أرشيف المقالات

الإسراف

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
الإسراف

 
الإسراف لغة: مصدر أَسْرَفَ يُسْرِفُ سَرَفًا، والسَرَفُ: ضدُّ القصدِ، وهو تعدِّي الحدّ والإِغفال للشيء، ويأتي بمعنى الجهل والخطأ، تقول: في الأمر سرف، أي: مجاوزة للقدر، وتقول: مررتُ بِكُم فَسَرِفتُكم، أي: أغفلتكم أو جهلتكم، ورجلٌ سَرِفُ الفؤاد: أي مخطئ الفؤاد غافِلُه، وإخطاءُ الشيء: وضعه في غير موضعه[1].
 
قال الراغب: السرف تجاوز الحدِّ في كلِّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر[2].
 
والإسراف اصطلاحًا: إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحدِّ في النفقة، وقيل: هو أن يأكل الرَّجل ما لا يحلُّ له، أو يأكل ممَّا يحلُّ له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة، وقيل: هو تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق، وصرفُ الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي[3].
 
وأمَّا التَّبذير: فهو مصدر بَذَّرَ يُبَذِّرُ تَبْذِيرًا، وهو التَّفريق، وأصله من إلقاء البذر وطرحه، فاستُعير لكلِّ مُضَيِّع لماله، فتبذير البَذر: تضييع في الظاهر لمن لم يعرف مآل ما يلقيه، والمبَذِّرُ: هو من يفرق ماله ويفسده في غير القصد سرفًا، وقيل: التبذير أَن يُنفَق المال في المعاصي، وقيل: هو أَن يبسط يدَه في إِنفاقه حتى لا يبقى منه ما يقتاته[4].
 
وعليه: فالإسراف والتبذير كلاهما إفراط في الإنفاق وتجاوز لحدِّ الاعتدال، إلَّا أنَّ التبذير أسوأ صور الإسراف وأشدُّها ضررًا، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن المبذرين: «الذين ينفقون في غير حق»[5].
 
وقد نهى اللهُ عبادَه عن الإسراف إرشاداً وإصلاحاً[6]، وأكَّد على عدم محبته للمسرفين، وذلك في موضعين من كتابه، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: ١٤١، الأعراف: 31] أي: لا تُسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن، أمَّا ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سدُّ الجَوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلًا وشرعًا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس، وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظٌّ من برٍّ ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حَرَمَهَا من فعل الطَّاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا، وقد اختُلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه، قال ابن العربي: وهو الصحيح[7].
 
وقد أرشد النبي – صلى الله عليه وسلم- أمته إلى عدم الإسراف، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ»[8]، وحذَّر من الإسراف في الطعام والشراب مبيناً الحدود المعقولة والمقبولة من ذلك، فعَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»[9].
 
وعن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: « كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ»[10].
 
ويذكر أنَّ هارون الرشيد كان له طبيب نصرانيٌّ حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم عِلمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا، فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: ٣١][11].

وهو ما اتفق عليه العقلاء والأطباء على مرِّ الزمان، ومما قاله طبيب العرب الحارث بن كَلَدَة قديماً: «الحِمية رأسُ الدواء، والبِطنةُ رأسُ الداء»[12].
 
ووجه عدم محبّة الله للمسرفين هو أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات، والإكثار من بذل المال في تحصيلها، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات، فيكون ذلك دأبه، فربَّما ضاق عليه ماله، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة، وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة، فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا تُوقع في مثل هذا، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة، ولذلك قيل: «لا خَيْرَ في السَّرف، ولا سرف في الخير»[13].
 
والإسراف هو إضاعة للمال، والله يكره إضاعة المال، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:«إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»[14]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:«لا يحبُّ اللهَ إضاعةَ المالَ، ولا كثرةَ السؤالِ، ولا قِيْلَ وقَالَ»[15].
 
