خطب ومحاضرات
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: نشرع في عدة مجالس في الكلام على كتاب العلم من صحيح الإمام البخاري رحمه الله، وإنما كان الاختيار لكتاب العلم من صحيح البخاري؛ لأن العناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وفهم معانيها المتعلقة بفضائل العلم، وربط مسائل العلم وأحكامه وآدابه بهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى ما ينبغي أن يبني عليه طالب العلم، وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتأصل عليها الطالب، وكتاب العلم من صحيح البخاري كتاب مختصر ميسر، فيه أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وآي، وفيه بعض الآثار المروية عن بعض السلف عليهم رحمة الله تبين مسائل العلم وآدابه وأحكامه التي ينبغي لطالب العلم أن يعلمها، وقد صدر البخاري رحمه الله صحيحه بهذا الكتاب بعد كتاب بدء الوحي وكتاب الإيمان، فهو الكتاب الثالث من صحيح البخاري باعتبار أن الوحي علم، وما في هذا الكتاب أيضاً علم الله سبحانه وتعالى الذي علمه عباده، وهذا فضل الله سبحانه وتعالى وإحسانه على هذه الأمة.
قول البخاري رحمه الله: (كتاب العلم)، الكتاب هو من كتب يكتب كتاباً، وأصل هذه المادة الجمع، وإنما سمي الكتاب كتاباً لجمعه لمسائل العلم، وكذلك يسمى كتاباً لالتصاق أوراقه واجتماع الحروف فيه، فربما يكتب الإنسان ورقة واحدة ويقول: كتب فلان كتاباً، أي: جمع فيه وحشد الحروف، وتسمى الكتيبة كتيبة لاجتماع أفرادها بعضهم مع بعض، وهذا أمر ظاهر؛ ولهذا يقول الشاعر:
لا تأمنن فزارياً خلوت به على قلوصك واكتبها بأسيار
يعني: واجمعها، وأصل الاشتقاق في هذه المادة الجمع أينما استعملت، وهذا ما يذكره العلماء في الكتب والدواوين، وجرى عليه اصطلاح العلماء لهذا الأمر، فيقال: كتاب الإيمان، كتاب العلم، كتاب الوضوء، كتاب الصلاة، أي: الجامع لأحاديث أو آيات أو مسائل هذا الباب، والمراد بالعلم: هو المعرفة والإدراك، وقيل: إن العلم والمعرفة لا يتساويان من جميع الوجوه؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى عالم، ويتحفظ بعض العلماء في إطلاق اسم العارف على الله سبحانه وتعالى بهذا الاعتبار.
قال رحمه الله: [ باب فضل العلم، وقول الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[المجادلة:11]، وقوله عز وجل: رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114] ].
وقوله هنا: (باب فضل العلم)، عادة العلماء أنهم يصدرون الأبواب بفضل الشيء الذي يريدون أن يتحدثوا عنه، كفضل الإيمان، وفضل الصلاة، وفضل الطهور وغير ذلك، وعلى هذا يجري الأئمة عليهم رحمهم الله كالإمام البخاري في كتابه الصحيح في كثير من المواضع.
والعلم هو أفضل وأشرف ما يسعى إليه، وذلك أن الإنسان لا يمكن أن يفعل خيراً إلا بالعلم، ولا يمكن أن يؤمن إلا وقد تعلم الإيمان قبل ذلك، ولا يمكن أن يصلي إلا وقد تعلم الصلاة قبل ذلك، ولا يمكن أن يزكي إلا وقد تعلم الزكاة قبل ذلك، إذاً: هو عتبة لكل خير.
ولهذا يقول العلماء إن فريضة العلم أفضل من فريضة العمل؛ لأن الإنسان إذا عمل بلا علم عمل على جهالة وبلا إخلاص وإنما تخمين ولو صادف الحق، كذلك أيضاً فإن نافلة العلم أعظم من نافلة غيره؛ وذلك أن الإنسان حتى في أمر الإيمان لا يمكن أن يؤمن إلا وقد عرف الله، وإلا بماذا يؤمن؟ هذا من الأمور البدهية.
ولهذا نقول: إن معرفة الله سبحانه وتعالى سابقة للإيمان به، وهذه المعرفة منها معرفة فطرية موجودة في ذات الإنسان، وهي التي فطر الله عز وجل الناس عليها، كما قال الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[الروم:30]، وكما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ( ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، إذاً: هذه المعرفة موجودة جبلة في ذات الإنسان.
وكذلك أيضاً فإن من المعرفة ما هي معرفة مكتسبة يأتي بها الأنبياء، وذلك بمعرفة حق الله عز وجل على العباد، فالإنسان يعلم أن الله عز وجل هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي والميت، لكن ماذا يبذل لهذا الرازق وهذا الخالق وهذا المحيي والمميت سبحانه وتعالى؟ يبذل له العبادة، ما هي العبادة؟ الصلاة، ما صفة الصلاة؟ ما هي أركانها وواجباتها ومواقيتها وغير ذلك؟.
لهذا نقول: إن العلم سابق لكل عمل يثاب عليه الإنسان، ومن هذا الوجه يقول العلماء بفضل العلم وجلالة قدره، ويكفي في ذلك قول الله جل وعلا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، العلماء رفعهم الله وأعلى منزلتهم لهذا الأمر: أنهم يتوجهون إلى الناس بالتعليم، ويقوم الناس بالعلم والعمل، وما من أمة نبي من أنبياء الله عز وجل اتبعوه إلا وأجر الأتباع يلحق المتبوع.
وهذا كذلك أيضاً في المنذرين والمبشرين والعلماء والدالين الناس إلى الخير، إن دلوهم إلى الخير بصدق وإيمان وإخلاص لله جل وعلا أثابهم الله سبحانه تعالى بقدر ما يفعلون؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة )، ( ومن دل على هدى )، إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على منزلة العالم.
فقد ذكر الله عز وجل رفع العلماء، وجاء في حديث أنس بن مالك عند الإمام أحمد في المسند قال: ( العلماء كالنجوم )، في هذا جملة من الإشارات منها: أن النجم ثابت بخلاف الكواكب، الكواكب تسير والنجم ثابت، وثبوت النجم فيه دلالة أنه لا يتغير ولا يتحول ولا يتبع الأبصار، وإنما الأبصار تتبعه، يعني لا يتأثر بالجماهير، وإن حيل بينه وبين دعوته يبقى كحيلولة السحاب عن النجم، لا يتغير حتى يراه أهل الأرض، فيراه الجمهور حيل عنه هنا فيذهب هنا ليراني حتى يتزحزح عن مكانه الذي هو عليه، يصبر وينتظر حتى تزول تلك السحابة ثم يرى، فهو ثابت وهو دليل؛ ولهذا الكواكب دلالتها تختلف عن دلالة النجوم، النجوم دلالتها في ذلك ثابتة باعتبار أن النجم هو علامة ثابتة يعرف الإنسان بها الجهات، أما الكواكب المتحركة فيعرف الإنسان بها الأوقات، وهذا أمر معلوم وأمر مشاهد.
