شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

قال الإمام البخاري: [ باب رفع العلم وظهور الجهل، وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه.

حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا ).

حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ( من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ) ].

قوله رحمه الله: (باب رفع العلم وظهور الجهل) وثمة تلازم بينهما، إذا رفع العلم فإنه يظهر الجهل، وإذا انقبض الجهل فإن هذا أمارة على وجود العلم، والعلم يكون بقبض العلماء، فميزان خيرية الأمة هو بوجود العلماء لا بوجود المال؛ لأن الناس إذا كانوا على مال بلا علم اقتتلوا وافتتنوا، وبالعلم فإنهم يأنسون ويتآلفون ولو كانوا على فقر؛ ولهذا يقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله كما روى ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها: لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابكم ذهاب علمائكم. يعني: الخيرية تكون في الأمة مع وجود العلماء، وتنقص تلك الخيرية بنقصان العلماء؛ ولهذا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه )، والمراد بذلك هو ذهاب العلماء، والبلد التي فيها علماء بمقدار أدائهم لرسالتهم فإن الأمة أمة مرحومة.

قول ربيعة: (لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه)، وذلك أن صاحب العلم إذا ضيع نفسه بعدم البلاغ، أو بعدم الاستزادة من العلم، أو ابتذال النفس فيما دون العلم فذلك من الهدر؛ لأن الإنسان إذا كان جاهلاً بنفسه فغيره أجهل به من نفسه؛ فلهذا ينبغي للإنسان ألا يأخذه ما يسمى بالورع البارد، وألا يأخذه أيضاً في المقابل الجسارة على العلم إذا كان جاهلاً فيجعل في نفسه من العلم ما ليس فيها، بل يعطيها قدرها من جهة البلاغ ومن جهة الأخذ والاستزادة.

شرح حديث أنس: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم...)

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ) ] تقدم معنا في حديث ابن العاص وهو في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) ضلوا بأنفسهم، وأضلوا غيرهم، الله عز وجل هو الذي يرفع العلماء، والجاهل يرفعه الناس؛ ولهذا قال: ( اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، أما العالم يرفعه الله يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، لهذا العالم لا يمكن أن يوضع، والجاهل لا يمكن أن يرفع؛ وذلك أنه إذا زال رافعه رجع إلى موضعه الذي هو فيه، أما العالم فالله عز وجل هو الذي رفعه بالعلم، ويضعه الله عز وجل إذا زل عن مكانه الذي هو عليه؛ لهذا كم من الناس يحاولون أن يطفئوا شمس عالم بعينه فيعجزون عن ذلك؛ لأن الله عز وجل هو الذي رفعه، وكم من الناس الجهال يحاولون أن يبرزوا جاهلاً، ويأبى الناس أن يدخل قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، والقبول منه سبحانه وتعالى.

وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم )، أي: أن الناس كلما تأخر الزمن في ذلك قبض العلم منهم، وظهر بذلك الجهل، وثمة تلازم بين قبض العلم وظهور الفتن، فأصل وجود الفتن هو قبض العلم، يعني: أن الناس إذا كانوا لا يعلمون حكم القتل تقاتلوا حمية، أو تقاتلوا لأجل القبيلة، أو تقاتلوا على المال، فما هو الذي يعيد الأمور إلى نصابها؟ العلم من الكتاب والسنة، والعدل والإنصاف؛ لأن الله عز وجل أرسل أنبياءه لإقامة العبادة، ولإقامة العدل في أمور الناس في دنياهم؛ لهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[الحديد:25]، لهذا العالم من رسالته أن يقوم بالعدل في جانب العبادة والدين، وفي جانب الدنيا؛ وكلما انعزل العالم عن مجتمع الناس والعدل فيهم في أمور الدنيا، وقضاء حوائجهم، والإنصاف في أمورهم، فإن رسالته في ذلك فيها نقص.

النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء بالأمور التعبدية فقط، بل جاء ليحفظ الحقوق أيضاً، ينتصر للمظلوم من ظالمه، ومن المبغي عليه من الباغي وهكذا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من ربه سبحانه وتعالى بالعدل كله؛ ولهذا نجد أنبياء الله عز وجل حاربوا الظلم في الأخلاق، الظلم في الأموال، الظلم في أمور الدين، فشعيب عليه السلام أرسله الله عز وجل لأجل ألا يطفف الناس المكيال والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم، يعني: في أمور البيع والشراء، وكذلك أخذ المكوس، وهي: العشر من أموال الناس من غير حق، فهذا من الظلم، فأرسله الله بالعدل في هذا.

