الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [3]


الحلقة مفرغة

النظرة الدنيا المحتقرة لمضامين الشريعة

بسم الله الرحمن الرحيم.

مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: (حراسة العقيدة).

تتميز دعوة الأنبياء بتقديس الكتب المنزلة من عند الله تعالى، وقد أتى هذا الوحي موافقاً للعقول السليمة والفطر المستقيمة، أما دعاة العقلانية فقد دعوا إلى تقديس العقل البشري مع نقصه، وتوهموا التناقض بين العقل والنقل.

وللعقلانيين مواقف من قضايا عديدة، أشرنا إلى بعضها في حلقات سابقة، وسنحاول أن نجيب في هذا اللقاء عن عدد من الأسئلة.

فهل من مشكلة بينهم وبين التدين ومظاهر الصلاح؟

وما حقيقة دعوتهم لحقوق المرأة وتحررها من القيود الاجتماعية؟

وما السر وراء شعارات حرية الرأي والرأي الآخر الإقصائية، وغيرها من اللافتات التي يرفعونها؟

في حلقة (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها) سيكون محور حديثنا مع الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل ، أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

أهلاً بكم فضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلاً بك وبالمشاهدين.

المقدم: شيخنا الكريم! تحدثنا عن بعض الموضوعات والقضايا الأساسية، وهذه الحلقة تعتبر الحلقة الثالثة في هذا الموضوع: (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها).

في نهاية الحلقة السابقة تحدثتم -حفظكم الله- حول مسألة هامة، ألا وهي: موقفهم من التدين، وأخذنا منكم وعداً باستكمال هذا الموضوع في هذه الحلقة بإذن الله تعالى.

الشيخ: الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فموقفهم من التدين هو ثمرة المنهج الذي يقوم عليه هذا الاتجاه بمختلف طوائفه وأطيافه.

فنظراً لأن نظرتهم للدين نظرة دونية، وغالباً ما تكون نظرتهم للحياة وللإسلام على أساس تغليب الرأي الشخصي والهوى، أو المؤثرات.

وربما تكون المؤثرات الخارجية في هذا العصر هي الأشد، بمعنى أنهم غالباً يستقون أصولهم ومناهجهم ومفاهيمهم وأطروحاتهم من ثقافة واردة أو وافدة، وهذا الاتجاه يقوم على رواد مستغربين، وأقصد بالمستغربين الذين تتلمذوا على الغرب، والأمم الغربية التي لها مواقف مخالفة للإسلام مخالفة جذرية.

فهؤلاء الذين هم أصحاب الاتجاهات العقلانية وغيرها ينطلقون من هذه المفاهيم والمنطلقات، فمن هنا تكون موقفهم من الإسلام بوصفه دين، ومن الشريعة بوصفها تطبيقات، ومن العقيدة بوصفها ثوابت، ثم ممن يحملون هذا الدين وهذا الحق اليوم، المستمسكون بالدين، وعلى رأسهم العلماء والعباد.

فنظرة هذه الفئة للصالحين نظرة دونية، بمعنى أنهم لا ينفرون من سلوكيات الاستقامة لأنها تتنافى مع رغباتهم وآرائهم فحسب، بل أيضاً يحتقرون المضامين التي يدين بها المستمسكون بالإسلام، فيحتقرون المضامين نفسها التي هي مضامين الإسلام.

وإن كنا لا نتهمهم كلهم بأنهم يردون الإسلام، لكن إذا أحسنا الظن ببعضهم فهم يفسرون الإسلام بتفسيرات على ضوء الثقافة الوهمية.

فمن هنا كان من الطبيعي أن يكون موقفهم من التدين والمتدينين موقفاً سلبياً، فينظرون إلى المتدينين نظرة سلبية، وينظرون إليهم نظرة احتقار.

لكن الكثيرين منهم لا يصرحون بذلك؛ لأنهم -كما ذكرت سابقاً- عندهم نوع من المداراة والتلطف في العبارة؛ لأجل أن تقبل آراؤهم.

إذاً: فهم ينفرون من المتدينين ومن التدين لأنه يخالف أهواءهم، ولذلك تجد عندهم مفاهيم معكوسة، فهم لا يميلون إلى الفضيلة بمعناها الشرعي، كالحجاب، والستر، والحياء، ويرون هذه قيوداً، فمن الطبيعي أن ينظروا إلى من يتميز بالحياء والفضيلة وكل معاني الستر من رجل أو امرأة نظرة دنيا.

