شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع - باب أحكام الدين -1


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه ليلة الخميس الخامس عشر من شهر صفر من سنة 1424هـ، والدرس وكالمعتاد هو في شرح عمدة الفقه، وعندنا اليوم باب أحكام الدين.

في الأسبوع الماضي شرحنا باب القرض، وما يتعلق به، وتقريباً باب القرض باب سهل وواضح, وليس فيه أشياء كثيرة جداً تحتاج إلى مراجعة، ولذلك نبدأ اليوم في الباب الجديد، وهو باب أحكام الدين.

والملاحظ: أن كثيراً من الفقهاء والمصنفين لا يضعون للدين باباً خاصاً، وإنما يدرجونه ضمن أبواب أخرى، وغالباً ما تكون مسائل الدين مدرجة عندهم ضمن باب الحجر وباب التفليس؛ لأنه يترتب على الدين الحجر، ولكن بعضهم يصنفون باباً خاصاً, ومنهم المؤلف رحمه الله, فإنه وضع باباً للدين، وبمقابل ذلك فإنه لم يضع للحجر باباً خاصاً، وإنما أدخل أحكام الحجر ضمن أحكام الدين, كما سوف يظهر بعد مراجعته.

والمقصود بالدين هو في الأصل: لزوم حق في الذمة. فهذا تعريف الدين في اللغة وفي الشريعة أيضاً.

فقولنا: لزوم حق، هذا يشمل الحقوق المالية ويشمل الحقوق غير المالية.

الحقوق المالية مثل ماذا؟

مثل القرض، أليس ديناً على المستقرض؟ بلى، هذا نوع من الحق المالي، ومثل السلم أيضاً؛ فهو نوع من الحق المالي. فهذه حقوق مالية، ولكن أيضاً يشمل الحقوق غير المالية, كالبر مثلاً؛ فإنه دين على الولد لوالده، وكذلك يشمل ما هو حق لله تبارك وتعالى وما هو حق للمخلوقين، فما هو حق لله مثل: الصلاة الفائتة, فإنها دين في ذمة صاحبها، وكذلك الزكاة فهي دين يجب عليه أداؤها، وهذا حق مالي لله سبحانه وتعالى، وللمخلوق أيضاً، ويشمل الصوم فهو حق، بل نستطيع أن نقول: إن أصل الدين كله عبارة عن ماذا؟ عن حق في ذمة الإنسان، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل الشهير لما قال: ( أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ). إذاً: هو حق لله سبحانه وتعالى على العباد، فمن حقوق الخالق ما ذكرنا مثل: الصلاة، ومثل الصيام.

أيضاً من حقوق الله سبحانه وتعالى النذر، فالنذر هو حق يلزم ويجب في ذمة الناذر، لو نذر إنسان لله سبحانه وتعالى أن يصوم شهراً، أو نذر أن يتصدق بمال يلزمه أو ما يلزمه الوفاء؟ يلزمه.

طبعاً، النذر له باب في الأيمان والنذور، لكن لا بأس، إذا لم يستطع الوفاء بالنذر ماذا عليه؟ عليه كفارة يمين، وكذلك إذا كان النذر ليس مقصوداً لذاته وإنما مقصود به الحث أو مقصود به المنع، فإنه يصبح حكمه حكم اليمين، مثلاً لو إنسان ابتلي بالتدخين، وصار كل مرة يترك الدخان ثم يعود، ثم يتركه ثم يعود, فقال: لله علي نذر إن وقعت في الدخان مرة ثانية أن أصوم مثلاً خمسة أيام، نقول: هذا عبارة عن يمين حكمه حكم اليمين، فهو مخير إما أن يصوم، طبعاً إذا وقع ورجع، إما أن يصوم خمسة أيام أو يكفر كفارة يمين، وكذلك لو أنه أراد حفز نفسه على فعل شيء، وأنه إن لم يفعل فعليه كذا، والقصد هو إلزام نفسه بالفعل، فالنذر هنا يكون حكمه حكم اليمين الذي يقصد به أن يلزم الإنسان نفسه بفعل شيء أو يلزمها بترك شيء. هذا يأتي في باب النذر، لكن للمناسبة. المهم أن النذور تعتبر حقوقاً.

وكذلك الكفارات: كفارة اليمين .. كفارة الظهار .. كفارة الوطء في نهار رمضان, هي حقوق في ذمة الإنسان لله تبارك وتعالى.

