أرشيف المقالات

ظرف الفقهاء

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
(مهداة إلى الأستاذ على الطنطاوي) للأستاذ علي العماري تحدث الأستاذ على الطنطاوي في مقالين سابقين نشرهما في مجلة الرسالة عن غزل الفقهاء، وقد أوحى بهما إليه جدل كان بينه وبين أحد المتزمتين الذي ينكرون على العالم أن يطرب ويهتز، ويرون أن من واجب العالم أن يترفع عن الشعر وعبثه.
وقد أفاض الأستاذ الطنطاوي - كعادته - فذكر كثيرا من شعر الفقهاء في الغزل، ونشر صحائف طيبة من حيوات هؤلاء العلماء الفضلاء. وقد رأيت أن لهؤلاء ناحية جديرة بأن يتأملها مثل هذا الرجل الذي يحرم طيبات الفكر على العلماء! تلك هي ناحية (الظرف).
فقد كان كثير من الفقهاء على جلالة أقدارهم، وسمو منازلهم، يهتزون للشعر، وتأخذهم الأريحية عند سماعه؛ وربما صدرت عنهم أشعار فكهة رائعة. ولعل خير ما نهديه لمثل هذا الرجل هذه القصة: كان القاسم بن سلام رحمه الله غمام أهل عصره في كل فن من العلم، وكانوا يعدونه أعلم من ابن حنبل والشافعي مع دين وورع، وقد جاءه رجل فسأله عن الرباب فقال هو الذي يتدلى دون السحاب، وأنشد لعبد الرحمن بن حسان: كأن الرباب دوين السحاب ...
نعام تعلق بالأرجل فقال الرجل لم أرد هذا فقال: الرباب اسم امرأة وأنشد: إن الذي قسم الملاحة بيننا ...
وكسا وجوه الغانيات جمالا وهب الملاحة للرباب وزادها ...
في الوجه من بعد الملاحة خالا فقال لم أرد هذا أيضا، فقال لعلك أردت قول الشاعر: ربابة ربة البيت ...
تصب الخل في الزيت فقال هذا أردت.
قال له القاسم من أين أنت؟ قال من البصرة قال كم أعطيت للملاح؟ قال: أربعة دراهم.
قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته وقل له: لم تحمل شيئا فعلام تأخذ الأجرة؟! فهذا كلام له وزنه في تقدير الرجال؛ وهو جدير بأن نوجهه إلى كل رجل ينكر قيمة الشعر، وينتقص محاسنه. وإن المتصفح لتراجم العلماء ليرى فيها نفحات أدبية، ولطائف شعرية، تروع وتعجب، ولا يمكن لمثلى في هذا المقام أن يستقصى، وإنما هي نماذج أنشرها وفيها غناء. كان أبو حازم الأعرج من فضلاء التابعين، وله في الزهد والورع أخبار وأحاديث، وقد خرج يوما يرمي الجمار فإذا هو بامرأة حاسر قد فتنت الناس بحسن وجهها وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم فاتقي الله واستتري، فإن الله عز وجل يفي كتابه العزيز (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) فقالت: إني من اللائى قيل فيهن: أماطت كساء الخز عن حر وجهها ...
وألقت على المتنين برداً مهلهلا من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ...
ولكن ليقتلن البريء المغفلا فقال أبو حازم لصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها الله بالنار.
فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمنون، فبلغ ذلك الشعبي فقال: ما أرقكم يا أهل الحجاز وأظرفكم!! أما والله لو كان من قرى العراق لقال اغربي عليك لعنة الله. وهكذا تأخذ الأريحية هذا العابد المتزهد فيكون مثلا في رقة العاطفة وتقدير الجمال، فهو لم ينسك نسكا أعجميا، ولا جفا طبعه وغلظ حسه فيغمض عينيه ويسد أذنيه دون هذه البدائع. وربما بلغ الشعر ببعض الفقهاء إلى أكثر مما نتخيله، ولكنها سجاحة النفس، وقوة تأثير الشعر فيها، قال أصحاب القاضي محمد بن عيسى الأندلسي: ركبنا لبعض الأمر في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه وأراد الانصراف، فخانته رجلاه واستند إلى الحائط وأطرق.
فلما قرب القاضي منه رفع رأسه وانشأ يقول: ألا أيها القاضي الذي عم فضله ...
