خطب ومحاضرات
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [4]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
قال رحمه الله: [ باب العلم والعظة بالليل.
حدثنا صدقة، أخبرنا ابن عيينة، عن معمر، عن الزهري، عن هند، عن أم سلمة وعمرو ويحيى بن سعيد، عن الزهري، عن هند، عن أم سلمة قالت: ( استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا فتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحب الحجَر، فرب كاسية في الدنيا، عارية في الآخرة ) ].
في هذا الحديث أن الإنسان لا يؤخر الموعظة عن موجبها أو حضورها، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعظ بعض نسائه في وقت متأخر من الليل، وذلك حينما استيقظ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فالموعظة يقولها الإنسان لأهله، ويقولها الإنسان في طريقه، وكذلك أيضاً في جلوسه، ما وجد داع لها؛ لهذا نقول: إن الموعظة لا زمن لها، وإنما مناسبة الوقت؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ووعظ أزواجه، ودعا عليه الصلاة والسلام إلى إيقاظهن للصلاة بالليل.
وفي هذا أيضاً أن كثرة العبادة سبب لستر الله على عباده؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيقظوا صواحب الحجر) حتى يصلين، والسبب في هذا ( فرب كاسية في الدنيا، عارية في الآخرة )، يعني: يرى منها ومن الرجل الستر وحسن الحال يتعرى يوم القيامة بالفضيحة؛ ولهذا نقول: إن الله عز وجل يستر عبده يوم القيامة، وكذلك في الدنيا بطاعته له، والله سبحانه وتعالى والله جل وعلا حيي ستير لا يفضح عبده إلا بقيام موجب لذلك.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا فتح من الخزائن )، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله عز وجل إليه من أمور الفتن والأحوال والأهوال التي طرأت عليه في تلك الليلة، فحدث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض الأقربين، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأقربين منه وهن أزواجه عليهن رضوان الله؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يتعاهد أهله، وأن يتعاهد أبناءه وبناته بالموعظة والتذكير فهذا أولى ما يقع عليه التكليف؛ ولهذا الله جل وعلا أول ما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ[الشعراء:214].
قال رحمه الله: [ باب السمر في العلم.
حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم وأبي بكر سليمان بن أبي حثمة، أن عبد الله بن عمر قال: ( صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتَكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد ) .
حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ( بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام ثم قام، ثم قال: نام الغليم، أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه ثم خرج إلى الصلاة ) ].
في قول المصنف رحمه الله: (باب السمر في العلم) جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ( أنه نهى عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها )، وهذا مخصص ومقيد لما أطلق في النهي، أن السمر في العلم إذا كان لا يفوت على الإنسان واجباً فإنه مباح؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسامر بعض أصحابه بالعلم، وربما بعض أزواجه، وقد جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحدثها قبل أن ينام )، وكذلك أيضاً ما يتعلق بسمر المعلمين مع المتعلمين بشيء من العلم ومعرفة الأحكام فهذا لا يدخل في دائرة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد صلاة العشاء، وإنما المراد بالنهي عن ذلك هو أن يسمر الإنسان في اللهو واللغط والحديث؛ لأنه يفوت عليه سنة فطرية وفريضة شرعية، السنة الفطرية: هي النوم لأن الله عز وجل جعل الليل سكناً، والفريضة الشرعية هي صلاة الفجر، فلو قام الإنسان الليل كله، وتسبب قيامه بتفويت صلاة الفجر كان مرتكباً لإثم؛ لأن الفريضة ولو قلت أعظم من النافلة ولو كثرت، والله عز وجل ما فرضها إلا لبيان منزلتها وعظم أثرها على الإنسان ثواباً عند الله، فالله يفرضها على عباده ليرحمهم إن امتثلوا.
قال رحمه الله: [ باب حفظ العلم.
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ[البقرة:159] إلى قوله: الرَّحِيمُ[البقرة:160] إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفْق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
حدثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قلت: ( يا رسول الله! إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه! قال: ابسط رداءك، فبسطته، قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضمه. فضممته فما نسيت شيئاً بعده ).
حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا ابن أبي فديك بهذا، أو قال: (غرف بيده فيه).
حدثنا إسماعيل، قال: حدثني أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم ].
في هذا فضل الحفظ ومنزلته، وبهذا امتاز جماعة من الصحابة كـأبي هريرة عليه رضوان الله؛ وذلك لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، فكان كذلك أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم حديثاً عنه، فأثمر ذلك فضلاً وخيراً وكذلك أيضاً إحساناً على هذه الأمة بأن نقل لها وحيها عن رسولها صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً فيه أن أبا هريرة عليه رضوان الله تعالى أراد أن يبين سبب إكثاره للحديث، وأن هذا الإكثار ربما يحمله البعض على شيء من الظنة كما يزعم ذلك أهل الأهواء، فأهل الأهواء من الرافضة وغيرهم يتهمون أبا هريرة عليه رضوان الله بالكذب لكثرة حديثه، وقالوا: كيف يحفظ هذه الكثرة؟ نقول: من دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالبركة في الحفظ فإن الحفظ أقرب إليه من غيره، وهذا أيضاً من أمور الإعجاز، فالذي أنطق الله عز وجل له الحجر، وتكلمت البهائم بين يديه، وأسرى الله عز وجل به إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماء، أليس هذا إعجاز أعظم من أن يدعو لأحد أن يحفظ فيحفظ؟ نعم أعظم.