ومعنى إضاعة المال: هو إنفاقه في غير طاعة الله تعالى، أو إنفاقه في غير وجهه المأذون فيه شرعاً، أو تعريضه للفساد، كأن يتركه من غير حفظ له، أو يتركه حتى يفسد، أو يرميه إذا كان يسيرًا كبرًا عن تناوله، أو أن يرضى بالغبن الفاحش، أو يسلمه لخائن، أو مبذر، أو أن يموّه الأواني بالذهب، أو يطرّز الثياب به، أو يذهِّب سقوف البيت، فإنَّه من التضييع الفاحش، أو أن يسرف في إنفاقه ويتوسّع في المطاعم والملابس، أو أن يكثر من الصدقة وعليه دين لا يرجو له وفاء.
 
والمنع من إضاعته لأنَّ الله تعالى جعله قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيره تفويت لتلك المصالح، إما في المبذِّر أو في حقِّ الغير، ويُستثنى من ذلك كثرةُ الإنفاق في وجوه البرّ لتحصيل ثواب الآخرة[16].
 
قال ابن القيّم: «الأفعال الطبيعية: كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك، إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصًا وأثمرت نقصًا، فمن أشرف العلوم وأنفعها علمُ الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي، فأَعلمُ النَّاس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها»[17].
 
دلالة ألفاظ الإسراف في الكتاب والسنة:
أولاً: مجاوزة الحدِّ في شهوة الأكل والشرب:
وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: ٣١]، وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ»[18].
 
ثانياً: مجاوزة الحدِّ في شهوة الفرج:
وذلك في قوله تعالى عن قوم لوط: ﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ [الأعراف: ٨١] أي: أنتم قوم تمكَّن منكم الإسراف في الشّهوات، فلذلك اشتهوا شهوة غريبة لما سئموا الشهوات المعتادة، فتجاوزوا ما أحل الله لهم من النساء إلى ما حرم عليهم من إتيان الذكور، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها[19].
 
ثالثاً: مجاوزة الحدِّ في الإنفاق:
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ﴾ [النساء: ٦] أي: مسرفين ومبادرين كبرهم فتزول من يدكم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق، أو هو نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم[20].
 
وفي الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: إنِّي فقيرٌ ليس لي شيءٌ، وليْ يتيمٌ، قال: « كُلْ مِنْ مَالِ يتيمِكَ غيرَ مُسْرِف ولا مُبَاذِر ولا مُتَأثِّل»[21].
 
ومنه قوله تعالى:  ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: ٦٧] أي: لم يجاوزوا الحدَّ في النفقة، وذلك بحسب حال المنفق وحال المنفَق عليه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم ينفقوا في المعاصي، فالإسراف: مجاوزة حد الأمر، لا مجاوزة القدر، )ولم يَقْتُرُوا( القتر والإقتار والتقتير: التضييق، وقيل: منع الواجب، )وكان بين ذلك قواماً( أي: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواماً؛ أي: عدلاً بينهما[22].
 
رابعاً: مجاوزة الحد في ارتكاب المعاصي والكبائر:
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: ١٤٧] أي: اغفر لنا ذنوبنا: الصغارَ منها، وما أسرفنا فيه منها، فتجاوزنا به الحدَّ في أمر ذنوبنا إلى العظام والكبائر (في أمرْنا) أي: في ديننا وتكليفنا[23].
 
ومنه قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: ٥٣] أي: أفرطوا في الجناية عليها، بالإسراف في المعاصي والغلو فيها[24].

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «كان رَجلٌ يُسْرِفُ على نفسِهِ، فَلمَّا حضره الموتُ قال لبنيه: إذ أنا مِتُّ فأحرقوني ثُمَّ اطحنوني ثُمَّ ذُرُّوني في الرِّيح، فو اللهِ لئن قَدَرَ عليَّ ربي ليعذبني عذابًا ما عَذَّبه أحدًا، فَلمَّا مَاتَ فُعِلَ به ذلك، فأمَرَ اللهُ الأرضَ فقال: اجمعي ما فيكِ منه ففعلتْ، فإذا هو قائمٌ، فقال: ما حملكَ على مَا صنعتَ؟ قال: يا ربِّ خشيتُكَ فغفرَ له»[25]، وإسرافه على نفسه: مبالغته بالمعاصي.
 
