شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال الإمام البخاري يرحمه الله: [ باب العلم قبل القول والعمل، وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد:19] فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وقال جل ذكره: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[الملك:10]، وقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ[الزمر:9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيرًا يفقهه ) وإنما العلم بالتعلم، وقال أبو ذر: لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها. وقال ابن عباس: كونوا حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره ].

هذه الترجمة هي من الأبواب المهمة في كتاب العلم، وهي قول المصنف رحمه الله: (باب العلم قبل القول العمل)، وذلك أن الإنسان لا يصيب الحق إلا بعلم، وإن أصابه فإنه يصيبه إما صدفة أو تقليداً محضاً، والتقليد المحض لا يليق بالإنسان المكلف الذي يفهم الخطاب ويدرك، وكذلك أيضاً يحسن الجواب؛ ولهذا في قوله: (باب العلم قبل القول والعمل) أي: أنه ينبغي للإنسان أن يسبق قوله وعمله تعلم، وهذا التعلم من الإنسان يتفاوت ويتباين بحسب عمله وقوله، أي: أنه يجب على الإنسان أن يكون على بصيرة من أمره قبل عمله وقوله، وفائدة ذلك الأجر والثواب، فأن الإنسان يثاب على قوله وعمله إذا كان عن علم، بخلاف إذا فعل الإنسان ذلك بالمصادفة، أو فعله يظنه عادة، أو يقلد الناس فيه ولا يدري ما مستند ذلك من الشريعة، فإن هذا يضعف جانب التعبد أو يزيله في الإنسان.

وكذلك أيضاً فإن العلم يعطي الإنسان ثباتاً، وهذا الثبات لا يتزحزح عند وجود أو ورود من يتهم الإنسان مثلاً بالخطأ أو المجازفة أو غير ذلك إذا كان لديه مستند من الوحي من كلام الله أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضاً فإنه يداوم على ذلك العمل، الإنسان الذي يعمل بلا علم يضطرب أو يكسل، وبمقدار علمه يكون ثباته غالباً؛ لأن العلم بالشيء يؤدي إلى معرفة ماهيته وحقيقته.

فإذا كان الإنسان يعلم أهمية التوحيد ومقداره، ويعلم أهمية الصلاة ومقدارها، والزكاة ومقدارها، ويعلم أن الصلاة فيها فرائض وفيها نوافل، والنوافل في ذلك على مراتب، ويعلم أيضاً أن الصيام على مراتب: منه ما هو ركن الإسلام، ومنها ما هي نوافل، فهو يثبت على الفرائض؛ لأنه يعلم أنها فرائض، وربما يتساهل بالنوافل لعدم تأكيد الشارع فيها، إذاً: ثباته على العبادة هو فرع عن علمه بقيمتها.

ولهذا نقول: إن الإنسان كلما كان عالماً بالشيء وحقيقته كان أكثر ثباتاً عليها؛ ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، فكلما كان الإنسان عالماً عظمت خشية الله عز وجل في قلبه؛ لأنه يعمل عن تعبد ومعرفة، بخلاف الإنسان الذي يعمل بغير علم فإن خشيته تضعف؛ لأنه قلد أو رأى الناس يقولون ويعملون فقال وعمل؛ وهذا يضعف جانب خشية الله عز وجل فيه، فتجد فيه التفريط لأنه لا يدري لماذا فرط.

أنواع الجهل

ولهذا نقول: إن الجهل على نوعين، كما أن العلم على نوعين، وأقسام العلم والجهل لها اعتبارات، ولكن نقول: إن العلم على نوعين، والجهل على نوعين، أولها: الجهل بحقيقة الشيء، والثاني: جهل بمقداره وترتيبه مع غيره، فإذا جهلت مقدار الشيء ولم تعلم ترتيبه مع غيره وقع لديك شيء من الخلط، والإنسان الذي لا يفرق بين أركان الإسلام وبين بقية الواجبات هذا عالم بحقيقة الشيء جاهل بمرتبته، فيقع التفريط في الإنسان بمقدار جهله؛ لهذا نقول: إن أصل الجهل هو الجهل المركب، والأصل أن الإنسان يجهل حقيقة الشيء، ولكن الجهل الذي تعم به البلوى هو جهل مقادير الأشياء ومراتبها، وهذا هو أكثر ضلال البشرية؛ لهذا كفار قريش ضلالهم هو بسبب عدم العلم أصلاً أم العلم مع عدم معرفة المراتب؟ عدم معرفة المراتب، فهم يعلمون أن الله عز وجل هو الرازق والخالق وهو المحيي المميت سبحانه وتعالى، ولكنهم يجهلون مقدار حق الله عز وجل ومرتبته مع غيره؛ لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويقولون: نحن بنينا البيت، ونحن كسونا الكعبة، ونحن أصحاب سقاية الحاج، هذه عبادات أو ليست عبادات؟ عبادات لكن هل هي أهم من التوحيد؟ لا، التوحيد أهم منها؛ ولهذا قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فهم عند أنفسهم أنهم فعلوا شيئاً من الطاعات فكأنهم يقولون: لماذا تقاتلنا؟ يقول: أقاتلكم على التوحيد؛ لهذا قال الله جل وعلا: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[التوبة:19]، هل يستوي هذا وهذا؟ لا يستوي.

إذاً: هذا الجهل إنما هو بالمقادير والمراتب، وهذا هو أصل الضلال، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[الحج:73]، ما سبب هذا الخلط؟ ما سبب عبادة هذه الأصنام من دون الله؟ أكملوا مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:74]، إذاً: يعلمون من هو الله ولكن ما عرفوا مقداره، فالجهل بمقادير الأشياء ومراتبها له أثر على عمل الإنسان وخلط في معارفه؛ ولهذا الجاهليون إنما أشركوا مع الله عز وجل وهم يعرفون الله سبحانه وتعالى ولكنهم جهلوا مقداره، وعرفوا العبادة وجهلوا مقاديرها، فوقع فيهم الكفر.

وهكذا في كل معلوم إذا جهلت مقداره فرفعته، أو جهلت مقداره فوضعته وقع لديك خلط في بذل وصرف العبادة له، ولهذا الذين يعبدون الأصنام من دون الله يعلمون أنها جمادات ومصنوعة من حجر أو من شجر أو من تمر يعرفون هذا أو لا يعلمون؟ يعلمون، لكنهم جعلوا لها من القيمة والمقدار ما زاد عن حقيقتها، وتفرع عن ذلك أن صرفوا عبادة لها لا تليق بها.

ولهذا نقول: لا بد من تحقق العلم بنوعيه: العلم بمعرفة الشيء، الثاني العلم بمقداره ومرتبته، فتعلم أن الله عز وجل سبحانه وتعالى خالق، وتعلم ما هو مقدار هذا الخالق من جهة ما تصرف له، أيضاً تعلم أن هذا صنم، وتعلم كذلك ما هو مقدار هذا الصنم من جهة قيمته عندك أو نحو ذلك.

التحذير من تقديم المفضول على الفاضل

والإضلال بهذا هو سبب ضلال البشرية، وكذلك سبب ضلال المتعلمين أيضاً، لذا تجد من الناس من يأخذ العلم المفضول ويدع الفاضل لجهله بمقدار الفاضل على المفضول، ومن هنا نقول: إن الجهل بقيم الأشياء ومراتبها هي التي تضل الإنسان وتحرفه عن طريق الحق، فمثلاً: تجد إن كثيراً من الناس أو كثيراً من المتعلمين يتوجهون إلى العلوم ربما لرغباتهم لا بالانصراف إلى حقيقتها، لكن الإنسان يتعلم العلم لرغبته الشخصية أو لحاجة الناس؟ نعم لحاجة الناس؛ ولهذا تجدون حتى في العلم في أمور الناس الدنيوية الإنسان يتعلم بما يحتاجه إليه سوق العمل، يحتاج مثلاً إلى تخصص في الاقتصاد أو في الطب أو نحو ذلك مما فيه عواز، فيقوم الإنسان بالتخصص فيه مع أنه يرغب في علم آخر، لكنه يتوجه إلى رغبته أو إلى حاجة الناس؟ إلى حاجة الناس حتى ينفذ علمه إليهم؛ لهذا الذين يتوجهون إلى علوم الشريعة عليهم أن ينظروا إلى مراد الله عز وجل بحاجة الناس، وأعظم ما أوجبه الله عز وجل على الناس هو توحيده سبحانه وتعالى.

كذلك أيضاً في بذل الدعوة إلى الله عز وجل يجب على الإنسان أن يدعو الناس إلى ما يحتاجون إليه، إذا كانوا قد فرطوا في أمور التوحيد ووقع فيهم الشرك، هل الإنسان يتوجه إليهم بأمور الفضائل وأمور الأحكام وغير ذلك وهو يعلم أنهم مشركون؟ لا، ولو رغبوا ذلك؛ ولهذا كثير من الدعاة إلى الله أو المصلحين أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لديهم خلل في هذا، تجد أنه يعلم الناس الآداب والسلوك، والتعامل مع الزوجة، والتعامل مع الجار، والتعامل مع الغير، أو نحو ذلك، لكنه لا يشير إلى عقائد التوحيد، وربما يخاطب وثنيين، هل هذه الدعوة بالنظر إليها منفردة صحيحة أو ليست بصحيحة؟ صحيحة، لكن إنزالها هو إنزال مفضول على شيء فاضل.