ولهذا نقول: إن هذا من الكرامات التي أوتيها أبو هريرة عليه رضوان الله ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وفي هذا أيضاً أن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فـأبو هريرة انقطع للجلوس عند رسول الله صلى لله عليه وسلم، فكان يكتفي بملء بطنه لا يتزود من ذلك، وليس لديه شيء من متاع الدنيا فتفرغ لذلك، فأخذ خير الإرث وهو العلم.
لهذا ينبغي للمتعلم إذا أراد علماً وأراد فهماً صحيحاً ودقيقاً أن يعلم أنه بقدر ما تعطي العلم يعطيك، بقدر ما تعطي العلم من فراغ الذهن وخلوه من جهة الوقت فإنه يعطيك بمقدار ذلك.
كذلك أيضاً فيه ورع أبي هريرة عليه رضوان الله من حبس الحديث وكذلك إكثاره، فهو أراد أن يبين سبب كثرة حديثه، وقال إنها على سببين:
السبب الأول هو: أنه كان يحفظ ولا يحفظون، ويحضر ولا يحضرون أي أنه يتفرغ.
السبب الثاني: أنه يتورع من كتمان ما لديه من حديث، فيكثر من ذلك حتى يفرغ ما لديه من علم، فإذا قبضه الله عز وجل قد أدى ما عليه، وقد أبرأ ذمته عليه رضوان الله تعالى بما حمل من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا أيضاً حرص الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على طلب الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجابة النبي عليه الصلاة والسلام لهم في ذلك، وأما ما بثه أبو هريرة فهو أحاديث الأحكام، ومسائل الدين، ومن أمور الإيمان والأصول والفروع، وما يتعلق بأمور الآداب، وأما ما لم يبثه فهي أحاديث الفتن من الإخبار عن نوازل أو أسماء أو نحو ذلك، فربما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وغيره بشيء من ذلك، فحبس أبو هريرة ذلك خشية الفتنة؛ ولهذا كان يلمح في بعض الأحاديث عليه رضوان الله تعالى كما قال: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، فتوفي عام تسعة وخمسين قبل إمرة يزيد، وهذا إشارة إلى أنه يعلم أموراً أعلمها الله عز وجل إياه بواسطة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان لا يريد الإخبار بشيء من الفتن، هو يريد أن يتعامل الناس معها كحادثة وعابرة، وأن لا يتسبب بشيء من اضطراب الناس وأحوالهم، فربما لحقه شيء من الأذية في ذلك؛ ولهذا قال: (وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم).
ونقول: هل للإنسان أن يحبس شيئاً من أحكام الدين فيفوت على الناس دينهم فيقع في ذلك لبس إذا خشي على نفسه يجوز أو لا يجوز؟ لا يجوز، هل الذي أخفاه أبو هريرة عليه رضوان الله من أمور الدين أو من أمور الأخبار؟ من أمور الأخبار، لو كان من أمور الدين لانتهى تبليغه لها بزمانها، أما هذه فقد بقيت معه إلى رأس الستين، ثم جاءت بعدها، أين الدين؟ الدين لا يذهب وهو باقٍ محفوظ، إذاً: هذه نوازل وحوادث تتعلق بزمن، أما دين الله عز وجل فلا يجوز للإنسان أن يكتم بحال بيان مسائل الدين وأموره.
قال رحمه الله: [ باب الإنصات للعلماء.
حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: ( استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) ].
في قوله هنا: (باب الإنصات للعلماء) إشارة إلى أهمية الأدب بالإنصات وعدم انصراف الذهن، أو انشغال القلب، أو انصراف البصر والسمع؛ ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إذا قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً قالوا استقبلناه بوجوهنا، استقبلوه بالوجوه، وذلك أرعى إلى الفهم والسمع، وكذلك أدعى لسماع الحديث من المحدث، بخلاف إذا كان الإنسان منصرفاً بسمع أو منشغلاً بأمر آخر فإن هذا مدعاة إلى عدم حرص العالم على التعليم، وعدم إدراك المتعلم للعلم كما قاله العالم، والنبي صلى الله عليه وسلم في قوله هنا قال في حجة الوداع: ( استنصت الناس ) يعني: اطلب منهم أن ينصتوا لما سأقوله لهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يستنصت الناس بحال ورود اللغط أو الحديث، أو ربما لانشغال بالحديث فيما بينهم، لأهمية ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم إياه.
قال رحمه الله: [ باب ما يستحب للعالم إذا سئل عن أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله.
حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، قال: أخبرني سعيد بن جبير، قال: قلت: لـابن عباس إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى ليس بـموسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر؟ فقال كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قام موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتاً في مِكتَل، فإذا فقدته فهو ثم، فانطلق وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحمل حوتاً في مكتل، حتى كانا عند الصخرة وضعا رءوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وكان لموسى وفتاه عجباً، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال موسى لفتاه: (أئتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، ولم يجد موسى مساً من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به، فقال له فتاه: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت)، قال موسى: (ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً)، فلما انتهيا إلى الصخرة إذ رجل مسجى بثوب، أو قال: تسجى بثوبه، فسلم موسى، فقال الخضر: وإني بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، (قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رُشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً) يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه، قال: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر فحملوهما بغير نَول فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر فحملوهما بغير نَول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ (قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت)، فكانت الأولى من موسى نسياناً، فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه، فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: (أقتلت نفساً زكية بغير نفس؟) (قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟) قال ابن عيينة: وهذا أوكد، (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)، قال الخضر: بيده فأقامه، فقال له موسى: (لو شئت لاتخذت عليه أجراً)، (قال: هذا فراق بيني وبينك). قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما ) ].
مناسبة الحديث لهذه الترجمة ظاهر، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما سئل في هذا الخبر عن الأعلم؟ ما وكل العلم إلى الله سبحانه وتعالى ابتداء بل قال أنا أعلم، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه؛ لهذا مهما بلغ علم الإنسان فإنه يكل العلم إلى الله سبحانه وتعالى ويضع العلم في موضعه، كذلك أيضاً أن يعلم أن العلم ليس بالشهرة ومعرفة الناس له، بل ربما يوفق الإنسان إلى شهرة، وربما لا يوفق إليها؛ ولهذا ربما يكون الإنسان له أصحاب وتلاميذ ينقلون عنه علمه.
فالعلم يكله الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا سئل عن أعلم الناس فينبغي له ألا يجيب لأن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وربما كان في أقصى الأرض، ومعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام من جهة الفضل أفضل من الخضر؛ وذلك لمقام النبوة، وهو من أولي العزم، واختلف العلماء في أمر الخضر وحاله ومقامه في باب النبوة، ولهذا نقول: إن مقام موسى في ذلك أفضل، وأن الإنسان أيضاً قد يكون أزكى وأكثر تعبداً وقرباً إلى الله عز وجل وغيره أعلم منه.
وكذلك أيضاً فيه تواضع الفاضل مع المفضول، وذلك في تواضع موسى مع الخضر وإنصاته واستماعه إليه.
كذلك أيضاً فيه عذر المعلم للمتعلم في خطئه الأول وخطئه الثاني، كما وقع ذلك بين موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر عليه السلام.
قال رحمه الله: [ باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً.
حدثنا عثمان، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل ) ].
وفي هذا أهمية بذل العلم على أي حال، سواء كان الإنسان جالساً والسائل قائماً، أو كان العكس في ذلك، فإن الإنسان يؤدي العلم على ما يقوم من أسبابه، وقد جاء كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الأصل فيه علو المعلم على المتعلم مكاناً إذا كان أنفع للبلاغ، وأما في غير ذلك فالأصل أن يكون المعلم كحال المتعلم من جهة المكان، والناس في ذلك سواسية إلا في أمر البلاغ حتى يرى الإنسان في حال تعليمه للناس ويرونه إذا كانوا كثراً فيسمعون عنه، بخلاف لو كان على الأرض والناس حوله كثير فإنهم لا يدركون؛ لهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجمع على المنبر، وفي غير الجمع يجلس النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده على الأرض؛ لأن من حوله أقل من ذلك.
ولهذا نقول: إن بلاغ العلم لا علاقة له بقيام ولا بجلوس، وإنما هو ما قام موجبه فإن الإنسان يؤديه؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أفتى وعلم وهو على الراحلة، وأفتى وعلم وهو قائم، وأفتى عليه الصلاة والسلام وعلم وهو جالس، بل أفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكئ ومضطجع، وكذلك أيضاً فإن الإنسان يعلم غيره على أي حال كان المتعلم، سواء كان قائماً أو جالساً كما في هذا الحديث، وألا يأنف الإنسان ويقول إن فلاناً يسألني وهو قائم وأنا جالس، عليه أن يجلس ليأخذ العلم، لا، بل نقول: الأصل في هذا اللين مع الناس واللطف معهم، فربما كان الإنسان منشغلاً، أو مثلاً لديه شيء من أمور حياته، أو أمور دينه ودنياه فيعذر الإنسان، وذلك بإجابته على أي حال أراد.
نقول: فلان عالم، فلان فقيه، فلان مفسر ونحو ذلك، ولكن لا نقول: فلان أعلم الناس بالتفسير، أعلم الناس بالفقه، أعلم الناس بالحديث، لا نعلم هذا، نقول: لفظ أعلم هو تفضيل له على غيره هل عرفت غيره؟ أنت عرفته، لكن هل عرفت غيره؟ لا يستطيع الإنسان.