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[المجادلة:11])، وقد سبّق ذكر الإيمان قبل العلم؛ لأن الإنسان إذا كان عالماً بلا إيمان كان فيه شبه من إبليس؛ لأن إبليس هو من أعلم مخلوقات الله سبحانه وتعالى بالله، فهو يعلم الله جل وعلا، وشاهد الخطاب، وشاهد الأنبياء على مر العصور منذ أن أنزل الله عز وجل آدم، وطرد الله عز وجل إبليس، وأخرجه وأنزله إلى الأرض، فشاهد ما جاء من أنبياء الله عز وجل بعد ذلك، ورأى مراتب الانحراف في الأمم، والشر في ذلك ونحوه، بل إنه يعلم من الحق ما لا يعلمه كثير من العلماء أو أكثر العلماء؛ لأنه شاهده وعاينه من غير واسطة، فكان أضل؛ لهذا العالم الذي زكاه الله عز وجل هنا هو الذي حمل الإيمان.
فقوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان كلما ازداد علماً أن يزداد عملاً، وأن يزداد إيماناً؛ ولهذا يقول غير واحد من السلف كما جاء عن سفيان: ما ازداد الرجل علماً فازداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً؛ لأن الإنسان إذا كان عالماً ثم توجه إلى الدنيا في هذا إشارة إلى أنه تعلم العلم للعمل أو للدنيا؟ تعلم العلم للدنيا.
ولهذا ينبغي للإنسان أنه كلما تقدم خطوة في العلم أن يتفقد نفسه في العمل، إذا وجد أنه ينقص عملاً فليراجع نفسه وليقم بالتصحيح فإن مساره منحرف، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، ثم قال الله جل وعلا: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[المجادلة:11] بما تعملون أو تعلمون؟ بِمَا تَعْمَلُونَ[المجادلة:11]إشارة إلى أن العمل بالعلم مطلب، وهو الذي يزكيه، وهو الذي يثبت صدق الإنسان، تعلمت حكماً من أحكام الله عز وجل فوجب عليك أن تعمل به؛ وقد كان السلف الصالح يخشون من العلم بلا عمل ولو كان أمراً يسيراً؛ ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: ما من شيء بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله إلا وفعلته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى حجاماً ديناراً، فاحتجمت وأعطيت الحجام ديناراً. هذا فيه تزكية للعلم؛ ولهذا نقول: ينبغي لطالب العلم أنه من تعلم حكماً من أحكام الله عز وجل وهو قادر على العمل به فعليه أن يعمل به حتى يجمع بين العلم والعمل.
وفي قول الله جل وعلا: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114] هنا الخطاب توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر الله جل وعلا نبياً من أنبيائه أن يسأله زيادة في شأن من أمر الدين والدنيا إلا العلم؛ وذلك أنه باب الخير للإنسان، وهذا دليل على فضله، فما أمره بأن يدعوه أن يستكثر من المال أو الجاه أو السيادة أو القبول في الأرض أو غير ذلك، أمره بأن يسأله الزيادة في العلم ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا))، وفي هذا أيضاً إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان كلما صعد في مراتب العلم أن يقر بجهله، فإن باب العلم متسع لا يمكن أن تبلغه، ولا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى سعة علمه، بل ينبغي أن ينظر إلى سعة جهله؛ وذلك حتى يتواضع، وأن يقدر لله عز وجل قدره، ومن أسباب التواضع أن يكثر الإنسان من سؤال الله عز وجل زيادة العلم فإن في ذلك إشارة إلى فقره إلى تعليم الله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [ باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل.
حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح ح، وحدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، قال: حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: ( بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين أُراه السائلُ؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) ].
في هذه الترجمة من البخاري رحمه الله استنباط لطيف، وهو ما يتعلق بأن الإنسان إذا سئل شيئاً وهو منشغل بغيره هذا من آداب الجواب ومن آداب السؤال، وفيه فوائد، وتقدم الإشارة إلى أن كتاب العلم إنما وضعه البخاري رحمه الله ليبين جملة من المسائل لمن ينظر في هذا الكتاب العظيم، وهو أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، والأمة أطبقت واتفقت على قبول ما فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد الإنسان يلتمس في هذا الكتاب شيئاً من الأحاديث الضعيفة فضلاً أن يكون دون ذلك مرتبة من المنكر والمردود أو الموضوع، وإنما مواضع الخلاف في ذلك هي في معرفة مواضع العلل غير القادحة في هذا الكتاب، كذلك أيضاً في بعض الألفاظ الواردة فيه التي هي موضع خلاف حقيقي عند العلماء في قبولها أو ردها؛ لأننا لو قلنا بقبوله كله لكان حكماً في حكم المصحف من جهة دقة ألفاظه وتمامها، نقول: هو ليس كالمصحف باعتبار أن ثمة ألفاظ يسيرة هي موضع خلاف عند العلماء، وأما مجموع أحاديثه وألفاظه فهي محل قبول عند الأئمة.
في هذا الكتاب يذكر المصنف رحمه الله جملة من آداب العلم، آداب التلقي، آداب التعلم والمعرفة، هذا من الأمور المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعرفها في حال السائل وفي حال المجيب، وفي حال المسئول عنه أيضاً وهي مواضع العلم، وفي هذا يظهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم، وهديه في الرحمة بالناس واللطف بهم.
وهنا أن هذا الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً، وكان منشغلاً بغيره، ففي هذا أن الإنسان لا يقدم المفضول على الفاضل ولو وجد داعٍ إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شيء وهو منشغل بغيره، فاستمر في حديثه ولم يجب ذلك السائل.
وفي هذا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إجابة السائل؛ لأن كتمان العلم لا يجوز، والله جل وعلا إنما بعث أنبياءه لتعليم الناس وإرشادهم من غير سؤال، فكيف وقد حصل السؤال، ويروى في الخبر ( أن من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة )؛ لهذا كان الأنبياء أعلى الناس مرتبة في باب البلاغ، وأخشاهم لله سبحانه وتعالى في هذا الأمر بإبراء الذمة في تعليم الناس؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موضع في أمر البلاغ يقول: ( اللهم بلغت، اللهم فاشهد )، يعني: إبراء للذمة بالبلاغ.