ولوط عليه السلام أرسله الله عز وجل لمحاربة الانحراف في الأخلاق، وأنبياء الله عز وجل بعثهم أيضاً لإقامة حق الله عز وجل وتوحيده في الناس؛ لهذا نقول: إن الأحاديث التي تأتي في رفع العلم يتبعها ظهور الجهل، وكذلك لوازم ذلك من الفتن.

شرح حديث أنس: (من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل)

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أنس بن مالك الآخر: ( يقل العلم ويظهر الجهل )، ثم ماذا يظهر؟ الزنا، لا يظهر زنا في أمة إلا مع وجود الجهل، ولكن قد يقول شخص: يوجد العالم الفلاني، العالم الفلاني، نقول: هذا ما أدى رسالته، فحاله كحال كتاب لم يفتح، أدى الرسالة أو ما أداها؟ ما أدى تلك الرسالة، إذاً: التقصير من قبله، والعقوبة إذا نزلت على أمة وفيها عالم ولم يكن فيها مصلح أول ما يبدأ بالعالم؛ لأنه لم يتمعر وجهه لحرمات الله؛ ولهذا نقول: إن ظهور الجهل وقبض العلم أمارة على وجود الفتن والاضطراب.

قال صلى الله عليه وسلم: ( يظهر الزنا وتكثر النساء)، لماذا؟ ما هو اللازم لكثرة النساء وقلة الرجال مع ظهور الزنا؟

الأمراض التي تهلك الناس، وقد جاء في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن كثرة الزنا هلاك للأمة بكثرة الأمراض؛ ولهذا إذا انتشرت الفاحشة في قوم سلط الله عز وجل عليهم من الأمراض ما لم يكن في أسلافهم فيموتون، كما ينتشر في الأزمنة المتأخرة من الأمراض والأوبئة ما لم تسمع به الأمم من قبل؛ ولهذا يزولون بالقتل، ومن دواعي القتل القتال، لكن لماذا يتقاتلون؟ يتقاتلون على الثروات، على الأموال، على القبلية، على الحزبية، على غير ذلك، يتقاتلون؛ لعدم وجود العلم، يتقاتلون ثم يبيد بعضهم بعضاً، إذاً: هذا لازم لعدم وجود العلم أم لا؟ لازم لعدم وجود العلم، فإذا وجد العلم فالأمة حينئذٍ مرحومة، وإذا ارتفع العلم جاءت لوازم كثيرة، من ذلك: انتشار الفواحش، وما يتبع ذلك من أمراض، وكذلك أيضاً تقاتل الناس على الثروات وغير ذلك، حتى يبقى النساء ويكثرن، ويقل في ذلك الرجال.

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ) ] تقدم معنا في حديث ابن العاص وهو في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) ضلوا بأنفسهم، وأضلوا غيرهم، الله عز وجل هو الذي يرفع العلماء، والجاهل يرفعه الناس؛ ولهذا قال: ( اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، أما العالم يرفعه الله يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، لهذا العالم لا يمكن أن يوضع، والجاهل لا يمكن أن يرفع؛ وذلك أنه إذا زال رافعه رجع إلى موضعه الذي هو فيه، أما العالم فالله عز وجل هو الذي رفعه بالعلم، ويضعه الله عز وجل إذا زل عن مكانه الذي هو عليه؛ لهذا كم من الناس يحاولون أن يطفئوا شمس عالم بعينه فيعجزون عن ذلك؛ لأن الله عز وجل هو الذي رفعه، وكم من الناس الجهال يحاولون أن يبرزوا جاهلاً، ويأبى الناس أن يدخل قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، والقبول منه سبحانه وتعالى.

وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم )، أي: أن الناس كلما تأخر الزمن في ذلك قبض العلم منهم، وظهر بذلك الجهل، وثمة تلازم بين قبض العلم وظهور الفتن، فأصل وجود الفتن هو قبض العلم، يعني: أن الناس إذا كانوا لا يعلمون حكم القتل تقاتلوا حمية، أو تقاتلوا لأجل القبيلة، أو تقاتلوا على المال، فما هو الذي يعيد الأمور إلى نصابها؟ العلم من الكتاب والسنة، والعدل والإنصاف؛ لأن الله عز وجل أرسل أنبياءه لإقامة العبادة، ولإقامة العدل في أمور الناس في دنياهم؛ لهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[الحديد:25]، لهذا العالم من رسالته أن يقوم بالعدل في جانب العبادة والدين، وفي جانب الدنيا؛ وكلما انعزل العالم عن مجتمع الناس والعدل فيهم في أمور الدنيا، وقضاء حوائجهم، والإنصاف في أمورهم، فإن رسالته في ذلك فيها نقص.

النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء بالأمور التعبدية فقط، بل جاء ليحفظ الحقوق أيضاً، ينتصر للمظلوم من ظالمه، ومن المبغي عليه من الباغي وهكذا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من ربه سبحانه وتعالى بالعدل كله؛ ولهذا نجد أنبياء الله عز وجل حاربوا الظلم في الأخلاق، الظلم في الأموال، الظلم في أمور الدين، فشعيب عليه السلام أرسله الله عز وجل لأجل ألا يطفف الناس المكيال والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم، يعني: في أمور البيع والشراء، وكذلك أخذ المكوس، وهي: العشر من أموال الناس من غير حق، فهذا من الظلم، فأرسله الله بالعدل في هذا.

ولوط عليه السلام أرسله الله عز وجل لمحاربة الانحراف في الأخلاق، وأنبياء الله عز وجل بعثهم أيضاً لإقامة حق الله عز وجل وتوحيده في الناس؛ لهذا نقول: إن الأحاديث التي تأتي في رفع العلم يتبعها ظهور الجهل، وكذلك لوازم ذلك من الفتن.

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أنس بن مالك الآخر: ( يقل العلم ويظهر الجهل )، ثم ماذا يظهر؟ الزنا، لا يظهر زنا في أمة إلا مع وجود الجهل، ولكن قد يقول شخص: يوجد العالم الفلاني، العالم الفلاني، نقول: هذا ما أدى رسالته، فحاله كحال كتاب لم يفتح، أدى الرسالة أو ما أداها؟ ما أدى تلك الرسالة، إذاً: التقصير من قبله، والعقوبة إذا نزلت على أمة وفيها عالم ولم يكن فيها مصلح أول ما يبدأ بالعالم؛ لأنه لم يتمعر وجهه لحرمات الله؛ ولهذا نقول: إن ظهور الجهل وقبض العلم أمارة على وجود الفتن والاضطراب.

قال صلى الله عليه وسلم: ( يظهر الزنا وتكثر النساء)، لماذا؟ ما هو اللازم لكثرة النساء وقلة الرجال مع ظهور الزنا؟

الأمراض التي تهلك الناس، وقد جاء في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن كثرة الزنا هلاك للأمة بكثرة الأمراض؛ ولهذا إذا انتشرت الفاحشة في قوم سلط الله عز وجل عليهم من الأمراض ما لم يكن في أسلافهم فيموتون، كما ينتشر في الأزمنة المتأخرة من الأمراض والأوبئة ما لم تسمع به الأمم من قبل؛ ولهذا يزولون بالقتل، ومن دواعي القتل القتال، لكن لماذا يتقاتلون؟ يتقاتلون على الثروات، على الأموال، على القبلية، على الحزبية، على غير ذلك، يتقاتلون؛ لعدم وجود العلم، يتقاتلون ثم يبيد بعضهم بعضاً، إذاً: هذا لازم لعدم وجود العلم أم لا؟ لازم لعدم وجود العلم، فإذا وجد العلم فالأمة حينئذٍ مرحومة، وإذا ارتفع العلم جاءت لوازم كثيرة، من ذلك: انتشار الفواحش، وما يتبع ذلك من أمراض، وكذلك أيضاً تقاتل الناس على الثروات وغير ذلك، حتى يبقى النساء ويكثرن، ويقل في ذلك الرجال.

قال رحمه الله: [ باب فضل العلم.

حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن حمزة بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولته يا رسول الله ؟ قال: العلم ) ].

هذا الحديث فيه مع فضل العلم فضل عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، وجلالة قدره في باب العلم، ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما بين أنه أعطى عمر بن الخطاب فضله يعني: فيما شرب، إشارة إلى أن المصدر الذي يؤخذ منه العلم الحقيقي هو الوحي الذي أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً فيه فضل اللبن وأن تأويله في المنام يكون بالعلم، وكذلك الحليب، فإذا رأى الإنسان أنه يستكثر من الحليب أو نحو ذلك فهذا أمارة على فضله وعلمه وديانته، وفي ذكر فضل العلم، ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من هذا الإناء حتى رأى أثر الري يخرج من أظفاره، يعني: أنه قد امتلأ عليه الصلاة والسلام من هذا اللبن حتى فاض من جسده، وأعطى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ما فضل منه.