قال رحمه الله: [ باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار.
حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهري عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة وهو يسأل، فقال رجل: يا رسول الله! نحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم، ولا حرج. قال آخر: يا رسول الله! حلقت قبل أن أنحر؟ قال: انحر، ولا حرج، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج ) ].
في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنعه شغله، وكذلك لا يمنع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى شغلهم عن سؤال العلم، وكذلك تعليمه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان عند الجمار، وهي موضع انصراف مع الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، ثم وقف النبي عليه الصلاة والسلام للناس يعلم الجاهل منهم، وكذلك أيضاً لم يمنع الناس شدة الزحام واللأواء والشدائد أن يستبرئوا لدينهم، فيعرفوا ما يجهلون من مسائل الدين، وهذا فيه أهمية السؤال عما يجهل الإنسان مهما كانت المشقة، ومهما كانت الصعاب، كذلك فيه أن العالم يبلغ المتعلم والسائل والجاهل في الدين إذا سأله مهما كانت المشقة عليه؛ لأن الإمساك عن الجواب فيه أعظم مشقة عند الله وهي كتمان الحق وكتمان الدين، فلا بد من بيانه.
وفي هذا الحديث أيضاً من الفوائد أن وقوف النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة وهو يسأل فيه إشارة إلى أنه ينبغي للعالم أن يأتي إلى مجامع الناس، ومعلوم أن الجمرة هي موضع لوجود للناس وهو موضع يختلف عن موضع مزدلفة وعرفة، موضع عرفة ومزدلفة هو موضع مبسوط من الأرض، وهو عدة كيلو مترات، الناس يتوزعون فيه، بخلاف الجمرة فإنها موضع محدد يأتي الناس إليه؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يأتي في مثل هذا الموضع؛ لأنه مجمع للناس، فربما يجهلون مواضع الدين فيه، كذلك أيضاً ينبغي للعالم والمصلح والموجه والمربي أن يأتي إلى مواضع اجتماع الناس فيعلمهم، وذلك في المدارس وفي الجامعات وفي مواضع اجتماع الناس، سواء كان في سوقهم، أو في مواضع اجتماعهم في الميادين وغير ذلك حتى يقوم بتوجيه الناس إلى الحق.
قال رحمه الله: [ باب قول الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] .
حدثنا قيس بن حفص، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: ( بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خرب المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه. فقال بعضهم: لنسألنه، فقام رجل منهم: فقال يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت، فقال: إنه يوحى إليه، فقمت، فلما انجلى عنه، فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] ).
قال الأعمش: هكذا في قراءتنا ].
هذا في العلم الذي يؤتاه الإنسان، مهما بلغ الإنسان من العلم يعلم أن هذا العلم قليل بالنسبة لعلم الله سبحانه وتعالى، وكلما كان الإنسان أوعى لهذا المعنى كان أدفع لموضع الكبر الذي يقع في النفوس، فربما يتعلم الإنسان علماً فيغتر به، ويحمله ذلك على التكبر على الناس وعلى ظلمهم والبغي عليهم، وعدم الرحمة أيضاً بالجاهل، وازدرائه وتنقصه وعدم الاكتراث به، وهذا مناف لقيمة العلم، فالإنسان كلما كثر علماً تواضع.
ولهذا يقال: إن الإنسان إذا ثقل علماً انخفض وتواضع للناس، كحال السنابل، السنبلة إذا امتلأت هل تبقى شامخة أو منحنية؟ منحنية، والفارغة؟ تبقى شامخة، كذلك الجهال يعتدي إذا لم يكن لديه شيء؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أنه كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً؛ لأنه كلما استكثر علماً علم أن ثمة مفقود لديه، فهذا يورثه تواضعاً ومعرفة بالنقص الذي لديه.
لهذا من أمور التواضع أن يفكر الإنسان بمساحة جهله، لا بمساحة علمه، فهذا يورثه تواضعاً، أما الذي يفكر بمساحة علمه يظن أنه استوعب كل شيء، وليس عنده شيء، هذا يورثه كبراً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]، فالعلم لله جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى له العلم المطلق في هذا سبحانه وتعالى، يعلم الله جل وعلا ما كان، ويعلم ما يكون، ويعلم ما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الأمور المتناقضة أو المستحيلة يعلم الله عز وجل لو قدر كونها ما هي آثارها؟ وهذا هو العلم المطلق لله سبحانه وتعالى، فإذا علم الإنسان سعة علم الله سبحانه وتعالى استصغر نفسه، وإذا استكثر من العلم واستزاد منه علم أن ما لديه من العلم إنما هو شيء يسير وهو بحاجة إلى الاستزاده؛ لأن الإنسان إذا فكر بمساحة جهله استزاد علماً، وإذا فكر بمساحة علمه ازداد في ذلك كبراً واكتفاء بما لديه.
قال رحمه الله: [ باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه.
حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود، قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تسر إليك كثيراً، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عائشة! لولا قومك حديث عهدهم - قال ابن الزبير: بكفر - لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس، وباب يخرجون ) ففعله ابن الزبير ].