اعتبار الدين أثراً تاريخياً

الأمر الآخر: أنهم يفسرون أصول الدين وثوابته بأنها موضة انتهت، فكثير من الموروثات تجاوزها الزمن، فجعلوا ثوابت الدين مثل الأدوات التي يستعملها الإنسان، فالإنسان الآن يستعمل أدوات متطورة، فأصبحت الأدوات القديمة آثاراً.

فهم يسحبون نفس المفهوم على التدين، فيرون التدين ما هو إلا حشر الإنسان في غابر التاريخ، ثم يتبع هذا أنهم يفسرون التدين -سواء الظاهر والباطن- بأنه عوائد وتقاليد وموروثات، ويصفونه بأنه يحمل سمات الجمود.. إلخ.

وينبني على هذا أمر آخر، وهو أنهم حينما يعبرون عن التدين يعبرون بتعبيرات منفرة، ويرون أن المتدينين يعيشون في أوضاع تجعلهم غير قابلين للتطور، ولا قابلين لمواكبة الحياة.. إلخ.

فهذه التفسيرات صارت توحي إلى الأجيال الذين يتلقون مثل هذه المذاهب والاتجاهات بأن التدين أمر شخصي، وأنه لا يساير الحياة، وأنه ممارسة ينبغي أن تحسب لأصحابها، ولا تعمم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: (حراسة العقيدة).

تتميز دعوة الأنبياء بتقديس الكتب المنزلة من عند الله تعالى، وقد أتى هذا الوحي موافقاً للعقول السليمة والفطر المستقيمة، أما دعاة العقلانية فقد دعوا إلى تقديس العقل البشري مع نقصه، وتوهموا التناقض بين العقل والنقل.

وللعقلانيين مواقف من قضايا عديدة، أشرنا إلى بعضها في حلقات سابقة، وسنحاول أن نجيب في هذا اللقاء عن عدد من الأسئلة.

فهل من مشكلة بينهم وبين التدين ومظاهر الصلاح؟

وما حقيقة دعوتهم لحقوق المرأة وتحررها من القيود الاجتماعية؟

وما السر وراء شعارات حرية الرأي والرأي الآخر الإقصائية، وغيرها من اللافتات التي يرفعونها؟

في حلقة (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها) سيكون محور حديثنا مع الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل ، أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

أهلاً بكم فضيلة الشيخ.

الشيخ: أهلاً بك وبالمشاهدين.

المقدم: شيخنا الكريم! تحدثنا عن بعض الموضوعات والقضايا الأساسية، وهذه الحلقة تعتبر الحلقة الثالثة في هذا الموضوع: (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومنهجها).

في نهاية الحلقة السابقة تحدثتم -حفظكم الله- حول مسألة هامة، ألا وهي: موقفهم من التدين، وأخذنا منكم وعداً باستكمال هذا الموضوع في هذه الحلقة بإذن الله تعالى.

الشيخ: الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فموقفهم من التدين هو ثمرة المنهج الذي يقوم عليه هذا الاتجاه بمختلف طوائفه وأطيافه.

فنظراً لأن نظرتهم للدين نظرة دونية، وغالباً ما تكون نظرتهم للحياة وللإسلام على أساس تغليب الرأي الشخصي والهوى، أو المؤثرات.

وربما تكون المؤثرات الخارجية في هذا العصر هي الأشد، بمعنى أنهم غالباً يستقون أصولهم ومناهجهم ومفاهيمهم وأطروحاتهم من ثقافة واردة أو وافدة، وهذا الاتجاه يقوم على رواد مستغربين، وأقصد بالمستغربين الذين تتلمذوا على الغرب، والأمم الغربية التي لها مواقف مخالفة للإسلام مخالفة جذرية.

فهؤلاء الذين هم أصحاب الاتجاهات العقلانية وغيرها ينطلقون من هذه المفاهيم والمنطلقات، فمن هنا تكون موقفهم من الإسلام بوصفه دين، ومن الشريعة بوصفها تطبيقات، ومن العقيدة بوصفها ثوابت، ثم ممن يحملون هذا الدين وهذا الحق اليوم، المستمسكون بالدين، وعلى رأسهم العلماء والعباد.

فنظرة هذه الفئة للصالحين نظرة دونية، بمعنى أنهم لا ينفرون من سلوكيات الاستقامة لأنها تتنافى مع رغباتهم وآرائهم فحسب، بل أيضاً يحتقرون المضامين التي يدين بها المستمسكون بالإسلام، فيحتقرون المضامين نفسها التي هي مضامين الإسلام.