وحق الله سبحانه وتعالى أوسع من دين الله، ولذلك نقول مثلاً: التوحيد حق، لكن لا يسمى ديناً؛ لأنه فعل يفعله الإنسان، أما الدين - دين الله سبحانه وتعالى- فما تعلق في ذمة الإنسان مما ترتب على ذمته، مثل ما ورد مثلاً المرأة أو الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( إن أمي ماتت ولم تحج أو إن أبي مات ولم يحج، فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين أو على أمك دين، أكنت قاضيته؟ ) فهذا دين.

إذاً: هناك دين لله يتعلق بترتب شيء في الذمة لم يؤده الإنسان، هذا يسمى دين الله.

وهناك حق الله وهو عموم الحقوق الشرعية بما فيها أصل الدين الذي هو التوحيد، ثم الفرائض كلها، وهناك حقوق المخلوقين، وهناك ديون المخلوقين.

من أسماء الدين، طبعاً الدين هو الاسم المشهور له، لكن من أسمائه أيضاً أنه يسمى الكالئ، وهذا الاسم ورد كثيراً في الزكاة وفي باب البيوع وفي غيرها، الكالئ وآخره همزة, وكثيراً ما يستشهد الفقهاء بحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ), يعني: نهى عن بيع الدين بالدين. وهذا الحديث ضعيف لا يصح, كما ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من أهل العلم والحديث، أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الفقهاء مجمعون في الجملة على تحريم بيع الدين بالدين, إلا في صور خاصة مستثناة.

إذاً: هذا ما يتعلق بتعريف الدين وما يتعلق باسمه.

ما هي الأموال التي تقبل أو تصلح أن تكون ديناً؟ هل كل مال يمكن أن يكون ديناً في الذمة أم لا؟

هناك أموال تصلح أن تكون ديناً، وهناك أموال ربما يكون فيها بعض النظر، وهذا له علاقة بما سبق أن شرحناه في باب السلم.

الأموال التي تصلح أن تكون ديناً عديدة، والفقهاء يعرفون الدين كما ذكرنا قبل قليل بأنه: لزوم حق في الذمة، وقد يقولون: لزوم مال في الذمة؛ ليقتصر على الديون المالية، ويستبعد منه ما يتعلق بالحقوق الأخرى التي ليست مالية، فقد يقولون: إن الدين هو ما يثبت في الذمة من مال.

إذاً: الدين ثابت في الذمة - في ذمة الإنسان- وهذا يصدق على عدة أشياء:

الأعيان المثلية

الأول منها - مما يصلح أن يكون ديناً في الذمة-: هي الأعيان التي سبق أن شرحناها, وقلنا: إنها تكون أعياناً مثلية، ما هو المقصود بالأعيان المثلية؟ مثل ماذا؟

مثل الشعير .. القمح .. البر، وبشكل عام مثل المكيل والموزون.

لماذا قلنا مثلاً: إن المكيل والموزون مثلي؟ لأن هذا الكيس وهذا الكيس تقريباً متشابهة، فهي متماثلة، ولذلك بدلاً من مثلاً كيلو قمح أعطيك أنا كيلو قمحاً آخر.. أو لا؟ فهي متماثلة متقاربة، يقال لها: إنها مثلية كالمكيلات والموزونات. والأشياء التي تتشابه أنواعها فيما بينها، التمر مثلاً مثلي؛ لأنه متقارب ومعروف ومنضبط، فهذا هو النوع الأول مما يمكن أن يكون ديناً، وبلغة أخرى نستطيع أن نقول: يمكن أن يكون سلماً؛ لأنه سبق أن ذكرنا في باب السلم أنه يجوز السلم في المثليات باتفاق الفقهاء، يعني: يجوز أن أعطيك ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع تمر بعد سنة، لماذا؟ لأن التمر مثلي، يعني: منضبط.

هذا هو النوع الأول, وهي: الأعيان المثلية، فبالاتفاق هذه يجوز فيها السلم, ويجوز أن تكون ديناً، يعني: سلماً أو غير سلم.