ولم يفوت النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً سؤال السائل مع انشغاله بالفاضل عن المفضول، أي: أن الإنسان إذا وجد لديه فاضل ومفضول وأمكنه الجمع بينهما فإنه يأتي بهما، فسئل النبي عليه الصلاة والسلام وهو منشغل بفاضل، سأله سائل سؤالاً مفضولاً عند النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يراه أنه هو الفاضل، في هذا إشارة أيضاً إلى أنه ينبغي للإنسان ألا يتنازل عن الفاضلات إلى المفضولات نزولاً عند رغبات الناس وإجابة لهم؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جامل أحداً في باب العلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام منشغلاً بما هو أولى بالبيان، فما قال أجامل فلاناً؛ لأن رسالته أولى من غيره، وهذا السائل ما سأل النبي عليه الصلاة والسلام إلا وهو يرى عند نفسه أن سؤاله أولى بالجواب من استرسال النبي صلى الله عليه وسلم في ظاهر السير، وهو حسن المقصد في ذلك، لكن حسن المقصد لا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدع ما هو عليه من الأمور الأولى في البيان، فانشغل النبي عليه الصلاة والسلام بالفاضل وترك المفضول، ثم استدرك ذلك المفضول وقام بأدائه عليه الصلاة والسلام.
ويقول هنا قال: ( جاء أعرابي قال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث )، في هذا أيضاً حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فما عنف ذلك السائل مع كونه قد قاطع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قال له: اسكت، أو دع، أو أنصت، أو غير ذلك، وإنما استرسل في حديثه وهو يدرك أن الاسترسال كافٍ في الانصراف عنه إلى حين وقته، ثم أجابه بعد ذلك تعليماً له وتطييباً لخاطره، وإبراء لذمته.
قال: ( فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع )، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر منه التجاهل لهذا السؤال وانصرف إلى غيره، كذلك أيضاً ينبغي للسائل إذا سأل أحداً ثم انصرف عنه أن يعذره ربما كان منصرفاً إلى أمر فاضل، ومثل هذا لا يعني احتقاراً ولا ازدراء، بل يعني أنه انشغل بشيء أولى من أمر البلاغ، وينبغي أيضاً للمتحدث أو للعالم أن يجيب السائل ولو بعد حين إبراء للذمة.
ثم هنا في سؤال الأعرابي عن أمر الساعة أجابه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المراد بالساعة هو يوم القيامة، وإنما سميت بالساعة باعتبار أنها تأتي في لحظة على الناس، والساعة تطلق على اللحظة، وتطلق على الساعة الزمنية كما هي معروفة في وقتنا، والعرب تقسم الساعات الليل والنهار إلى أربع وعشرين ساعة، وهذا أمر معلوم كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( من جاء في الساعة الأولى )، يعني: يوم الجمعة إلى آخر الخبر، فنقول حينئذ: إن تقسيم ساعات الليل والنهار هي اثنا عشر ساعة في النهار ومثلها في الليل، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أين أُراه السائلُ عن الساعة؟ ) يحتمل أن هذا الأعرابي قد غير مكانه، أو انتقل أو تحول أو نحو ذلك، ثم أجابه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة )، والمراد بتضييع الأمانة: هو عدم أداء الواجب على من استحق التكليف، يعني: قام التكليف على الإنسان، ثم فرط في أداء الأمانة، وهذا يتوجه إلى الناس كلهم، إلى الحاكم، وإلى العالم، وإلى العامة، وتفريط الحاكم في الأمانة يكون فيما ولاه الله عز وجل من القيام بأمره سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً في جانب الأموال، وذلك بتضييع الحاكم أموال الشعوب وتبذيرها والإسراف فيها والاستئثار بذلك، أيضاً العالم يكون بأمر البلاغ والتسويف أو الميل إلى الدنيا أو المداهنة في دين الله عز وجل، وتعطيل أمره سبحانه، وكذلك أيضاً بالنسبة للعامة في أداء الأمانة فيما يتعلق بأمر الله سبحانه وتعالى بما عقده الله عز وجل بينه وبين عباده إلى جانب الدنيا والانصراف، كذلك إضاعة الأمانة فيما بين الناس من جهة نكران الأمانات وجحدها من ذلك السرقة، وغصب الأموال والأراضي وغير ذلك، فإذا ظهر هذا في الأمة فإن هذا من أمارات الساعة، حتى إن الإنسان ربما لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يستطيع أن يضع وديعة عنده لخوفه على ماله، وهذا إشارة إلى ضعف الأمانة في الناس.
وهنا قال: ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ) وهذا من أماراتها الصغرى، قال هنا: ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )، وذلك بتسليط حكام جهلة بعيدون عن إقامة حكم الله عز وجل ومراده، وكذلك أيضاً أن يتصدر في الناس أهل الجهل لا أهل العلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث ابن العاص في الصحيح قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )، هذا من علامات الساعة، يعني: إذا ظهر ذلك من الإنسان فرأى من يتصدرون للناس في العلم والفتوى وتوجيه الناس وهم على جهل، فهذا إشارة إلى أن الأمر أسند إلى غير أهله، كذلك إذا تصدر في الأمة حكام أو ولاة على اختلاف ولاياتهم الكبرى أو الصغرى وهم ليسوا من أهل الأمانة، وليسوا من أهل الثقة، وليسوا من أهل الديانة، واستأثروا بالأمر فهذا من أمارات الساعة الصغرى.
قال رحمه الله: [ باب من رفع صوته بالعلم.
حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: ( تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثاً )].
قال هنا: (باب من رفع صوته بالعلم)، ورفع الصوت بالعلم له فوائد: منها البلاغ، ومنها بيان أهمية القول، البلاغ حتى يسمع من كان بعيداً، فإنه يجب على العالم أن يعلم الجاهل في موضعه الذي يسمعه؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح كان يخطب في العيد للرجال، ثم يتوجه إلى النساء ويخطب فيهن، هذا إشارة إلى أنه يبلغ من احتاج إلى بلاغ إذا لم يبلغه صوته، وهذا هو الفائدة الأولى من رفع الصوت هو البلاغ.
الثاني: بيان أهمية الخطاب والمعنى الذي يريد الإنسان إيصاله إلى الناس برفع صوته، هذا من الأمور المقصودة برفع الصوت، أي بيان أهمية هذا المعنى إما أن يصرخ في الناس ونحو ذلك؛ ولهذا ( كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً إذا خطب في الناس احمر وجهه وعلا صوته )، وفي ذلك بيان لأهمية هذا الخطاب وهذا القول؛ ولهذا نقول: هذا يكون غالباً في جوانب الخطب وانتقاء المعاني، وفيها أيضاً من التخويف والترهيب والترغيب وبيان الخطورة، وهذا يختلف من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال.
