الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها [2]


الحلقة مفرغة

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم: حراسة العقيدة.

(الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها) هو موضوعنا في هذه الليلة من برنامج حراسة العقيدة مع الأستاذ الدكتور/ ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

أهلاً بكم شيخ ناصر !

الشيخ: أهلاً بكم وبالمشاهدين.

المقدم: أرحب بكم -مشاهدينا الكرام- مرة أخرى، ونتمنى منكم جميعاً المشاركة في إطار الموضوع الذي سنناقشه: الاتجاهات العقلانية أصولها ومناهجها.

شيخ ناصر ! تحدثنا في بداية حلقة (الاتجاهات العقلانية المعاصرة أصولها ومناهجها) عن بعض المسائل الأساسية، وأخذنا بعض المناهج العامة في ذلك.

وقبل أن نطرق هذا الموضوع أشير إلى أنه من خلال منتديات الصفوة في الإنترنت في نافذة حراسة العقيدة طرح بعض الإخوة طرحين مختلفين في إطار فكرة هذا البرنامج.

فمنهم من يقول: حاولوا أن تخففوا من المصطلحات الفلسفية والكلامية والعقلانية، وآخر يقول: الأمة ابتليت بهذه المصطلحات؛ فلا بد من مناقشتها، فما رأيكم فضيلة الشيخ؟

الشيخ: الخلاف في مثل هذه الأمور أمر عادي، لكن هذه الأمور ينبغي أن يراعى فيها رأي المتخصصين، وأنا -من وجهة نظري بوضعي متخصصاً في هذا الموضوع- أرى أنها من الأهمية بمكان؛ لعدة اعتبارات:

أهمها: أن هذه القضايا أصبحت الآن قضايا ساخنة ومؤثرة، وقضايا تتسبب في التشويش على أذهان الأجيال.

بل أقول وأنا جازم: إنه ذهب ضحيتها من أبنائنا ومن مثقفينا ومفكرينا عدد لا يستهان به، فركبوا موجة هذا التوجه الذي يصادم بعضه الدين، وبعضه يخل بالدين عن حسن نية في الغالب، لكن لشدة ضخ مثل هذه الأمور والمصطلحات والمفاهيم والنظريات أصبحت مؤثرة؛ حتى هزت ثوابت الكثير من الناس.

فمن هنا أصبح طرحها ضرورياً، مع أنه قد يكون محرجاً للكثير، أو ربما يكون صعباً عليهم تناوله وفهمه.

الأمر الثاني: أننا الآن في برنامج متخصص، وهو القناة العلمية، فهذا نوع من التخصص يحتاج إليه طائفة كبيرة من شبابنا وطلاب العلم، فمن هنا نطرحه على من يهمهم الأمر، أو من يستفيدون منه، وربما يكون كثير من المشاهدين لا يستفيد كثيراً من هذا البرنامج، أو لا يستوعب قضاياه، فليعذرنا حين نتكلم في جانب تخصصي هو فريضة من فرائض الأمة اليوم.

المقدم: دعنا -يا شيخ- الآن نشرع في مسألة مناهج العقلانيين العامة، فقد ذكرت في بداية الحلقات أن العقلانيين ليسوا على مرتبة واحدة، وأن المناهج قد تختلف من مدرسة إلى أخرى، ولكن هناك مناهج عامة تجمع هؤلاء القوم، فمن المناهج العامة أننا نلحظ في هؤلاء العقلانيين ضحالة المعرفة الإسلامية والثقافة الإسلامية والجهل بعلوم الشريعة.

الشيخ: نعم، هذه سمة عامة فأغلبهم -بل المؤثرون فيهم الذين لهم القيادة في هذه الاتجاهات على اختلاف طوائفها وأطيافها- يغلب عليهم الجهل، لا أعني الجهل بمفردات المعلومات؛ لأن الجهل له مصطلح شرعي ومصطلح عام، فلا أقصد المصطلح العام، وإنما أقصد المصطلح الشرعي، وهو قلة الفقه في الدين.