وقوله: ( ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب ) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى عمر بن الخطاب ذلك، يعني: أن ما لدى عمر بن الخطاب هو من فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ومنته عليه وعلى الأمة جميعاً، وكذلك أيضاً فيه ما يؤيد حديث العرباض بن سارية عليه رضوان الله تعالى في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، ذكر عمر بن الخطاب عليه رضوان الله هنا في الفضل مع أن أبا بكر الصديق أفضل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، ولا خلاف عند المسلمين في هذا، لكن لعل الإشارة إلى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله فيها أن الأمر يطول له من جهة البقاء في الخلافة، بخلاف أبي بكر، فـأبو بكر بقي نحواً من سنتين، ولكن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله طال به الأمر بعد أبي بكر الصديق عليه رضوان الله، فكانت الإشارة إليه في مثل هذا، وربما في هذا تنبيه للصحابة أن يأخذوا من عمر بن الخطاب للحاجة إليه، وحاجة الناس لطول زمنه، وكذلك أيضاً كثرة الفتن مع كثرة الفتوحات، والفضل الذي آتاه الله عز وجل إياه، واتساع رقعة الإسلام في زمنه، وكثرة الناس وتوافدهم عليه، وقد كثرت رعيته عليه رضوان الله.

قال رحمه الله: [ باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها.

حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل فقال: لم أشْعُر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: اذبح ولا حرج. فجاء آخر فقال: لم أشْعُر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج فما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج ) ].

في هذا فتيا النبي عليه الصلاة والسلام وهو على الدابة، وفي هذا إشارة إلى أن العالم ينشغل بقضاء حاجة الناس وإجابتهم أياً كانت حاله، كان قائماً أو ماشياً أو كان جالساً، ولا موضع لبلاغ العلم ينصرف الإنسان فيه عن قضاء حاجة الناس، بل إن الإنسان على مدار يومه وليلته منصرف لتوجيه الناس، وهذه هي الرسالة والأمانة التي أعطاه الله عز وجل إياها، لا يقول: إن عملي إنما هو مقيد بساعات أو نحو ذلك، إذا وجد جاهلاً علمه وأعطاه ما أعطاه الله عز وجل من خير؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلا يحتاج إلى مقاعد، أو إلى مياثير، أو إلى حلق، أو غير ذلك، إذا وجد من يسألونه في الطريق أعطاهم حينئذٍ سؤالهم وإجابتهم لحاجتهم إلى ذلك، وأيضاً فإن الإنسان إذا كان جاهلاً ويحتاج إلى مسألة، لا ينتظر إلى اجتماع الناس في موضع أو مسجد أو نحو ذلك، أو مثلاً في مكاتب أو مدارس، يسأل ولو كان في الطريق، فإذا وجد الإنسان قائماً أو راكباً يسأله عن شيء من الدين حتى يبرئ دينه.

كذلك أيضاً في وقوف النبي عليه الصلاة والسلام على الدابة إشارة إلى أنه ينبغي للعالم أن يبرز للناس بحيث يسمعونه جميعاً، بخلاف لو كان مثلاً لا يراه إلا واحد أو نحو ذلك، ولكن يبرز للناس عند الخطب على المنابر أو الكراسي أو نحو ذلك خاصة عند وجود الجمع حتى يرى الناس ويفهمون الخطاب وتبلغهم العبارة وكذلك أيضاً الإشارة، بخلاف ما لو كان جالساً عند عدد لا يراه الأدنى منهم.

قال رحمه الله: [ باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس ].

شرح حديث ابن عباس: (ذبحت قبل أن أرمي؟ فأومأ بيده وقال: ولا حرج...)

قال رحمه الله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل في حجته فقال: ( ذبحت قبل أن أرمي؟ فأومأ بيده قال: ولا حرج. قال: حلقت قبل أن أذبح؟ فأومأ بيده ولا حرج ) ].