قال هنا: (رفع صوته بالعلم)، وهذا يظهر في هذا الحديث في الصلاة قال: ( فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار )، والمراد من رفع الصوت هنا هو النوع الأول وهو أن يسمع الناس ذلك الخطاب، ( ويل للأعقاب )، وويل وعيد وتهديد لمن فعل ذلك؛ أي: أنهم توضئوا وقصروا وذلك لتعبهم في حال السفر، وربما يتوضأ الإنسان على عجل ويبقي شيء من عقبه، فهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي المنادي ( ويل للأعقاب من النار )، أي: توعد الذين أبقوا من أعقابهم شيئاً وقصروا في الوضوء أن الله عز وجل يعذبهم بمقدار تقصيرهم ذلك، واختلف العلماء في ذكر العقاب هنا هل الإنسان يعذب بعقبه أو المراد بذلك بأهل الأعقاب، فيقال: ويل لأهل الأعقاب؟ فيحذف ذلك باعتبار المعرفة والعلم بداهة بذلك، فنقول: كلا القولين محتمل، وهو شبيه بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، يعني: هل هذا يعذب ما أسفل من الكعبين أو يعذب صاحبها؟ كلا الأمرين محتمل، والله أعلم.
وقوله هنا: (مرتين أو ثلاثاً) فيه تكرار العلم، أن الإنسان يكرر العلم، وله ترجمة عند المصنف تأتي بإذن الله.
قال رحمه الله: [ باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا، وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحداً، وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. وقال شقيق، عن عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم كلمة. وقال حذيفة: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين. وقال أبو العالية، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه. وقال أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم عز وجل.
حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة ) ].
هنا في قول المصنف رحمه الله: (باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا) هذه تسمى صيغ السماع، ومراده بالمحدث يعني حامل الحديث، وليس المراد بذلك هو المعنى الاصطلاحي عند أصحاب الحديث، وذلك أن مثل هذا الاصطلاح أصبح علماً على معنى من المعاني بوضع العلماء عليهم رحمة الله، ولكن المراد بذلك هو المعتني بعلم الحديث، قال: (باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا)، هذه صيغ السماع، والعلماء يختلفون هل صيغ السماع متشابهة أم هي متباينة؟ منهم من يقول: هي واحدة باعتبار أنها تفيد السماع، ومنهم من يقول: إنها مختلفة، لكن نقول: إن السماع من جهة الحقيقة يختلف، منه ما يسمع من المحدث مباشرة، ومنه ما يكون عرض على المحدث، أي: أن التلميذ يقرأ من كتاب الشيخ والشيخ يسمع والناس يكتبون، إذاً الشيخ لم يتكلم، كتب كتاباً ثم قرأه التلميذ، هذا يطرأ عليه شيء من الغفلة، أو الخطأ في قراءة التلميذ، أو ربما تجاوز سطراً أو أسقط شيئاً من ذلك أو كلمة، أو صحفها في حين غفلة فيكتب خلاف ذلك، وهذا يستعملونه غالباً في لفظ الإخبار.
والتحديث والسماع غالباً يكون بالسماع من فم الشيخ مباشرة لا بمجرد العرض، ومنهم من يساوي بين هذا وهذا، لكن نقول: إن ما كان سماعاً من الراوي مباشرة فهو يختلف، ما حُدث به الإنسان فرداً، وما حُدث به جماعة، فما حدث به منفرداً هذا أقوى؛ لأن السامع يرعى وينصت، ويطرق للمحدث، بخلاف لو كان الإنسان أمام جماعة، الآن أنتم أمامي جماعة وتسمعون الحديث لو كان واحداً منكم أمامي ولم يكن معه أحد من الحضور لكان أشد انتباهاً؛ لأن الخطاب ينصب إليه منفرداً؛ ولهذا إذا قال الراوي: حدثني وأخبرني وأنبأني هذا أقوى، إشارة إلى أنه كان وحده، أما إذا كان مع جماعة فهو يأتي بعد ذلك؛ فقول الراوي: إنه حدثني أقوى من حدثنا، وأخبرني أقوى من أخبرنا، وأنبأني أقوى من أنبأنا، وسمعت أقوى من سمعنا، باعتبار أن الخطاب توجه إليه، فالمحدث منتبه في ذلك، والمستمع كذلك أيضاً منتبه في هذا.
ويأتي بعد ألفاظ السماع ما يسمى بالعنعنة: وهو رواية الراوي عن شيخه بغير سماع، يقول: عن فلان، أو أن فلاناً قال، أو قال فلان مما لا يفيد سماعاً، والأصل فيه أنه محمول على السماع إلا إذا كان الراوي متهماً بالتدليس، فإذا كان متهماً بالتدليس فإن الحديث في ذلك يرد، وهنا نقل عن جماعة من العلماء الذين يرون أن صيغ السماع واحدة، كما نقل ذلك عن الحميدي .
ثم ذكر أيضاً استعمال هذه الصيغ وأصلها وتاريخها، وأنها موجودة حتى في كلام النبي عليه الصلاة والسلام كما ذكر هذا في حديث عبد الله بن عمر، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فحدثوني )، يعني: أن هذه العبارة كانت تجري في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، كحال عبد الله بن مسعود في قوله: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، وكذلك أيضاً لفظ سمعت قاله عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظ الرواية جاء عن عبد الله بن عباس، وكذلك أيضاً عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، وفيه استعمال النبي عليه الصلاة والسلام لهذا في قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها )، ويأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل فإن المصنف يكرره معنا بإذن الله.
قال رحمه الله: [ باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم.
حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة ) ].
هنا في ذكره لمسألة (طرح الإمام المسألة لأصحابه ليختبر ما عندهم من العلم) إشارة إلى عناية النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وهذا ما ينبغي أن يقتدي به العالم أيضاً في ذلك ليبين مدى ما عنده من علم وإدراك لما خاطبهم به، وهذا يكون بطرح السؤال.
كذلك أيضاً فيه دفع للمنافسة بين المتعلمين حتى يتنافسوا في تحقيق العلم، فإن الله عز وجل أمر بالمنافسة وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، يعني: أن الإنسان يسابق غيره في عمل المعروف؛ ولهذا الله عز وجل يقول: وَسَارِعُوا[آل عمران:133]، سَابِقُوا[الحديد:21]، يعني: أن الإنسان يرى أن معه غيره ممن يسعى في هذا الطريق فينبغي أن يسبقه حتى يفوز، ولكن يكون ذلك مع صدق نية وإخلاص لله جل وعلا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطرح المسائل لأصحابه لينظر ما لديهم من علم ومعرفة، وهذا يظهر في أحاديث كثيرة، منها ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام حينما ترك أبا بكر الصديق يؤول الرؤيا ثم لما انتهى قال: ( أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً )، ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم التأويل له مجرداً، وإنما نظر إلى حال تأويل أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يمهل الطالب بالجواب، وكذلك أيضاً بالمعرفة، وحتى يميز الإنسان ما عنده، وحتى يظهر المتميز عن غيره فيكون في ذلك حثاً وحظاً لغيره أن يقتدي به.