فهم لا يعرفون الأدلة، وإن عرفوها لا يفقهون منهج الاستدلال، وهذا نوع من الجهل، والجهل بالأصول والثوابت والقواعد أشد خطراً من الجهل بمفردات الشريعة؛ ولذلك نجد وضع عامة المسلمين الذين هم جهلة بتفصيلات الدين أو قضاياه الجزئية ليس بالخطير؛ لأنهم لا يتبنون أفكاراً ومبادئ وأصولاً ومناهج خطيرة.

أما هؤلاء فجهلهم جهل مركب وهم لا يشعرون، فهم يعلمون بعض المفردات، وعندهم كمٌ من الثقافة، ولكن ليس عندهم ضوابط ومناهج شرعية تسلم بها ذممهم ويسلكون بها المنهج الذي يرضي الله عز وجل، ويحقق مصالح للعباد، وهو منهج الدين في تطبيقاته وأصوله.

المقدم: ذكرت -يا شيخ- فرقاً مهماً بين الشخص الجاهل الذي لا يعلم مفردات الدين، وبين ذلك الجاهل جهلاً مركباً، ونحن بهذا الكلام نحاول أن نسهل هذه المعلومة أكثر، فما المقصود بالجاهل؟ وهل الجهل كله مذموم؟

الشيخ: الجهل كله مذموم، لكنه بالنسبة إلى الأفراد راجع إلى الاستطاعة والقدرة، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فالإنسان الذي مداركه بسيطة.. مداركه يسيرة لا نحمله ما لا يطيق؛ إذ لا يستطيع أن يعلم ما يعلمه من هو أعلى منه مداركاً، فالقادر على العلم الشرعي والتمكن فيه يختلف عن غير القادر، حتى لو كان عنده مقدرة ومواهب، ولكنه منشغل بأمور حياته ومنشغل بالقيام بواجبات الأمة في جوانب أخرى، فهذا يسعه أن يجهل كثيراً من أمور الدين ما عدا الضروريات، أعني ما يقوم به دينه، إذاً: هذا الجهل نسبي.

وعلى هذا فإنا نقول: إن أصحاب الاتجاهات العقلية جهلة؛ لأنهم -أعني الرواد والرءوس من ذوي المواهب- أصحاب ذكاء وأصحاب مقدرات، فهؤلاء لا يعذرون في تركهم المسلك الصحيح في الفقه في الدين، فجهلهم جاء من حيث إنهم انحرفوا في تلقي الدين بأصوله الصحيحة.

المقدم: بعضهم قد يقول: كيف تقولون: إن هؤلاء جهَّال وأحدهم قد يكون بروفسوراً في تخصص معين، ومنهم من كتب بعض الكتابات، أو ألف بعض الكتيبات حول مسائل دقيقة في الفقه، كالمرأة والصلاة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟

الشيخ: لأنه -كما قلت- قد لا يكونون جهلة بالمفهوم العام، فالجهل هنا شأنه كأي مصطلح من المصطلحات العامة، فله مفهوم شرعي، مثل العلم، فالعلم إذا أطلق في النصوص -كالأمر به وفضل طلبه- يقصد به العلم الشرعي، ومع ذلك سمى الله عز وجل سائر العلوم بأنها علوم، لكنها علوم مقيدة.

وكذلك الجهل، فالجهل أمر نسبي، فنقول: إن هؤلاء جهلة في الجانب المتعلق بأصول الدين وثوابته، وإلا فهم يدخلون غالباً تحت تصنيف المثقفين، فهم مثقفون، لكنهم من المنظور الشرعي -فيما يتعلق بموضوعنا- جهلة.

وهذا وارد في النصوص، فلماذا سميت المراحل التي كانت قبل الإسلام بالجاهلية الأولى، وجاء بذلك ذكرها في القرآن والسنة، مع أن فيهم شعراء وفيهم أدباء وفيهم أفذاذاً في بعض التخصصات؟! ذلك أنهم جهلوا حقيقة الحياة كما أراد الله عز وجل، وجهلوا مناهج الدين التي تضبط الحياة، ولم يكونوا على دين يهذب عقولهم ويهذب عواطفهم، ويجعلهم على مسلك يرضي الله عز وجل فسموا أهل الجاهلية.