خامساً: مجاوزة الحد في استيفاء الحقوق:
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: ٣٣] أي: لا يقتل غير قاتله عند العجز عن قتل القاتل، أو لا يقتل بدل وليه اثنين، أو لا يمثل بالقاتل، وكله مراد، لأنه إسراف منهي عنه، وتجاوز في استيفاء الحق[26].
 
سادساً: مجاوزة الحدِّ في الإشراك والكفر والطغيان:
من ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: ١٢] أي: كما زُيِّن لهذا الصنف من الناس الدعاء عند البلاء وترك الشكر والإعراض عند الرخاء، )
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ( أي: للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي[27].
 
ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس: ٨٣] أي: في الكفر والعُتُوِّ، حتى ادَّعى الربوبيَّة، واسترقَّ أسباط الأنبياء[28].
 
ومنه قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ﴾ [طه: ١٢٧] أي: مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات، نجزي من أسْرَف وتَعدَّى؛ أي: كفر ولم يُؤمن بآياتِ ربِّه، بل كذَّب بها وأعرض عنها[29].
 
ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ [الشعراء: ١٥١ – ١٥٢] أي: لا تنقادوا لأمر الكافرين المجاوزين الحدَّ في الكفر والطغيان، ولا تتبعوا رأيهم، ففسادهم خالص لا يشوبه أي شيء من الصلاح، وقدعنى ب )
المسرفين( كبراءهم وأعلام الكفر والإضلال فيهم، الدعاة إلى الشرك والكفر، ومخالفة الحق[30].

ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: ٢٨] أي: إن الله لا يهدي إلى دينه وإلى الحق من هو مُتأصِّل في الشرك والكفر، والكذب على الله تعالى[31].
 
ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: ٣٤] أي: كما صيركم من الكفر والضلالة في هذا الحدِّ حين لم تقبلوا من يوسف عليه السلام، فنحو ذلك هو إضلاله لصنعكم أهلَ السَّرف في الأمور وتعدِّي الطور، والارتياب بالحقائق[32].
 
ومنه قوله تعالى: ﴿ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [غافر: ٤٣] أي: أن المشركين بالله، الـمُفرطين بالكفر به، الـمُتعدّين حدوده، القتلةَ النفوس التي حرَّم الله قتلَها، هم أصحاب نار جهنم، المتناهون في صحبتها لخلودهم فيها[33].

ومنه قوله تعالى: ﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ﴾ [الزخرف: ٥] أي: أفنترك تذكيركم بهذا القرآن، فلا نذكركم به، لأن كنتم قومًا مشركين[34]، أو: أفنترك عنكم الوحي ونمسك عن إنزال القرآن فلا نأمركم ولا ننهاكم، من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ إستفهام بمعنى الإنكار، أي: لا نفعل ذلك، وهذا قول قتادة وجماعة[35].
 
ومنه قوله تعالى:  ﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ [يس: ١٩] أي: لا طيرة فيما زعمتم، ولكنكم قوم كافرون، غَشيت عقولَكم الأوهامُ، فظننتم ما فيه نفعكم ضرّاً لكم، ونُطتُم الأشياءَ بغير أسبابها، من إغراقكم في الجهالة والكفر وفساد الاعتقاد، ومن إسرافكم: اعتقادكم بالشؤم والبخت[36].
 
سابعاً: مجاوزة الحد في الأمور كلها:
وهذا ما كان يعبِّر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم- في دعائه، فيقول: «رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي..» [37]، فقوله - صلى الله عليه وسلم-: «وإسرافي في أمري كله» أي: مجاوزتي الحدَّ في كلِّ شيء[38].
 

عقوبة المسرفين[39]:
أولاً: عدم محبَّة الله لهم:
قال تعالى:  ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾  [الأنعام: ١٤١، الأعراف: 31].
 
ثانياً: ضلالهم عن الحق وعدم هداية الله لهم:
قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: ٣٤]، وقال عز شأنه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: ٢٨].
 
ثالثاً: استحقاقهم للعذاب الأليم:
قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [غافر: ٤٣].



[1] انظر: معجم مقاييس اللغة 3: 153، تهذيب اللغة، الصحاح 1: 314.


[2] مفردات ألفاظ القرآن 1: 473.


[3] التعريفات ص38.