وقوله: ( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ )، فيه أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله مع صغر سنه إلا أنه أدرك الجواب مع وجود الكبار، وفيه أيضاً حياؤه من الكلام والجواب مع وجود الكبار في قوله: (فاستحييت) يعني: أن أجاوب مع وجود العلية الكبار كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وغيرهم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي: أن الصغير ينبغي أن يحترم الكبير، وهذا شيء من الحياء والفطرة في هذا، وهو في ظاهر السياق أنه تمنى لو أجاب حتى يحظى بثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه ومدحه له، ومعرفة ما لديه أيضاً من علم وخير ومعرفة في ذلك.
وفي هذا أيضاً فضل النخل وفضل المؤمن، فالمؤمن في فضله أينما يوجه يأت بالخير، إن تعامل الإنسان معه بالمال كان صاحب أمانة وثقة ووفاء، وإذا تعامل معه بالصحبة كان صاحب تحمل وصبر وإعانة وتسديد، وإذا كان في الجهاد كان صاحب ثبات وقوة، وإذا كان في العبادة كان معيناً عليها بحسب مرتبته في جانب الإيمان، كذلك أيضاً فإن النخلة كل ما فيها ينفع ويستفاد منه وذلك بثمرها، وكذلك أيضاً بعسبها وساقها وغير ذلك مما يستفيد منه الناس، بخلاف بقية الأشجار التي يستفيد منها الناس بثمارها، وقل ما يستفيدون فيما عدا ذلك.
وقوله: (ليختبر ما عندهم من العلم)، الاختبار على نوعين:
اختبار من الطالب للعالم، والنوع الثاني: اختبار العالم للطالب، اختبار العالم للطالب هذا المعلوم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما اختبار الطالب للعالم ليستوثق ما لديه، فإن ثبت ما لديه من علم ومعرفة أمسك به، نقول هذا على حالين:
الحالة الأولى: إذا كان يريد بذلك أن يبحث عن شيء من الأغلوطات وشيء من الزلات حتى يقوم بالقدح فيه فهذا من الأمور المنهي عنها، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات )، والأغلوطات في المسائل أن يبحث الإنسان عن الزلات.
وأما إذا كان يريد من ذلك الاختبار ليستوثق ما لديه من علم، وقد كان الأعراب منهم من يأتي للنبي عليه الصلاة والسلام ويستوثق ويسأله، وربما يقسم عليه، فكما جاء في الصحيح: ( إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، إني سائلك بالذي رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم ) إلى آخر الخبر، يعني: يريد أن يستوثق في مثل هذا؛ لأن الإنسان يريد من ذلك أن يستبرأ لدينه، وأن يأوي إلى ركن شديد في هذا، نقول: مما لا حرج فيه إذا أراد من ذلك استيثاقاً، ولا يريد من ذلك مغالطة أو ترصداً أو تربصاً.
قال رحمه الله: [ باب القراءة والعرض على المحدث، ورأى الحسن والثوري ومالك القراءة جائزة، واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( آلله أمرك أن نصلي الصلوات؟ قال: نعم ) قال: فهذه قراءة على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه، واحتج مالك بالصك يقرأ على القوم فيقولون: أشهدَنا فلان، ويُقرأ ذلك قراءة عليهم، ويُقرأ على المقرئ فيقول القارئ: اقرأني فلان.
حدثنا محمد بن سلام، حدثنا محمد بن الحسن الواسطي، عن عوف، عن الحسن قال: لا بأس بالقراءة على العالم ].
الأصل فيمن اسمه سلام أنه بالتشديد قال: سلاَّم إلا عبد الله بن سلام وهو الصحابي ومحمد بن سلام شيخ البخاري .
قال رحمه الله: [ حدثنا عبيد الله بن موسى، عن سفيان قال: إذا قرئ على المحدث فلا بأس أن تقول: حدثني، قال: وسمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان: القراءة على العالم وقراءته سواء.
حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، عن سعيد هو المقبري، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: ( بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك. فقال: سل عما بدا لك. فقال: أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم. قال أُنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. قال أَنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم. فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر )، رواه موسى وعلي بن الحميد، عن سليمان، عن ثابت، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ].
أراد المصنف رحمه الله بهذا أن يتم ما تقدم في مسألة صيغ السماع، فأشار إلى ما يسمى بالإجازة، وهذا هو شبيه أيضاً بالسماع أن الإنسان يبلغ ما لديه، إلا أنه دون السماع مرتبة إلا في مقام النبوة، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرأ عليه الوهم والغلط في البلاغ؛ لأن الله عز وجل عصمه بخلاف غيره، فقد يُقر الإنسان على شيء ويقع في شيء من الوهم والغلط، ولكن ربما أيضاً حتى لو كان الإنسان منتبها ًلا ينتبه.
كذلك أيضاً مسألة العرض من قبل الطالب على الشيخ هذا أيضاً في حكم السماع، وقد جاء هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وقد أجازه غير واحد من العلماء كالإمام مالك رحمه الله إمام أهل المدينة، وهو أن يعرض على الشيخ كتابه، ثم يقر ما فيه ويقول: إن هذا الكتاب كتابي حينئذٍ يحدث التلميذ ولو لم يسمعه من فم الشيخ.
ويدخل في ذلك أيضاً مسألة المناولة، بأن يناوله الكتاب ثم يقول: هذا الكتاب هو الذي حدثته أو حدثني به فلان، حينئذٍ كل ما فيه يحدثه فيقول: حدثني هذا الشيخ، وهذا ظهر في حديث الأعرابي الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام فسأله أسئلة وأقسم عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام يكتفي بقوله: نعم، يعني: هذا الكلام صحيح، فهذا ينقل الكلام الذي لديه إلى قومه كأن النبي عليه الصلاة والسلام قاله بمضمونه، بينما أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتلفظ بذلك، وذلك أيضاً كالألواح والكتب وغير ذلك، فإذا عرضها عليه فيقول: هذا كتاب أنت ألفته أو كتبته أو نحو ذلك، فإذا قال: نعم، فله في كل ما فيه أن يقول: حدثني به فلان، أو سمعته من فلان ما دام أنه أقر بما فيه، ويدخل في ذلك مسألة الشهادة، وكذلك أيضاً مسألة الكتب، وكذلك أيضاً مسائل العلم، وهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً في مجموعة من المسائل.