المقدم: جهل العقلانيين بالثقافة الإسلامية بمصادرها وبطريقة الاستدلال الصحيحة هل هو ناتج عن عدم قدرتهم على معرفة هذه العلوم من منابعها، أم ناتج عن أمور أخرى كالهوى وغير ذلك؟

الشيخ: الذي يظهر لي من خلال الاستقراء أن كل هذا موجود، حيث يوجد أصحاب ضلالة ولجوا علينا من هذه المداخل، وأرادوا أن يفصلوا أجيالنا عن حقيقة النهج السليم، وهناك أناس أصحاب أمزجة شخصية وآراء شخصية، وربما لا يدركون خطر ما هم عليه، وهناك أناس أيضاً لهم أهواء ورغبات معينة، ولو لم يكونوا أصحاب مذاهب واتجاهات، فهذه التوجهات هي خليط، وينبغي أن نفهم أنه ليس همنا في مثل هذا التأصيل الدخول في المقاصد والنيات، فنحن نحكم على الآثار وعلى المناهج الظاهرة التي لها أثر بالغ على الأمة، وأما مقاصد الأشخاص وتوجهاتهم فهذا أمر لا ندخل فيه.

المقدم: ولا نحكم على الأعيان.

الشيخ: لا نحكم حتى لو كانت لنا قرائن معينة، فبعضهم قد يدان من كلامه، ولكن ليس هذا همنا، بل همنا أن نذكر الأصول والمناهج الحقة وما ينافيها، وأن نبين للناس هذه الأصول الخاطئة، وهذه المناهج الخاطئة؛ لتجنبها والحذر من شعاراتها الخادعة.

المقدم: قبل أن نخرج من هذه المسألة هل من رسالة من الدكتور ناصر العقل إلى المشاهد الكريم يعرف من خلالها من أين يستقي هذا العلم وهذه الثقافة الإسلامية وهذه العقيدة وهذه الشريعة؟ هل يستقيها من كل أحد أم من أناس متخصصين؟

الشيخ: هذا أمر مهم جداً، فأقول:

أولاً: يجب على المسلم في مقتبل حياته سواء أكان طالب علم أم غيره أن يعرف ثوابت دينه، والأساسيات التي بها يعتقد اعتقاداً صحيحاً، فيعرف ما يجب عليه تجاه ربه عز وجل وتجاه الخلق.

وأيضاً لا بد من أن يعرف فرائض الدين التي تجب على الفرد، أو تجب عليه بحسب موقعه ذكراً كان أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، يجب عليه أن يتعلم أساسيات دينه في العقيدة وفي الأمور المطلوبة منه في جوانب الشريعة.

فهذه كلها مصادرها الكتاب والسنة وما انبثق عن الكتاب والسنة بجهود العلماء أهل الذكر الذين قال الله عز وجل فيهم: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ومن سؤال أهل الذكر قراءة ما يكتبون، وسماع ما يقولون لمن لم يتمكن من حضور دروس العلماء، أو لم يتمكن من أن يقرأ، فيسمع عبر الأشرطة والوسائل الأخرى.

المهم أن العلم الشرعي الذي يحصن به المسلم نفسه وأمته ودينه هو الذي يؤخذ من مصادره النقية: الكتاب والسنة وعلومهما.

وقد ينشأ سؤال: هل هذا يعني أن المسلم لا يقرأ الكتب الأخرى؟

فنقول: هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل قد سيأتي، إلا أننا نقول ابتداءً: يقرأ، لكن بعدما يحصن نفسه، وللقراءة ضوابط أيضاً، وإلا فلماذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو في فقهه وجلالة علمه؟! فقد غضب عليه لما رآه يقرأ صحيفة من التوراة؛ لأن هذا كان وقت تنزل الوحي، والتوراة مخلوطة بالحق والباطل، فهي محرفة ومنسوخة، فهي مصدر غير نقي.

فمن هنا يجب على الإخوة أن يعرفوا أن هذه حقيقية حتمية، ومن ثوابت الدين، وهي أنه لا يؤخذ الدين إلا من مصادره النقية.