في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى آثار الأفعال قبل الأفعال، وذلك من الحكمة وبعد النظر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما ينظر إلى الحق مجرداً، بل ينظر إلى موضع وضعه وآثاره بعد ذلك، وهذا من الحكمة والدراية وسعة العلم والمعرفة أن الإنسان إذا ملك دليلاً وملك الحجة لا يعني من ذلك أنه يحسن الوضع، فربما يملك الدليل والحق لكنه لا يحسن وضعه، فيحدث من ذلك جملة من المفاسد.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بالحق، وأعلم الناس بمواضع الحق، وما كل شيء حسن يناسب وضعه في كل مكان؛ لأنه ربما إذا وضعه في موضع أساء إليه وهو ذاته حسن، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر بن الخطاب عليه رضوان الله: ( دعني أضرب عنق هذا المنافق ) يعني: عبد الله بن أبي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتريد أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )، إذاً: نظر إلى آثار الفعل قبل الفعل، ثم أمسك عن الفعل، وهذا من الحكمة والدراية أن ينظر الإنسان إلى الآثار، ثم ينظر إلى الفعل، ثم يوازن في ذلك، وليس كل أثر يحجم الإنسان عن الفعل، ولكن إذا عظم الأثر وأصبحت مفسدته أعظم من إنزال الفعل فإنه يمسك، وإذا كانت مفسدته دون ذلك وجب عليه أن يضع الحق في الناس.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قاتل طوائف من المشركين، وحصل من ذلك قتل لأصحابه بالدعوة إلى التوحيد، هذه مفاسد أو ليست مفاسد؟ هي مفاسد، ولكن المصلحة أعظم من تلك المفاسد أم لا؟ أعظم، لكن تلك المفاسد لو نظر إليها منفردة تحولت إلى مصالح، وهذا ينظر فيه إلى الموازنة، ليس إلى نظر الإنسان وحسه وعاطفته ورغبته الذاتية، بل ينظر إلى الموازنة الشرعية، كذلك ينبغي للعالم ألا يضع الحجة إذا بلغت إليه أو وصلت إليه في أي موضع شاء، بل لها مواضع، ربما ما يناسب في موضع لا يناسب في موضع آخر، قد روى القاضي ابن أبي يعلى في الطبقات أنه جاء رجل إلى الإمام أحمد فقاله له: إن أبي أمرني أن أطلق زوجتي، فقال رحمه الله: لا تطلق، قال: ألم يأمر عمر ابنه عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته فطلقها؟ قال له الإمام أحمد: حتى يكون أبوك كـعمر .
إذاً: ما الفرق بين هذا وهذا؟ عمر بن الخطاب إمام محدَث وملهم، ربما أراده أن يطلقها لأنه يرى أن الأصلح له غيرها، فهو ينظر لحض نفسه أو لحض غيره؟ لحض غيره، فهو أعلم وأبصر، لكن يأتي ابن ويقول: والدي أمرني أن أطلق زوجتي هل أطلقها، تستدل بهذا أم لا؟ ربما تكون زوجته لم تكرم أباه، أو ربما لم تصنع له شاياً، والرجل هذا كبير في السن فيقول مثلاً امتعنت ولم تقدرني، أو لم تقبل رأسي، أو لم تفتح لي باباً، أو لم تبتسم في وجهي إذاً فطلقها، هل هذا لحض النفس أو لحض الغير؟ لحض النفس؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لا تطلق. حينما استدل عليه بالدليل، أشار الإمام أحمد أنه يعلم ولكن أبوك يختلف عنه.
لهذا نقول: إن وضع الدليل الحق في أي موضع خطأ أو ليس بخطأ؟ خطأ، وإن كان في ذاته حق؛ ولهذا الفقيه هو الذي ينظر إلى الدليل وينظر إلى موضعه الذي هو عليه، فقد يكون في ذاته حق، وهذا كما أنه في المعاني كذلك أيضاً في الأمور المحسوسة، فمثلاً: يرى الإنسان في بيته اللوح جميلاً، والبرواز حسناً أو نحو ذلك، لكنه يرى أنه إذا وضعه في موضع كان جميلاً، وإذا وضعه في موضع آخر قبيح، أليس كذلك؟ وهل حسنه في ذاته مسوغ لئن تضعه في أي مكان؟ لا، لابد من النظر إلى السياق.
ولهذا نقول: ليس كل من ملك الحجة يحسن وضعها وتدبيرها؛ فهناك كثير من الناس لديه من الأدلة، ولكنه يجهل الواقع، وما هي الآثار، وهناك من يعرف الواقع ويجهل الدليل؛ ولهذا نقول: لا بد من الموازنة بين معرفة الدليل الذي لا يقاومه شيء من الآثار، ومعرفة الآثار كذلك والدواعي التي تحدث بعد ذلك، وهذا من الحكمة التي يؤتيها الله عز وجل عباده.