الأموال القيمية المنضبطة بالوصف

النوع الثاني من الأموال: ما يسميه الفقهاء أيضاً بالأموال القيمية، يعني: ليست مثلية، وإنما يتم تحديدها من خلال قيمتها, وليس من خلال من كونها مثلية، هذه الأموال القيمية إذا كانت منضبطة بالوصف فإنه يجوز السلم فيها كما ذكرنا، وبالتالي يجوز أن تكون ديناً.

إذاً: القسم الثاني مما يصلح أن يكون ديناً: الأموال القيمية المنضبطة بالوصف، مثل ماذا؟

مثلاً السيارات؛ لأن السيارات منضبطة بالوصف وإن كانت ذات قيمة، كذلك مسألة الثمار مثلاً، ألوان الثمار من الفواكه والخضروات وغيرها، كذلك الثياب، فهذه أشياء قيمية منضبطة بالوصف, يصلح فيها السلم, وتصلح أن تكون هي ديوناً، بينما هناك أموال أو أعيان قيمية غير منضبطة بالوصف، لا يمكن ضبطها بالوصف بشكل دقيق، مثل الجواهر، اللؤلؤ مثلاً، أنت لو تعرف اللؤلؤ هل اللؤلؤ الذي يستخرج من أعماق البحر يكون بشكل واحد؟ لا، تجد منه شيئاً كبيراً، ومنه شيئاً صغيراً، ومنه شيئاً صافياً، ومنه شيئاً غير صاف، ومنه أنواع ممتازة وأنواع متوسطة وأنواع رديئة، ولذلك ربما تجد عقداً تجده قطعة من اللؤلؤ تباع بمائة ألف ريال, أو حتى بمائة ألف دولار، بينما أخرى تجدها بعشرة آلاف أو أقل من ذلك, فهي متفاوتة تفاوتاً كبيراً, ولا يمكن انضباطها.

فهذه الأشياء التي لا تنضبط بالوصف مثل الجواهر من اللؤلؤ، والعقيق، والفيروز .. وغيرها مما لا يتحدد بالمثل, وتختلف آحادها، وتتفاوت أفرادها، وتتفاوت قيمها وأثمانها تفاوتاً كبيراً، ولا يمكن ضبطها بالوصف، فهذه الجمهور على أن هذه الأشياء لا يصلح أن تكون ديناً, ولا يجوز فيها السلم كما سبق أن ذكرناه، لماذا؟ لأنه إذا أراد أن يسدد لك الدين الذي عليك ممكن يعطيك قطعة لؤلؤ تعادل مائة ألف ريال أو قطعة أخرى تعادل عشرة آلاف ريال، ويكون قد أدى ما عليك، وهذا يترتب عليه حصول الخصومات والخلاف بين الناس.

بينما في المسألة قول آخر, وهو: أن هذا النوع من الأشياء القيمية التي لا تنضبط يصلح أن يكون ديناً إذا كان معلوم القدر، بمعنى: أن يتم تحديده ولو لم يكن تحديده بشيء منضبط في ذاته، في وصفه، مثل ما نصف مثلاً التمر، أو مثل ما نصف السيارة, أو غيرها، وإنما يوصف بمجمل أوصاف تقريبية يعرفها أهل الصنف وأهل الاختصاص؛ بحيث يسهل الأداء فيما بعد وتقل الخصومات.

إذاً: القسم أو النوع الثاني من الأشياء التي تصلح أن تكون ديناً: الأشياء والأموال ذات القيمة -القيمية، وليست الأشياء المثلية- مما كان منضبطاً بالوصف، وحتى ما ليس بمنضبط فهناك قول بأنه يصلح ويجوز أن يكون ديناً إذا أمكن تقريبه وتقليل الخلاف بين آحاده وأفراده.

المنافع

القسم الثالث مما يصلح أن يكون ديناً: هي المنافع، والمنافع هنا ليست أموالاً أو أعياناً بذاتها، ولكنها منافع في الذمة, وصالحة لأن تكون ديناً على الإنسان؛ لأنه يجوز المعاوضة عن هذه المنافع بالمال، الإجارة، كوني مثلاً أؤجرك هذا البيت، هذه منفعة, وليست شيئاً عينياً ولا مالاً ذاتياً، لكن يجوز المعاوضة عنها بالمال؛ لأنه أجر البيت بمائة ألف ريال.

إذاً: يجوز أن يكون إيجار المنزل أن أؤجرك المنزل ديناً, يعني: أنه بعد سنة تسكن هذا المنزل مثلاً، وكذلك العمل يجوز أن يكون الدين في ذمتك أن تعمل عندي في مزرعة .. في حقل .. في محل تجاري لمدة شهر اعتباراً من تاريخ معين.