المقدم: هذا مظهر ومنهج عام عند أولئك، وهو ضعفهم في الثقافة الإسلامية، ولكن هناك منهج آخر عندهم وانحراف في الاستدلال، حيث نجد أن هؤلاء قد يحاولون أن ينظروا في هذه النصوص الشرعية وينتقون منها ما يوافق أهواءهم، وما يوافق الفكر الذي هم عليه، فهل هذا منهج مطرد عندهم؟

الشيخ: نعم، الانتقائية عندهم تنبني على النزعة بشرية في الإنسان، فأي إنسان يقرر في عقله وقلبه وفكره مقررات معينة يتبناها، سواء دان بها أم كانت أفكاراً له، وهؤلاء لا يدينون بدين غالباً، بل عندهم فكر، فيتبنون هذا الفكر، ويضعون القناعات ابتداءً، ثم إذا اطلعوا على النصوص الشرعية، أو اطلعوا على كلام العلماء، أو أرادوا أن يعالجوا واقع المسلمين؛ جعلوا ما عندهم من القناعات هو المرجع، فمن هنا يستدلون لها، مع أنهم يدعون التجرد العلمي، فهم ليسوا متجردين، بل أبعد الناس عن التجرد.

فهم عندهم انتقائية في اختيار النص، وفي اختيار الشاهد، وفي اختيار المعلومة، بل حتى في الطرائق العلمية التي يسلكونها في الاستبانات وفي الدراسات، فعندهم نوع من خدمة الفكر السابق في نوعية الأسئلة التي يطرحونها.

وقد رأيت بعض الباحثين من هذا الصنف له بعض النتائج حول قضية معينة تخالف الشرع، فرجعت إلى صيغة السؤال فوجدت أنه صاغ السؤال على المقررات التي في عقله، يريد أن يصل إليها من خلال السؤال، ومن خلال القارئ الذي قد يدري أو لا يدري أنها مبنية على الهوى.

المقدم: وفيها احتيال على القارئ.

الشيخ: نعم، فهم عندهم انتقائية، ولذلك يتبعون شواذ الأدلة وشواذ الشواهد.

ولعلي أقف على أبرز مظهر لهذا التوجه عند الاتجاهات العقلانية والليبراليين والعلمانيين ومن سلك سبيلهم، وهو نقدهم للحق الذي هو منهج الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ومنهج أهل السنة والجماعة ومنهج علمائنا في هذا العصر، ومنهج الدعاة الراشدين.

ففي نقدهم لهذا المنهج تجدهم يركزون على التقاط الاجتهادات الخاطئة، وعلى انتزاع المواقف التي لا تمثل الموقف الشرعي، بل إما أن تكون زلات علماء، وإما أن تكون اجتهادات خاطئة، وقد تكون أحياناً ممارسات ممن ينتسبون إلى الدين أو إلى أهل السنة والجماعة؛ ومما ينبغي أن يفهم أنه يجب ألا ندعي أننا في عصمة، فمنهجنا هو المعصوم؛ لأنه الحق، لا لأنه منهجنا، بل لأنه دين الله، فالمنهج معصوم، وأما نحن فلسنا معصومين، ولذلك إذا أخطأ عالم من علمائنا قديماً أو حديثاً، أو داعية من دعاتنا، أو أخطأ أحدنا فإنه يجب ألا ندافع عن خطئه؛ لأن أعداء الحق ينتقون مثل هذه التجاوزات أو التصرفات أو الأقوال أو المواقف، أو الفتاوى أو غيرها، فيحاسبوننا على أنها هي الأصل، وهم يعرفون أنها ليست هي الأصل، وأنا أعرف أن أكثرهم عنده خبرة في المنهج العلمي، أعني التجرد والموضوعية، لكن هذا مشربهم، فهو يتلقط الظواهر الخارجة عن المنهج فردية أو جماعية ويجعلها أصلاً، ويتناسى أن الأصل خلاف ذلك.

المقدم: هل الانتقائية عندهم في الاستدلال -دكتور ناصر - ناشئة عن جهل بالأدلة الأخرى التي تعارض أقوالهم أم عن علم سابق؟

الشيخ: كل هذه أسباب، فهم من النوع الذي لا يحيط بعموم الأدلة كالعلماء الراسخين، ولذلك يندر أن يكون فيهم عالم راسخ، وأقول: يندر لئلا يكون فيما لا أعلم، وإلا فلا أعلم في هؤلاء عالماً راسخاً.