وهذا ظاهر أيضاً في حديث عائشة حينما أمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن هدم الكعبة، وجعل لها بابين لأن قومها حدثاء عهد بجاهلية، يعني: دخلوا الإسلام قريباً، والنبي عليه الصلاة والسلام لو فعل هذا الفعل لحصلت فتنة، لأن لديهم تعظيم للبيت وغلو في هذا الباب وهو حجر؛ ولهذا أشركوا مع الله عز وجل، وظنوا أن عمارة البيت الحرام وسقاية الحاج أعظم من توحيد الله، هذا من الخلط الذي لديهم؛ ولهذا أنزل الله عز وجل على نبيه عليه الصلاة والسلام قوله جل وعلا: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ[التوبة:19]، يعني: أن هذه الأمور إنما وقع خلط فيها عند كفار قريش، وبقي لديهم شيء من ذلك، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يترك مثل هذا الأمر؛ لأنه ليس من أمور الإسلام العظيمة، أو الأصول التي يقدح في ذين الإنسان لو تركها، وإنما هي من المصالح، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يجعل للكعبة بابين؛ حتى لا يظن أن ما غاب عنهم حُبس عنهم لأجل مزيته، ولا يدخله إلا الكمل من الناس، والصلاة في جوف الكعبة كالصلاة بجوار الكعبة، هي واحدة، والرجل المجرم الفاسق لو كان داخل الكعبة فهو على حاله فاسق مجرم، والرجل الصالح العابد العالم سواء كان داخل الكعبة أو خارج الكعبة هو صالح وعالم؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل بابين للكعبة يمر الناس ويدخلون ويخرجون منها حتى يعلموا أن الكعبة داخلها وجوارها من جهة الأمر سواء.
ومن هنا تجد أن العلماء يرون أن الصلاة في أي جهة من جهات البيت واحدة، وإنما العبرة في ذلك بالدنو والقرب من الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى بجوفها وخشي عليه الصلاة والسلام أن يظن الناس أن هذا الفعل هو عبادة مقصودة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة دخل الكعبة وصلى بها نهاراً، النبي عليه الصلاة والسلام، من ذلك الاحتجاب عن الناس، ومن ذلك أيضاً الانكسار والتواضع.
وفي هذا حكمة ولطيفة ربما أنتم تحتاجونها في مثل هذا البلد، وهو ليبيا بعد انتصار وتمكين يوجد هناك من سبقوا إليكم بالظلم والقتل والتشريد وسلب الأموال، وكذلك اختلاط كثير من الناس مثلاً بنظام سابق، أو غير ذلك وربما توجد حسابات قديمة، النبي صلى الله عليه وسلم أُخرج من أين؟ من مكة، وأوذي عليه الصلاة والسلام الأذى الشديد في مكة، ووقعوا عليه الصلاة والسلام في عرضه، وقاموا بإخراجه وطرده من بلده، ثم رجع النبي عليه الصلاة والسلام منتصراً إليها، يقول عبد الله بن عمر عليه رضوان الله: أول ما دخل النبي عليه الصلاة والسلام الكعبة، فبقي فيها نهاراً يصلي لله. وجاء في الحديث عند ابن إسحاق: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة وقد طأطأ رأسه حتى إن عثلونه ليمس الرحل تواضعاً لله )، حتى لا يشعر الإنسان بشيء من نشوة الانتصار فيظلم؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من الصلاة والسجود؛ لأن الصلاة تدعو الإنسان إلى شيء من الانكسار والتواضع؛ لأنه في موضع نصر، الثورات فيها خير، لكن لها ثمرات ربما تكون سيئة في بعض الأحوال، وهو أن الإنسان إذا نصره الله عز وجل ربما لنشوة الانتصار يظلم ويبغي؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كسر نفسه لله عز وجل تواضعاً وشكراً للمنعم، وما غاب عنه أن الله عز وجل امتن عليه بهذا، فغلب الامتنان لله سبحانه وتعالى على مثل هذا الأمر، فما قال صلى الله عليه وسلم للذين كانوا في مكة اخرجوا واحداً واحداً، أريد أن أصفي الحسابات، من الذي وضع علي كذا؟ من الذي سبني؟ من الذي قال؟ ومن الذي قال؟ وإنما أراد إصلاح الأمر العام، لم يدافع النبي عليه الصلاة والسلام عن شخصه وذاته، وإنما أراد النظر إلى المستقبل، وإقامة دين الله عز وجل، وإقامة العدل.
ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه وحشي وقد قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأخوه من الرضاعة، حتى إنه حينما علم النبي عليه الصلاة والسلام بمقتله جاء إليه عليه الصلاة والسلام، فرآه وقد مُثل بجثته تأثر النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: ( والله لا أصاب بمصيبة بعدك ). وكان وحشي في الطائف فرجع ( وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام لما أسلم جاء إلى النبي ووقف عنده، فقيل له: وحشي، فرفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقال عليه الصلاة والسلام: أأنت الذي قتلت حمزة؟ لشدة ذلك على وحشي قال: هو ما قلت. يعني لا أستطيع أن أقول: أنا قتلت هذا. فالنبي عليه الصلاة والسلام أطرق فقال: إن استطعت ألا تريني وجهك فافعل )، يعني: لا أريد الانتصار لنفسي فأنت دخلت الإسلام، وأعلنت التوبة والرجوع والانضمام إلى حياض الإسلام؛ ولهذا وحشي انصرف لكي لا يراه النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يذكره بذلك الكرب الذي وقع فيه، حتى لما ظهر مسيلمة الكذاب يقول وحشي: فانتدبت إليه لعلي أكفر بقتله قتل حمزة، فمكنه الله عز وجل من مسيلمة فقتله.
ولهذا نقول: إن تصفية الحسابات الذاتية ينبغي ألا يقوم عليها المصلحون؛ لأنهم لا ينتصرون لذواتهم، فهذا يوسف عليه السلام بقي في السجن بضع سنين، لما خرج خرج في زمن مهلكة وبداية مجاعة، هل أراد تصفية الحسابات أم أراد إصلاح الوضع العام؟ أراد إصلاح الوضع العام، فقال: اجعلني على خزائن الأرض، ما قال: ائتني بزوجتك التي فعلت وفعلت وفعلت، الآن مسألة إغاثة وإنقاذ أمة لا تصفية حسابات ذاتية؛ لهذا نقول: إن المصلحين هم الذين ينتصرون للأمة لا ينتصرون لذواتهم، وإقامة العدل في الأرض هذه رسالة المصلحين، الأمة إنما تبلى بالانتصار للذوات، أريد حقي، ولماذا فلان فعل كذا؟ وفلان فعل كذا؟ ممن دخل في دائرة الحق، إذا آب الإنسان وتاب، وظهر منه إظهار الحق فينبغي للإنسان أن يبعد تلك الأمور، النبي عليه الصلاة والسلام من شدة ما يجد من قتل حمزة ما أراد أن يتذكر ذلك، وألا يذكره أحد؛ لأنه شيء مضى، قال: ( إن استطعت ألا تريني وجهك فافعل )، لأني كلما أراك سأتذكر تلك المصيبة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا وهو المعصوم الذي لا يمكن أن يرتكب خطأ، لكنه أراد ألا يزداد الألم النفسي عليه فيشغله عن مصالح الأمة.
لهذا نقول: لا تعيشوا لأنفسكم بل عيشوا لمصالح الأمة، لإقامة دين الله عز وجل والعدل، ابتعدوا عن المصالح الذاتية، وعن الإنتصار لذات الإنسان وحضه، ما دامت مصلحة الأمة قائمة فعليكم أن تشتركوا في إقامة الحق الذي أراده الله عز وجل لكم، ابتعدوا عن تصفية الحسابات الذاتية لفلان وفلان وفلان وفلان، وانظروا إلى الأمور المشتركة، إن أكملتم الأمور المشتركة وبقيت أمور فردية فهي تبحث بعد ذلك؛ لأن الأمة لا تضيع إلا بالبحث عن الجزئيات عند التفريط في الكليات، فابحثوا عن كمال هذه الكليات وبنائها، فإن اكتملت لكم فعليكم أن تنظروا بعد ذلك إلى الأمور المتدرجة في هذا، أعانني الله وإياكم على الحق والهدى والسداد.
قال رحمه الله: [ باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا.
وقال علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله.
حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف خربوذ، عن أبي الطفيل عن علي بذلك.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، قال: يا معاذ بن جبل. قال: لبيك يا رسول الله! وسعديك. قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله! وسعديك ثلاثاً، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا ) وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
حدثنا مسدد، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنساً قال: ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لـمعاذ: ( من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة. قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا إني أخاف أن يتكلوا ) ].
وهذا من السياسة الشريعة في إبلاغ العلم، وعلى ما تقدم أن العالم هو الذي يعلم الناس ويشفى مرض الجهل فيهم، كحال الطبيب الذي يشفي مرض الأبدان؛ فينبغي للإنسان أن ينظر إلى أحوالهم وآثار ذلك التعليم عليهم، ويعرف أيضاً المواضع وحال النفوس في تلقيها للعلم؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم علم بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى علماً، ولم يعلم الآخرين، أو علم بعضاً ولم يعلم بعضاً؛ لأن أثر العلم على هؤلاء يختلف عن أثر العلم على هؤلاء.
ولهذا إذا رأى الإنسان شخصاً من الأشخاص مفرطاً في دين الله سبحانه وتعالى ألا يزيده تفريطاً بآيات التوكل، وآيات الرجاء، وإنما عليه أن يعلمه بآيات وأحاديث التخويف والتوبة، وكذلك شدة عذاب الله سبحانه وتعالى، ولا يليق بالإنسان إذا رأى رجلاً يشرب الخمر، أو رجلاً يحل الربا ونحو ذلك، وهو باقٍ على هذا الأمر، أن يقول له: إن الله عز وجل غفور رحيم، وابقَ على ما أنت عليه، بل يبين له خطورة هذا الأمر، ويبين له أيضاً أن الله عز وجل غفور رحيم لمن تاب حتى يعود.