وإن كنا لا نتهمهم كلهم بأنهم يردون الإسلام، لكن إذا أحسنا الظن ببعضهم فهم يفسرون الإسلام بتفسيرات على ضوء الثقافة الوهمية.

فمن هنا كان من الطبيعي أن يكون موقفهم من التدين والمتدينين موقفاً سلبياً، فينظرون إلى المتدينين نظرة سلبية، وينظرون إليهم نظرة احتقار.

لكن الكثيرين منهم لا يصرحون بذلك؛ لأنهم -كما ذكرت سابقاً- عندهم نوع من المداراة والتلطف في العبارة؛ لأجل أن تقبل آراؤهم.

إذاً: فهم ينفرون من المتدينين ومن التدين لأنه يخالف أهواءهم، ولذلك تجد عندهم مفاهيم معكوسة، فهم لا يميلون إلى الفضيلة بمعناها الشرعي، كالحجاب، والستر، والحياء، ويرون هذه قيوداً، فمن الطبيعي أن ينظروا إلى من يتميز بالحياء والفضيلة وكل معاني الستر من رجل أو امرأة نظرة دنيا.

الأمر الآخر: أنهم يفسرون أصول الدين وثوابته بأنها موضة انتهت، فكثير من الموروثات تجاوزها الزمن، فجعلوا ثوابت الدين مثل الأدوات التي يستعملها الإنسان، فالإنسان الآن يستعمل أدوات متطورة، فأصبحت الأدوات القديمة آثاراً.

فهم يسحبون نفس المفهوم على التدين، فيرون التدين ما هو إلا حشر الإنسان في غابر التاريخ، ثم يتبع هذا أنهم يفسرون التدين -سواء الظاهر والباطن- بأنه عوائد وتقاليد وموروثات، ويصفونه بأنه يحمل سمات الجمود.. إلخ.

وينبني على هذا أمر آخر، وهو أنهم حينما يعبرون عن التدين يعبرون بتعبيرات منفرة، ويرون أن المتدينين يعيشون في أوضاع تجعلهم غير قابلين للتطور، ولا قابلين لمواكبة الحياة.. إلخ.

فهذه التفسيرات صارت توحي إلى الأجيال الذين يتلقون مثل هذه المذاهب والاتجاهات بأن التدين أمر شخصي، وأنه لا يساير الحياة، وأنه ممارسة ينبغي أن تحسب لأصحابها، ولا تعمم.

المقدم: لذلك -يا شيخ- نسمع الآن بعض ألفاظهم مثل الظلامية، والقسوة أو التعقيد، حيث يسمون المتدينين بالمعقدين مثلاً، فكيف نستطيع أن نناقشهم، أو نحاورهم، أو نبين ضلال هذا الكلام؟

الشيخ: أرى أن مثل هذه الأمور لا تناقش بتفصيلاتها، فهذه تحتاج إلى كشف أصولها ومناهجها من ناحية، ومن ناحية أخرى تحتاج إلى أن نعرضها على قواعد الشرع عرضاً واضحاً بالدليل والبرهان العلمي، والاستقراء الدقيق والدراسات والإحصائيات؛ لأن أكثر ما يعتمدون عليه الآن أنهم يوهمون الناس بأن المجتمعات الإسلامية تضيق بالتدين.

وقد يكون عندهم نوع من الاستقراء الناقص، والانتقائية غير الرشيدة، فيحشرون هذه الأصول أو المقررات التي يزعمون أنهم وصلوا إليها، ويجعلونها هي المنطلقات لإقناع الآخرين، بينما يكون الأمر خلاف ما يدعون تماماً، وهذا ما سنناقشه بعد إن شاء الله تعالى.

وجواباً على سؤالك أقول: إنه ينبغي أن نؤصل، وأن نربط الناس بالموازين الشرعية، وأن نطرح الحلول الإسلامية الشرعية المؤصلة لقضايا العصر؛ لنقطع عليهم خط الرجعة، ونضيق عليهم الهوة، وندحض هذا الادعاء الذي يدعونه.