وفي هذا إشارة إلى أن البلاغ لا يقتصر على العبارة، فربما كان بالإشارة، وربما كان أيضاً برسم البيان، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يعلم أصحابه بالبيان، أو بضرب المثال، أو ربما بالرسم والخط على الأرض؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبين الصراط المستقيم خط خطاً، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطاً، ثم قام يشرح لهم، وهذا الرسم بالبيان لتبيين العلم، فهذا من الأمور الشرعية التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يبينها لأصحابه، كذلك كان يعلم بالمثال، فيضرب مثالاً كقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر: ( بني الإسلام على خمس ) يعني: كحال البناء، فشبهه بالبناية من البيوت وغير ذلك ( بني الإسلام على خمس ) يعني: على خمسة أركان، كذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام مشبهاً للإسلام بالغيث على ما تقدم في حديث أبي موسى ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والخير كمثل الغيث )، يعني: إشارة إلى التمثيل في هذا، كذلك أيضاً في حديث النعمان بن بشير في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ) لهذا نقول: إن في مثل هذا شيء من البيان، وتقريب المعاني للناس، والإفهام، كذلك بالإشارة له أن يبين، إذا علم أن الإنسان يفهم بمجرد إشارته.

شرح حديث أبي هريرة: (يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج...)

قال رحمه الله: [ حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، قال: سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج. قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل ) ].

يعني: كحال الإنسان يضرب بالسيف، أو يضرب مثلاً بشيء من الأسلحة التي تقتل الإنسان، فهو يشير بذلك إلى ورود القتل في الناس.

شرح حديث أسماء: (ما من شيء لم أكن أريته...)

قال رحمه الله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا هشام، عن فاطمة، عن أسماء، قالت: (أتيت عائشة وهي تصلي، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت إلى السماء فإذا الناس قيام، فقالت: سبحان الله. قلت: آية؟ فأشارت برأسها: أي نعم، فقمت حتى تجلاني الغشي، فجعلت أصب على رأسي الماء، فحمد الله عز وجل النبي صلى الله عليه و سلم وأثنى عليه، ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار، فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب -لا أدري ذلك قالت أسماء - من فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن -لا أدري بأيهما قالت أسماء - فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثاً، فيقال: نم صالحاً قد علمنا إن كنت لموقناً به، وأما المنافق أو المرتاب -لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ) ].

في هذا جملة من المسائل: منها ما يتعلق بباب التعليم بالإشارة، فقد أشارت عائشة عليها رضوان الله تعالى إلى السماء، لما سئلت: ما بال الناس؟ يعني ما أحوالهم؟ حيث أنهم يجتمعون في غير موعد الصلاة، فأشارت إلى السماء. في هذا إشارة إلى أنه يجوز للإنسان أن يعلم غيره بالإشارة ولو كان في صلاة إذا احتاج إلى ذلك.

وأما الخبر الذي يروى ( من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فقد بطلت صلاته ) هذا خبر منكر بل هو موضوع؛ لهذا نقول: إن الإشارة في الصلاة جائزة إذا كانت لا تشغل الإنسان، وفيها دفع لانشغال ذهنه أو فكره، أو صرف مثلاً من يريد إشغاله، كأن يسأل الإنسان عن متاع وهو يصلى، ويخشى من انصراف قلبه ونحو ذلك بمثل هذا، أو يريد أن يذكر بشيء نسيه أو نحو ذلك، فيشير بيده أو يشير إلى ناحية وهو يصلي، هذا مما لا حرج فيه، كذلك أيضاً مخاطبة المصلي عند الحاجة، فمخاطبة المصلي عند الحاجة جائزة، كما خوطبت عائشة هنا عليها رضوان الله تعالى بذلك، فأجابت ولم تستنكر بعد ذلك توجيه السؤال إليها، قد يحتاج الإنسان لضرورة أو حاجة إلى سؤال شخص، أين المتاع الفلاني؟ أو أين فلان موجود أم ذهب؟ فيشير مثلاً لحاجته إذا كان الإنسان لا يستطيع الانتظار في ذلك، فهذا من الأمور التي لا بأس بها، ولا تبطل بها الصلاة.