ولهذا ينبغي أن ينظر إلى ذلك بحسب العلم، يتعلم الإنسان، وكذلك أيضاً يبلغ، والعلماء هم ورثة الأنبياء وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )، فشبه النبي عليه الصلاة والسلام العلم بالميراث، وذلك أن الأب إذا توفي يرثه أبناؤه وبناته وزوجه والأقربون إليه، ففي تشبيه العلم بالميراث عدة معاني، من هذه المعاني:

أن أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو أكثرهم نصيباً في الميراث، كما أن أكثر الناس نصيباً من الأب المتوفى أقربهم إليه نسبا ًكالابن والبنت والزوجة، ثم يأتي بعد ذلك الأبعدون إليه.

كذلك أيضاً فيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يحوز العلم كله أحد؛ لأنه في المواريث منهم من يأخذ النصف، ومنهم من يأخذ الربع، ومنهم من يأخذ الثمن، ومنهم من يأخذ السدس، ومنهم من يشاركه غيره، ومنهم من ينفرد، كذلك العلم لا يمكن أن يحوزه واحد منفرداً من جميع الجهات؛ لهذا نقول: إن الإنسان يستكثر من العلم، وكلما كان أكثر أخذاً للعلم فليعلم أنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ميراثه ذلك. قال: (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ))، هذا الحديث جاء في مسلم موصولاً من حديث أبي هريرة، وفيه إشارة إلى أن أيسر الطرق إلى مرضات الله وإلى جنته هو العلم؛ لأن العالم يختصر الأجور والثواب ورضا الله بأيسر الأعمال وأخصرها، يعرف فضائل الأعمال وغير ذلك، هذا وجه، وقد جاء في حديث عبد الله بن عباس في مسلم ( أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج من عند جويرية أم المؤمنين عليها رضوان الله تعالى، وكانت جالسة في مصلاها بعد أذان الفجر، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى صلاة الفجر، فما رجع إلا بعد ارتفاع الشمس، فقال النبي لما دخل عليها وهي جالسة في مصلاها: ما زلت في مكانك الذي تركتك عليه؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني قلت أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت فيما قلت لوزنته -يعني: لفاق عليها- قالت: ما هن يا رسول الله؟ قال: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، وزنة عرشه )، هذه الكلمات يقولها الإنسان ثلاثاً وهي أربع كلمات فتعدل ما يقوله الإنسان في جلوسه مثلاً في مصلاه من غيرهن.

إذاً: هذا فرع عن العلم أم يقوله الإنسان تخرصاً؟ فرع عن العلم.

فإذا عرف الإنسان مواضع العلم الذي يكسب به الأجور العظيمة، فهذا هو موضع التجارة الحقيقية، التاجر الحاذق الذي يضارب في الأسواق هو الذي يربح بالمال القليل مالاً كثيراً، كذلك العامل الذي يعمل الشيء القليل ثم يكسب شيئاً كثيراً هذا يوصف بالحذق والتوفيق، كذلك أيضاً الطائع الذي يعرف الثواب العظيم أجره أعظم.

والمرد بهذا هل الإنسان يعمل العبادة رغبة؟ لا ليس الأمر إلى رغبة الإنسان، بعض الناس يميل إلى نوع من أنواع العبادة وهي عبادة مفضولة، ويدع الفاضلة هذا توفيق له لكنه توفيق قاصر.

وليعلم أيضاً أن من تسويل الشيطان على بعض الصالحين هو أن يرشدهم إلى نوع من العبادات المفضولة إذا وجد في قلوبهم همة لا يستطيع إغلاقها أو دفعها، الشيطان له مداخل على بني آدم حتى على الصالحين؛ لأنه يعامل الناس بحسب أحوالهم، فالعابد الزاهد الذي لديه قوة وطاقة بدنية بالتوجه إلى العبادة والحب فيها هذا لا يستطيع الشيطان أن يصرفه عن ذلك، ولكن يشغله بالمفضول، حتى لا يصل على الأقل إلى المرتبة العليا، وإنما يصل إلى ما دون ذلك؛ لهذا هل الإنسان يتوجه للعبادات بحسب رغبته واستحسانه وميله لها، أو بحسب استحسان المشرع وتفضيله لها؟ بحسب استحسان وتفضيل المشرع لها ينصرف إليها.

ما هي قيمة العبادة؟ القيمة النفسية أم القيمة الشرعية التي أوجدها الله؟ القيمة الشرعية هي التي ينظر إليها؛ ولهذا كثير من الناس لا يوفقون إلى مثل هذا، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )، يقولها الإنسان ربما في دقيقة، هل أثرها هذا صحيح؟ يعني أنها تزيل الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر؟ نعم والحديث في الصحيحين، لكن السؤال من الموفق لهذا؟ القضية توفيق أو عمل؟ القضية توفيق؛ ولهذا نقول: ينبغي للإنسان أن يلتمس توفيق الله عز وجل وسداده له في العمل، وكذلك أيضاً في العلم، فإنه كلما ازداد الإنسان علماً ازداد خشية لله عز وجل وذلك لزيادته في العلم والمعرفة، ومعرفته لحكم الله عز وجل وعلله في التشريع، فإنه إذا رأى العلل آمن وصدق، وكذلك خضع وأذعن وسلم واستسلم لله عز وجل وانقاد له، وكذلك أيضاً فإنه يكثر من العبادة ويخشى الله عز وجل ويتقه فإن العبادة سلم إلى غيرها، كلما أكثر الإنسان من العبادة زاد في ذلك من الله سبحانه وتعالى قرباً.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) دلالة مفهوم، ويسميها الأصوليون دلالة الخطاب، وذلك أن الفقه هو دليل على إرادة الخير من الله عز وجل لعبده، وأن الله عز وجل إذا لم يرد بعبده خيراً صرفه عن العلم، إذاً: فهي نسبية، كلما ازداد الإنسان جهلاً أراد الله عز وجل به سوءاً، وكلما ازداد الإنسان علماً أراد الله عز وجل به خيراً، وهذا نأخذ منه أنه التلازم بين العلم والعمل.

وكذلك أيضاً قول أبي ذر: (لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها)، يعني: قبل أن تجهزوا علي، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يبلغ الدين ولو لم يبق من حياته شيء وذلك ليقوم بشيء من العمل، وكذلك أيضاً ليعمل به الناس، والبلاغ في ذلك أيضاً من الأمور المتحتمة.

كذلك أيضاً فإن العلم كما أنه درجات في التلقي فهو كذلك درجات أيضاً في البلاغ، يبلغ الإنسان صغار العلم قبل كباره، ما هي صغار العلم؟ التي يدركها الإنسان ويفهمها، يأتي بدقائق الأمور التي ربما تثقل على مسامع الناس، دقائق الأسماء والصفات والعلل الغيبية الدقيقة لا ينبغي للعالم أن يحدث الناس بها من العامة الذين لا يدركون مواضعها، وإنما عليه أن يبلغهم ما يحتاجون إليه، ينظر إلى الناس إذا كانوا مثلاً يجهلون مثلاً مسائل في أركان الإسلام، وأحكام العقيدة، يبلغهم الأصول العامة، لكن لا يبلغهم مسائل ودقائق العلم البعيدة عنها، والبعيدة عن أفهامهم، وهذا من الحكمة، لذا فإن العالم الرباني هو الذي يضع العلم بحسب حاجة الإنسان، وقد تقدم معنا أن الجهل مرض، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( إنما شفاء العي السؤال )، فلان يقال: فيه عي، يعني: يشتكي من مرض، كذلك أيضاً الجهل، فالجهل مرض، فإذا كنت عالماً طبيباً جاءك رجل فيه مرض ووباء عظيم ولديه شيء يسير مثلاً من الصداع أو نحو ذلك وأنت تعلم مواضعه هل تعالج الصداع أو تعالج الوباء العظيم فيه؟ تعالج الوباء العظيم، هذا هو الأولى، فلا تدع هذا الأمر لأنه ربما يتفشى فيه، بل تقوم بعلاجه، لذا فأنت طبيب العقول، كما أن هذا طبيب الأبدان، والذي لا يفرق بين هذا وهذا يعالج الفرعيات ويدع الأمراض العظيمة؛ ولهذا تجد حتى الأطباء إذا رأوا مريضاً فيه أمراض متعددة انصرفوا إلى المرض الأخطر وتركوا غيره، أليس كذلك؟ وربما الإنسان يذهب وفيه مرض ثم يكتشف فيه الطبيب مرضاً أشد ويدع ذاك، يقول: أترك هذا، الآن عندنا مصيبة من المرض الذي تشتكي منه، أليس هذا دليل على الحذق وأداء الأمانة؟.