والله عز وجل قد جعل هذه الأشياء تحت مشيئته، لكن هذا واجب الإنسان حتى يسوس الناس بالعلم الذي لديه، فيرهب من يستحق الترهيب، ويرغب من يستحق الترغيب في ذلك، ويوجه خطاباً عاماً، وخطاباً خاصاً، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تبشر الناس فيتكلوا )، وهؤلاء هم الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، فإذا كان هذا في الصحابة وهم خير الخلق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن يبالغ بذكر آيات وأحاديث الرجاء، ويبتعد عن آيات التخويف والتهديد خشية على الناس، هذا لا شك أنه من التقصير في بيان الحق؛ لهذا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى أحوال الناس.
إذا وجد الإنسان وجلاً من ذنب أقلع منه قديماً وتاب إلى الله واستقام، حتى بلغ به مرتبة الوسوسة فإنه يكثر من آيات الرجاء، والتوكل على الله عز وجل، والرحمة والمغفرة، وسعة فضل الله عز وجل على عباده، حتى يسكن ولا يقنط.
وأما الإنسان المفرط فتأتيه بآيات التشديد والعقاب التي يتوعد الله عز وجل به عباده حتى يقرب من الله سبحانه وتعالى وحتى يصل إلى مرتبة الاعتدال في ذلك، وهذا من السياسة الشرعية؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث حذيفة كان يعلمه بأسماء المنافقين، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من هو أجل منه وأفضل كـأبي بكر وعمر، والحكم في ذلك متعددة منها:
أن الناس يؤتون بعض الخصال الفطرية، كشدة الكتمان مثلا،ً ولا يعاب الإنسان في بعض الشيء الذي يقوله ما لم يستأمن عليه، وهذا لا يجعل الإنسان المفضول أفضل من غيره من جميع الوجوه، بل يقال إنه من هذه الخصيصة؛ ولهذا أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى وعمر بن الخطاب هما أفضل من غيرهما من الصحابة بالإطلاق، لكن قد يوجد في بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من الخصال ما يفضل بها على غيره في هذا الباب.
ولكن نقول: إن الخصال المكتسبة فاق فيها أبو بكر عليه رضوان الله تعالى، أما الخصال الفطرية التي يجبل عليها الإنسان فقد يوجد من الصحابة من هو أشد بسطة في الجسم، هل هذا منقصة لغيره؟ ليست منقصة، هل هو فضل له في دينه على غيره؟ لا ليس له فضل في دينه على غيره؛ لأنه ليس مكتسباً، أما الصفات المكتسبة فـأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب أفضل من غيرهم؛ فلهذا الجانب الفطري قدم النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان على غيره.
منها أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله عز وجل أن ثمة خلفاء راشدين بعده، منهم أبو بكر ومنهم عمر، وأن من المنافقين من سيبقى معه بعد ذلك، ولو أعلمهم بأسمائهم فربما حملهم ذلك على بعض التصرف؛ وهم ليسوا بمعصومين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سياسة منه، وذلك أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى في حياة النبي عليه الصلاة والسلام يستأذن النبي في قتل من ظهر منه شيء، فكيف إذا أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأسمائهم بعد ذلك، وهذا من سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكمال حكمته لصلاح الخلفاء من بعده، وصلاح الأمة.
وهذا ما ينبغي أن يؤخذ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لحكمته كان يبلغ أقواماً بأشياء، ويبلغ آخرين لسياسية هذه الأمة، وسياسة أمر الدين في أبواب العلم وفي أبواب الأخبار وفي أبواب الموعظة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ربى خير الأجيال بعده في أبواب العلم، وفي أبواب المعرفة، وفي أبواب التربية والسلوك والأدب.
والعلماء يتفقون على أنه لا حرج على العالم أن يقول بالمرجوح أو يدع السنة جمعاً للكلمة، وذلك لأن الاجتماع من المقاصد الشرعية، فنقول: إن أمر الاجتماع متأكد، وهو آكد من السنن الذي يأتي بها الإنسان، مثلاً في بلد من البلدان يؤذنون مثلاً بأذان أبي محذورة، وفي بلد لا يؤذنون بذلك، والناس لا يعلمون مثل هذا الاختلاف، وإذا جاء في هذا البلد وأذن عند العامة -والعلم لديهم قليل- ظنوا أن هذا إحداث وتبديل لدين الله، فوقع لديهم شيء من الاضطراب، أليس الأولى في هذا هو ترك بعض السنن لجمع الكلمة وتأليف القلوب؟ نعم، هل يعني هذا إخفاء للسنة؟ لا. بل نقول: اجلس مع الناس وعلمهم أسبوعاً وأسبوعين بهذه السنة، ثم أذن فيها، وهذا له مواضعه من أمور السنن، وله مواضعه أيضاً من الأمور الواجبة.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [2] | 2606 استماع |
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [1] | 1543 استماع |
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3] | 1222 استماع |