وفي ذلك أيضاً من المسائل أن الإنسان كلما كان صاحب علم كان أكثر ثبات، ويظهر ثباته في حياة البرزخ في الفتنة، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الفتان في القبور فقال: ( تعود أرواحكم، فقالوا: يا رسول الله تعود أرواحنا؟ قال: نعم كهيئتكم اليوم )، يعني: ترجع إليكم عقولكم وأرواحكم كهيئتكم اليوم، فتسألون، يعني: تسألون عن الله سبحانه وتعالى، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن دين الإسلام، فمن كان على رسوخ وقوة فإنه يجيب بلا تلكؤ، ومن كان في تردد وشك وريب يظهر شكه في هذا الموضع، هل أنا أصيب إن قلت هذا ربما يكون غيره، أو غير ذلك فيقع في تردد، بخلاف الإنسان الراسخ الذي على بينة وثبات في ذلك.

قال رحمه الله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل في حجته فقال: ( ذبحت قبل أن أرمي؟ فأومأ بيده قال: ولا حرج. قال: حلقت قبل أن أذبح؟ فأومأ بيده ولا حرج ) ].

وفي هذا إشارة إلى أن البلاغ لا يقتصر على العبارة، فربما كان بالإشارة، وربما كان أيضاً برسم البيان، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يعلم أصحابه بالبيان، أو بضرب المثال، أو ربما بالرسم والخط على الأرض؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبين الصراط المستقيم خط خطاً، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطاً، ثم قام يشرح لهم، وهذا الرسم بالبيان لتبيين العلم، فهذا من الأمور الشرعية التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يبينها لأصحابه، كذلك كان يعلم بالمثال، فيضرب مثالاً كقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر: ( بني الإسلام على خمس ) يعني: كحال البناء، فشبهه بالبناية من البيوت وغير ذلك ( بني الإسلام على خمس ) يعني: على خمسة أركان، كذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام مشبهاً للإسلام بالغيث على ما تقدم في حديث أبي موسى ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والخير كمثل الغيث )، يعني: إشارة إلى التمثيل في هذا، كذلك أيضاً في حديث النعمان بن بشير في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ) لهذا نقول: إن في مثل هذا شيء من البيان، وتقريب المعاني للناس، والإفهام، كذلك بالإشارة له أن يبين، إذا علم أن الإنسان يفهم بمجرد إشارته.

قال رحمه الله: [ حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، قال: سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج. قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال: هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل ) ].

يعني: كحال الإنسان يضرب بالسيف، أو يضرب مثلاً بشيء من الأسلحة التي تقتل الإنسان، فهو يشير بذلك إلى ورود القتل في الناس.

قال رحمه الله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا هشام، عن فاطمة، عن أسماء، قالت: (أتيت عائشة وهي تصلي، فقلت: ما شأن الناس؟ فأشارت إلى السماء فإذا الناس قيام، فقالت: سبحان الله. قلت: آية؟ فأشارت برأسها: أي نعم، فقمت حتى تجلاني الغشي، فجعلت أصب على رأسي الماء، فحمد الله عز وجل النبي صلى الله عليه و سلم وأثنى عليه، ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار، فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب -لا أدري ذلك قالت أسماء - من فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن -لا أدري بأيهما قالت أسماء - فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثاً، فيقال: نم صالحاً قد علمنا إن كنت لموقناً به، وأما المنافق أو المرتاب -لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ) ].

في هذا جملة من المسائل: منها ما يتعلق بباب التعليم بالإشارة، فقد أشارت عائشة عليها رضوان الله تعالى إلى السماء، لما سئلت: ما بال الناس؟ يعني ما أحوالهم؟ حيث أنهم يجتمعون في غير موعد الصلاة، فأشارت إلى السماء. في هذا إشارة إلى أنه يجوز للإنسان أن يعلم غيره بالإشارة ولو كان في صلاة إذا احتاج إلى ذلك.

وأما الخبر الذي يروى ( من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فقد بطلت صلاته ) هذا خبر منكر بل هو موضوع؛ لهذا نقول: إن الإشارة في الصلاة جائزة إذا كانت لا تشغل الإنسان، وفيها دفع لانشغال ذهنه أو فكره، أو صرف مثلاً من يريد إشغاله، كأن يسأل الإنسان عن متاع وهو يصلى، ويخشى من انصراف قلبه ونحو ذلك بمثل هذا، أو يريد أن يذكر بشيء نسيه أو نحو ذلك، فيشير بيده أو يشير إلى ناحية وهو يصلي، هذا مما لا حرج فيه، كذلك أيضاً مخاطبة المصلي عند الحاجة، فمخاطبة المصلي عند الحاجة جائزة، كما خوطبت عائشة هنا عليها رضوان الله تعالى بذلك، فأجابت ولم تستنكر بعد ذلك توجيه السؤال إليها، قد يحتاج الإنسان لضرورة أو حاجة إلى سؤال شخص، أين المتاع الفلاني؟ أو أين فلان موجود أم ذهب؟ فيشير مثلاً لحاجته إذا كان الإنسان لا يستطيع الانتظار في ذلك، فهذا من الأمور التي لا بأس بها، ولا تبطل بها الصلاة.