ونقله عن سفيان هنا في قوله: (إذا قرئ على المحدث فلا بأس أن يقول: حدثني. قال: وسمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان: القراءة على العالم وقراءته سواء)، يعني: سواء قرأ العالم على التلميذ أو التلميذ قرأ على العالم المضمون واحد، ومن العلماء من يجعل هذه مرتبة دون ذلك.
وما جاء في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى في سؤال ضمام بن ثعلبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نوع من العرض يعني يعرض عليه، الله فرض عليك الصلوات الخمس تصليها في اليوم والليلة، والنبي عليه الصلاة والسلام اكتفى بنعم، والجواب في ذلك أنه يذهب ويقول حدثني رسول الله أن الله فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما نطق هذا اللفظ، فيكون حينئذٍ العرض كحال التحديث.
وفي قوله: (أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر) بنو سعد بن بكر تربى فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم من أفصح العرب؛ ولهذا يروى في الخبر: ( ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر )، فهو أراد أن يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: أنا من القوم الذين كنت فيهم، ونشأت فيهم، وأخذت من لسانهم، إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يعرف بنفسه ولو لم يسأل، أنا فلان بن فلان من القوم الفلانيين، وهو كذلك أيضاً من البلد الفلانية، ونحو ذلك حتى يسكن الإنسان ويطمئن إليه.
طبعاً ما يتعلق بالمسائل العلمية المتضمنة للأحاديث الواردة، فثمة مسائل علمية تتعلق بالأحكام، مثلاً في أحكام الصلوات والأزمنة ومواقيتها وهي لا تعلق لها ببابنا، كذلك أيضاً مسألة الصيام وأحكامه، ورمضان ومراتبه ومسائله، وكذلك أيضاً في الصيام في غير رمضان هل هو واجب؟ يستدل بهذا على عدم وجوب غير رمضان، وكذلك عدم وجوب غير الصلوات النوافل والوتر وغير هذا، وكذلك أيضاً فيما يأتي في أمور الزكاة هل في مال الإنسان حق غير الزكاة؟ هذا من المسائل لو ولجنا فيها لاحتجنا إلى أشهر، ولكن نتعلق هنا بالمسائل المتعلقة بباب العلم التي فيها شيء من المسائل أو الآداب أو الأحكام التي هي تتعلق بباب العلم؛ لأنا نشرح كتاب العلم من صحيح البخاري، وأما لو أردنا أن نسهب في الأحكام الفقهية وكذلك العقدية لأدخلنا هذا في أبواب أخرى، وهذا ربما يؤثر على الوقت، ولا ننتهي من هذا؛ لهذا نقول: إن ما نتجاوزه من أحكام لعدم تعلقه بباب العلم.
قال رحمه الله: [ باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان.
وقال أنس: نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق، ورأى عبد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزاً. واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السرية كتاباً وقال: ( لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا )، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلاً وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق ].
يقال: المسيَّب والمسيِّب، المسيِّب مدني، وأهل المدينة يقولون مسيِّب، وغيرهم يقولون المسيَّب كما قال علي بن المديني، وكلاها صحيح إلا أن الأرجح بالكسر ابن المسيِّب، وأما قوله: (سيبوني سيبهم الله) فلم يصح ذلك عنه.
قال رحمه الله: [ وحدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده، فقلت لـقتادة: من قال: نقشُه محمد رسول الله؟ قال: أنس ].
هنا في قول المصنف رحمه الله (باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان) بيان أهمية المناولة في العلم، وكذلك الكتابة، وأن الإنسان ربما لا يصل بكلامه بقوله إلى الناس بالعلم، فيجب عليه أن يكتب إليهم، فالكتاب سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة بالبلاغ، وذلك أخذاً لكلام الله عز وجل فإنه عند الله تعالى سبحانه وتعالى مكتوب، وقد أبلغه الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل بلاغاً، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وأبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته.
وفيه أهمية الكتاب إلى أهل البلدان وأهل الآفاق وتعلميهم، وكذلك أيضاً تصنيف الكتب في العلم، وهذا بحسب حاجة الناس، يكتب العالم في ذلك، وهذا له هدي وسلف، ويكفي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى البلدان، فكتب النبي عليه الصلاة والسلام إلى ملك البحرين، وكسرى، وقيصر، وملك مصر، ودومة الجندل وغير ذلك من البلدان، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً إلى عماله، وكان يكتب ويعطي أصحاب السرايا، وغير ذلك من الكتب التي يريد بها النبي صلى الله عليه وسلم التعليم والبلاغ وإقامة الحجة.
فربما يبلغ الإنسان بكتابه ما لا يبلغ بقوله؛ ولهذا ابن الجوزي رحمه الله كان يسمي الكتاب الابن المخلد، يعني: أنه يبقى من إرث الإنسان فينفع الله عز وجل به، وينسب إليه كتاب يبقى ما بقي ما أبقاه الله سبحانه وتعالى إلى أمد الدهر، فينتفع به الناس، فيكون من العلم الذي ينتفع به.
كذلك أيضاً فإن البلاغ في مسألة العلم في الناس ولو لم يكن ذلك بكتاب فإن هذا مما ينفع الله عز وجل به، فيعلم الإنسان الخير تعليماً للناس ولو انقدح في أذهانهم ولو لم يدونوه، فينقله الإنسان إلى ابنه أو أصحابه أو تلاميذه، ثم يوجه التلاميذ إلى من بعدهم، فالله عز وجل يعلم العلم المنقول في الأذهان كما يعلم سبحانه وتعالى العلم المنقول في الكتب، فكم من العلوم موجودة في أذهان الناس لا يعلمون من أين أتت إليهم؟ وإنما تناقلوها كما يتناقلون الكتب المدونة؛ لهذا نقول: إن الله عز وجل يثيب الإنسان على ما يبلغ به الناس، سواء كان بلسانه أو كان بقلمه، وجرى على هذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بتبليغ الدين سواء كان باللسان أو كان بالكتاب؛ ولهذا نسخ عثمان بن عفان المصاحف، ثم وزعها على البلدان حتى ينتشر، وكان له عظيم الأجر والثواب في هذا، فكانت الأمة إلى اليوم على هذه المصاحف التي نسخها عثمان، لما كان سبباً لها وإن لم يدونها بيده عليه رضوان الله تعالى لكنه كان سبباً في الجمع، وكذلك أيضاً في النسخ كان لها الأثر في نفع الناس وعنايتهم بكلام الله عز وجل تفسيراً، وكذلك أيضاً معرفة لما فيها وما يتضمنها من أحكام وقصص وتوحيد، وكذلك أيضاً جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى العناية بالعلم بالكتابة للناس، كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، والنبي صلى الله عليه وسلم كتب للناس واستكتبوه عليه الصلاة والسلام.