فهنا تلاحظ أن هذه المنفعة أصبحت ديناً في ذمتك، ما في ذمتك مال، ولا في ذمتك ذهب أو فضة، وإنما في ذمتك منفعة معينة تؤديها بعد حين.

وطبعاً مسألة المنافع هنا الجمهور على أن الإنسان يمكن أن يؤجر منفعة معينة ولا تكون بشيء خاص، وإنما تكون عامة، مثلاً: لو قلت: أنا سوف أوصلك إلى مدينة الرياض، التزمت أني أوصلك إلى مدينة الرياض , وأخذت منك المال مائة ريال أو أقل أو أكثر على أن أوصلك إلى هذه المدينة، أصبحت هذه المنفعة ديناً في ذمتي لك أو لا؟

هل يلزم أني أقول: أوصلك على سيارة أتوبيس موديل كذا وشكل كذا، أو أنه ممكن أنه يصير الإيصال بناء على شيء موصوف وليس -يعني- سيارة معينة؟ يعني: هل يلزم أن يكون الإيصال على هذه السيارة، أو أوصلك على سيارة بشروط ومواصفات معينة؟

ما يلزم أن أقول: أحملك على هذه الراحلة .. على هذه السيارة، أو على هذه الطيارة، أو على هذه الباخرة, لا، هذا مذهب جمهور أهل العلم وهو الصحيح، أن المقصود هو حصول المنفعة، فإذا قلت: أوصلك إلى مكان كذا بمبلغ من المال جاز هذا، ولو لم يتم الاتفاق على عين الأداة أو الوسيلة التي سوف أحملك عليها، طبعاً هذا مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد .

بينما الحنفية يرون أنه لابد أن يحدد الشيء المؤجر، ولذلك عند الحنفية يقول: لو آجره من أحد الحانوتين لم يجز، إما هذا وإما هذا، فلا بد أن يحدد واحداً منهما، فلا يصح عندهم الإيجار على شيء موصوف، ولا بد أن يكون لشيء معين بذاته.

طيب. دعونا ننظر في الواقع الآن، مثلاً قضية الرحلات الجوية، عندما تأخذ من خطوط ما تذاكر على أنك سوف تسافر إلى أي مكان في الأرض، وتأخذ التذكرة هذه بعدما تعطيهم المال، أليست هذه التذكرة عبارة عن دين لك عليهم؟

طيب. في الحالة هذه معروف أنك مثلاً درجة أولى, أو درجة سياحية، أو درجة أفق، ومعروف ما هي حقوقك في هذه الرحلة، ولذلك على مذهب الجمهور هذا شيء صحيح وطبيعي، لكن على مقتضى قول الأحناف لابد أن يكون هناك تحديد للطائرة التي سوف تركب عليها، طبعاً لا يلزم أن يكون الحنفية يقولون بهذا؛ لأن الذين يعيشون مثل هذا الوضع ربما يخرجونه على باب آخر، فلذلك نقول: إن الجمهور يرون أن مثل هذه المنافع التي هي الإجارة جائزة ولو لم تكن محددة العين، وإنما المنفعة معروفة, أنك تحملني على طيارة أو على باخرة أو على سيارة بدرجة معينة وبأجرة معينة، وهذه في الجملة المنضبطة، ولذلك لو أن إنساناً مثلاً أخذ تذكرة درجة أولى وركب في الأفق أو السياحي، من حقه أن يسترد الزيادة أو لا؟ نعم، ومن حقه أن يطالب.

إذاً: الأمور تقريباً معروفة ومنضبطة، وأنواع الطائرات متقاربة من الأسطول التي تملكه مثلاً هذه الخطوط أو تلك، وكذلك البواخر، ولو حصل خلل لكان بإمكانه أن يطالب به، فهذا يكون عبارة عن منفعة في الذمة, ولا يلزم أن تكون على أداة بعينها أو على مؤجر بعينه، وإنما يكفي فيه الوصف المنضبط.

إذاً: هذه ثلاثة أشياء مما يصلح فيها أن تكون ديناً: الأول منها هو الأعيان المثلية التي كالمذروع والمكيل والموزون. النوع الثاني الأعيان القيمية المنضبطة بالوصف عند الجمهور, وغير المنضبط إذا أمكن تحديده بالقيمة فهو تابع له أيضاً على ما اخترناه في باب السلم.