المقدم: ألا تلاحظ أن هناك توافقاً بين مواقف هؤلاء العقلانيين وبين ما يراد للأمة من أمم الكفر بالطعن في التدين؟

الشيخ: كيف؟

المقدم: هناك محاولات غربية في عدم تطبيق الشريعة، أو الطعن في المتدينين، فبعض العقلانيين أو المنافقين أصبحوا أدوات لأولئك في تمثيل هذا الأمر واقعاً؟

الشيخ: بعضهم كذلك، وبعضهم يخدم هذا الاتجاه وهو لا يشعر، وكل هذه الاتجاهات تخدم توجهات الأمم الأخرى، خاصة القوى التي أصبحت الآن تسمى قوى عظمى لها هيمنة ظاهرة، فهذه لما صار لها على المسلمين نكاية في هذه المرحلة التي نعيشها، فتحكمت في بعض أمصار المسلمين وفي بعض البلاد الإسلامية تحكماً ظاهراً؛ تقوى أصحاب هذا الاتجاه بها؛ لأنهم ظنوا أن تحكم هذه القوى في بعض الأمة الإسلامية يعني بداية النصر لهم، والعكس هو الصحيح، فهذا بداية نهضة الأمة ورجوعها إلى دينها، لكنهم ينتهزون الفرص، فهم الآن لا يتبنون هذه المناهج بغير قصد، بل أغلبهم يتبنونها بقصد الطرح الغربي المعادي للأمة، ولكن يصبونه في قوالب الإصلاح، وفي قوالب التطوير، وفي قوالب التنوير، وفي قوالب المسايرة.. إلخ.

المقدم: أيضاً يقولون: عندما تحبون أنتم التدين لماذا تقصون الآخر؟! وهذا أيضاً من الشعارات الزائفة.

الشيخ: هذا من أكبر الشعارات الهدامة أو الفعالة، فهم يعتبرون صمود أهل الحق على الحق، ويعتبرون إظهار الحق والاعتزاز به، ويعتبرون إنكار الباطل -حتى وإن كان بحكمة ورفق- إقصاء.

وأهم من هذا اعتزاز الأمة بدينها، واعتزاز المسلم بسلوكه الإسلامي، والانتماء للدين الحق، والانتماء للسنة والجماعة، ويتبعه التدين بمعنى التمسك بالإسلام، فهذا كله يسمونه إقصاء للآخر، فإذا كنت تعتز بدينك، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتناصح الآخرين، وتبين الضلالة للناس لئلا يقعوا فيها، وتبين الحق وتدعو إليه؛ اعتبروا هذا نوعاً من التميز غير المشروع، ويترتب عليه الإقصاء للآخر.

ولذلك دعني أقف وقفة عند مسألة الإقصاء، فأقول: أولاً: يجب أن نعرف أنهم يقصدون بالإقصاء: إنكار الباطل بأي صورة من الصور، كإنكار عقدي، أو إنكار علمي، أو إنكار وجداني، أو إنكار بالسلوك، فأي إباء للباطل بجميع صوره -حتى الصور الجزئية الصغيرة- يعتبرونه نوعاً من الإقصاء لأهل الباطل، ولعل هذا -إن شاء الله- يمر منه نماذج في خلال الحلقات القادمة بقدر ما يتيسر.

والحقيقة أنا لو أخذنا هذه الدعوى بالميزان العلمي الموضوعي المتجرد بالتتبع والإحصاء والاستقراء؛ لوجدنا أنهم هم الذين يمارسون أقصى وأقسى أنواع الإقصاء.

المقدم: عجيب!

الشيخ: أي نعم؛ لأن الإقصاء إذا أخذناه -أولاً- بالمفهوم اللغوي فإنه يعني: رفض الآخر، وهذا الرفض إذا كان ينبني على أسس علمية وشرعية فهو أمر طبيعي فطري في بني الإنسان.

بل الإقصاء هو الحاصل عند الذين يتباهون بديمقراطيتهم الآن، فهم يمارسون أقصى درجات الإقصاء.

المقدم: مثل ماذا يا شيخ؟

الشيخ: مثلاً: لما أراد الغرب أن يدخل في هذه الحرب الاستباقية أعلن مبدأ: (من لم يكن معي فهو ضدي)، أليس هذا إقصاء للبشرية؟

المقدم: بلى.

الشيخ: حتى الذين انساقوا مع هذا التيار من الأمم رغبة أو رهبة -أو لاجتماع المصالح على المسلمين- هم -في الحقيقة- يعانون من الإقصاء، ولولا القوة والهيمنة لأعلنوا ذلك.