كذلك أيضاً فإن العالم ينظر في مواضع الجهل، ماذا يجهل الناس؟ يجهل التوحيد، إذاً ندع الفروع، ندع مسائل الأحكام، ندع مسائل الجزئيات والآداب والسلوك حتى نعلمه توحيد الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً إذا وجدنا عند الناس خللاً في الصلاة نرجئ مسائل الزكاة ومسائل الصيام وغير ذلك، كذلك أيضاً إذا كنت تخاطب أرباب أموال فإنك تخاطبهم بمسائل الزكاة باعتبار أنهم محتاجون إليها، لكن لا تأتي إلى فقراء معدمين يبحثون عن الزكاة تفقهم بمصارف الزكاة، لماذا؟ لأنهم ليسوا من أهل المال؛ ولهذا نقول: إن العالم الرباني هو الذي يعلم الناس العلم بحسب ما يشفي عي الجهل فيهم، وهذا ينظر إليه من جهتين من الجهة الشرعية، وكذلك أيضاً من جهة الموضع الذي يوضع فيه ذلك العلم والجهة الشرعية هي التي وضعت مراتب التشريع ولم تترك للناس.

ولهذا تجد في كثير من وسائل الإعلام سواء الإذاعية أو المكتوبة كالصحافة ونحو ذلك من يهتمون بغرس أشياء مع وجود حاجة للناس في غيرها، فمثلاً في برامج فضائية طويلة جداً تجد للداعية أو للمصلح مئات الحلقات عن السير والآداب والسلوك، ولكنه لم يدع مرة إلى التوحيد، وهو يرى الوثنية قد استشرت في بلدان المسلمين، أو تجد مثلاً من أفحش الكفر وأشده وهو التعدي على ذات الله عز وجل وسبه سبحانه وتعالى، أليس هذا كفر؟ كفر بالله عز وجل، وهو أشد من عبادة الأصنام، وهؤلاء لو عبدوا الأصنام أهون من أن يتعدوا على الله عز وجل بالسب والشتم، وهذا ينتشر كثيراً في بلدان المسلمين، في بلدان الشام والعراق وغيرها، وكذلك أيضاً ربما في بلدان المغرب العربي، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى إنكار أو لا يحتاج إلى إنكار؟ يحتاج إلى إنكار، ويحتاج إلى بيان.

لهذا نقول: إن مراتب التعليم ترجع إلى ميزان الشريعة، وميزان حاجة الناس، ولا يعني هذا أننا نهمل جوانب تربية الناس وتعليمهم بالأخلاق الحسنة والأمانة وغير ذلك، ولكن نبدأ بالدعوة الأم وهي التوحيد، والنبي عليه الصلاة والسلام في مكة هل كان يدعو إلى التوحيد فقط أم يجعل معه شيئاً؟ يجعل معه شيئاً؛ ولهذا أبو سفيان ( لما سئل: ماذا يدعوكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يدعونا إلى عبادة الله، وإلى الأمانة، والصدق، والعفاف)، هذا في مكة، فأنت أيضاً تدعو إلى توحيد الله عز وجل وتدعو إلى هذه الأمور من الأخلاق، لكن تجعل في المرتبة الأولى جانب التوحيد؛ لأن الشرك يوجد في هؤلاء أكثر؛ ولهذا تجد في القرآن آيات التوحيد والربوبية أكثرها مكية وإلا مدنية؟ أكثرها مكية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء إلى المدينة كان الناس متمكنين في أمور الإيمان والتوحيد وقبول الحق فاحتاجوا إلى فروع الإسلام، احتاجوا إلى معرفة الصلاة والصيام والزكاة والحج وعقود الأنكحة والبيوع والآداب كأمور الاستئذان وغير ذلك من أحكام الشريعة.

ولهذا نقول: إن الجهل على نوعين، كما أن العلم على نوعين، وأقسام العلم والجهل لها اعتبارات، ولكن نقول: إن العلم على نوعين، والجهل على نوعين، أولها: الجهل بحقيقة الشيء، والثاني: جهل بمقداره وترتيبه مع غيره، فإذا جهلت مقدار الشيء ولم تعلم ترتيبه مع غيره وقع لديك شيء من الخلط، والإنسان الذي لا يفرق بين أركان الإسلام وبين بقية الواجبات هذا عالم بحقيقة الشيء جاهل بمرتبته، فيقع التفريط في الإنسان بمقدار جهله؛ لهذا نقول: إن أصل الجهل هو الجهل المركب، والأصل أن الإنسان يجهل حقيقة الشيء، ولكن الجهل الذي تعم به البلوى هو جهل مقادير الأشياء ومراتبها، وهذا هو أكثر ضلال البشرية؛ لهذا كفار قريش ضلالهم هو بسبب عدم العلم أصلاً أم العلم مع عدم معرفة المراتب؟ عدم معرفة المراتب، فهم يعلمون أن الله عز وجل هو الرازق والخالق وهو المحيي المميت سبحانه وتعالى، ولكنهم يجهلون مقدار حق الله عز وجل ومرتبته مع غيره؛ لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويقولون: نحن بنينا البيت، ونحن كسونا الكعبة، ونحن أصحاب سقاية الحاج، هذه عبادات أو ليست عبادات؟ عبادات لكن هل هي أهم من التوحيد؟ لا، التوحيد أهم منها؛ ولهذا قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فهم عند أنفسهم أنهم فعلوا شيئاً من الطاعات فكأنهم يقولون: لماذا تقاتلنا؟ يقول: أقاتلكم على التوحيد؛ لهذا قال الله جل وعلا: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[التوبة:19]، هل يستوي هذا وهذا؟ لا يستوي.

إذاً: هذا الجهل إنما هو بالمقادير والمراتب، وهذا هو أصل الضلال، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[الحج:73]، ما سبب هذا الخلط؟ ما سبب عبادة هذه الأصنام من دون الله؟ أكملوا مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:74]، إذاً: يعلمون من هو الله ولكن ما عرفوا مقداره، فالجهل بمقادير الأشياء ومراتبها له أثر على عمل الإنسان وخلط في معارفه؛ ولهذا الجاهليون إنما أشركوا مع الله عز وجل وهم يعرفون الله سبحانه وتعالى ولكنهم جهلوا مقداره، وعرفوا العبادة وجهلوا مقاديرها، فوقع فيهم الكفر.

وهكذا في كل معلوم إذا جهلت مقداره فرفعته، أو جهلت مقداره فوضعته وقع لديك خلط في بذل وصرف العبادة له، ولهذا الذين يعبدون الأصنام من دون الله يعلمون أنها جمادات ومصنوعة من حجر أو من شجر أو من تمر يعرفون هذا أو لا يعلمون؟ يعلمون، لكنهم جعلوا لها من القيمة والمقدار ما زاد عن حقيقتها، وتفرع عن ذلك أن صرفوا عبادة لها لا تليق بها.

ولهذا نقول: لا بد من تحقق العلم بنوعيه: العلم بمعرفة الشيء، الثاني العلم بمقداره ومرتبته، فتعلم أن الله عز وجل سبحانه وتعالى خالق، وتعلم ما هو مقدار هذا الخالق من جهة ما تصرف له، أيضاً تعلم أن هذا صنم، وتعلم كذلك ما هو مقدار هذا الصنم من جهة قيمته عندك أو نحو ذلك.

والإضلال بهذا هو سبب ضلال البشرية، وكذلك سبب ضلال المتعلمين أيضاً، لذا تجد من الناس من يأخذ العلم المفضول ويدع الفاضل لجهله بمقدار الفاضل على المفضول، ومن هنا نقول: إن الجهل بقيم الأشياء ومراتبها هي التي تضل الإنسان وتحرفه عن طريق الحق، فمثلاً: تجد إن كثيراً من الناس أو كثيراً من المتعلمين يتوجهون إلى العلوم ربما لرغباتهم لا بالانصراف إلى حقيقتها، لكن الإنسان يتعلم العلم لرغبته الشخصية أو لحاجة الناس؟ نعم لحاجة الناس؛ ولهذا تجدون حتى في العلم في أمور الناس الدنيوية الإنسان يتعلم بما يحتاجه إليه سوق العمل، يحتاج مثلاً إلى تخصص في الاقتصاد أو في الطب أو نحو ذلك مما فيه عواز، فيقوم الإنسان بالتخصص فيه مع أنه يرغب في علم آخر، لكنه يتوجه إلى رغبته أو إلى حاجة الناس؟ إلى حاجة الناس حتى ينفذ علمه إليهم؛ لهذا الذين يتوجهون إلى علوم الشريعة عليهم أن ينظروا إلى مراد الله عز وجل بحاجة الناس، وأعظم ما أوجبه الله عز وجل على الناس هو توحيده سبحانه وتعالى.