القسم الثالث أو النوع الثالث المنافع، ونقول: المنافع لا يلزم تحديدها عند الجمهور وهو الراجح, لا يلزم تحديد عين مثلاً البيت المسكون، أو الدكان المؤجر، أو السيارة، أو الباخرة، أو الطائرة، وإنما يكفي فيه أن يكون منضبطاً معلوماً بالوصف.

الأول منها - مما يصلح أن يكون ديناً في الذمة-: هي الأعيان التي سبق أن شرحناها, وقلنا: إنها تكون أعياناً مثلية، ما هو المقصود بالأعيان المثلية؟ مثل ماذا؟

مثل الشعير .. القمح .. البر، وبشكل عام مثل المكيل والموزون.

لماذا قلنا مثلاً: إن المكيل والموزون مثلي؟ لأن هذا الكيس وهذا الكيس تقريباً متشابهة، فهي متماثلة، ولذلك بدلاً من مثلاً كيلو قمح أعطيك أنا كيلو قمحاً آخر.. أو لا؟ فهي متماثلة متقاربة، يقال لها: إنها مثلية كالمكيلات والموزونات. والأشياء التي تتشابه أنواعها فيما بينها، التمر مثلاً مثلي؛ لأنه متقارب ومعروف ومنضبط، فهذا هو النوع الأول مما يمكن أن يكون ديناً، وبلغة أخرى نستطيع أن نقول: يمكن أن يكون سلماً؛ لأنه سبق أن ذكرنا في باب السلم أنه يجوز السلم في المثليات باتفاق الفقهاء، يعني: يجوز أن أعطيك ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع تمر بعد سنة، لماذا؟ لأن التمر مثلي، يعني: منضبط.

هذا هو النوع الأول, وهي: الأعيان المثلية، فبالاتفاق هذه يجوز فيها السلم, ويجوز أن تكون ديناً، يعني: سلماً أو غير سلم.

النوع الثاني من الأموال: ما يسميه الفقهاء أيضاً بالأموال القيمية، يعني: ليست مثلية، وإنما يتم تحديدها من خلال قيمتها, وليس من خلال من كونها مثلية، هذه الأموال القيمية إذا كانت منضبطة بالوصف فإنه يجوز السلم فيها كما ذكرنا، وبالتالي يجوز أن تكون ديناً.

إذاً: القسم الثاني مما يصلح أن يكون ديناً: الأموال القيمية المنضبطة بالوصف، مثل ماذا؟

مثلاً السيارات؛ لأن السيارات منضبطة بالوصف وإن كانت ذات قيمة، كذلك مسألة الثمار مثلاً، ألوان الثمار من الفواكه والخضروات وغيرها، كذلك الثياب، فهذه أشياء قيمية منضبطة بالوصف, يصلح فيها السلم, وتصلح أن تكون هي ديوناً، بينما هناك أموال أو أعيان قيمية غير منضبطة بالوصف، لا يمكن ضبطها بالوصف بشكل دقيق، مثل الجواهر، اللؤلؤ مثلاً، أنت لو تعرف اللؤلؤ هل اللؤلؤ الذي يستخرج من أعماق البحر يكون بشكل واحد؟ لا، تجد منه شيئاً كبيراً، ومنه شيئاً صغيراً، ومنه شيئاً صافياً، ومنه شيئاً غير صاف، ومنه أنواع ممتازة وأنواع متوسطة وأنواع رديئة، ولذلك ربما تجد عقداً تجده قطعة من اللؤلؤ تباع بمائة ألف ريال, أو حتى بمائة ألف دولار، بينما أخرى تجدها بعشرة آلاف أو أقل من ذلك, فهي متفاوتة تفاوتاً كبيراً, ولا يمكن انضباطها.