فهذا هو الإقصاء بأعلى درجاته: إقصاء اليهود للأمم الأخرى، وإقصاء الدول الغربية التي تحمل لواء الصليبية والحرب على الإسلام، فهذه أعلى درجات الإقصاء ممن يمجد هؤلاء ويرى أنهم مثال وأنموذج للديمقراطية، فالديمقراطية الآن تحمل بأصحابها لا بمعناها، فمعناها يحتاج تفصيل؛ إذ الديمقراطية تحمل معاني صحيحة ومعاني باطلة، لكن أقصد الديمقراطية كشعار يمارس أصحابه اليوم -ومنهم هؤلاء العقلانيون عندنا- أقصى درجات الإقصاء للآخر، هذا أمر.

الأمر الآخر: نجد أنهم -بناءً على ما سبق من الكلام الماضي- يمارسون الإقصاء -في الحقيقة- من خلال نفورهم وازدرائهم وسخريتهم من المؤمنين ومن الصالحين، وهذا ظاهر، وهو ما نهج عليه أسلافهم خصوم الأنبياء الذين قالوا لنوح عليه السلام: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ [هود:27]، فمن هم الأراذل عندهم؟!

إنهم أتباع نوح عليه السلام خيار الخلق في جميع أنواع الخيرية، والخيار من أتباع الأنبياء ليسوا -كما يتوهم هؤلاء- عبارة عن عباد يتقوقعون في زوايا المساجد، بل هم رواد الحياة، تجدهم ينشطون في أمور الدنيا والدين؛ ولذلك كابدوا وجاهدوا وأقاموا حضارات.

أعود فأقول: هم يقصدون بالإقصاء: الولاء والبراء الذي قرره الله عز وجل في كتابه، وهو من ثوابت الدين، ويقصدون بالإقصاء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون بالإقصاء: الأحكام الشرعية التي يقول بها المتدينون، وتقسيم البشر على ضوء التقسيم الشرعي، أي: مؤمن وكافر، ومستقيم وفاجر، مع أن هذا الأمر لا نمارسه كتسلط على العباد، بل نحن نحكم بأحكام الشرع.

ولا يفوتني في نهاية هذا التعليق أن أشير إلى مسألة مهمة ينبغي أن أذكرها في كثير من المواضع التي تحتاج إليها، وهي أن هؤلاء الذين يتهمون الأخيار بالإقصائية قد يتذرعون ويستدلون ببعض المواقف الفردية للمؤمنين، كبعض المواقف الفردية لأهل الحسبة، أو بعض المواقف الفردية للدعاة، أو غيرهم من عامة المسلمين، فيستدلون بالمواقف التي تخرج عن المنهج، فيأخذونها ويجعلونها ذريعة لاتهام المؤمنين بالإقصائية، واتهام المتدينين بالإقصائية.

أقول: هذه التصرفات والسلوكيات ليست على المنهج، ونحن نحكم بحكم الإسلام في التفريق بين تصرف البشر والمنهج، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بالحكمة، ونجاهد في سبيل الله إذا توافرت عندنا شروط الجهاد، ونناصح الخلق بما أمر الله به، وندعو الناس، كما أننا نعتز بديننا، ونعتز بمقوماتنا، واعتزازنا لا يعني احتقار الآخرين، بل يعني دعوة الآخرين للحق.

المقدم: هم -كما ذكرت يا شيخ- يقصون المجتمع الإسلامي بأكمله، فهناك مجتمع يريد تطبيق الشريعة، ويريد أن يعود إلى دين الله عز وجل، وهم يمارسون أحياناً -بالسيطرة على صحيفة إعلامية أو نحو ذلك- نوعاً من الإقصاء، ويلبسون على الناس بأن المجتمع هو الذي يطالب بهذا الأمور.

الشيخ: هذه أيضاً نقطة منهجية، والحقيقة أنه ينبغي أن ندرك الفرق بين المجتمعات المسلمة التي تدين بالإسلام حقاً، وبين المجتمعات التي ليس عندها دين كالإسلام إلهي شامل، وإلا فغالب الأمم الآن تدين بديانات، أليس كذلك؟

المقدم: بلى.

الشيخ: لكن ليس هناك دين يحمل منهج الحق الكامل المعصوم الشامل إلا دين الإسلام؛ لأنه دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الباقي المحفوظ.

فيجب أن نفرق بين المسلمين وغير المسلمين في مسألة حرية الفرد، أو الممارسة الديمقراطية.