كذلك أيضاً في بذل الدعوة إلى الله عز وجل يجب على الإنسان أن يدعو الناس إلى ما يحتاجون إليه، إذا كانوا قد فرطوا في أمور التوحيد ووقع فيهم الشرك، هل الإنسان يتوجه إليهم بأمور الفضائل وأمور الأحكام وغير ذلك وهو يعلم أنهم مشركون؟ لا، ولو رغبوا ذلك؛ ولهذا كثير من الدعاة إلى الله أو المصلحين أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لديهم خلل في هذا، تجد أنه يعلم الناس الآداب والسلوك، والتعامل مع الزوجة، والتعامل مع الجار، والتعامل مع الغير، أو نحو ذلك، لكنه لا يشير إلى عقائد التوحيد، وربما يخاطب وثنيين، هل هذه الدعوة بالنظر إليها منفردة صحيحة أو ليست بصحيحة؟ صحيحة، لكن إنزالها هو إنزال مفضول على شيء فاضل.

ولهذا ينبغي أن ينظر إلى ذلك بحسب العلم، يتعلم الإنسان، وكذلك أيضاً يبلغ، والعلماء هم ورثة الأنبياء وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )، فشبه النبي عليه الصلاة والسلام العلم بالميراث، وذلك أن الأب إذا توفي يرثه أبناؤه وبناته وزوجه والأقربون إليه، ففي تشبيه العلم بالميراث عدة معاني، من هذه المعاني:

أن أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو أكثرهم نصيباً في الميراث، كما أن أكثر الناس نصيباً من الأب المتوفى أقربهم إليه نسبا ًكالابن والبنت والزوجة، ثم يأتي بعد ذلك الأبعدون إليه.

كذلك أيضاً فيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يحوز العلم كله أحد؛ لأنه في المواريث منهم من يأخذ النصف، ومنهم من يأخذ الربع، ومنهم من يأخذ الثمن، ومنهم من يأخذ السدس، ومنهم من يشاركه غيره، ومنهم من ينفرد، كذلك العلم لا يمكن أن يحوزه واحد منفرداً من جميع الجهات؛ لهذا نقول: إن الإنسان يستكثر من العلم، وكلما كان أكثر أخذاً للعلم فليعلم أنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ميراثه ذلك. قال: (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ))، هذا الحديث جاء في مسلم موصولاً من حديث أبي هريرة، وفيه إشارة إلى أن أيسر الطرق إلى مرضات الله وإلى جنته هو العلم؛ لأن العالم يختصر الأجور والثواب ورضا الله بأيسر الأعمال وأخصرها، يعرف فضائل الأعمال وغير ذلك، هذا وجه، وقد جاء في حديث عبد الله بن عباس في مسلم ( أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج من عند جويرية أم المؤمنين عليها رضوان الله تعالى، وكانت جالسة في مصلاها بعد أذان الفجر، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى صلاة الفجر، فما رجع إلا بعد ارتفاع الشمس، فقال النبي لما دخل عليها وهي جالسة في مصلاها: ما زلت في مكانك الذي تركتك عليه؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني قلت أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت فيما قلت لوزنته -يعني: لفاق عليها- قالت: ما هن يا رسول الله؟ قال: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، وزنة عرشه )، هذه الكلمات يقولها الإنسان ثلاثاً وهي أربع كلمات فتعدل ما يقوله الإنسان في جلوسه مثلاً في مصلاه من غيرهن.

إذاً: هذا فرع عن العلم أم يقوله الإنسان تخرصاً؟ فرع عن العلم.

فإذا عرف الإنسان مواضع العلم الذي يكسب به الأجور العظيمة، فهذا هو موضع التجارة الحقيقية، التاجر الحاذق الذي يضارب في الأسواق هو الذي يربح بالمال القليل مالاً كثيراً، كذلك العامل الذي يعمل الشيء القليل ثم يكسب شيئاً كثيراً هذا يوصف بالحذق والتوفيق، كذلك أيضاً الطائع الذي يعرف الثواب العظيم أجره أعظم.

والمرد بهذا هل الإنسان يعمل العبادة رغبة؟ لا ليس الأمر إلى رغبة الإنسان، بعض الناس يميل إلى نوع من أنواع العبادة وهي عبادة مفضولة، ويدع الفاضلة هذا توفيق له لكنه توفيق قاصر.

وليعلم أيضاً أن من تسويل الشيطان على بعض الصالحين هو أن يرشدهم إلى نوع من العبادات المفضولة إذا وجد في قلوبهم همة لا يستطيع إغلاقها أو دفعها، الشيطان له مداخل على بني آدم حتى على الصالحين؛ لأنه يعامل الناس بحسب أحوالهم، فالعابد الزاهد الذي لديه قوة وطاقة بدنية بالتوجه إلى العبادة والحب فيها هذا لا يستطيع الشيطان أن يصرفه عن ذلك، ولكن يشغله بالمفضول، حتى لا يصل على الأقل إلى المرتبة العليا، وإنما يصل إلى ما دون ذلك؛ لهذا هل الإنسان يتوجه للعبادات بحسب رغبته واستحسانه وميله لها، أو بحسب استحسان المشرع وتفضيله لها؟ بحسب استحسان وتفضيل المشرع لها ينصرف إليها.

ما هي قيمة العبادة؟ القيمة النفسية أم القيمة الشرعية التي أوجدها الله؟ القيمة الشرعية هي التي ينظر إليها؛ ولهذا كثير من الناس لا يوفقون إلى مثل هذا، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )، يقولها الإنسان ربما في دقيقة، هل أثرها هذا صحيح؟ يعني أنها تزيل الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر؟ نعم والحديث في الصحيحين، لكن السؤال من الموفق لهذا؟ القضية توفيق أو عمل؟ القضية توفيق؛ ولهذا نقول: ينبغي للإنسان أن يلتمس توفيق الله عز وجل وسداده له في العمل، وكذلك أيضاً في العلم، فإنه كلما ازداد الإنسان علماً ازداد خشية لله عز وجل وذلك لزيادته في العلم والمعرفة، ومعرفته لحكم الله عز وجل وعلله في التشريع، فإنه إذا رأى العلل آمن وصدق، وكذلك خضع وأذعن وسلم واستسلم لله عز وجل وانقاد له، وكذلك أيضاً فإنه يكثر من العبادة ويخشى الله عز وجل ويتقه فإن العبادة سلم إلى غيرها، كلما أكثر الإنسان من العبادة زاد في ذلك من الله سبحانه وتعالى قرباً.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) دلالة مفهوم، ويسميها الأصوليون دلالة الخطاب، وذلك أن الفقه هو دليل على إرادة الخير من الله عز وجل لعبده، وأن الله عز وجل إذا لم يرد بعبده خيراً صرفه عن العلم، إذاً: فهي نسبية، كلما ازداد الإنسان جهلاً أراد الله عز وجل به سوءاً، وكلما ازداد الإنسان علماً أراد الله عز وجل به خيراً، وهذا نأخذ منه أنه التلازم بين العلم والعمل.

وكذلك أيضاً قول أبي ذر: (لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها)، يعني: قبل أن تجهزوا علي، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يبلغ الدين ولو لم يبق من حياته شيء وذلك ليقوم بشيء من العمل، وكذلك أيضاً ليعمل به الناس، والبلاغ في ذلك أيضاً من الأمور المتحتمة.

كذلك أيضاً فإن العلم كما أنه درجات في التلقي فهو كذلك درجات أيضاً في البلاغ، يبلغ الإنسان صغار العلم قبل كباره، ما هي صغار العلم؟ التي يدركها الإنسان ويفهمها، يأتي بدقائق الأمور التي ربما تثقل على مسامع الناس، دقائق الأسماء والصفات والعلل الغيبية الدقيقة لا ينبغي للعالم أن يحدث الناس بها من العامة الذين لا يدركون مواضعها، وإنما عليه أن يبلغهم ما يحتاجون إليه، ينظر إلى الناس إذا كانوا مثلاً يجهلون مثلاً مسائل في أركان الإسلام، وأحكام العقيدة، يبلغهم الأصول العامة، لكن لا يبلغهم مسائل ودقائق العلم البعيدة عنها، والبعيدة عن أفهامهم، وهذا من الحكمة، لذا فإن العالم الرباني هو الذي يضع العلم بحسب حاجة الإنسان، وقد تقدم معنا أن الجهل مرض، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( إنما شفاء العي السؤال )، فلان يقال: فيه عي، يعني: يشتكي من مرض، كذلك أيضاً الجهل، فالجهل مرض، فإذا كنت عالماً طبيباً جاءك رجل فيه مرض ووباء عظيم ولديه شيء يسير مثلاً من الصداع أو نحو ذلك وأنت تعلم مواضعه هل تعالج الصداع أو تعالج الوباء العظيم فيه؟ تعالج الوباء العظيم، هذا هو الأولى، فلا تدع هذا الأمر لأنه ربما يتفشى فيه، بل تقوم بعلاجه، لذا فأنت طبيب العقول، كما أن هذا طبيب الأبدان، والذي لا يفرق بين هذا وهذا يعالج الفرعيات ويدع الأمراض العظيمة؛ ولهذا تجد حتى الأطباء إذا رأوا مريضاً فيه أمراض متعددة انصرفوا إلى المرض الأخطر وتركوا غيره، أليس كذلك؟ وربما الإنسان يذهب وفيه مرض ثم يكتشف فيه الطبيب مرضاً أشد ويدع ذاك، يقول: أترك هذا، الآن عندنا مصيبة من المرض الذي تشتكي منه، أليس هذا دليل على الحذق وأداء الأمانة؟.