فهذه الأشياء التي لا تنضبط بالوصف مثل الجواهر من اللؤلؤ، والعقيق، والفيروز .. وغيرها مما لا يتحدد بالمثل, وتختلف آحادها، وتتفاوت أفرادها، وتتفاوت قيمها وأثمانها تفاوتاً كبيراً، ولا يمكن ضبطها بالوصف، فهذه الجمهور على أن هذه الأشياء لا يصلح أن تكون ديناً, ولا يجوز فيها السلم كما سبق أن ذكرناه، لماذا؟ لأنه إذا أراد أن يسدد لك الدين الذي عليك ممكن يعطيك قطعة لؤلؤ تعادل مائة ألف ريال أو قطعة أخرى تعادل عشرة آلاف ريال، ويكون قد أدى ما عليك، وهذا يترتب عليه حصول الخصومات والخلاف بين الناس.

بينما في المسألة قول آخر, وهو: أن هذا النوع من الأشياء القيمية التي لا تنضبط يصلح أن يكون ديناً إذا كان معلوم القدر، بمعنى: أن يتم تحديده ولو لم يكن تحديده بشيء منضبط في ذاته، في وصفه، مثل ما نصف مثلاً التمر، أو مثل ما نصف السيارة, أو غيرها، وإنما يوصف بمجمل أوصاف تقريبية يعرفها أهل الصنف وأهل الاختصاص؛ بحيث يسهل الأداء فيما بعد وتقل الخصومات.

إذاً: القسم أو النوع الثاني من الأشياء التي تصلح أن تكون ديناً: الأشياء والأموال ذات القيمة -القيمية، وليست الأشياء المثلية- مما كان منضبطاً بالوصف، وحتى ما ليس بمنضبط فهناك قول بأنه يصلح ويجوز أن يكون ديناً إذا أمكن تقريبه وتقليل الخلاف بين آحاده وأفراده.

القسم الثالث مما يصلح أن يكون ديناً: هي المنافع، والمنافع هنا ليست أموالاً أو أعياناً بذاتها، ولكنها منافع في الذمة, وصالحة لأن تكون ديناً على الإنسان؛ لأنه يجوز المعاوضة عن هذه المنافع بالمال، الإجارة، كوني مثلاً أؤجرك هذا البيت، هذه منفعة, وليست شيئاً عينياً ولا مالاً ذاتياً، لكن يجوز المعاوضة عنها بالمال؛ لأنه أجر البيت بمائة ألف ريال.

إذاً: يجوز أن يكون إيجار المنزل أن أؤجرك المنزل ديناً, يعني: أنه بعد سنة تسكن هذا المنزل مثلاً، وكذلك العمل يجوز أن يكون الدين في ذمتك أن تعمل عندي في مزرعة .. في حقل .. في محل تجاري لمدة شهر اعتباراً من تاريخ معين.

فهنا تلاحظ أن هذه المنفعة أصبحت ديناً في ذمتك، ما في ذمتك مال، ولا في ذمتك ذهب أو فضة، وإنما في ذمتك منفعة معينة تؤديها بعد حين.

وطبعاً مسألة المنافع هنا الجمهور على أن الإنسان يمكن أن يؤجر منفعة معينة ولا تكون بشيء خاص، وإنما تكون عامة، مثلاً: لو قلت: أنا سوف أوصلك إلى مدينة الرياض، التزمت أني أوصلك إلى مدينة الرياض , وأخذت منك المال مائة ريال أو أقل أو أكثر على أن أوصلك إلى هذه المدينة، أصبحت هذه المنفعة ديناً في ذمتي لك أو لا؟

هل يلزم أني أقول: أوصلك على سيارة أتوبيس موديل كذا وشكل كذا، أو أنه ممكن أنه يصير الإيصال بناء على شيء موصوف وليس -يعني- سيارة معينة؟ يعني: هل يلزم أن يكون الإيصال على هذه السيارة، أو أوصلك على سيارة بشروط ومواصفات معينة؟

ما يلزم أن أقول: أحملك على هذه الراحلة .. على هذه السيارة، أو على هذه الطيارة، أو على هذه الباخرة, لا، هذا مذهب جمهور أهل العلم وهو الصحيح، أن المقصود هو حصول المنفعة، فإذا قلت: أوصلك إلى مكان كذا بمبلغ من المال جاز هذا، ولو لم يتم الاتفاق على عين الأداة أو الوسيلة التي سوف أحملك عليها، طبعاً هذا مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد .

بينما الحنفية يرون أنه لابد أن يحدد الشيء المؤجر، ولذلك عند الحنفية يقول: لو آجره من أحد الحانوتين لم يجز، إما هذا وإما هذا، فلا بد أن يحدد واحداً منهما، فلا يصح عندهم الإيجار على شيء موصوف، ولا بد أن يكون لشيء معين بذاته.