وفي ذلك أيضاً من المسائل أن الإنسان كلما كان صاحب علم كان أكثر ثبات، ويظهر ثباته في حياة البرزخ في الفتنة، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الفتان في القبور فقال: ( تعود أرواحكم، فقالوا: يا رسول الله تعود أرواحنا؟ قال: نعم كهيئتكم اليوم )، يعني: ترجع إليكم عقولكم وأرواحكم كهيئتكم اليوم، فتسألون، يعني: تسألون عن الله سبحانه وتعالى، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن دين الإسلام، فمن كان على رسوخ وقوة فإنه يجيب بلا تلكؤ، ومن كان في تردد وشك وريب يظهر شكه في هذا الموضع، هل أنا أصيب إن قلت هذا ربما يكون غيره، أو غير ذلك فيقع في تردد، بخلاف الإنسان الراسخ الذي على بينة وثبات في ذلك.

قال رحمه الله: [ باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم، ويخبروا من وراءهم.

وقال مالك بن الحويرث: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ( ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ).

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة قال: (كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، فقال إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من الوفد أو من القوم؟ قالوا: ربيعة، فقال: مرحباً بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى. قالوا: إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله عز و جل وحده، قال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده. قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت )، قال شعبة ربما قال: ( النقير )، وربما قال ( المقيَّر )، قال: ( احفظوه وأخبروه من وراءكم ) ].

في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بحفظ العلم، والحفظ هنا المراد به حفظ الصدر، وأن الإنسان ينبغي أن يعتني بجانب الحفظ، والحفظ بأنواعه سواء كان حفظ العلم بالصدر وهو أثبت وأرسخ للإنسان، بخلاف العلم إذا كان مجرداً عن حفظ، وإنما هو بفهم مجرد مع الوقت ربما ينساه الإنسان؛ لهذا ينبغي أن تكون للإنسان قاعدة في حفظه في كل علم يريد أن يتعلمه، فإذا كثر محفوظه وقوي مفهومه وأسهب في ذلك كان أرسخ في العلم وأثبت فيه، فينبغي له أن يكثر في كل فن من الحفظ والفهم، أن يجمع بينهما، وألا يحفظ بلا فهم، فإن ذلك لا يفيد طالب العلم كثيراً إذا كان لا يفهم ويحفظ حفظاً مجرداً هكذا، وربما أورثه ذلك شيئاً من الغرور والادعاء بالنفس من غير فهم، فالعلم هو الاستنباط والإدراك، ولكن القاعدة والثبات في ذلك هو في أمر الحفظ.

قوله رحمه الله: (باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس)، النبي عليه الصلاة والسلام حرضهم وحثهم على حفظ هذا العلم الذي أخبرهم إياه، حتى يبلغوا به من وراءهم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نوع الجواب على اختلاف حاجة الناس، وهذا يظهر في كثير من الأسئلة التي توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، تارة يسأل: ( أي العمل أفضل؟ فيقول: الصلاة على وقتها )، وتارة يسأل: ( أي العمل أفضل؟ فيقول: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام )، ويسأل تارة: ( أي العمل أفضل؟ فيقول: الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيل الله )، اختلف الجواب لاختلاف حال السائلين، وهكذا ينبغي أن يكون العالم الرباني ينظر إلى حال الإنسان، إذا كان من أهل كمال التوحيد والعناية بذلك ومعرفة مقداره والعمل به، ولكن لديه قصور في جانب من جوانب الإنفاق والصدقة أو نحو ذلك يحثه على جانب الإنفاق، ( أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )، كذلك جانب الصلاة إذا رأى أن لديه تقصيراً في جانب الصلاة أو نحو ذلك فسأله الوصية يوصيه بالتمسك بالصلاة على وقتها وهكذا، فيختلف الجواب حينئذ باختلاف حال السائل.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد قيس سألهم فقال: ( من الوفد أو من القوم )، وفي هذا أنه يستحب للإنسان إذا قدم إلى أحد ولم يعرف بنفسه أن يسأله من أنت؟ من أي بلد؟ من أي قوم؟ أو نحو ذلك فإن هذا أدعى لتقديره ومعرفة حاله، فربما يكون سيداً في قومه ولم تعطه قدره، فينفر ويحتاج إلى تأليف، وربما يكون شخصاً جاء من مكان بعيد وتظن أنه جاء من بلدك، ويختلف التعامل مع من جاء إليك قاصداً من بلد بعيد، فهذا ينبغي أن يقدر أكثر من غيره؛ لأنه جاء من شقة بعيدة قاصداً، فيلان معه، ويكرم إكراماً يليق بالمشقة التي وقعت له، بخلاف الذي يأتيك من طرف مدينتك، وهكذا؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من الوفد ومن القوم؟ ) فأجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: إنه ينبغي للإنسان أولاً أن يعرف بنفسه.