كذلك أيضاً فإن العالم ينظر في مواضع الجهل، ماذا يجهل الناس؟ يجهل التوحيد، إذاً ندع الفروع، ندع مسائل الأحكام، ندع مسائل الجزئيات والآداب والسلوك حتى نعلمه توحيد الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً إذا وجدنا عند الناس خللاً في الصلاة نرجئ مسائل الزكاة ومسائل الصيام وغير ذلك، كذلك أيضاً إذا كنت تخاطب أرباب أموال فإنك تخاطبهم بمسائل الزكاة باعتبار أنهم محتاجون إليها، لكن لا تأتي إلى فقراء معدمين يبحثون عن الزكاة تفقهم بمصارف الزكاة، لماذا؟ لأنهم ليسوا من أهل المال؛ ولهذا نقول: إن العالم الرباني هو الذي يعلم الناس العلم بحسب ما يشفي عي الجهل فيهم، وهذا ينظر إليه من جهتين من الجهة الشرعية، وكذلك أيضاً من جهة الموضع الذي يوضع فيه ذلك العلم والجهة الشرعية هي التي وضعت مراتب التشريع ولم تترك للناس.

ولهذا تجد في كثير من وسائل الإعلام سواء الإذاعية أو المكتوبة كالصحافة ونحو ذلك من يهتمون بغرس أشياء مع وجود حاجة للناس في غيرها، فمثلاً في برامج فضائية طويلة جداً تجد للداعية أو للمصلح مئات الحلقات عن السير والآداب والسلوك، ولكنه لم يدع مرة إلى التوحيد، وهو يرى الوثنية قد استشرت في بلدان المسلمين، أو تجد مثلاً من أفحش الكفر وأشده وهو التعدي على ذات الله عز وجل وسبه سبحانه وتعالى، أليس هذا كفر؟ كفر بالله عز وجل، وهو أشد من عبادة الأصنام، وهؤلاء لو عبدوا الأصنام أهون من أن يتعدوا على الله عز وجل بالسب والشتم، وهذا ينتشر كثيراً في بلدان المسلمين، في بلدان الشام والعراق وغيرها، وكذلك أيضاً ربما في بلدان المغرب العربي، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى إنكار أو لا يحتاج إلى إنكار؟ يحتاج إلى إنكار، ويحتاج إلى بيان.

لهذا نقول: إن مراتب التعليم ترجع إلى ميزان الشريعة، وميزان حاجة الناس، ولا يعني هذا أننا نهمل جوانب تربية الناس وتعليمهم بالأخلاق الحسنة والأمانة وغير ذلك، ولكن نبدأ بالدعوة الأم وهي التوحيد، والنبي عليه الصلاة والسلام في مكة هل كان يدعو إلى التوحيد فقط أم يجعل معه شيئاً؟ يجعل معه شيئاً؛ ولهذا أبو سفيان ( لما سئل: ماذا يدعوكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يدعونا إلى عبادة الله، وإلى الأمانة، والصدق، والعفاف)، هذا في مكة، فأنت أيضاً تدعو إلى توحيد الله عز وجل وتدعو إلى هذه الأمور من الأخلاق، لكن تجعل في المرتبة الأولى جانب التوحيد؛ لأن الشرك يوجد في هؤلاء أكثر؛ ولهذا تجد في القرآن آيات التوحيد والربوبية أكثرها مكية وإلا مدنية؟ أكثرها مكية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء إلى المدينة كان الناس متمكنين في أمور الإيمان والتوحيد وقبول الحق فاحتاجوا إلى فروع الإسلام، احتاجوا إلى معرفة الصلاة والصيام والزكاة والحج وعقود الأنكحة والبيوع والآداب كأمور الاستئذان وغير ذلك من أحكام الشريعة.

قال رحمه الله: [ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا.

حدثنا محمد بن يوسف، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا ) .

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثني أبو التياح، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) ].

في هذه الترجمة قال: (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا)، مراتب تعليم الناس وإرشادهم ودلالاتهم إلى الخير وتخولهم بالموعظة واللطف معهم هذا من الحكمة والسياسة الشرعية وعدم إملالهم، وذلك أن الإنسان مجبول لا على ملل من الخير، لكنه مجبول على الملل بفطرته من كل شيء، فهو ملول؛ ولهذا ينبغي أن يتخول بالموعظة حتى لا ينفر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة.

شرح حديث ابن مسعود: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة ...)

يقول: (مخافة السآمة علينا)، قد يقول قائل: كيف يسأم الإنسان من الخير؟ نعم يسأم من الخير، لا لذات الخير، بل لأنه في ذاته مفطور على السآمة، وموجود فيه السآمة والملل من الشيء الدائم؛ ولهذا نقول: إن الإنسان ينبغي أن يتخول الناس بالموعظة حتى لا يملوا ويكرهوا الحق لا لذاته وإنما لكثرة وروده على مسامعهم أكثر مما ينبغي.

وهذا أمر ينظر إليه من جهات:

منها: أن ينظر الإنسان إلى حال المتعلمين، إذا كان هذا الأمر قد استقر لديهم علماً وعملاً لا يحتاج إلى الإكثار منه عليهم، وإنما يعلمهم بين وقت وآخر حتى لا ينسوا، وينوع في هذا الأمر، لكن إذا كان غير مستقر فيهم، بل هم مفرطون فيه هل يقول: لا أريد أن يسأموا؟ لا؛ لهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو كفار قريش إلى التوحيد، ونوح عليه السلام يدعوهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً؛ لأنهم ما امتثلوا؛ لهذا يحتاج إلى تكرار ولو سئموا وملوا، ولكن الذي يتوقع منه خشية الإملال هو الذي اتبع وانقاد وسمع فلا تكثر عليه.

كذلك أيضاً ينبغي للإنسان أن يتخول حتى المعرض في المواضع التي يحسن سماعه إليه فلا يؤتى إليه في موضع هو فيه منشغل الذهن أو غاضب أو نحو ذلك؛ ولهذا نوح عليه السلام خاطبهم في جميع الأوقات لإقامة الحجة، دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[نوح:5] سراً وجهاراً، يعني: بالإسرار على سبيل الانفراد، يأتيهم واحداً واحداً، يأتيهم في الأماكن العامة، يأتيهم في الليل ربما كانوا منشغلين بكسب الرزق في النهار، يأتيهم في النهار، ربما يكونون في الليل يحتاجون إلى النوم والراحة والدعة أو يسمرون أو نحو ذلك، فنوع في تلك الأوقات حتى يقيم الحجة عليهم.

كذلك أيضاً فإنه ينظر إلى حال الناس من جهة التخول بحسب ما يرد عليهم من مقاومة ذلك الخير، في زماننا كثرت مطارق الشر على الناس، وفي وسائل الإعلام أصبح يغزو الإنسان في كل موضع حتى في طريقة، كان في السابق وسائل الإعلام ربما لا يكون مع الإنسان شاشة التلفاز في منزله، الآن في هاتفه النقال، في أي مكان، ربما تكون شاشات المتابعة والتلفزة في أجهزته النقالة فيرى في كل مكان، إذاً: ينبغي أن يؤتى الخير تعليماً ومقاومة أيضاً للشر، كما يسهب الشر يسهب في أمر الخير، ولا يقال تكون كما كان النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا عبد الله بن مسعود كان يتخول أصحابه ولا يخرج إليهم إلا كل خميس؛ لأنه يخشى السآمة عليهم، ولكن في ذلك الزمن الذين كانوا فيه، ذلك الزمن لا يوجد انفتاح للشر، ولو وجد انفتاح لزاد عبد الله بن مسعود، لماذا؟ حتى لا يتأثروا بالشر الوارد إليهم؛ ولهذا نقول: إذا زاد الشر يزيد الخير، وهذا من الحكمة والسياسة في أمر المدافعة، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، وإذا وجد الناس في غفلة، بعيدون مثلاً عن الشر، ولا يوجد لديهم مثلاً إسهاب في تلقي الشر يخفف عليهم؛ لأن الإنسان يداوي ويقاوم، كما يداوي الطبيب أمراض الأبدان التي ترد عليه أو تستشري كذلك أيضاً يداوي جهل الإنسان في عقولهم وقلوبهم.

شرح حديث أنس: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)

والنبي عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال عليه الصلاة والسلام لهما: ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا )، وكذلك أيضاً في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى هنا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتيسير ونهى عن التعسير، وحث على التبشير لا التنفير.