فأضحى به في العالمين فريدا قرأت كتاب الله تسعين مرة ...
فلم أر فيه للشراب حدودا فإن شئت أن تجلد فدونك منكبا ...
صبورا على ريب الزمان جليدا وإن شئت أن تعفو تكن لك منة ...
تروح بها في العالمين فريدا وإن أنت تختار الحديد فأن لي ...
لسانا على مر الزمان جديدا فلما سمع القاضي شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى لشأنه. وقد ذكر صاحب نفح الطيب طرفة أخرى لهذا القاضي الذي عم فضله قال: خرج القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى إلى حضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل يقرب من مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل وأحضر له طعاما وغنت له جارية طابت بطيب لثاتك الأقداح ...
وزها بحمرة وجهك التفاح وإذا الربيع تنسمت أرواحه ...
نمت بعرف نسميك الأرواح وإذا الحنادس ألبست ظلماؤها ...
فضياء وجهك في الدجى مصباح فكتبها القاضي طربا على ظهر يده.
قال الراوي: فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد حدث الأصمعي قال أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة وكان أعقل من رأيته: يا أيها السائل عن منزلي ...
نزلت في الخان على نفسي يغدو على الخبز من خابز ...
لا يقبل الرهن ولا ينسى آكل من كيسي ومن كسرتي ...
حتى لقد أوجعني ضرسي فقال: أكتب لي هذه البيات، فقلت أصلحك الله هذا لا يشبه مثلك وإنما يروى مثل هذا الأحداث قال: اكتبها فالأشراف تعجبهم الملح. على أن أجمل في هذا الباب هذه القصيدة الفكهة الرائعة التي نظمها قاضي الجماعة بغرناطة، وكان على جانب عظيم من الفقه والدين، وقد صرفها في أغراض كثيرة من الدعابة والظرف فجاءت تحفة رائعة زاد في روعتها وزنها وقافيتها، ذكرها المقري فقال: ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبى عبد الله بن الأزرق وأثبتها كاملة في كتابه النفح وهي ستة وتسعون بيتا ابتدأها القاضي فقال: عِمْ باتصال الزمن ...
ولا تبال بمَن ثم شبب فيها فأحسن إلى أن قال: لا أم لي لا أم لي ...
إن لم أبرد شجني وأخلعنّ في المج ...
ون والتصابي رسني وأخذ ينصح صاحبه باتباع نهجه، والسير على سنته، وإلا فهو أحمق مائق. وإن تسفه نظري ...
ومذهبي وديدني فالصفع تستوجبه ...
نعم ونتف الذَقن وجرى ملء عنانه يمزح ويمجن حتى التفت إلى الماضي فبكى عليه وتحسر على أيامه ولياليه. أفدى صديقا كان لي ...
بنفسه يسعدني فتارة أنصحه ...
وتارة ينصحني وتارة ألعنه ...
وتارة يلعنني وربما أصفعه ...
وربما يصفعني دهر تولى وانقضى ...
عني كطيف الوسن يا ليت هذا كله ...
فيما مضى لم يكن وقد يجد ويقوى ويأتي بالمعنى الفحل، واللفظ المتين. كأنني ولست أد ...
ري الآن ما كأنني والله ما التشبيه عن ...
د شاعر بهين ثم أخذ في تعداد الأطعمة التي يتشهاها بشعر سافر لا مواربة فيه ولا التواء. هل للثريد عودة ...
إلي قد شوقني تغوص فيه أنملي ...
غوص الأكول المحسن وبعد أن أفاض في هذا إفاضة مليحة أخذ يخاطب صاحبه: إيه خليلي هذه ...
مطاعم لكنني أعجب من ريقك إذ ...
يسيل فوق الذقن هل نلت منها شبعا ...
فذكرها أشبعني وإن تكن جوعان يا ...
صاح فكل بالإذن فليس عند شاعر ...
غير كلام الألسن يصور الأشياء وهي ...
أبداً لم تكن فقوله يربك ما ...
ليس يرى بالممكن وأظن أننا بعد هذه النماذج في حل بأن نسوق إلى هؤلاء الذين يحرمون علينا طيبات القرائح، وثمرات الأدب، هذا الذي روى عن شيخ من شيوخ قريش وسادتها، فقد سئل أبو السائب المخزمي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا. علي العماري المدرس بالأزهر

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١