وقد تقدم معنا في قول ضمام بن ثعلبة: أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، يعني أنه عرف بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا النبي عليه الصلاة والسلام سأل عن القوم؟ فأجابوه في ذلك حتى يجيبهم النبي صلى الله عليه وسلم فيعلم مقدار الجهل فيهم، ويعلم مقدار الخطأ الذي يقعون فيه، ربما يكثر في بلد نوع من المخالفات الشرعية فيعرف أحوالهم فيجيبهم بمقدار ما عندهم من خطأ، إذا انتشر عندهم مثلاً شهادة الزور، انتشر عندهم الكذب، انتشر عندهم الشرك، انتشر عندهم الزنا، انتشر عندهم السفور، انتشر عندهم الفاحشة، يقوم بإجابتهم بحسب ما لديهم، هذا هو العالم الرباني الذي يعرف أحوال الناس وأمراضهم في دينهم، ثم يقوم بإنزال ذلك الدواء والشفاء؛ لأن القرآن شفاء لكل شيء، فيقوم بإعطائهم تلك الأحكام.

وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما حثهم على الإيمان وأمرهم بأشياء أشار إلى أشياء معدودة؛ لأنه ينبغي للإنسان خاصة إذا كان القوم على عجل أن يقلل في المعلومات حتى يحفظوا ويدركوا تلك المعلومات، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأربع، ونهاهم عن أربع مع أن المأمورات كثيرة، لكن هذا ما يحتاجون إليه ويضبطوه، وهذا باب من أبواب التدرج، ألا يعطى الناس الحق كله حتى لا ينفروا منه؛ وذلك نوع من التأليف والتدرج، كذلك أيضاً ينبغي للإنسان أن يعرف ألفاظه العامة إذا جهلها الناس؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بالإيمان، ثم قال: ( هل تدرون ما الإيمان؟ )، وهذا فيه شرح وتفسير للمصطلحات والإجمالات من الإنسان ولو لم يسأل، وهنا فيه تأدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم: (الله ورسوله أعلم)، ثم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أركان الإسلام الخمسة، وأضاف إليها مكان الحج قال: ( وتعطوا الخمس من المغنم )، وكذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الحنتم والمزفت والدباء، الدباء نوع من النبات، وكذلك الحنتم.. المزفت.. المقير وغير ذلك، وهي وسائل يتخذ منها الخمر بتخميره فيها، وكانت العرب تأتي مثلاً إلى الدباء، أو ساق النخل، ويقومون بحفره ويضعون فيه العنب، أو يضعون فيه التمر، ويقومون بكتمه بداخله حتى يتخمر، ويقل الأكسجين لديه، فيصبح خمراً، كذلك أيضاً يأتون إلى الدباء والقرع ويقومون بشقة إلى نصفين، ثم يفرغونه من داخله، فيقومون بوضع العنب أو التمر أو نحو ذلك ويقومون بإغلاقه وكتمه بشيء حتى يتعرق ويتخمر في داخله، هذا ليس تعليماً ولكن من باب الشرح.

والحفظ والفهم يتصاحبان؛ لأنه إذا حفظ من غير فهم ربما حفظ على غير الوجه الصحيح من جهة اللفظ، فإذا رسخ في ذهنه نطق غير صحيح يبقى في ذهنه ويرسخ أكثر، فينبغي أن يحفظ المحفوظ على وجهه ويعرف المقصود منه.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [4] 2621 استماع
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [2] 2609 استماع
شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [1] 1546 استماع