وهنا نقول: إن التيسير المراد به هو التيسير الذي يسر به النبي عليه الصلاة والسلام، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[البقرة:185]، إذاً: أصل الشريعة تيسير، فالإرادة المذكورة في قول الله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ[البقرة:185] هي الإرادة الشرعية، أي: أن أصل الشريعة يسر وسماحة؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عباس: ( إنما بعثت حنيفية سمحة )، وهل التيسير ذوقي وحسي -يعني: بذوق الإنسان وحسه- أم هو شرعي؟ الأصل فيه أنه شرعي لا إلى ذوق الإنسان، ولو كان إلى ذوق الإنسان لقال: والله صلاة الظهر أربع اليسر أن تكون اثنتين اليوم، هذا تيسير حسي وذوقي خاص بالإنسان أم بالشريعة؟ خاص بالإنسان لهذا لا يصح مثل هذا الأمر،؛ وكثير من الناس يستعملون مصطلح اليسر بالدين وفق أذواقهم لا وفق الشريعة، ويستعملون الوسطية وفق أذواقهم لا وفق الشريعة، ويتعاملون مع الوسطية بمفهوم يختلف عن مراد الله عز وجل ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ) إذاً: اليسر المراد بذلك هو اليسر في المسائل الشرعية أو في أمور الناس الدنيوية؟ أمور الناس الدنيوية، لذا قال: ( ما لم يكن إثماً )، يعني: ما لم يدخل في حمى الشريعة، أما إذا دخل في حمى الشريعة فلا، ولو كنت في ذاتك ترى أنه عسر عليك أن تمتثل وأن تعلم أن الله أراد بك خيراً.

فمثلاً: قد يرى الإنسان الحدود وتطبيقها فيقول هذه مشقة وعسر، لكن نقول: عليك أن تقوم بها وأن تمتثل لأنها يسر وأنت لا تعلم، يسر بالأمة ورحمة بها؛ ولهذا الله عز وجل جعل القصاص حياة أو جعله موتاً؟ جعله حياة للأمة به تحيا النفوس وتعصم وتحفظ الكرامات وغير ذلك، ولهذا نقول: إن مثل هذه الأمور ينبغي للإنسان أن ينظر إليها بمنظار الشريعة لا بمنظار نفسه.

كذلك أيضاً مفهوم الوسطية ينظر إليها كثير من الناس من جهة حسه، أو ينظر للوسطية على أنها وسطية هندسية، يأتي بين فكرين ويقول أنا متوسط، ربما أنتم الثلاثة كلكم يمين أو كلكم يسار، لكن الوسطية الصحيحة رسمها رسول الله صلى لله عليه وسلم، ومن الأخطاء أن ينتشر مثلاً في بلد من البلدان فكران، ثم يأتي الإنسان بينهما ويقول أنا وسطي.

في مكة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كان هناك كفار قريش الذين يحاربون النبي عليه الصلاة والسلام، وكان منهم من يود النبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن معه في دعوته وهو أبو طالب، أبو طالب في هذا المقياس - المقياس الهندسي - وسطي أو ليس بوسطي؟ وسطي، وسطية ضلالة أو وسطية هداية؟ وسطية ضلالة، هذه وسطية هندسية، يقول ما هذه الأفكار الموجودة في البلد فيه فكر كذا، وفيه فكر كذا، تعالوا في النصف، هذا صحيح أو ليس بصحيح؟ لا، ليس بصحيح، الوسطية هي التي رسمها الله عز وجل وانتهى أمرها، وهي في كلام الله عز وجل وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا الوسطية لا يبحث عنها، وإنما تتبع؛ لأن الله عز وجل رسمها، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] ما هو الصراط المستقيم؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7]، وهو الذي رسمه الله جل وعلا؛ لهذا قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[البقرة:143] من الذي جعلك وسطاً؟ هل جعلت نفسك أم الله؟ الذي جعلك وسطاً هو الله، أين جعلك؟ في الشريعة في الكتاب والسنة؛ ولهذا نقول: إن الوسطية وسطية شرعية، والتيسير هو تيسير شرعي هو الذي أراده الله سبحانه وتعالى.

قد يجد الإنسان في قلبه شيئاً من الكره أو البغض عند إقباله على الأحكام الشرعية، فمثلاً: حينما تقوم في يوم بارد وتتوضأ ألا تجد كرهاً وتثاقلاً أن تتوضأ بالماء البارد؟ لكن النبي عليه الصلاة والسلام جعله من أعمال البر كما في حديث أبي هريرة قال: ( وإسباغ الوضوء على المكاره )، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ[البقرة:216]، ومع ذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما أفضل الأعمال وأحبها إلى الله؟ قال: الإيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله )، كيف يكون أفضل الأعمال والإنسان يكرهه؟ نقول: لا يكرهه، وإنما المراد أن الإنسان ينقبض منه؛ لأنه يحب الحياة، لا يحب مفارقة الأهل والأموال وغير ذلك؛ ولهذا نقول: إن هذا الأمر النزعة النفسية في ذات الإنسان لا يؤاخذ عليها، وإنما يؤاخذ إذا تكلم بها، فقال أنا كاره للشريعة أو لا أحبها، ولكن الواقع أنه يقوم بالامتثال ويقول: سمعنا وأطعنا؛ لذا لا يؤاخذ بهذا الذي في نفسه.

كذلك المرأة تكره أن يتزوج عليها زوجها أم لا؟ تكره أن يتزوج عليها زوجها، هذا فطري أو ليس بفطري؟ فطري، تؤاخذ على هذا أو لا تؤاخذ؟ لا تؤاخذ، متى تؤاخذ؟ تؤاخذ إذا قالت: أنا أكره هذه الشريعة كلها؛ ولهذا تجد المرأة المؤمنة تكره أن يتزوج عليها زوجها، وإذا أريد منها أن تخطب لرجل متزوج ذهبت تخطب؛ لأنه ليس عليها، إذاً: لا تكره الشريعة في ذاتها إنما تكره على نفسها؛ ولهذا نقول: هذا الشيء الفطري الذي في ذات الإنسان لا يؤاخذ عليه ما لم يفصح عنه أنه يكره ذلك التشريع.

ولهذا نقول: إن اليسر هو الذي أراده الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً من مفاهيم اليسر في الشريعة هو التدرج في إفهام الناس للشريعة، تأتيهم بشيء يسير حتى يتدرجوا في ذلك؛ لهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له عليه الصلاة والسلام: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه ) ماذا؟ ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة )، هل جاء بها على سبيل الإجمال أم جاء بها على التدرج؟ ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فليكن ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله )، جاء في رواية البخاري في كتاب التوحيد: ( إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أجابوك لذلك )، يعني: لا تعطيهم الثاني حتى تنظر ماذا يفعلون، يعني: لا تكثر عليهم، وإنما تعال على التدرج، فهذا التدرج من أمور التيسير للناس؛ ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز: إنك ما علمت الناس الإسلام جملة إلا تركوه جملة.

فلا تأتِ إلى شخص ملحد لا يعرف دين الله عز وجل ثم تقول: يجب عليك أن تصلي الصلوات الخمس، والسنن الرواتب اثني عشر، وقيام الليل إحدى عشر، وتصوم شهراً كاملاً ولا تأكل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأخرج من مالك اثنين ونصف بالمائة كل سنة، وعليك الجهاد في سبيل الله، وتعطيه من الأحكام الشريعة، ألا ينقبض؟ ينقبض.

لكن ما لا يقبل التدرج في هذا ما هو؟ التوحيد، فالتوحيد لا يقبل التدرج، ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )؛ ولهذا جاء رجل للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( يا رسول الله إني أريد أن أسلم، قال: أسلم ما الذي يمنعك. قال: إني أجدني كارهاً )، هل قال نصف التوحيد؟ أم قال: ( أسلم ولو كنت كارهاً )؟ لهذا نقول: إن التوحيد لا يقبل التجزئة، لا بد أن يأتي به الإنسان كاملاً، وباب التوحيد ليس فيه يسر؛ لأنه هو يسر في ذاته، ليس فيه يسر نفسي وعاطفي، وليس فيه تدرج في ذلك؛ ولهذا نقول: قد يعيش الإنسان في الضلال ويظن أنه استأنس بذلك، وهو على ضلالة أوليس على ضلال؟ على ضلال لذا ينبغي أن ترحمه وأن ترأف به حتى يأتي إلى الحق شيئاً فشيئاً، لكن هل يعني أن الإنسان إذا استأنس وارتاح إليه أنه حق؟ لا يلزم هذا، وهل نفرة الإنسان من شيء يدل على أنه باطل؟ لا، لا يلزم هذا، الإنسان إذا كان في حجرة مظلمة شهر ألا يتألم من النور أو لا يتألم منه؟ يتألم من النور وينفر منه، هل يعني أن الظلام خير من النور؟ لا، لكن نقول: تأخذ بيده شيئاً فشيئاً اخرج معي، كذلك القلوب حين تخرج من ظلم الشرك وظلم الجاهلية تجد قبولاً منه ونفرة من نور الحق؛ لهذا القلوب يرد لديها الأنس من الظلمة، والوحشة من النور، فينبغي للإنسان أن يرأف بأولئك الخلق؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أسلم ولو كنت كارهاً )، يعني: هذا الكره سيزول، اخرج إلى النور ثم ترى.

