، وقد يتأخر عنه مثل: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ [آل عمران:189]، فهنا تأخر الأول عنها وعن الثاني؛ لكن الحكم لا يتغير، فاللام هنا للملك.

قوله: (وشبهه) وهو ما يسمى بالاختصاص، وهو: أن يكون مدخولها مختصاً بالأول لا مالكاً، مثاله: العلف للدابة، أو الزمام للجمل، فليس هو ملكه، لكنه اختصاص، وقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ[التوبة:60] اللام هنا للملك.

قال: (وفي تعدية أيضاً) يعني: أن اللام تأتي للتعدية.

ومعنى التعدية: أن تدخل على مفعول عامله ضعيف ليتعدى إلى المفعول، مثل اسم الفاعل إذا تأخر فضعف عمله، تقول مثلاً: أنا ضاربٌ لزيد، أصلها: أنا ضاربٌ زيداً، وكذلك: أنا لزيد ضارب، فاللام هنا لا تصلح للملك ولا لشبه الملك، لكنها للتعدية.

قال: (وتعليل قفي) أي: وتأتي اللام للتعليل كثيراً: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]، وكأني بكم تقولون: إن (يعبدون) فعل وليست اسماً، لكنني أقول: إنه فعل مؤول بمصدر، والتقدير: إلا لعبادتي، فاللام للتعليل.

وكذلك أيضاً قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، أي: لأجلكم.

وتقول: (جئت لأقرأ) أي لأجل القراءة.

وكذلك كل أفعال الله تعالى التي تتعدى باللام هي للتعليل : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا[الإسراء:1]، فاللام للتعليل.

قال المؤلف:

[وزيد والظرفية استبن ببا

وفي وقد يبينان السببا]

(وزيد): أي: أن اللام تأتي زائدة، أي أنها تأتي لا لمعنى كقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ[يوسف:43].

وهذا المثال فيه نظر، ووجه النظر: أن اللام في قوله: (للرؤيا تعبرون) يظهر أنها للتعدية؛ لأنها دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخره.

ومثلوا في الزائدة بما يقال كثيراً: لا أبا لك، ومنه:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

قالوا: إن اللام هنا زائدة، والدليل على زيادتها: أن (أبا) أعربت بالألف، ومن شرط إعرابها بالألف أن تضاف، ولو قلنا: إن اللام غير زائدة لكان يقول: لا أباً لك، أو: لا أب لك، بدون ألف، فلما أعربت بالألف دل هذا على أن اللام زائدة، وأصلها: لا أباك، وهذا أحد الوجوه في قوله: لا أبا لك.

وفي وجه آخر: أنها على لغة من يلزم الأسماء الخمسة الألف مطلقاً، وعلى هذا فلا يكون فيها شاهد.

قوله: (والظرفية استبن ببا وفي).

الظرفية: مفعول مقدم لقوله: (واستبن) يعني: استظهر، أي: أنه تأتي الباء وفي للظرفية، أما الباء فمثالها قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137] يعني: وفي الليل، وهي كثيرة في الكلام العربي، تقول مثلاً: سكنت بعنيزة.. سكنت ببريدة.. سكنت بالبدائع.. سكنت بمكة.. سكنت بالرياض.. وهكذا.

أما (في) فمثالها: دخلت في المسجد، سكنت في البلد الفلاني، وهي في القرآن أيضاً كثيرة: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات:20-22]، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهاهمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ [آل عمران:107]، وهكذا تكون للظرفية كثيرة جداً.

قوله: (قد يبينان السببا) يعني: أن الباء وفي قد تأتيان للسببية بأن يدخلا على السبب.

قال المؤلف:

[بالبا استعن وعد عوض ألصق ومثل مع ومن وعن بها انطق]

أي: أن الباء تأتي للاستعانة.

والاستعانة طلب العون، فمعنى الاستعانة: أن الباء تدخل على ما تطلب الإعانة منه مثل: أستعين بالله.

فالباء للاستعانة، أي: أنه سبحانه وتعالى يطلب العون منه.

قوله: (وعدِّ) يعني: أنه يعدى بها الفعل اللازم، مثال ذلك قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، أصل (ذهب) فعل لازم، يقال: ذهب الرجل، فإذا أردنا أن تتعدى إلى مفعول فإما أن ندخل عليها الهمزة أو نأتي بالباء، ولذا قال تعالى: ذََهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، ويصح في غير القرآن أن يقال: أذهب الله نورهم.

قوله: (عوض) معناها: أن الباء تأتي للتعويض؛ بأن يكون مدخولها عوضاً عن غيره، وهذا كثير جداً، فالباء التي تدخل في البيع والشراء تكون للتعويض، تقول: اشتريت كتاباً بدرهم، الباء للتعويض، وهل مدخولها هو العوض، أو ما سبقها هو العوض؟

الحقيقة أن كل واحد منهما عوض عن الثاني، لكنها دائماً تدخل على الثمن، ولهذا قال الفقهاء: يتميز الثمن عن المثمن بالباء، فما دخلت عليه الباء فهو الثمن، فإذا قلت: بعت الثوب بدرهم، فالثمن هو الدرهم.

وإذا قلت: بعت الدرهم بثوب. فالثمن الثوب.

وقول المؤلف: (ألصق).

الإلصاق هو مباشرة الشيء بشيء، وقد يراد بالإلصاق مجاورة الشيء للشيء.

مثال الإلصاق المباشر: مسحت رأسي بيدي، أمسكت ثوبي بيدي، امسحوا برءوسكم.

ومثال غير المباشر: مررت بزيد.

وقد زعم بعض النحويين أن جميع معانيها تعود إلى الإلصاق، ولكن لو سلكنا هذا المسلك لوجدنا أنها لا تكون للإلصاق في بعض المواضع إلا بتكلف شديد، ولا حاجة إلى هذا التكلف، فالأولى أن نقول كما قال ابن مالك : إن الإلصاق من بعض معانيها.