وهنا يقول: (ورأى عبد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزاً)، يعني: مسألة الكتابة، وكذلك أيضاً المناولة، فحينئذ يقال: حدثني فلان ولو لم يلتق به لأنه كتب إليه، وهنا في مسألة المناولة يستدلون بحديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه كتب لأمير السرية كتاباً قال: ( لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا )؛ لأنه ناوله هذا الكتاب، ولم يفصح عما فيه ثم لما بلغ مكان كذا وكذا فض ذلك الكتاب ثم قرأ ما فيه، فكان مناولة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا على ما تقدم في كتاب النبي عليه الصلاة والسلام للبحرين، وكذلك أيضاً في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى غيره.
وفي هذا أنه ينبغي للإنسان أن يستوثق لكتابه تحريراً، وكذلك أيضاً تثبيتاً لما فيه من علم حتى لا يزاد فيه ولا ينقص، حتى كذلك أيضاً يثق به الناس، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام اتخذ خاتماً فإن الملوك لا يعتدون إلا بكتب مختومة؛ حتى لا يدخل فيها شيء من التزوير أو التزييف ونحو ذلك فيأخذونها على الجد، ويجب أن يستوثق الإنسان حتى في زماننا، مثلاً في الكتب المطبوعة بتوثيقها مثلاً بنسبتها إليه، أو بوضع أرقام، أو وضع أختام، أو وضع حقوق ونحو ذلك بحيث تثبت أن ثمة مؤلف يعتني بهذا الكتاب، وتحمل على هذا المحمل من التوثيق والعناية والتثبت.
قال رحمه الله: [ باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلْقة فجلس فيها.
حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره عن أبي واقد الليثي: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلْقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه ) ].
في هذا الحديث إشارة إلى جملة من المسائل منها: أنه ينبغي للإنسان ألا يحجز له مكاناً، وإنما يجلس حيث انتهى به المجلس، وفي هذا ترجم البخاري رحمه الله أن الإنسان يقعد حيث انتهى به المجلس، سواء كان حاضراً في مجلس علم، أو في مجلس عامة، وأما حجز المكان فهذا يورث الإنسان شيئاً من الكبر، وكذلك أيضاً البغي وربما الظلم، ويوغر النفوس في بعضها البعض؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو من هو في المنزلة لم يتخذ مكاناً له عليه الصلاة والسلام في مجلس إلا في موضع العبادة كمحراب الصلاة ومنبر الجمعة وغير ذلك، هذا ليس لمقام الذات وإنما لمقام البلاغ ومصالح الشرعية.
وأما مسألة الجلوس فكان النبي عليه الصلاة والسلام يجلس كما يجلس أصحابه سواسية؛ ولهذا جاء في الخبر في صحيح البخاري (لما جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة جلوس، قال الأعرابي: أيكم ابن عبد المطلب -يعني: لا يستطيع أن يميز بينهم، باعتبار أن جلسة النبي عليه الصلاة والسلام كجلستهم، ولبسه عليه الصلاة والسلام كلبسهم- فقالوا: هذا الرجل الأبيض المتكئ على سارية، فجاء إليه فقال: ابن عبد المطلب؟ فقال: نعم )، إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يجلس كما يجلس أصحابه، إذا جلسوا على الأرض يجلس معهم، وإذا رآهم قياماً يقوم معهم، وإذا رآهم متكئين يتكئ معهم، وألا يبرز أمامهم، فإذا كان على موضع من المواضع البارزة فهذا يورث الإنسان شيئاً من الكبر والأنفة عليهم أو نحو ذلك، وهذا من الأمور المذمومة.
وكذلك أيضاً فيما يتعلق بمجالس العلم لا يجلس المعلم في موضع يمتاز عنهم إلا لأجل بلاغ كالمنبر أو المحراب أو غير ذلك في أمور العبادة التي يبلغ بها الناس؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم وضع منبراً له حتى يبلغ الناس فيراه الناس، يعني: من جهة سماع قوله ونصحه، وكذلك أيضاً مشاهدته، فإن المشاهدة مع الكثرة من الأمور المطلوبة.
وهنا في قول المصنف رحمه الله: (باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها)، يعني: أن الإنسان يلتمس فرجة لنفسه، كذلك أيضاً ينبغي للناس إذا كانوا غير متراصين أن يتراصوا حتى يجد الإنسان الوافد إلى مجالس العلم فرجة، فيحصل لهم الأجر في ذلك.
وفي هذا الحديث أيضاً إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا حضر مجلساً من مجالس العلم ألا يغادره حتى ينتهي، وألا ينصرف فهذا أمارة على عدم المبالاة، وربما يكون شعبة من شعب النفاق، فإذا سمع الإنسان أحداً يتحدث في مجلس بذكر الله سبحانه وتعالى فإنه يتأكد في حقه الجلوس، بل قال بعض العلماء بوجوب ذلك، ولو أن يسمع شيئاً يسيراً، فلو كان منشغلاً يسمع لدقائق ونحو ذلك، كمن لديه من المشاغل، أو لديه من المواعيد ونحو ذلك التي لا يستطيع إخلافها، وأما غيره فعليه أن يجلس حتى ينتهي المحدث، وإذا كان الوقت طويلاً يجلس ولو شيئاً يسيراً يزكي به نفسه بامتثال ذلك الأمر، وكذلك قطعاً للنفس عن الأنفة والكبر بعدم حاجته، لا يوجد أحد من الناس إلا وهو محتاج للعلم، إما جاهل يتعلم أو عالم يذكر، ولو كنت عالماً فإنك تتذكر.
لهذا القرآن كثير منه تكرار من جهة المعنى، ومنه تكرار من جهة اللفظ، فالتكرار من مقاصد الكتاب العزيز حتى يتذكر الإنسان ويعي؛ ولهذا القلوب تصدأ، والأذهان تصدأ أيضاً إذا لم تتذكر، وربما يطرأ عليه شيء من الران إذا بعد عن ذكر الله سبحانه وتعالى واكتفى بما لديه، كمثل هذه الطاولة إذا تركها الإنسان ليومين وثلاثة ولم يمر عليها شيء ينظفها ألا يجد عليها شيء من التراب أو الغبار أو نحو ذلك، نعم فهي بحاجة إلى أن تجلى ولو كانت جميلة وكانت متينة ونحو ذلك، كذلك أيضاً القلوب بحاجة إلى أن يأتي عليها شيء ولو كان معلوماً لديها من قبل؛ حتى تذكر، وحتى تطهر، وحتى تنقى وتصفو وتزكى بتكرار ذلك الحق عليها.