قد يكون فيهم عالم متخصص معين، وهذا هو سبب هلكته وغروره، أما أن يكون فيهم عالم راسخ شمولي فلا، فهم -إذاً- لا يحيطون بعموم الأدلة، ولا يحيطون بمنهج الاستدلال، وغالباً ما يأتون بأفكار سابقة كما قلت، وأي إنسان يأتي بفكر سابق أو رغبة معينة سابقة؛ فمن الطبيعي أن يفتن بالدليل؛ لأن حرصه على نوع معين من الاستدلال يكبله ويغلقه، كحال الغلاة، فالغلاة انغلقوا، فهم ينظرون من زاوية وهم لا يشعرون، فحشروا الأدلة مع فكرهم حشراً، ولذلك لا يأخذون بأدلة السعة، وأدلة الإعذار، وأدلة التيسير، ولا وجود لها في قواميسهم.

المقدم: هذه الأدلة ماذا يصنعون بها؟

الشيخ: يتجاهلونها ويجهلونها، والله عز وجل يعمي أبصارهم عنها، وهذا معنى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء يمرقون من الدين، فهذا عمى البصيرة، ولذلك كنا نعرف بعضهم قبل أن يقع في هوى الغلو رجلاً منفتحاً على الرأي يناقش بحيوية وأريحية، تجده يتبصر، ولا يستعجل، وعنده نوع من الهدوء والسكينة، فما أن دخله الغلو حتى أصبح عدوانياً شرساً مغلقاً، يغضب لمجرد أن تأتيه بدليل يحرجه ويخرج من سمته، فما هو ذاك الرجل الذي كنت تعرف فيه سعة الصدر والحلم والتثبت وبراءة الذمة أبداً، وهم لا يشعرون، هم أتوا من قبل شدة التدين، لا نقول: ليسوا متدينين، بل هلكوا من شدة التدين، فهذا مثال على هذه المسألة.

وكذلك العكس؛ كي لا نظلم، فأصحاب المنهج الآخر هم أكثر ضيقاً من هؤلاء، لماذا؟

لأن هؤلاء الغلاة أمرهم بيِّن يعرفه العامي الذي هو على الفطرة، أما هؤلاء فأمرهم فيه تلبيس.

المقدم: هؤلاء ينادون بالرأي والرأي الآخر.

الشيخ: ينادون بالرأي الآخر وهم أكبر أعداء للرأي الآخر، ولكن بطريقة ملبسة مهذبة، مثلما نقول: هذا سارق مهذب، أو: كذاب مهذب.

فأولئك الغلاة عندهم من البساطة والسذاجة، والعنف في طرح الرأي.

أما هؤلاء فطرحهم غير مبني على التثبت، ولا قبول الرأي الآخر، ولكن يحتالون على نسف الرأي الآخر بالأساليب الخاطئة.

المقدم: لا يواجهون الرأي الآخر مواجهة، إنما يحاولون أن يحتالوا عليه.

الشيخ: نعم، وهذا منهج ذكره الله عز وجل في كتابه وذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منهج المنافقين: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4].

المقدم: إذاً: عندهم خلل كبير في الاستدلال!

الشيخ: نعم.

المقدم: ما هو موقف العقلانيين من العلماء الراسخين في العلم؟ وما هو موقفهم من المرجعية الشرعية لهؤلاء العلماء الذين يستدلون بالأدلة الشرعية ويأخذونها من منبعها الصحيح؟

الشيخ: هذا من أبرز وأوضح مواقفهم، وعامتهم ينتقصون العلماء انتقاصاً شديداً، ولأنهم أوتوا نوعاً من الفصاحة وحسن العرض، تجد عندهم شيئاً من المجاملة والمداراة للعلماء تخدع الآخرين، فكثير منهم لا يجرؤ على النقد الجارح للعلماء، لكنه يسقط العلماء بأساليب تعطي شيئاً من التفسير المرن من أجل أن يهربوا عندما يحاكموا.

المقدم: ما الغرض من إسقاط العلماء؟

الشيخ: إن هؤلاء يرون الدين محصوراً في جانب معين من الحياة، فهم يسمون العلماء رجال الدين، وهذه التسمية غربية.