طيب. دعونا ننظر في الواقع الآن، مثلاً قضية الرحلات الجوية، عندما تأخذ من خطوط ما تذاكر على أنك سوف تسافر إلى أي مكان في الأرض، وتأخذ التذكرة هذه بعدما تعطيهم المال، أليست هذه التذكرة عبارة عن دين لك عليهم؟

طيب. في الحالة هذه معروف أنك مثلاً درجة أولى, أو درجة سياحية، أو درجة أفق، ومعروف ما هي حقوقك في هذه الرحلة، ولذلك على مذهب الجمهور هذا شيء صحيح وطبيعي، لكن على مقتضى قول الأحناف لابد أن يكون هناك تحديد للطائرة التي سوف تركب عليها، طبعاً لا يلزم أن يكون الحنفية يقولون بهذا؛ لأن الذين يعيشون مثل هذا الوضع ربما يخرجونه على باب آخر، فلذلك نقول: إن الجمهور يرون أن مثل هذه المنافع التي هي الإجارة جائزة ولو لم تكن محددة العين، وإنما المنفعة معروفة, أنك تحملني على طيارة أو على باخرة أو على سيارة بدرجة معينة وبأجرة معينة، وهذه في الجملة المنضبطة، ولذلك لو أن إنساناً مثلاً أخذ تذكرة درجة أولى وركب في الأفق أو السياحي، من حقه أن يسترد الزيادة أو لا؟ نعم، ومن حقه أن يطالب.

إذاً: الأمور تقريباً معروفة ومنضبطة، وأنواع الطائرات متقاربة من الأسطول التي تملكه مثلاً هذه الخطوط أو تلك، وكذلك البواخر، ولو حصل خلل لكان بإمكانه أن يطالب به، فهذا يكون عبارة عن منفعة في الذمة, ولا يلزم أن تكون على أداة بعينها أو على مؤجر بعينه، وإنما يكفي فيه الوصف المنضبط.

إذاً: هذه ثلاثة أشياء مما يصلح فيها أن تكون ديناً: الأول منها هو الأعيان المثلية التي كالمذروع والمكيل والموزون. النوع الثاني الأعيان القيمية المنضبطة بالوصف عند الجمهور, وغير المنضبط إذا أمكن تحديده بالقيمة فهو تابع له أيضاً على ما اخترناه في باب السلم.

القسم الثالث أو النوع الثالث المنافع، ونقول: المنافع لا يلزم تحديدها عند الجمهور وهو الراجح, لا يلزم تحديد عين مثلاً البيت المسكون، أو الدكان المؤجر، أو السيارة، أو الباخرة، أو الطائرة، وإنما يكفي فيه أن يكون منضبطاً معلوماً بالوصف.

أين تعلق الدين؟ نحن ذكرنا أن الدين هو مال في الذمة، إذاً الدين تعلقه بذمة الإنسان، وهذا التعلق في الذمة واضح، ولكن له استثناءات معينة يصبح الدين فيها ليس متعلقاً في الذمة، وإنما متعلقاً بأعيان معينة.

متى يتعلق الدين بعين، يعني: بشيء محدد؟

متى يتعلق الدين بسيارتك التي تركبها؟ أو ببيتك الذي تسكنه مثلاً؟ أو بالمال الذي في محفظتك الآن؟ متى يتعلق الدين؟

هذه حالات: ‏

الدين الذي يكون برهن

الحالة الأولى: الرهن، لو كان عليك دين مائة ألف ريال، والبيت أو الشقة التي تملكها مرهونة للدائن، أليس الدين حينئذ تعلق بهذه العين بحيث لو عجزت أنت عن سداد الدين، صاحب الدين ماذا سوف يصنع؟

يباع على دينك هذه الشقة ويسدد له، ويصبح صاحب الرهن أحق بهذا من غيره.

إذاً: إذا صار الدين موثقاً برهن فإن الدين يتعلق حينئذ بعين المرهون، يعني: إذا سددت الحمد لله طبعاً، لكن لو لم تسدد معناه رجع صاحب الدين إلى الرهن.

الدين الذي يكون على المحجور عليه

النوع الثاني مما يتعلق بعين, ولا يكفي أن يكون في الذمة: الذي حجر على المدين بسببه، يعني: لو أن إنساناً كثرت عليه الديون وتم الحجر عليه.