وهنا الثلاثة الذين جاءوا إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، منهم من وجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، ومنهم من لم يجد ومع ذلك جلس خلفهم، أي أنه تواضع للحق ما تواضع لغير الحق الذي يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، وفي جلسة الإنسان خلف أناس دون أن يكون معهم جالساً فيه نوع من التواضع للحق، والتواضع أيضاً للخلق، فلا يقول أنا لا ينقصني شيء لماذا لا أجد فرجة أو أجلس أمامهم أو نحو ذلك؟ لا، اجلس ولو كنت خلفهم؛ لأنك إنما تستمع للحق لا تستمع لغيره، ولا تخضع ولا تنحني لأحد من الخلق، وإنما تخضع للحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا الثالث الذي وجد في نفسه شيئاً في الجلوس منفرداً خلف الحلقة ولم يجد مجلساً جعله النبي صلى الله عليه وسلم جعله معرضاً؛ ولهذا يقول بعض العلماء بوجوب الجلوس في مجالس العلم ولو شيئاً يسيراً؛ حتى لا يوصف الإنسان بالإعراض، إذا دخلت مسجداً ووجدت أحداً من الناس يتحدث بموعظة أو تذكير أو محاضرة أو وجدت الإمام يحدث أو نحو ذلك، فعليك أن تجلس ولو شيئاً يسيراً حتى تخرج من صفة الإعراض، اجلس ولو كنت منشغلاً دقيقة دقيقتين حتى تستوعب شيئا ًمن العلم، ثم بعد ذلك لتخرج، وإن جلست المجلس تاماً فهذا هو الأولى والأكمل؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ألا أخبركم خبر النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله )، يعني: وجد فرجة، ( وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه ).
قال رحمه الله: [ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رب مبلغ أوعى من سامع ).
حدثنا مسدد، قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه - أو بزمامه - قال: ( أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه ) ].
وهذا من الأمور المهمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حدث الناس قال: ( رب مبلغ أوعى من سامع )، وهذا فيه حث للإنسان أن يبلغ العلم للناس، فربما استنبطوا منه شيئاً من مسائل العلم، واستخرجوا من كنوز المعرفة وغير ذلك ما لا يجده الإنسان، وهذا فيه بلاغ العلم ولو لم يفهمه الإنسان، ربما لا تفهم هذا المعنى لكن تبلغه، فيقوم غيرك ممن جاء بعدك بالاستنباط والفهم والإدراك، وهذا فيه أهمية البلاغ.
والبلاغ على نوعين: بلاغ للعلم بلا فهم، وبلاغ للعلم بفهم، بلاغ للعلم بلا فهم يؤجر عليه الإنسان، ولو جاء الفهم بعد ذلك، فهذا الذي يعتني بطباعة القرآن وطباعة السنة وإعطائها للناس فهو جاهل لا يفقه، لم يؤت شيئاً من الاستنباط، ثم يقوم الناس بالاستنباط والمعرفة وغير ذلك فهذا مبلغ أيضاً؛ لذا نقول لمن يقرأ الحديث على الناس ولا يدرك هذا المعنى: أنت ألقه للناس، ثم الأذهان تقوم بتفتيق العلوم والمعرفة، واستخراج واستنباط المعاني والأحكام من هذا، فـ( رب مبلغ أولى من سامع ).
إذاً: كل واحد له رسالة، ربما يؤتى الإنسان من دقة الفهم والنظر والاستنباط ما يستخرج من مسائل الدين ونصوص الوحيين من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يستخرجه غيره، ومنهم من هو دون ذلك؛ ولهذا تجد عند المتأخرين من الأئمة من يستنبط من الأحكام ما لا يوجد عند المتقدمين؛ ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يبلغ العلم ولو كان جاهلاً به، ومن كان جاهلاً بالعلم فإنه يبلغ العلم بلا فهم؛ لأنه إذا تكلف البلاغ بفهم تكلفه بجهل فأبلغ الناس الجهل، وأضل الناس.
إذاً: أمانة بلاغ العلم واجبة على الناس كلهم إذا لم يقم أحد بإسقاط ذلك التكليف؛ فلهذا نقول: الإنسان الذي ليس بعالم ولا يفهم يبلغ النص، ولو كان شيئا قليلاً؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( بلغوا عني ولو آية )، حتى يزكي الإنسان ويسقط التكليف عنه، فهذه الآية إذا كنت لا تدرك معناها عليك بتلاوتها للناس ربما استنبطوا منها حكماً شرعياً، ولكن لا تتكلم في استخراج معاني أنت لا تعلم صحتها من خطائها، فربما تعارض ما هو الصريح من كلام الله عز وجل ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولماذا كان البلاغ واجباً؟ لأنه ما من أحد إلا ويحتاج إليه، فالأب في بيته واجب عليه أن يبلغ أبناءه؛ ولهذا النبي يقول: ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع )، هذا شيء من البلاغ، من الذي يكلف به هل يكلف به إمام مسجد الحي أن يأمر أبناء الناس بالصلاة واحداً واحداً في بيوتهم؟ أم هو تكليف مشترك أول ما يتوجه إلى الآباء قبل غيرهم؟ تكليف مشترك يتوجه إلى الآباء قبل غيرهم، الأم في بيتها يتوجه إليها الخطاب بالبلاغ؛ لهذا نقول: البلاغ على أنواع: بلاغ -على ما تقدم- للعلم بلا إفهام لمن لم يحسن الفهم، وبلاغ للعلم بالفهم لمن أحسن الفهم، وكلما كان الإنسان أعلم كان البلاغ عليه أوجب من جهة تبليغ دين الله سبحانه وتعالى للناس وأداء الأمانة.
ولهذا نقول: إن البلاغ من الأمور المهمة، ومن وجوه البلاغ الحديثة في سماع تسجيل الصوتيات نشرها، ربما الإنسان لا يؤتى علماً ولا معرفة، لكن وفقه وأعانه الله عز وجل على تسجيل الصوتيات ونشرها للناس، كذلك طباعة الكتب ونشرها للناس، وملصقات الحديث النبوي ونشرها بين الناس، كذلك أيضاً خاصة في الوسائل الحديثة في الانترنت وغير ذلك، نشر الأحاديث والصوتيات والدروس والمحاضرات والأذكار وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، هو لم يؤت علماً لكن استطاع أن ينشر، بلغ هذا (فرب مبلغ أوعى من سامع)، ربما يصل إلى شخص يستنبط منها حكماً ينفع الله عز وجل به الناس، ويستخرج من الأحكام والآداب ما لا يوجد عنده.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [4] | 2618 استماع |
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [2] | 2606 استماع |
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3] | 1222 استماع |