فنحن أمة ذات اختصاصات، ففي مصالح الأمة العظمى، والمصالح الشرعية، والمصالح الكبرى وما يتعلق بأمن الأمة وما يتعلق بولايتها، وما يتعلق بالمرجعية، وما يتعلق بحفظ الجماعة، وما يتعلق بحفظ البلاد ومقدَّراتها؛ في كل ذلك لا يستشار الناس، ولا نريد أن نصير مثل أمريكا وأوروبا؛ حيث يكون الرئيس أحياناً دمية في توجهات الغوغائية.

نعم، تكون الاستشارة فيما يتعلق بمصالح دنيا الناس، كالمجالس البلدية ونحو ذلك مما يتعلق بحقوق الأفراد.

المقدم: مجلس الشورى كذلك.

الشيخ: أي نعم، والمراد الشورى التي تكون عن طريق الناس الناضجين، فهذه أطر شرعية صحيحة، لكن لا يستفتى الناس في القضايا المحسومة شرعاً، فهذا غلط، فالديمقراطية لا تدخل في ثوابتنا؛ لأن الله عز وجل هو الذي قررها، والديمقراطية لا تنفي حقاً مما ثبت في الشرع، ولا ينبغي أن تفرض علينا باطلاً.

إن الغرب ليس عندهم دين يرتكزون عليه، فمن هنا احتاجوا إلى أن يستشير بعضهم بعضاً، ومع ذلك فإن تماديهم في الديمقراطية في القضايا الكبرى والمصالح العظمى أوقعهم في مشكلات ربما تؤدي إلى سرعة انهيارهم، ومع ذلك نقول: هذا أمثل ما يمكن أن يصل إليه الغربيون وغيرهم من الدول التي تحكم بذلك، فأمثل ما يصلون إليه هو هذا الطريق الديمقراطي، أما نحن فنأخذ من الديمقراطية ما يحقق الشورى بضوابطها الشرعية.

ولا نلغي الفرد، ولا نقيد حريته، لكن حريته منضبطة بالإسلام، ولا ننتهك الثوابت باسم الديمقراطية.

إن بعض الصور الديمقراطية تعتبر قريبة من النكتة، لكن وراؤها ما وراءها لو أخذت الأمور بدراسات.

ففي بعض الدول الإسلامية التي استشيرت فيها الغوغائية في بعض القضايا دون الرجوع إلى الشرع وصلوا إلى نتائج مخزية.

وأذكر أن أحد الباحثين في إحدى الدول قال: إنَّه في الدولة الفلانية كان من أسباب ترشح امرأة للرئاسة أنَّ صورها عرضت بشكل عاطفي في الشوارع وغيرها.

فهذا استهوى شباباً، واستهوى بعض البسطاء لمجرد الصورة والشكل، وهذا يدل على عدم نضج، فهل هذا طريق شرعي؟

المقدم: لا.

الشيخ: ليس طريقاً شرعياً، فهذه الأمور الكبرى تسند إلى أهل الحل والعقد، والديمقراطية معتبرة لكن في حدود، مثلما فعل الخلفاء الراشدون في ضبط الشورى.

المقدم: من الشعارات التي نريد أن نتحدث حولها -شيخ ناصر - شعار نسمعه كثيراً في وسائل الإعلام، حتى في مجالس الناس، وهو (الرأي والرأي الآخر)، فهل هو شعار حقيقي؟

الشيخ: الشعارات ينبغي أن تؤخذ دائماً بشيء من الموضوعية والتقعيد، لكن الحقيقة أنَّ أصحاب هذه الاتجاهات العلمانية واللبرالية ونحوها من الذين ليس عندهم فقه للإسلام حقيقي، والذين مواقفهم تجاه الإسلام سلبية جزئياً أو كلياً يجمعهم الإطار العام، فأكبر وسيلة عندهم: التشكيك في ثوابت الأمة ودينها، سواء أكانت عقدية أم علمية أم سلوكية، مثل الحجاب، ومثل قضايا المرأة، ومثل قضايا الشباب، ومثل قضايا الحرية الفردية.. إلخ.

فهذه القضايا يطرحون فيها أفكاراً تنافي الإسلام وتضاده مضادة حادة بدعوى الرأي وحرية الرأي، أو الرأي والرأي الآخر؛ ولذلك ليس من المناسب أن نطرح القضايا تفصيلاً.

