مختصر التحرير [65]


الحلقة مفرغة

يقول المؤلف رحمه الله: [وليس فيه ما لا معنى له، ولا معني به غير ظاهره إلا بدليل].

يعني: ليس في القرآن ما يراد به غير ظاهره إلا بدليل، مثاله: قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98] فظاهر الآية: إذا فرغت من القراءة؛ لأن الإنسان لا يقال قرأ كذا إلا إذا أتمها، وليس هذا الظاهر هو المراد بل غير مراد. إذاً: قد عُني به غير ظاهر لكن بدليل، والدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ عند ابتداء القراءة، فدل هذا على أن المراد بقوله: فَإِذَا قَرَأْتَ [النحل:98] أي: إذا أردت أن تقرأ.

ومن ذلك قوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] لو نظرنا إلى أول الآية: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ لكان ظاهره أن الأمر قد انقضى وأتى، ولكن المراد: يأتي في المستقبل، بدليل قوله: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.

فصار الآن لا يعنى به غير ظاهر إلا بدليل، والدليل نوعان: متصل ومنفصل، ففي قوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] الدليل متصل في نفس الآية. وفي قوله: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل:98] الدليل منفصل.

وقد يكون الدليل شرعياً، وقد يكون الدليل حسياً، وقد يكون عقلياً، فمثل قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] (كل شيء)، لو نظرنا إلى ظاهره لكانت تدمر حتى السماوات والأرض والبحار والأنهار والجبال وغيرها؛ لكن الحس يدل على أنها لم تدمر كل شيء، بدليل قوله: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] وبدليل الواقع، هذا دليل حسي.

دليل عقلي: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، هذا لا يشمل صفاته عقلاً؛ لأن الصفات عقلاً تابعة للموصوف، فإذا كان الموصوف غير مخلوق بل هو الخالق، لم تكن الصفات مخلوقة.

إذاً نقول: ليس في القرآن ما يعنى به غير ظاهره إلا بدليل، وكلام المؤلف هذا صحيح، والدليل قد يكون سمعياً وهو الشرعي، وقد يكون حسياً، وقد يكون عقلياً.

هل في القرآن ما لا يعلم معناه الناس

قال: [وفيه ما لا يعلم معناه إلا الله].

هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء مبنية على الوقف في قوله تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].

فإن أكثر السلف وقفوا على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فيقول المؤلف: هذه الآية تدل على أن في القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله، ولكن هذا الاستدلال لا يسلَّم للمؤلف وغيره ممن تبعه إلا حيث تعين أن يكون المراد بالتأويل: التفسير.

فإذا كان المراد بالتأويل التفسير ولا يحتمل غيره تم للمؤلف الاستدلال. أنتم معي؟ لكن نقول: التأويل يراد به التفسير، ويراد به الحقيقة التي عليها الشيء والتي يؤول إليها الشيء، فيكون معنى الآية على هذا الاحتمال: وما يعلم حقيقة هذا المتشابه وكنهه وكيفيته إلا الله، لا أن المراد: وما يعلم معناه إلا الله.

وبناءً على هذا القول نقول: إنه ليس في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله، وهو كذلك، فالصواب خلاف ما قال المؤلف، الصواب: أنه لا يوجد شيء في القرآن لا يعلم معناه أحد أبداً؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فائدة؛ لأن فائدة التدبر الوصول إلى المعنى، وإذا كان في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه لزم من ذلك أن بعض القرآن لا يُتدبر، وهذا خلاف ظاهر الآية.

إذاً: المؤلف يقول: في القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله، لا يعلمه العلماء ولا طلبة العلم ولا العامة، والدليل قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].

أقول: هذا الاستدلال لا يتم إلا حيث تعين أن يكون المراد بالتأويل التفسير.

ولكننا نحن لا نسلِّم ذلك، بل نقول: التأويل يكون بمعنى التفسير، ويكون بمعنى الحقيقة التي يكون عليها الشيء وهي الكيفية، وهذا لا يعلمه إلا الله، أما المعنى فمعلوم، وليس في القرآن شيء لا يُعلَم معناه أبداً، كل ما في القرآن فلا بد أن تعلم معناه الأمة، والدليل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] ولا استثناء في ذلك، أي ليدبروا آياته كلها، ومعلوم أننا لو أمرنا أن نتدبر ما لا يمكن الوصول إلى معناه لكان هذا الأمر عبثاً، ولكان من تكليف ما لا يطاق!

وعلى هذا فنقول: إن في كلام المؤلف نظراً ظاهراً، ولكن يجب أن نعلم أن الظهور والخفاء أمران نسبيان، قد يظهر لشخص ما لا يظهر لأشخاص، ولهذا تجد استنباط العلماء يختلف اختلافاً عظيماً، فيستنبط بعض العلماء من الحديث أو من الآية مسائل كثيرة، بينما بعض العلماء لا يستنبط إلا مسألة واحدة.

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83] وهم العلماء؛ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] ولكن الناس يختلفون.

فعلى كل حال! الصواب: أن كلام المؤلف ليس بصحيح، وهو قوله: (وفيه ما لا يعلم معناه إلا الله)، إذاً: كيف نحول العبارة إلى معنىً صحيح؟

نقول: أي لا حقيقته وكيفيته إلا الله، فهذا مسلَّم!

امتناع دوام الإجمال في التكليفات

ثم قال: [ويمتنع دوام إجمال ما فيه تكليف].

وهذا صحيح، يمتنع دوام إجمال ما فيه تكليف، يعني مثلاً: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] فيها تكليف، لا يمكن أن تبقى هكذا مجملة، لا بد أن تبيَّن إما بالكتاب أو بالسنة؛ لأن المجمل لا يمكن امتثاله، ولهذا (لما قال الله عز وجل للقلم: اكتب، قال القلم: ماذا أكتب؟) البيان. (قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة).