يقول: (مخافة السآمة علينا)، قد يقول قائل: كيف يسأم الإنسان من الخير؟ نعم يسأم من الخير، لا لذات الخير، بل لأنه في ذاته مفطور على السآمة، وموجود فيه السآمة والملل من الشيء الدائم؛ ولهذا نقول: إن الإنسان ينبغي أن يتخول الناس بالموعظة حتى لا يملوا ويكرهوا الحق لا لذاته وإنما لكثرة وروده على مسامعهم أكثر مما ينبغي.

وهذا أمر ينظر إليه من جهات:

منها: أن ينظر الإنسان إلى حال المتعلمين، إذا كان هذا الأمر قد استقر لديهم علماً وعملاً لا يحتاج إلى الإكثار منه عليهم، وإنما يعلمهم بين وقت وآخر حتى لا ينسوا، وينوع في هذا الأمر، لكن إذا كان غير مستقر فيهم، بل هم مفرطون فيه هل يقول: لا أريد أن يسأموا؟ لا؛ لهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو كفار قريش إلى التوحيد، ونوح عليه السلام يدعوهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً؛ لأنهم ما امتثلوا؛ لهذا يحتاج إلى تكرار ولو سئموا وملوا، ولكن الذي يتوقع منه خشية الإملال هو الذي اتبع وانقاد وسمع فلا تكثر عليه.

كذلك أيضاً ينبغي للإنسان أن يتخول حتى المعرض في المواضع التي يحسن سماعه إليه فلا يؤتى إليه في موضع هو فيه منشغل الذهن أو غاضب أو نحو ذلك؛ ولهذا نوح عليه السلام خاطبهم في جميع الأوقات لإقامة الحجة، دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[نوح:5] سراً وجهاراً، يعني: بالإسرار على سبيل الانفراد، يأتيهم واحداً واحداً، يأتيهم في الأماكن العامة، يأتيهم في الليل ربما كانوا منشغلين بكسب الرزق في النهار، يأتيهم في النهار، ربما يكونون في الليل يحتاجون إلى النوم والراحة والدعة أو يسمرون أو نحو ذلك، فنوع في تلك الأوقات حتى يقيم الحجة عليهم.

كذلك أيضاً فإنه ينظر إلى حال الناس من جهة التخول بحسب ما يرد عليهم من مقاومة ذلك الخير، في زماننا كثرت مطارق الشر على الناس، وفي وسائل الإعلام أصبح يغزو الإنسان في كل موضع حتى في طريقة، كان في السابق وسائل الإعلام ربما لا يكون مع الإنسان شاشة التلفاز في منزله، الآن في هاتفه النقال، في أي مكان، ربما تكون شاشات المتابعة والتلفزة في أجهزته النقالة فيرى في كل مكان، إذاً: ينبغي أن يؤتى الخير تعليماً ومقاومة أيضاً للشر، كما يسهب الشر يسهب في أمر الخير، ولا يقال تكون كما كان النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا عبد الله بن مسعود كان يتخول أصحابه ولا يخرج إليهم إلا كل خميس؛ لأنه يخشى السآمة عليهم، ولكن في ذلك الزمن الذين كانوا فيه، ذلك الزمن لا يوجد انفتاح للشر، ولو وجد انفتاح لزاد عبد الله بن مسعود، لماذا؟ حتى لا يتأثروا بالشر الوارد إليهم؛ ولهذا نقول: إذا زاد الشر يزيد الخير، وهذا من الحكمة والسياسة في أمر المدافعة، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، وإذا وجد الناس في غفلة، بعيدون مثلاً عن الشر، ولا يوجد لديهم مثلاً إسهاب في تلقي الشر يخفف عليهم؛ لأن الإنسان يداوي ويقاوم، كما يداوي الطبيب أمراض الأبدان التي ترد عليه أو تستشري كذلك أيضاً يداوي جهل الإنسان في عقولهم وقلوبهم.

والنبي عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال عليه الصلاة والسلام لهما: ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا )، وكذلك أيضاً في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى هنا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتيسير ونهى عن التعسير، وحث على التبشير لا التنفير.

وهنا نقول: إن التيسير المراد به هو التيسير الذي يسر به النبي عليه الصلاة والسلام، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[البقرة:185]، إذاً: أصل الشريعة تيسير، فالإرادة المذكورة في قول الله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ[البقرة:185] هي الإرادة الشرعية، أي: أن أصل الشريعة يسر وسماحة؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عباس: ( إنما بعثت حنيفية سمحة )، وهل التيسير ذوقي وحسي -يعني: بذوق الإنسان وحسه- أم هو شرعي؟ الأصل فيه أنه شرعي لا إلى ذوق الإنسان، ولو كان إلى ذوق الإنسان لقال: والله صلاة الظهر أربع اليسر أن تكون اثنتين اليوم، هذا تيسير حسي وذوقي خاص بالإنسان أم بالشريعة؟ خاص بالإنسان لهذا لا يصح مثل هذا الأمر،؛ وكثير من الناس يستعملون مصطلح اليسر بالدين وفق أذواقهم لا وفق الشريعة، ويستعملون الوسطية وفق أذواقهم لا وفق الشريعة، ويتعاملون مع الوسطية بمفهوم يختلف عن مراد الله عز وجل ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ) إذاً: اليسر المراد بذلك هو اليسر في المسائل الشرعية أو في أمور الناس الدنيوية؟ أمور الناس الدنيوية، لذا قال: ( ما لم يكن إثماً )، يعني: ما لم يدخل في حمى الشريعة، أما إذا دخل في حمى الشريعة فلا، ولو كنت في ذاتك ترى أنه عسر عليك أن تمتثل وأن تعلم أن الله أراد بك خيراً.

فمثلاً: قد يرى الإنسان الحدود وتطبيقها فيقول هذه مشقة وعسر، لكن نقول: عليك أن تقوم بها وأن تمتثل لأنها يسر وأنت لا تعلم، يسر بالأمة ورحمة بها؛ ولهذا الله عز وجل جعل القصاص حياة أو جعله موتاً؟ جعله حياة للأمة به تحيا النفوس وتعصم وتحفظ الكرامات وغير ذلك، ولهذا نقول: إن مثل هذه الأمور ينبغي للإنسان أن ينظر إليها بمنظار الشريعة لا بمنظار نفسه.

كذلك أيضاً مفهوم الوسطية ينظر إليها كثير من الناس من جهة حسه، أو ينظر للوسطية على أنها وسطية هندسية، يأتي بين فكرين ويقول أنا متوسط، ربما أنتم الثلاثة كلكم يمين أو كلكم يسار، لكن الوسطية الصحيحة رسمها رسول الله صلى لله عليه وسلم، ومن الأخطاء أن ينتشر مثلاً في بلد من البلدان فكران، ثم يأتي الإنسان بينهما ويقول أنا وسطي.

في مكة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كان هناك كفار قريش الذين يحاربون النبي عليه الصلاة والسلام، وكان منهم من يود النبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن معه في دعوته وهو أبو طالب، أبو طالب في هذا المقياس - المقياس الهندسي - وسطي أو ليس بوسطي؟ وسطي، وسطية ضلالة أو وسطية هداية؟ وسطية ضلالة، هذه وسطية هندسية، يقول ما هذه الأفكار الموجودة في البلد فيه فكر كذا، وفيه فكر كذا، تعالوا في النصف، هذا صحيح أو ليس بصحيح؟ لا، ليس بصحيح، الوسطية هي التي رسمها الله عز وجل وانتهى أمرها، وهي في كلام الله عز وجل وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا الوسطية لا يبحث عنها، وإنما تتبع؛ لأن الله عز وجل رسمها، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] ما هو الصراط المستقيم؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7]، وهو الذي رسمه الله جل وعلا؛ لهذا قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[البقرة:143] من الذي جعلك وسطاً؟ هل جعلت نفسك أم الله؟ الذي جعلك وسطاً هو الله، أين جعلك؟ في الشريعة في الكتاب والسنة؛ ولهذا نقول: إن الوسطية وسطية شرعية، والتيسير هو تيسير شرعي هو الذي أراده الله سبحانه وتعالى.

قد يجد الإنسان في قلبه شيئاً من الكره أو البغض عند إقباله على الأحكام الشرعية، فمثلاً: حينما تقوم في يوم بارد وتتوضأ ألا تجد كرهاً وتثاقلاً أن تتوضأ بالماء البارد؟ لكن النبي عليه الصلاة والسلام جعله من أعمال البر كما في حديث أبي هريرة قال: ( وإسباغ الوضوء على المكاره )، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ[البقرة:216]، ومع ذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما أفضل الأعمال وأحبها إلى الله؟ قال: الإيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله )، كيف يكون أفضل الأعمال والإنسان يكرهه؟ نقول: لا يكرهه، وإنما المراد أن الإنسان ينقبض منه؛ لأنه يحب الحياة، لا يحب مفارقة الأهل والأموال وغير ذلك؛ ولهذا نقول: إن هذا الأمر النزعة النفسية في ذات الإنسان لا يؤاخذ عليها، وإنما يؤاخذ إذا تكلم بها، فقال أنا كاره للشريعة أو لا أحبها، ولكن الواقع أنه يقوم بالامتثال ويقول: سمعنا وأطعنا؛ لذا لا يؤاخذ بهذا الذي في نفسه.