المقدم: وهي تسمية خاطئة.

الشيخ: نعم. وهي تنبع عن فهم الدين عند الغربيين، فالدين عند الغربيين دين محرف، وأيضاً جعلوه في زاوية معينة، فهذا المفهوم انتقل إلى العقلانيين، فتصوروا وتوهموا أن العلماء مهمتهم هي العبادات والمواريث والأحوال الشخصية، فإذاً: ينبغي ألا يتجاوزوا حدهم، هكذا تصوروا.

ويرون أن العالم إذا تدخل في الاقتصاد وفي السياسة وفي جوانب الاجتماع وغيرها فقد تخطى وتجاوز حده.

إذاً: هذا مفهوم أغلبهم، وهو مفهوم راسخ، ومن هنا ائت نظرتهم إلى العلماء، هذا شيء.

الشيء الآخر: أن الإنسان إذا أشرب بهوى وضاق من التدين نظر إلى العالم نظرة المستثقل، فهم بطبيعتهم غالباً غير متدينين، وغير ملتزمين بالدين، تؤذيهم الاستقامة، فمن هنا كان من الطبيعي أن ينظروا إلى العالم نظرة الرجل الثقيل عليهم؛ لأن العالم هو قدوة المتدينين، والمتدينون عندهم لهم تجاههم تصور عجيب، كأنهم لا يعيشون بينهم.

المقدم: يقولون: لماذا يدخل العالم في أمور السياسة أو يدخل في أمور الاقتصاد، وينطلقون من منطلق أن العالم لا يعرف إلا الأدلة الشرعية والنصوص الشرعية، أو المعاملات التي وردت في الفقه الإسلامي، أما الاقتصاد العالمي والنظرة الشمولية فالعالم غير محيط بها.

الشيخ: هذا شيء، شيء آخر قبل هذا ناتج عن نظرتهم إلى الدين نفسه، حيث يرون أن الدين لا علاقة له بكثير من شئون الحياة.

المقدم: عجيب!

الشيخ: نعم، هذا هو الأصل، لكنهم بين مقل ومكثر، فبعضهم يرى أن الدين لا بد من أن يحصر في الأحوال الشخصية فقط، ويصرحون بهذا.

وبعضهم يقول: لا، الدين عبارة عن معان عامة مجملة، فهو فضائل وأخلاق، فالدين مجرد توصيات عامة تحكم الحياة، والتفاصيل نأخذها من أي مصدر، ونشرعها من عندنا.

وطائفة أخرى تقول: الدين مقبول، ويدخل في جميع جوانب الحياة، لكن يجب أن نفسر الدين كما نشاء؛ وهؤلاء هم الطائفة الأكثر والأخطر.

المقدم: أخطر من أي جهة يا شيخ؟

الشيخ: هم أخطر لأنهم يعترفون بأن الدين يدخل في جميع جوانب الحياة، وربما يطالبون بهذا، وقامت على أيديهم جماعات كبرى الآن، وتوجهات وأحزاب.

المقدم: ويكون في رأيهم التلبيس على الناس؟!

الشيخ: لا، فقد لا يقصدون التلبيس، لكن رأيهم ملبس، فهؤلاء يتحمسون للدين ويدعون إلى تطبيق الدين، لكن عندما تأتي إلى نظرتهم إلى التطبيق تجدهم يريدون أن يتنصلوا من كثير من أمور الدين الكبيرة، مثل الحدود، ومثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد.

المقدم: لكن كيف نرد عليهم عندما يقولون: ما أدرى العالم بالسياسة، وما أدراه بالاقتصاد، وما أدراه بالمعاملات العالمية؟

الشيخ: هذه مسألة ذات جوانب متعددة، فهم أحياناً ينظرون إلى العلماء والمشايخ من خلال نماذج معينة قد يكون تخصصها أبعدها عن جوانب الحياة الأخرى، فيجعلون هذا النموذج من العلماء الذين ليس لهم تبصر في جوانب الحياة -وإن كانوا قلة- عندما يجيب أحدهم أو يتكلم لا يجيد عندهم، وربما كان هذا راجعاً إلى تقصيرهم؛ لأنهم لا يحسنون العرض على العالم، هذا جانب.