أنا أريد أن أذكر إخواني بقواعد شرعية، وهي أيضاً عقلية فطرية يدركها كل إنسان، حتى لو لم يتفقه في الدين، ذلك أن نأخذ شعار الرأي والرأي الآخر -أو ما يسمونه أحياناً (حرية الرأي)- بمنطق عقلي.

فهل كل مصالح الأمة وقضاياها الكبرى في دينها وأمنها ومستقبلها وتخصصات المتخصصين فيها خاضعة لكل رأي؟

المقدم: لا.

الشيخ: هل كل قضية فيها رأي ورأي آخر؟

المقدم: لا.

الشيخ: إن أي أمة عندها ثوابت، فما معنى الثوابت؟

معنى الثوابت: الأصول القطعية التي استقرت، فلا تقبل الرأي؛ لأنها فوق الرأي، فهل ثوابتنا الإسلامية فوق الرأي لأننا نحتقر عقول الناس أو لأننا نصادر حرياتهم؟!

المقدم: لا، بل لأنها من الله عز وجل.

الشيخ: لأنها من الله الحكيم الخبير، تعبدنا بها، ولأنها فوق مداركنا، فلو أخذناها بأسلوب علمي موضوعي لوجدناها فوق مداركنا.

فهل أركان الإيمان تدركها مداركنا تفصيلاً؟!

المقدم: لا.

الشيخ: وهل أركان الإسلام تدركها مداركنا تفصيلاً؟

المقدم: لا.

الشيخ: بل شرعها الله، وهذا نموذج للثوابت.

إذاً: فهذه الثوابت ليس فيها رأي ورأي آخر، فالرأي والرأي الآخر لا يمكن أن يمس ثوابت أمة ذات دين باق كامل تكفل الله بحفظه، بل لا يجوز ولا يسوغ أن يدخل الرأي والرأي الآخر في القضايا القطعية في مصالح الأمة العظمى التي قررها الإسلام.

مثلاً: المرجعية الشرعية هي الرجوع إلى الراسخين في العلم الذين قرن الله عز وجل طاعتهم بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة أولي الأمر، فهذه القضية محسومة، فالاجتهاديات الكبرى التي تحتاج إلى الرسوخ في العلم من الثوابت عندنا أن مرجعها العلماء.

وكذلك مسألة حفظ الأمن، فهذه تنبني على طاعة السلطان وطاعة الأمير، فهذه أيضاً مقررات شرعية هي ثوابت.

فالسلطان المسلم تجب طاعته بالمعروف، والسمع له وحفظ الأمن تحت لوائه، والدعاء له، والنصح، وكثير من هؤلاء يرون مناصحة ولاة الأمر نوعاً من السذاجة.

المقدم: لماذا يرونها سذاجة؟

الشيخ: لأنه ينبغي عندهم أن تقاوم -بزعمهم- الاتجاهات السياسية التي يتبناها الحكام بتيارات سياسية تكافئ هذه السلطات، يعني: منازعة السلطان، إما منازعة بالقوة وهذا قليل، وإما منازعة بالإثارة والتصعيد، ومنازعة بالغوغائية، أو طرح الأطروحات السياسية التي تؤدي للتصادم مع الحاكم.

المقدم: لكن بعض الدول عندها في نظامها أو في دستورها السماح للمعارضة بأن تشكل نفسها، وأن تعارض بعض المبادئ وبعض القوانين معارضة، وأيضاً معارضة قانونية في إطار معين تحكمه تلك الدولة.

الشيخ: هذه أمور لا أستطيع أن أدخل في تفاصيلها، لكن في الإجمال أقول: كل ما يخالف الشرع من هذه الأمور يجب العدول عنه، وأغلب الدول تطرح الطرح السياسي على نمط الغرب، وفي الوقت نفسه لا تمارس هذه الأطروحات السياسية كما يمارسها الغرب، وهذه ازدواجية في العالم الإسلامي الآن، فأغلب الدول الإسلامية -ما عدا بعض الدول القليلة التي دستورها ونظامها يقوم على شرع الله، كهذه الدولة المباركة: المملكة العربية السعودية نسأل الله أن يثبتها على الحق، وأن ينصرها- أكثر هذه الدول تمارس تعاملها مع شعوبها بالدساتير الغربية، وهي دساتير مستوردة، وفي نفس الوقت لا تطبقها، فهي تعمل بازدواجية يدركها الآن كل إنسان، حتى الساذج في الشارع يدرك هذا.

إذاً: فوجود اختراق الأسس الشرعية في الأنظمة ليس حجة علينا.