كذلك المرأة تكره أن يتزوج عليها زوجها أم لا؟ تكره أن يتزوج عليها زوجها، هذا فطري أو ليس بفطري؟ فطري، تؤاخذ على هذا أو لا تؤاخذ؟ لا تؤاخذ، متى تؤاخذ؟ تؤاخذ إذا قالت: أنا أكره هذه الشريعة كلها؛ ولهذا تجد المرأة المؤمنة تكره أن يتزوج عليها زوجها، وإذا أريد منها أن تخطب لرجل متزوج ذهبت تخطب؛ لأنه ليس عليها، إذاً: لا تكره الشريعة في ذاتها إنما تكره على نفسها؛ ولهذا نقول: هذا الشيء الفطري الذي في ذات الإنسان لا يؤاخذ عليه ما لم يفصح عنه أنه يكره ذلك التشريع.

ولهذا نقول: إن اليسر هو الذي أراده الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً من مفاهيم اليسر في الشريعة هو التدرج في إفهام الناس للشريعة، تأتيهم بشيء يسير حتى يتدرجوا في ذلك؛ لهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له عليه الصلاة والسلام: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه ) ماذا؟ ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة )، هل جاء بها على سبيل الإجمال أم جاء بها على التدرج؟ ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فليكن ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله )، جاء في رواية البخاري في كتاب التوحيد: ( إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أجابوك لذلك )، يعني: لا تعطيهم الثاني حتى تنظر ماذا يفعلون، يعني: لا تكثر عليهم، وإنما تعال على التدرج، فهذا التدرج من أمور التيسير للناس؛ ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز: إنك ما علمت الناس الإسلام جملة إلا تركوه جملة.

فلا تأتِ إلى شخص ملحد لا يعرف دين الله عز وجل ثم تقول: يجب عليك أن تصلي الصلوات الخمس، والسنن الرواتب اثني عشر، وقيام الليل إحدى عشر، وتصوم شهراً كاملاً ولا تأكل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأخرج من مالك اثنين ونصف بالمائة كل سنة، وعليك الجهاد في سبيل الله، وتعطيه من الأحكام الشريعة، ألا ينقبض؟ ينقبض.

لكن ما لا يقبل التدرج في هذا ما هو؟ التوحيد، فالتوحيد لا يقبل التدرج، ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )؛ ولهذا جاء رجل للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( يا رسول الله إني أريد أن أسلم، قال: أسلم ما الذي يمنعك. قال: إني أجدني كارهاً )، هل قال نصف التوحيد؟ أم قال: ( أسلم ولو كنت كارهاً )؟ لهذا نقول: إن التوحيد لا يقبل التجزئة، لا بد أن يأتي به الإنسان كاملاً، وباب التوحيد ليس فيه يسر؛ لأنه هو يسر في ذاته، ليس فيه يسر نفسي وعاطفي، وليس فيه تدرج في ذلك؛ ولهذا نقول: قد يعيش الإنسان في الضلال ويظن أنه استأنس بذلك، وهو على ضلالة أوليس على ضلال؟ على ضلال لذا ينبغي أن ترحمه وأن ترأف به حتى يأتي إلى الحق شيئاً فشيئاً، لكن هل يعني أن الإنسان إذا استأنس وارتاح إليه أنه حق؟ لا يلزم هذا، وهل نفرة الإنسان من شيء يدل على أنه باطل؟ لا، لا يلزم هذا، الإنسان إذا كان في حجرة مظلمة شهر ألا يتألم من النور أو لا يتألم منه؟ يتألم من النور وينفر منه، هل يعني أن الظلام خير من النور؟ لا، لكن نقول: تأخذ بيده شيئاً فشيئاً اخرج معي، كذلك القلوب حين تخرج من ظلم الشرك وظلم الجاهلية تجد قبولاً منه ونفرة من نور الحق؛ لهذا القلوب يرد لديها الأنس من الظلمة، والوحشة من النور، فينبغي للإنسان أن يرأف بأولئك الخلق؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أسلم ولو كنت كارهاً )، يعني: هذا الكره سيزول، اخرج إلى النور ثم ترى.

قال رحمه الله: [ باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة.

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا ].

هذا تقدم الكلام عليه في الباب السابق.

قال رحمه الله: [ باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.

حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب، قال: قال حميد بن عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) ].

وهذا كذلك أيضاً تقدم معنا في الباب قبل السابق في مسألة الخيرية، وأن الله عز وجل كلما أراد بعبده خيراً زاد من توفيقه وتسديده إلى العلم، وإذا أراد الله عز وجل به شراً جعله يوغل في أبواب الجهالة.

قال رحمه الله: [ باب الفهم في العلم.

حدثنا علي، حدثنا سفيان قال: قال لي ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً، قال: ( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار فقال: إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم. فأردت أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة ) ].

والجمار: هو قلب النخلة، وهو يؤكل ويطعم ويستلذ، وكان يتحلى به الناس، وفي هذا الحديث فضل الفهم، وأن الفهم قد يؤتاه الإنسان صغيراً، ولا يلزم من ذلك أن يكون الإنسان كبيراً، فقد يوفق الإنسان إلى شيء من الفهم والإدراك والاستنباط وهو صغير، كما وفق عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى إلى شيء من فهم بعض مسائل الدين لم يفهمها غيره، كذلك أيضاً الفهم يتجزأ قد يفهم الإنسان مسألة وهو دون غيره، ولا يعني هذا تفوقاً في غيره من أبواب العلوم، فهناك من الصحابة من هم أفقه من عبد الله بن عمر كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب والعلية من كبار الفقهاء، منهم من يتمايز أيضاً في بعض الأبواب دون بعض كـعائشة عليها رضوان الله تعالى لتبصرها وفقهها في أحكام النساء، فإنها تتقدم على كثير من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في هذا، منهم من يتبصر ويكون فقيهاً أيضاً في أبواب الفرائض كـزيد بن ثابت، منهم من هو فقيه في الحلال والحرام كـمعاذ بن جبل، ومنهم من يفقه في مسائل البيوع والمعاملات وغير ذلك، فهذه أبواب ينظر فيها بحسب أهل الاختصاص، قد يؤتى الإنسان في باب ولا يؤتى في الآخر، ويؤتى في أكثر الأبواب ولا يؤتى بها جميعاً.

قال رحمه الله: [ باب الاغتباط في العلم والحكمة، وقال عمر: تفقهوا قبل أن تسوّدوا، قال أبو عبد الله: وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم.

حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد على غير ما حدثناه الزهري قال: سمعت قيس بن أبي حازم، قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) ].

هذا أيضا فيه إشارة إلى أن أفضل ما يسعى إليه هو العلم؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا حسد إلا في اثنتين )، يعني: لو كان الحسد يجوز لجاز في هذا، ويحتمل أن المراد بذلك الغبطة، ويغبط الإنسان غيره على ما يوفق إليه ويتمنى أن يكون مثله؛ ولهذا نقول: إن الحسد: هو تمني زوال النعمة عن المحسود، وأما الاغتباط: فهو تمني المماثلة مع عدم زوال النعمة عنه، أو تمني الزيادة عليه مع عدم حرمانه مما هو عليه من توفيق، والمصنف رحمه الله هنا كأنه فسر الحسد في الحديث في قوله: ( لا حسد إلا في اثنتين ) يعني: لا اغتباط له قيمة وكرامة إلا في هذين الأمرين باعتبار العلم، وكذلك أيضاً الإنفاق في سبيل الله عز وجل.

وقول عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: (تفقهوا قبل أن تسودوا)؛ لأن الإنسان إذا انشغل وساد، سواء كانت ولايته صغرى، أو كبرى، فالولاية الصغرى أن يتولى الإنسان على زوجة وذرية وينشغل بالإنفاق، أو بالعمل، أو ربما أيضاً يتولى على تجارة أو عمال ويكون لديه مثلاً انشغال في هذا الباب، أو يتولى ولاية كبرى مثلاً على بلد أو قرية أو إدارة أو مدرسة أو غير ذلك هذا نوع من الولايات التي تشغل الإنسان؛ ولهذا قال: (تفقهوا قبل أن تسودوا) وفي هذا إشارة وتنبيه إلى أنه ينبغي على الإنسان أو الوالد أو المعلم أن يربي الناس في زمن انشغالهم وتفرغهم، وينبغي أيضاً على ولي الأمر أن يحرص على هذا الأمر من أبنائه وبناته ومن يلي أمره بتعليمهم قبل توليهم الأمر؛ لأنهم سينصرفون إلى أمر القيادة، والقيادة يلزمها عمل، فإذا لم يعمل على علم لم يوفق إلى الصواب غالباً، وكذلك أيضاً فإن الإنسان في فراغه يتحصل على العلم والذهن صافٍ، وإذا لم يكن الذهن منشغلاً بشيء من الصوارف الدنيوية فهو أقرب إلى الحفظ، وأقرب إلى الفهم، وأدرك أيضاً في مسائل الاستنباط.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [4] 2618 استماع
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [1] 1544 استماع
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3] 1222 استماع