[4] انظر: الصحاح 3: 350، مفردات ألفاظ القرآن 1: 76، لسان العرب 4: 50، المصباح المنير 1: 40.


[5] أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص159 برقم 444، والحاكم في المستدرك 2: 393 برقم 3375 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.


[6] انظر: التحرير والتنوير 8: 123.


[7] انظر: تفسير القرطبي 7: 191، تفسير ابن كثير 3: 350، تفسير ابن عجيبة 2: 481.


[8] أخرجه أحمد في المسند 2: 181 برقم 6695، والبخاري معلقاً في اللباس 5: 2180، والنسائي في الزكاة برقم 2559، وابن ماجه في اللباس برقم 3605.


[9] أخرجه أحمد في المسند 4: 132 برقم 17225، والترمذي في الزهد برقم 2380 وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الأطعمة برقم 3349، والحاكم في المستدرك 4: 367 برقم 7945 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.


[10] ذكره البخاري في صحيحه 5: 2180.


[11] انظر: تفسير القرطبي 7: 191.


[12] انظر: التنوير شرح الجامع الصغير 2: 412.


[13] انظر: التحرير والتنوير 8: 124.


[14] أخرجه البخاري في الزكاة برقم 1383، ومسلم في الأقضية برقم 3238.


[15] أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد10: 544، وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح .


[16] انظر: شرح المشكاة للطيبي 10: 3158، عمدة القاري 17: 223، دليل الفالحين 2: 499، التيسير 1: 505.


[17] الفوائد ص141.


[18] سبق تخريجه.


[19] انظر: تفسير البغوي 3: 255، تفسير التحرير والتنوير 8: 232.


[20] انظر: تفسير القرطبي 5: 40، تفسير البيضاوي 2: 149، تفسير البحر المحيط 2: 12، تفسير الطاهر بن عاشور 4: 244.


[21] أخرجه أحمد 2: 215 برقم 7022، وأبو داود برقم 2872، والنسائي برقم 3668 واللفظ له، وابن ماجه برقم 2718.


[22] انظر: تفسير القرطبي 13: 71، تفسير البيضاوي 4: 227، تفسير البحر المديد 5: 225، تفسير التحرير والتنوير 19: 71.


[23] انظر: تفسير الطبري 7: 272، تفسير المحرر الوجيز 1: 551، تفسير التحرير والتنوير 4: 120.


[24] انظر: تفسير الكشاف 4: 138، تفسير البيضاوي 5: 71، تفسير أبي حيان 7: 416.


[25] أخرجه البخاري برقم 3294 واللفظ له، ومسلم برقم 2756.


[26] انظر: تفسير القرطبي 10: 255، تفسير ابن كثير 5: 73، تفسير التحرير والتنوير 15: 94.


[27] انظر: تفسير البغوي 4: 124، تفسير القرطبي 8: 317.


[28] انظر: تفسير القرطبي 8: 370، تفسير البيضاوي 3: 211، تفسير ابن عجيبة 3: 246.


[29] انظر: تفسير الطبري 18: 397، تفسير البيضاوي 4: 76، تفسير الطاهر بن عاشور 16: 333.


[30] انظر: تفسير المحرر الوجيز 4: 287، تفسير ابن كثير 6: 156، تفسير البحر المديد 5: 277.


[31] انظر: المحرر الوجيز 4: 623، معالم التنزيل 7: 146، تفسير ابن كثير 7: 141، التحرير والتنوير 19: 286.


[32] انظر: المحرر الوجيز 4: 626، البحر المحيط 7: 445.


[33] انظر: تفسير الطبري 21: 392، تفسير البغوي 7: 150، تفسير القرطبي 15: 317 ـ 318، تفسير ابن كثير 7: 146.


[34] انظر: تفسير الطبري 21: 567.


[35] انظر: تفسير البغوي 7: 206.


[36] انظر: المحرر الوجيز 22: 364.


[37] أخرجه البخاري في الدعوات برقم 6035، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة برقم 2719، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.


[38] انظر: فيض القدير 2: 154.


[39] وهو تلخيص لما سبق ذكره، لكل دلالات لفظة الإسراف.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١