إذاً: لا يمكن دوام إجمال ما فيه التكليف.

إذا قال قائل: هذا منقوض بقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فإن الخلاف بين العلماء لم يزل موجوداً إلى اليوم.

نقول: هو عند من فسره بالحيض ليس مجملاً، وعند من فسره بالطهر ليس مجملاً، لأنه واضح، كل واحد عنده دليل ويرى أن اللفظ بهذا الدليل مبيَّن، فكلام المؤلف إذاً لا يرد عليه شيء.

قال: [ويوقف على (إلا الله) لفظًا ومعنًى] هذا من الاختصار المخل؛ لأن (إِلَّا اللَّهُ) وردت في عدة آيات، منها: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، ولكن يمكن أن نعتذر عن المؤلف رحمه الله بأن لما كان الكلام في سياق المعنى، يمكن بهذا أن نستدل على مراد المؤلف.

وتبين من كلام المؤلف في الوقف على: (إلا الله) لفظاً ومعنىً، أنه لا يوقف على: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] إذاً: زال الإشكال.

وقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] هذه الآية اختلف السلف رحمهم الله في الوقوف فيها، فمنهم من قال: يوقف على إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، ويبتدأ بقوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، وعلى هذا القول تكون الواو للاستئناف، و(الراسخون): مبتدأ، و(يقولون): خبره.

وقال بعض السلف وهم الأقل: بل يوقف على: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] وعلى هذا الوقف تكون (الراسخون) معطوفة على (الله)، أي: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وتكون جملة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حال من الراسخون، يعني: يعلمونه حال كوهم قائلين: آمنا به، ولكن الصحيح أن كلتا القراءتين صحيحة، وأنه يوقف على (إلَّا اللَّهُ) وعلى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، لكن يختلف المعنى على القراءتين، أعني معنى التأويل في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].

فعلى قراءة الوقف يكون المراد بالتأويل: الحقيقة والكيفية فإنه لا يعلمها إلا الله، وعلى قراءة الوصل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] يكون المراد بالتأويل: التفسير، ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. يعني: يعلمون تفسيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).

قال: [وفيه ما لا يعلم معناه إلا الله].

هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء مبنية على الوقف في قوله تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].

فإن أكثر السلف وقفوا على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فيقول المؤلف: هذه الآية تدل على أن في القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله، ولكن هذا الاستدلال لا يسلَّم للمؤلف وغيره ممن تبعه إلا حيث تعين أن يكون المراد بالتأويل: التفسير.

فإذا كان المراد بالتأويل التفسير ولا يحتمل غيره تم للمؤلف الاستدلال. أنتم معي؟ لكن نقول: التأويل يراد به التفسير، ويراد به الحقيقة التي عليها الشيء والتي يؤول إليها الشيء، فيكون معنى الآية على هذا الاحتمال: وما يعلم حقيقة هذا المتشابه وكنهه وكيفيته إلا الله، لا أن المراد: وما يعلم معناه إلا الله.

وبناءً على هذا القول نقول: إنه ليس في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله، وهو كذلك، فالصواب خلاف ما قال المؤلف، الصواب: أنه لا يوجد شيء في القرآن لا يعلم معناه أحد أبداً؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] فائدة؛ لأن فائدة التدبر الوصول إلى المعنى، وإذا كان في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه لزم من ذلك أن بعض القرآن لا يُتدبر، وهذا خلاف ظاهر الآية.

إذاً: المؤلف يقول: في القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله، لا يعلمه العلماء ولا طلبة العلم ولا العامة، والدليل قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7].

أقول: هذا الاستدلال لا يتم إلا حيث تعين أن يكون المراد بالتأويل التفسير.

ولكننا نحن لا نسلِّم ذلك، بل نقول: التأويل يكون بمعنى التفسير، ويكون بمعنى الحقيقة التي يكون عليها الشيء وهي الكيفية، وهذا لا يعلمه إلا الله، أما المعنى فمعلوم، وليس في القرآن شيء لا يُعلَم معناه أبداً، كل ما في القرآن فلا بد أن تعلم معناه الأمة، والدليل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] ولا استثناء في ذلك، أي ليدبروا آياته كلها، ومعلوم أننا لو أمرنا أن نتدبر ما لا يمكن الوصول إلى معناه لكان هذا الأمر عبثاً، ولكان من تكليف ما لا يطاق!

وعلى هذا فنقول: إن في كلام المؤلف نظراً ظاهراً، ولكن يجب أن نعلم أن الظهور والخفاء أمران نسبيان، قد يظهر لشخص ما لا يظهر لأشخاص، ولهذا تجد استنباط العلماء يختلف اختلافاً عظيماً، فيستنبط بعض العلماء من الحديث أو من الآية مسائل كثيرة، بينما بعض العلماء لا يستنبط إلا مسألة واحدة.

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83] وهم العلماء؛ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] ولكن الناس يختلفون.

فعلى كل حال! الصواب: أن كلام المؤلف ليس بصحيح، وهو قوله: (وفيه ما لا يعلم معناه إلا الله)، إذاً: كيف نحول العبارة إلى معنىً صحيح؟

نقول: أي لا حقيقته وكيفيته إلا الله، فهذا مسلَّم!




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
مختصر التحرير [69] 3206 استماع
مختصر التحرير [54] 3195 استماع
مختصر التحرير [70] 3082 استماع
مختصر التحرير [33] 2829 استماع
مختصر التحرير [36] 2828 استماع
مختصر التحرير [47] 2757 استماع
مختصر التحرير [23] 2745 استماع
مختصر التحرير [45] 2745 استماع
مختصر التحرير [4] 2693 استماع
مختصر التحرير [24] 2627 استماع