المقدم: كأنك ترى -يا شيخ- أن الأمور التي هي من دين الله، ومن القطعيات والثوابت لا يمكن أن يدخل فيها مسألة الرأي والرأي الآخر.

الشيخ: نعم.

مساحة الرأي والرأي الآخر المفتوحة

المقدم: لكن المسائل التي قد تكون فيها مصالح للناس يفتح فيها باب المشورة في هذا الأمر، وللناس أن يتبادلوا الآراء فيما يصلح أمرهم.

الشيخ: نعم. دعني أستكمل الحديث؛ فأنا لم أنته.

الأصل الأول: أن الثوابت ومصالح الأمة الكبرى والواجبات المسندة إلى فئات معينة -مثل واجبات الحكام على ضوء شرع الله، وواجبات العلماء على ضوء شرع الله- ليست محل نقاش، فبقي هناك مساحة كبيرة جداً للرأي والرأي الآخر.

فالثوابت أسس محدودة، لكنها هي ضمانات حفظ الدين، بل هي ضمانات حفظ الأمة في دينها ودنياها.

فهذه الضمانات هي التي لا تمس، وتبقى مساحة الرأي الآخر في الاجتهادات الشرعية بشروطها، وهذا باب مفتوح، فباب الرأي الآخر في مصالح الدنيا المنضبطة بضوابط الشرع مفتوح.

وكذلك في القضايا المستجدة، بمعنى: أن كل ما عدا الثوابت مساحة واسعة للرأي والرأي الآخر لكن بضوابطه، وكل شيء بضوابطه، حتى غير علوم الشرع.

فإذا كان الإنسان يريد أن يناقش قضية في الطب فهل يناقشها بمجرد رأي ورأي آخر؟

المقدم: لا بد من أن يكون متخصصاً.

الشيخ: بل متخصصاً ومؤهلاً، فالدين من باب أولى؛ لأن القول فيه بالرأي قول على الله بغير علم.

المقدم: حتى المسائل الفقهية التي هي قابلة للنقاش بين العلماء لا ينبغي للشخص غير المتخصص أن يدخل فيها وأن يرجح هذا أو ذاك، وهو يعتبر من المقلدين أصلاً.

الشيخ: صحيح.

المقدم: هل بقي شيء في هذه النقطة أم ننتقل إلى محور آخر؟

الشيخ: الوقت ضاق، وإلا فعندي مسائل.

المقدم: لكن المسائل التي قد تكون فيها مصالح للناس يفتح فيها باب المشورة في هذا الأمر، وللناس أن يتبادلوا الآراء فيما يصلح أمرهم.

الشيخ: نعم. دعني أستكمل الحديث؛ فأنا لم أنته.

الأصل الأول: أن الثوابت ومصالح الأمة الكبرى والواجبات المسندة إلى فئات معينة -مثل واجبات الحكام على ضوء شرع الله، وواجبات العلماء على ضوء شرع الله- ليست محل نقاش، فبقي هناك مساحة كبيرة جداً للرأي والرأي الآخر.

فالثوابت أسس محدودة، لكنها هي ضمانات حفظ الدين، بل هي ضمانات حفظ الأمة في دينها ودنياها.

فهذه الضمانات هي التي لا تمس، وتبقى مساحة الرأي الآخر في الاجتهادات الشرعية بشروطها، وهذا باب مفتوح، فباب الرأي الآخر في مصالح الدنيا المنضبطة بضوابط الشرع مفتوح.

وكذلك في القضايا المستجدة، بمعنى: أن كل ما عدا الثوابت مساحة واسعة للرأي والرأي الآخر لكن بضوابطه، وكل شيء بضوابطه، حتى غير علوم الشرع.

فإذا كان الإنسان يريد أن يناقش قضية في الطب فهل يناقشها بمجرد رأي ورأي آخر؟

المقدم: لا بد من أن يكون متخصصاً.

الشيخ: بل متخصصاً ومؤهلاً، فالدين من باب أولى؛ لأن القول فيه بالرأي قول على الله بغير علم.

المقدم: حتى المسائل الفقهية التي هي قابلة للنقاش بين العلماء لا ينبغي للشخص غير المتخصص أن يدخل فيها وأن يرجح هذا أو ذاك، وهو يعتبر من المقلدين أصلاً.

الشيخ: صحيح.

المقدم: هل بقي شيء في هذه النقطة أم ننتقل إلى محور آخر؟

الشيخ: الوقت ضاق، وإلا فعندي مسائل.