الجانب الآخر: أنهم يرون أن العلماء يجب عليهم أن يحلوا جميع المشكلات الجزئية في التخصصات، وهذا خطأ، فليس على العالم أن يدخل في كل تخصص، وأن يكون أسبق إليه، فالعالم ما هو إلا عبارة عن مرجع يقدم له أهل الاختصاص ما عندهم من علوم بأسلوب يتناسب مع القواعد الشرعية.

المقدم: هذه نقطة مهمة نود أن توضحها يا شيخ.

الشيخ: نعم، هذه مسألة يمثلها -مثلاً- المجمع الفقهي، فالمجمع الفقهي الآن يمثل علماء العالم الإسلامي تقريباً، وهو يعتبر نموذجاً تقوم به الحجة على العلمانيين وأمثالهم؛ لأنهم ما خدموه، ولو خدموه لأبدع وحل أكثر النوازل، بل كل النوازل المعاصرة.

فالمجمع العلمي تعرض عليه أي قضية معاصرة ليست من اختصاص علماء الفقه وعلماء العقيدة، فيرجعون فيها إلى المتخصص، فيعرض وجهة نظره، ثم يحكمون على ضوء هذا العرض.

المقدم: سواء أكانت مسألة اقتصادية أم مسألة طبية أم غير ذلك؟

الشيخ: أي مسألة طبية أو اقتصادية، وفي أي علم من العلوم في الأرض والآفاق.

المقدم: إذاً: العلماء يحترمون التخصص؟

الشيخ: نعم، العلماء يخدمون التخصص، لكن هذا العلماني لا يريد أن يعرض عليهم كل شيء، ولذلك يكبلون المؤسسات الدينية، فالعلمانيون في جميع العالم الإسلامي يحولون بين العالم وبين أن يكون عنده مؤسسة دينية تخدمه، فلا يوفرون له الوسائل؛ لأنهم يدعون أن العلماء عندهم قصور في استخدام الوسائل، وهل الطبيب يستطيع أن يوفر وسائل الطب وحده؟

المقدم: أبداً.

الشيخ: إن الدولة والمؤسسات العلمية والثقافية هي التي توفر له ذلك، أليس كذلك؟

المقدم: بلى!

الشيخ: إن هذه المؤسسات ما وفرت للعالم الآلية التي تجعله يقدم اجتهاده في كل قضية.

وبعضهم يعرف هذا ولا يريده، وبعضهم لا يعرفه، يظن أن العالم لا بد له من أن يكون طبيباً ومهندساً وكيميائياً وفيزيائياً، وهذا ليس بصحيح.

فإذا كنت صاحب الاختصاص فلا بد من أن ترجع باختصاصك إلى العالم لتجد عنده الجواب، وإذا ما وجدت الجواب عن واحد ستجده عند مجموعة؛ ولذلك فالقضايا المعاصرة إذا كانت كبيرة لا تحل غالباً عن طريق عالم واحد، بل يحلها العلماء الراسخون مع المختصين.

وهذا الموضوع مهم جداً وإن كانت مناسبته بعيدة، وأنا أرى أنه من الأشياء التي ينبغي أن يفهمها المشاهد، وأرجو أن يسمعني كثير من طلاب العلم ومن المسلمين الذين يهمهم أمر الأمة.

إنه يجب علينا أن نسعى إلى توفير الوسائل والتقنيات الحديثة لمراكز العلم والعلماء، مثل هيئة كبار العلماء، ومثل المجمع الفقهي، ومثل المؤسسات التي بدأت الآن تجمع فقهاء الأمة عبر مؤسسات علمية وإعلامية وثقافية ومراكز بحوث بدأت تظهر ولله الحمد، فهذه المنظومة من المؤسسات المتنوعة يجب علينا أن نتوجه إلى أن نعرض من خلالها مشاكلنا على العلماء؛ لنقطع الخط، ونقطع ألسنة هؤلاء المتقولين الذين يزعمون أن العلماء لم يعد لهم دور إلا الدور الهامشي، كما صرح به بعض رءوسهم اليوم.