ومعروف ما معنى الحجر, كما سوف يأتي إن شاء الله في الدرس القادم: أنه منع الإنسان من التصرف في ماله، إما لحقه هو أو لحق الآخرين.

ففي هذه الحالة نقول: إن هذا الأموال التي تم الحجر عليها تعلقت بها حقوق الدائنين، أصبحت حقوق الدائنين متعلقة بهذه الأموال بذاتها وبعينها, فلا يتصرف فيها إلا بما فيه مصلحة لأصحاب الديون.

الدين الذي في مال المريض

كذلك القسم الثالث مما يتعلق بالأعيان: الدين الذي في مال المريض إذا كان مرضه مخوفاً، أو كما يسمونه مرض الموت، يعني: إنسان مصاب مثلاً بمرض السرطان، أو بتليف الكبد، أو بغير ذلك من الأمراض المخوفة التي الغالب على صاحبها هو العطب والهلاك، وهذا الإنسان عليه ديون، فنقول: إن الديون في هذه الحالة متعلقة بأموال هذا المريض, فلا يتصرف فيها مثلاً بوقف أو بهبة أو بغير ذلك؛ لتعلق حقوق أصحاب الديون بهذه.

الدين الذي في ذمة الميت

وأولى من ذلك القسم الرابع, وهو الدين الذي في ذمة الميت، ولذلك نقول: الميت بعدما يدفن والأشياء المتعلقة بتجهيزه، فإن أول ما يقدم هو الدين، حتى تبرأ منه ذمة الميت.

فهذه أربعة أشياء طبعاً, وليس هذه فقط، لكن هذه من أظهر وأوضح الأشياء التي يصبح الدين فيها ليس فقط متعلقاً بذمة الإنسان، وإنما يكون الدين متعلقاً بماذا؟ بأعيان الأموال الموجودة عنده، وهي قلنا ذكرنا منها أربعة نماذج من أظهر ما يذكر.

الأول منها: الدين الذي يكون برهن - المرهون يعني-.

والثاني: إذا كان مريضاً مرض الموت أو المرض المخوف.

والثالث هو: الدين الذي حجر عليه.

والرابع هو: الدين في ذمة الميت.

الحالة الأولى: الرهن، لو كان عليك دين مائة ألف ريال، والبيت أو الشقة التي تملكها مرهونة للدائن، أليس الدين حينئذ تعلق بهذه العين بحيث لو عجزت أنت عن سداد الدين، صاحب الدين ماذا سوف يصنع؟

يباع على دينك هذه الشقة ويسدد له، ويصبح صاحب الرهن أحق بهذا من غيره.

إذاً: إذا صار الدين موثقاً برهن فإن الدين يتعلق حينئذ بعين المرهون، يعني: إذا سددت الحمد لله طبعاً، لكن لو لم تسدد معناه رجع صاحب الدين إلى الرهن.

النوع الثاني مما يتعلق بعين, ولا يكفي أن يكون في الذمة: الذي حجر على المدين بسببه، يعني: لو أن إنساناً كثرت عليه الديون وتم الحجر عليه.

ومعروف ما معنى الحجر, كما سوف يأتي إن شاء الله في الدرس القادم: أنه منع الإنسان من التصرف في ماله، إما لحقه هو أو لحق الآخرين.

ففي هذه الحالة نقول: إن هذا الأموال التي تم الحجر عليها تعلقت بها حقوق الدائنين، أصبحت حقوق الدائنين متعلقة بهذه الأموال بذاتها وبعينها, فلا يتصرف فيها إلا بما فيه مصلحة لأصحاب الديون.

كذلك القسم الثالث مما يتعلق بالأعيان: الدين الذي في مال المريض إذا كان مرضه مخوفاً، أو كما يسمونه مرض الموت، يعني: إنسان مصاب مثلاً بمرض السرطان، أو بتليف الكبد، أو بغير ذلك من الأمراض المخوفة التي الغالب على صاحبها هو العطب والهلاك، وهذا الإنسان عليه ديون، فنقول: إن الديون في هذه الحالة متعلقة بأموال هذا المريض, فلا يتصرف فيها مثلاً بوقف أو بهبة أو بغير ذلك؛ لتعلق حقوق أصحاب الديون بهذه.